التّفسير الكاشف - ج ٧

التّفسير الكاشف - ج ٧

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٣٩

المعنى :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ). يدل ظاهر الآية والحديث المتواتر ان رسول الله (ص) رأى في منامه انه هو وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وطافوا بالبيت العتيق كما يشاءون ، وقد حلق البعض رؤوسهم ، وقصر آخرون ، فأخبر النبي أصحابه بما رأى ، ففرحوا واستبشروا وظنوا انهم داخلو مكة في العام الذي كانت فيه الرؤيا ، وسار النبي (ص) بهم متجها الى مكة ، ولما بلغوا الحديبية صدهم المشركون ، وعاد المسلمون الى المدينة كما أسلفنا ... وهنا وجد المنافقون منفذا للطعن وقالوا : ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ، فأين تأويل الرؤيا؟. وذهلوا أو تجاهلوا ان النبي (ص) لم يعين وقت الدخول ، وقال قائل لرسول الله : ألم تقل : لتدخلن المسجد الحرام آمنين؟. قال : نعم ، ولكن لم أقل في هذا العام ، ولما كان العام القادم وهو السابع للهجرة دخل المسلمون مكة معتمرين ، وطافوا بالبيت كما يشاءون ، وحلق من حلق ، وقصر من قصر ، ومكثوا ثلاثة أيام رجعوا بعدها الى المدينة ، وتسمى هذه العمرة عمