التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

سورة الذّاريات

٦٠ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والذاريات ذرواً الآية ١ ـ ١٤ :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

اللغة :

المراد بالذاريات الرياح. والوقر السحاب تحمله الرياح. فالجاريات يسرا الرياح تجري بيسر وسهولة. فالمقسمات أمر الرياح توزع السحاب على البلاد. والمراد بما توعدون البعث. وبالدين الحساب والجزاء. وبالحبك الإحكام والنظام. ويؤفك يصرف. والخرص الكذب والظن من غير أساس. والمراد بالفتنة في قوله تعالى : (يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) العذاب.

١٤١

الإعراب :

والذاريات الواو للقسم. وذروا مفعول مطلق. وقرا مفعول به. يسرا صفة لمفعول مطلق مقدر أي جريا يسيرا. أمرا مفعول به. وانما توعدون «انما» كلمتان «انّ» التي تنصب الاسم وترفع الخبر و «ما» الموصولة ، والعائد محذوف أي ان الذي توعدونه من الحساب والجزاء ، والجملة جواب القسم في والذاريات. والسماء الواو للقسم. وانكم جوابه. وضمير عنه يعود الى الدين. والذين بدل من «الخراصون». وهم مبتدأ وفي غمرة خبر وساهون خبر ثان. أيّان بمعنى متى خبر مقدم ويوم مبتدأ مؤخر أي متى وقت يوم الدين. ويوم هم «يوم» منصوب بفعل مقدر أي يقع يوم هم و «هم» مبتدأ ويفتنون خبر وعلى النار متعلق به. وجملة ذوقوا مفعول لقول مقدر. وهذا الذي مبتدأ وخبر.

المعنى :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً). في تفسير هذه الأوصاف الأربعة آراء ، يقول بعضها : المراد بالذاريات الرياح ، وبالحاملات السحاب ، وبالجاريات السفن ، وبالمقسمات الملائكة ، وأرجح الأقوال ان الأربعة بكاملها من أوصاف الرياح ، فهي ذاريات لأنها تذرو التراب وغيره ، قال تعالى : (هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) ـ ٤٥ الكهف. وأقسم سبحانه بالرياح للاشارة الى منافعها ، ولأن لله أن يقسم بما شاء من خلقه. أنظر ج ٦ ص ٣٣٠ فقرة «الله والقسم بخلقه». الوصف الثاني (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) بكسر الواو ، وهو الحمل الثقيل ، والمراد هنا ان الرياح تحمل السحاب الثقال ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) ـ ٥٧ الأعراف. الوصف الثالث (فَالْجارِياتِ يُسْراً) تجري الرياح بيسر وسهولة ، وهي تحمل السحاب. الوصف الرابع (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) الرياح تفرق الأمطار على البلاد ، كما قال سبحانه في آية ٥٧ من (الأعراف) : (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ).

١٤٢

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ). هذا جواب قسم (وَالذَّارِياتِ) والمراد بما توعدون الإحياء بعد الموت ، وبالدين الحساب والجزاء ، والمعنى ان الله يبعث من في القبور لا محالة ، وانه تعالى يجزي الإنسان بأعماله ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) بضم الحاء والباء ، وفي تفسيره أقوال أرجحها انه الخلق الحسن ـ بفتح الخاء ـ أي ان في خلق السماء إحكاما ونظاما وزينة وجمالا (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ). الخطاب لمن كذّب الرسول الأعظم (ص). وأقوالهم كلها خلط واضطراب .. وكذب ووهم .. فمنها عن الرسول (ص) : انه مجنون الى شاعر وساحر. وعن القرآن : انه أساطير الى رجز من نظم محمد (ص) (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن الدين والحق من صرفه عنه الهوى والجهل ، ومثله تماما «لا يعمى عن ذلك إلا أعمى».

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) وهم الذين بيّنهم سبحانه بقوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ). غمرهم الجهل والضلال من فرع الى قدم .. فوزعوا ظنونهم جزافا ومن غير أساس على الأرض والسماء ، وعلى البعث والجزاء ، وقالوا : لله شركاء من الأحجار ، وبنات من الجن والملائكة ، أما البعث فحديث خرافة (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ)؟ يقولون ساخرين : متى يكون البعث والحساب؟ فيجيبهم سبحانه : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ). يكون البعث يوم يعرضون على جهنم ويحرقون فيها. ويقال : فتنت الشيء أي أحرقته بالنار ليخرج ما فيه من الغش ، وتقول ملائكة العذاب للمجرمين : (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ). هذا هو العذاب الذي تعجلتم به ، وسخرتم بالأمس منه .. فكيف رأيتم طعمه ومذاقه؟.

حق السائل والمحروم الآية ١٥ ـ ٣٠ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ

١٤٣

يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠))

اللغة :

الهجوع النوم ليلا ومنكرون مجهولون لا نعرفهم. فراغ ذهب ومال سرا عن ضيوفه. فأوجس أحس. وصرة بفتح الصاد صيحة وضجة.

الإعراب :

آخذين حال من الضمير الذي تعلق به (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). وما آتاهم مفعول آخذين. وجملة يهجعون خبر كانوا و «ما» زائدة إعرابا. وقليلا صفة لمفعول مطلق مقدر أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا من الليل. وفي أنفسكم متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي وفي أنفسكم آيات. ومثل حال ، وما زائدة إعرابا ، والمصدر من أنكم تنطقون مجرور بالاضافة أي مثل نطقكم. وسلاما مفعول

١٤٤

مطلق لفعل مقدر أي نسلم عليك سلاما. وسلام مبتدأ والخبر محذوف أي عليكم سلام. وقوم خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم قوم. وخيفة مفعول أوجس. وعجوز خبر لمبتدأ محذوف أي أنا عجوز.

المعنى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ). يأخذ سبحانه من الصالحين أعمالهم ، ويثيبهم عليها ، كما قال : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) ـ ١٠٤ التوبة أي يتقبلها ويثيب عليها ، وأيضا يأخذ الصالحون ما آتاهم الله من ثواب ويتقبلونه بغبطة وسرور ، وبتعبير الآية ١٨٨ من سورة المائدة : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). كانوا ينامون في الليل ، ولكن قليلا ، وكثيرا ما اتصل تهجدهم بالأسحار ، فيأخذون فيها بالتسبيح والاستغفار.

قال الإمام علي (ع) في وصفهم : «أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا .. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعا ، وتطلعت اليها أنفسهم شوقا .. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم وظنوا ان زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله في فكاك رقابهم».

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). السائل هو الذي يطلب من الناس الحسنات والصدقات ، والمحروم الفقير الذي يستنكف عن السؤال ، ويصدق عليه قوله تعالى : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) ـ ٢٧٣ البقرة وكلمة فقير تعني وتؤكد شرعا ان الفقير شريك للغني في ماله ، وان هذا غاصب ظلوم إذا منع الفقير من حقه. وتكلمنا عن ذلك مفصلا بعنوان «الزكاة» في ج ١ ص ٤٢٨ وبعنوان «الغني وكيل لا أصيل» في ج ٢. ص ٢١٧.

١٤٥

الله والمعرفة الحسية :

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). من تأمل في أيّ كائن من الكائنات ونظر اليه نظرة الفاحص المدقق لا بد أن ينتهي إلى التساؤل : من الذي دبّر وأحكم هذا الصنع؟. ولا يجد جوابا مقنعا وتفسيرا صحيحا إلا وجود قوة عالمة هادية. وإذا لم يقتنع بهذا الجواب فلا يجد أمامه إلا الصدفة والطبيعة العمياء ، وليس من شك انها تزيده جهلا وعمى.

وقال الماديون : لا طريق إلى المعرفة إلا الحس والتجربة ، والله لا يقع تحت الحس ولا هو موضوع للتجربة ، فالإيمان به ـ إذن ـ لا يستند إلى دليل ، بل هو جهل وضلال.

الجواب أولا : لا نسلم ان أسباب المعرفة تنحصر بالحس والتجربة ، بل هناك أيضا معرفة عقلية نصل اليها عن طريق القوى الذهنية ، ومن أسقط العقل عن الاعتبار ونفى الحجة عنه فقد نفى الانسانية من الأساس ، إذ لا انسانية بلا عقل حاسم قاطع .. يضاف إلى ذلك إلى ان من نفى المعرفة عن العقل فقد ناقض نفسه بنفسه حيث نفى معرفة العقل بالعقل ، واستدل على عدم الشيء بوجوده.

ثانيا : لو سلمنا ـ جدلا ـ بأنه لا طريق إلى المعرفة إلا الحس والمشاهدة فإننا نثبت وجود الله ونؤمن به عن هذا الطريق بالذات .. وهو موجود في كل مشهد من مشاهد الطبيعة ، وقد بلغت هذه المشاهد النهاية من البداهة والوضوح ، وأوصلتنا إلى العلم بالمبدع المصور بمجرد النظر اليها والتأمل فيها بدون الرجوع إلى المختبرات والمصانع .. ولو توقف العلم بالله على التحليل في المختبرات لا نحصر وجوب الايمان بالمتخصصين بهذا الفن وحدهم ، ولما صح منه تعالى علوا كبيرا أن يخاطب العموم بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) مع العلم بأنه ، جلت عظمته ، أوجب الايمان به على جميع عباده .. ولكن بعد أن قدم لهم الدليل القاطع لكل معذرة على وجوده ، أقام سبحانه هذا الدليل من الفطرة والعقل ومن الحس أيضا عملا بالمبدأ العادل القائل : «البينة على من ادعى».

١٤٦

وليس في قولنا هذا جرأة وسوء أدب لأنه جل جلاله هو القائل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ـ ٥٣ فصلت. ونفس الإنسان وما في الآفاق من الكائنات هي من المشاهد المحسوسة الدالة على وجوده تعالى ، وبها يظهر الحق الذي لا ريب فيه ، ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد نفسه أمام العديد من هذه الآيات الكونية التي تدعو إلى الايمان بالله عن طريق المعرفة التي هي ثمرة الحس والعقل ، من ذلك قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ـ ١٨٤ الأعراف أي شيء محسوس وملموس.

ان الايمان بالله ايمان بما لا تراه العين ولا تلمسه اليد ، ولكن هذا الايمان تفرضه وتحتمه المرئيات والملموسات ، تماما كما يؤمن الطبيب العارف بوجود نوع من المرض في الجسم السقيم ، ويحدد ماهيته بمجرد أن يلمس الجسم أو ينظر اليه دون أن يرى الميكروب الذي تولد منه المرض .. وما من أحد مؤمنا كان أو ملحدا إلا وهو يؤمن ايمانا قاطعا بأشياء كثيرة لا تقع تحت الحس لأن هذا الايمان يحتمه الحس بالذات ، والذين يعتمدون على التجربة يعنون بها الاستدلال من شيء تدركه الحواس.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ). قوله : (رِزْقُكُمْ) على حذف مضاف أي أسباب رزقكم كالمطر وما اليه ، وقديما قيل : لو لا السماء لما كان للناس بقاء. واختلفوا في تفسير (وَما تُوعَدُونَ) فمن القائل : ان المراد به الجنة والنار ، وقائل : انه الخير والشر ، وقال ثالث : بل المراد ان الرزق مقسوم ومكتوب .. وفي رأينا ان المراد بما توعدون أسباب الرزق بالذات بدليل ان الله سبحانه أشار في الآية إلى ان في الأرض وفي أنفسنا آيات محسوسة ملموسة تدل على وجود الله وعظمته ، ثم عقب بعد ذلك بأن في السماء أيضا آيات محسوسة تدل عليه تعالى وعلى عظمته ، وبالبديهة ان الآيات السماوية المحسوسة هي المطر والكواكب وليست الجنة والنار وما اليهما.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ). قال الرازي : «الضمير في (انه) عائد الى القرآن. فكأنه قال : ان القرآن لحق نطق به

١٤٧

الملك نطقا مثل ما انكم تنطقون». وليس من شك ان القرآن حق لا ريب فيه وان جبريل قد نطق به أيضا ، ولكن لم يسبق للقرآن ولا للملك ذكر من أول السورة الى هنا ، والذي ذكر في الآية ١٢ هو يوم الدين ، ثم أشار سبحانه الى ما في الأرض والسماء وأنفسنا من الدلائل على وجود المبدع ، فالأولى إرجاع الضمير الى ذلك كله ، وعلى هذا يكون المعنى انه سبحانه قد أقسم بجلاله ان الله حق والبعث حق ولا ينبغي الشك في ذلك بعد أن قامت عليه الدلائل تماما كما لا ينبغي للإنسان أن يشك فيما نطق به .. وروي ان أعرابيا قال حين سمع هذه الآية : «من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه الى اليمين». وليس هذا ببعيد على من نشأ على الفطرة التي ولد عليها.

وبالمناسبة قال أهل اللغة : النطق نوعان : خارجي ، وهو اللفظ ، وداخلي ، وهو الفكر والإدراك ، وقال أهل المنطق في تعريف الإنسان : انه حيوان ناطق أي مفكر ، وقال «ديكارت» : «أنا أفكر وإذن فأنا موجود» وهذه حقيقة بديهية تنفي الشك في وجود المفكر لأنها خرجت منه بالذات ، وعلى هذا فلنا أن نفسر قوله تعالى : (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) بمثل ما انكم تلفظون ، وأيضا لنا أن نفسره بمثل ما انكم تفكرون لأن كلا من وجود التفكير والتلفظ ينفي الشك عن وجود المفكر والمتلفّظ.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ). كلمة ضيف تستعمل في المذكر والمؤنث والواحد والجماعة ، والمراد بضيف ابراهيم الملائكة الذين جاءوا ليبشروه بإسحاق وإهلاك قوم لوط ، ووصفهم سبحانه بالمكرمين لأنهم كرام عنده وعند عباده المؤمنين (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ). حييوه فردّ التحية ، وقال : هؤلاء أناس لا نعرفهم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ). أسرع ابراهيم الى عياله وأمرهم أن يهيئوا لضيوفه عجلا سمينا ، وكان ما أراد ونضج العجل (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) ليأكلوا ، فأبوا (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ)؟ ولكنهم أصروا على الامتناع لأنهم ليسوا بشرا يأكلوا الطعام (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لأنه فوجئ بأمر لا يعرف عواقبه ، ولما رأوا ما به (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ). أعلموه بحقيقة ما جاءوا به من البشارة بإسحاق (فَأَقْبَلَتِ

١٤٨

امْرَأَتُهُ) سارة لما سمعت البشرى (في صرة) ارتفع صوتها من الدهشة (فَصَكَّتْ وَجْهَها) ضربته بيدها فرحا وتعجبا (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) فكيف ألد؟. (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ). الله يعلم انك عجوز عقيم ، ولكن شاءت حكمته أن يهبك على الكبر غلاما كاملا ، وإذا أراد الله شيئا فهو يقول له : كن فيكون .. وأوجزنا تفسير هذه الآيات لوضوحها ، ولأنها تقدمت في سورة هود الآية ٩ ـ ٧٣ ج ٤ ص ٢٤٧ وفي سورة الحجر الآية ١ ـ ٥٦ ص ٤٨١ من المجلد المذكور.

١٤٩
١٥٠

الجزء السّابع والعشرون

١٥١
١٥٢

فما خطبكم أيها المرسلون الآية ٣١ ـ ٤٦ :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

اللغة :

فما خطبكم فما شأنكم؟ ومسومة عليها علامة. وبسلطان مبين بحجة واضحة. والمراد بالركن هنا القوة والسلطان أي أعرض لأنه يملك السلطان والقوة ، ومثله : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) ـ ٨٠ هود. والمليم هو الذي يفعل ما يلام عليه. والريح العقيم هي التي لا خير فيها من المطر أو تلقيح الشجر ونحوه. والرميم البالي. والصاعقة العذاب.

١٥٣

الإعراب :

فما خطبكم مبتدأ وخبر. ومسومة صفة لحجارة. وفي موسى متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي وفي موسى آية. وساحر خبر لمبتدأ مقدر أي هذا ساحر. وفي عاد وفي ثمود مثل وفي موسى. وقوم نوح بالنصب على تقدير وأهلكنا قوم نوح.

المعنى :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ). ابراهيم (ع) يسأل ضيوفه بعد أن عرف هويتهم : إلى أين؟ وما ذا تبغون؟ (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي قوم لوط ، وهم مجرمون ومسرفون لأنهم كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ). لنهلكهم بحجارة معلمة من طين صلب أعدها الله لمن تجاوز الحد في الكفر ، وأسرف في البغي والفساد (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لئلا يصيبهم ما أصاب المجرمين المسرفين (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهم بيت لوط إلا امرأته كانت من الهالكين (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ). ضمير فيها يعود الى قرى قوم لوط أو مدينتهم ، والمراد بالآية الآثار التي تنبئ عن إهلاكهم وعذابهم ، لتكون تبصرة لمن تدبّر وعبرة لمن اتعظ. وتقدمت هذه الآيات في سورة الأعراف الآية ٠ ـ ٨٤ ج ٣ ص ٣٥٣ وفي سورة هود الآية ٧ ـ ٨٣ ج ٤ ص ٢٥٥.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). أرسل سبحانه موسى بمعجزات كافية وافية الى فرعون ليردعه عن غيه وضلاله (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أعرض مغترا بجنده وسلطانه (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) .. ولما ذا موسى ساحر أو مجنون في منطق فرعون؟ لأنه قال له : لست إلها يعبد ، وحذره مغبة البغي والطغيان (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ). طغى وبغى وقال : أنا ربكم الأعلى فكان عاقبة أمره إغراقا ولوما .. ومن نافلة القول ان نشير الى ما سبق من

١٥٤

التكرار ، وفي ج ٥ ص ٢٠٦ ذكرنا السبب الموجب لتكرار قصة موسى ، أما هنا فنقول : الله أعلم.

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ). عاد هم قوم هود ، وقد أهلكهم الله بريح عاصفة قاصفة (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) لا تمر بشيء إلا تهدم وتحطم .. وسبقت قصة هود مع قومه في سورة الأعراف الآية ٥ ـ ٧٢ ج ٣ ص ٣٤٧ وفي سورة هود الآية ٠ ـ ٦٠ ج ٤ ص ٢٣٩. (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) ثمود قوم صالح. وهذه الآية تشير الى ما جاء في الآية ٦٥ من سورة هود : (فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ). (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ). عصوا الله والرسول ، فأنزل سبحانه عليهم العذاب من السماء ، ولما رأوه خارت قواهم (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. وتقدمت قصة صالح مع قومه ثمود في سورة الأعراف الآية ٣ ـ ٧٩ ج ٣ ص ٣٥٠ وفي سورة هود الآية ١ ـ ٦٨ ج ٤ ص ٢٤٤ (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أغرقهم الله بذنوبهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) يفعلون الموبقات ، وينتهكون المحرمات. وتقدمت قصة نوح في سورة الأعراف الآية ٩ ـ ٦٤ ج ٣ ص ٣٤٤ وفي سورة هود الآية ٥ ـ ٤٩ ج ٤ ص ٢٢٢.

ومن كل شيء خلقنا زوجين الآية ٤٧ ـ ٦٠ :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ

١٥٥

أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

اللغة :

بأيد أي بقوة. وموسعون اشارة إلى أن القضاء يتسع باستمرار على مدى الأيام ، ويأتي التفصيل. والفرار إلى الله معناه الالتجاء اليه والاعتصام بحبله. وتواصوا أوصى بعضهم بعضا. وبملوم أي بمسؤول.

الإعراب :

والسماء مفعول لفعل مقدر أي بنينا السماء بنيناها. والأرض أيضا مفعول لفعل مقدر أي فرشنا الأرض فرشناها. فنعم الماهدون المخصوص بالمدح محذوف أي نحن. وكذلك خبر لمبتدأ مقدر أي الأمر كذلك. أتواصوا الهمزة للإنكار.

المعنى :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ). قال بعض المفسرين : المراد بموسعين ان الله يوسع الرزق على خلقه بالمطر .. والمعنى الذي يتفق مع الواقع ومدلول الآية

١٥٦

معا أن يكون المراد بالسماء هنا المعنى الظاهر من كلمة السماء وهو الفضاء الواسع الرحب بما فيه من النجوم وغيرها. والمراد بموسعين ان الله سبحانه يزيد الفضاء اتساعا باستمرار وعلى مدى الأيام ، قال أهل الاختصاص : ان الفضاء يتمدد بين المجرات باستمرار ، وان حجم الفضاء العالمي الآن يبلغ نحو عشرة أضعاف حجمه منذ بداية تمدده .. ويقول «سير جينز» : يبلغ متوسط البعد بين المجرات بعضها مع بعض نحو مليون ونصف من السنين الضوئية مع العلم ان الضوء يقطع ٦ ملايين مليون من الأميال في سنة واحدة .. ويقول «كامو» : انه قد علم بواسطة المراصد الكبرى ان بين النجوم مسافات سحيقة تقدر بنحو خمسمائة مليون سنة ضوئية ، وانه قد أحصى من المجرات نحو مائة مليون مجرة ، وانه يحتمل وجود مجرات أخرى على مسافات أبعد. (التكامل في الإسلام لأحمد أمين العراقي ج ٣ ص ٦٧ طبعة أولى).

ونحن لا نتحمس لتطبيق القرآن على العلم الحديث للمحاذير التي ذكرناها في ج ١ ص ٣٨ .. ولكن لا نجد مفرا من القول : ان هذه الآية الكريمة أصدق شاهد على ان معجزة محمد بن عبد الله (ص) هي المعجزة الأبدية الوحيدة من بين معاجز الأنبياء أجمعين ، وانها تزداد رسوخا ووضوحا كلما تقدم العلم خطوة الى الأمام.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ). مهد وهيأ سبحانه الأرض للإنسان ، وبسط فيها يده ليبني ويعمل للحياة والخير ، لا للشر والدمار ، أطلق يده ليعمل واشترط عليه أن يكف الأذى عن أخيه الإنسان ، لا ليلقي بالصواريخ وقنابل النابالم على مدارس الأطفال ودور الحضانة ، ومستشفيات المرضى ومصانع العمال ، وعلى كل من ينشد الحرية ، ويرفض العبودية إلا لله وحده.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). يدل ظاهر الآية على أن الله سبحانه خلق في كل جنس من الكائنات زوجين ذكرا وأنثى ، سواء أكان إنسانا أم حيوانا او نباتا ام جمادا لأن كلمة كل شيء تعم الجميع .. ولا ندري هل اكتشف العلماء هذه الحقيقة او انهم ما زالوا في طريق الوصول اليها؟ والذي قرأناه من أقوال العلماء في هذا الباب ان ما من ذرة في الكون إلا وهي مؤلفة

١٥٧

من كهيرب موجب وسالب أي انها تحتوي على عنصر يجذب وآخر يدفع ، فهل تنطبق الآية على ذلك؟.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). وكل من كف الأذى عن غيره ، وصدق في أقواله وأخلص للحق والعدل في أفعاله فقد فر من الباطل الى الحق ، ومن الضلال إلى الهدى ، وعمل بما أمر الله ، أراد ذلك أو لم يرد. اما الكاذب الخائن فهو أعدى أعداء الله ، وان هلّل وكبّر ، وتعبد وتصدق.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). والشرك أشكال ، منه عبادة الأصنام ، ونسبة الولد الى الله ... ومنه ايضا التلوّن في الدين والعمل لحساب أعداء الله والانسانية باسم الإسلام وصالح المسلمين.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ). قال لك المكذبون يا محمد تماما مثل ما قال الأولون لأنبيائهم ، وما حظك في ذلك بأدنى من حظهم (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ). غريب أن يتشابه الأولون والآخرون في تكذيب المحقين والمصلحين ... هل اجتمعوا وتواصوا بذلك كلا ، ما اجتمعوا ، ولا رأى او قلد بعضهم بعضا ، وإنما جمعهم عداء الباطل للحق ، والجهل للعلم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) لا تذهب نفسك حسرات على كفرهم وطغيانهم يا محمد فما أنت بمسؤول عن دينهم ولا عن أقوالهم وأفعالهم (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ). لا مهمة لك يا محمد إلا ان تبلغ القرآن وتعظ به جميع الناس ، وإذا لم ينتفع بالموعظة من أصر على الكفر والفساد فينتفع بها من يبحث عن الحق ليؤمن به ويعمل بموجبه.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). وعبادة الله وحده تعني التحرر من عبادة الإنسان للإنسان ، ومن عبادة المال والجاه ، وجميع الأهواء والشهوات ، وان لا يخضع إلا للحق والعدل ، وأيضا تعني الجهاد لنصرة الحق وأهله ، والعمل لخير الدنيا والآخرة ، وما من ريب ان من سلك هذه السبل أدت به الى دار السلام ، وعلى هذا تكون الغاية من خلق الجن والانس ان يحيوا حياة طيبة دائمة في دار الله وجواره شريطة ان يتحرروا من العبودية بشتى أنواعها ، ويعملوا صالحا ، ومن أهمل وقصّر فلا يلومنّ إلا نفسه ، وما ربك بظلام للعبيد. وتكلمنا مفصلا عن ذلك في ج ٦ ص ١٧١ فقرة «لما ذا خلق الله الإنسان؟».

١٥٨

وتسأل : وما ذا تصنع بالحديث القدسي : «كنت كنزا مخفيا فأردت ان أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني» فإنه يدل بوضوح على ان الغاية من الخلق هي معرفة الله؟.

الجواب : ان هذا الحديث يتفق تماما مع التفسير الذي ذكرناه لأن من عرف الله حق المعرفة استغنى بعبادته عن عبادة الناس والجاه والمال ، وعمل لمرضاته وجنته.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ). وكأنه تعالى علوا كبيرا يقول : ما خلقت الخلق لأستغلهم في مصانعي وحقولي ، ولا لأتخذ منهم سوقا لتصريف سلعي وبضائعي ، ولا لأحارب بهم من يزاحمني على الاستغلال والاحتكار ، كلا ان الله غني عن العالمين ، وانما خلقتهم ليعملوا يدا واحدة لخيرهم أجمعين ، ويجاهدوا من يحاول الاعتداء على حريتهم وكرامتهم ، وينتهب أموالهم وأرضهم وديارهم (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ). ومعنى الله هو الرزاق انه تعالى خلق الأرض للإنسان معاشا ، وزوده بجميع الأدوات التي تمكنه من استثمارها من أجل حياته كالعقل والقوة والسمع والبصر ، وقال له : اعمل لدنياك وآخرتك ، ولا تعتد ان الله لا يحب المعتدين ، تماما كما لو أعطيت ولدك مالا ، وقلت له :

تاجر به لمعاشك ، وكن أمينا في معاملتك.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ). المراد بالظالمين هنا الطغاة المترفون الذين كذّبوا رسول الله (ص) والمعنى ان نصيب هؤلاء من العذاب تماما كنصيب الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) العذاب الذي هو نازل بهم لا محالة ... وما أقرب اليوم من الغد (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) به ويستعجلون مجيئه ... فكم من مستعجل أمرا ودّ ـ حين مجيئه ـ انه لم يكن.

١٥٩

سورة الطّور

٤٩ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والطور الآية ١ ـ ١٦ :

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

اللغة :

قال الفيروزآباديّ في قاموسه المحيط : يطلق الطور على فناء الدار وعلى كل جبل ، وعلى جبل قرب أيلة يضاف الى سيناء وسينين ، وعلى جبلين بالقدس ،

١٦٠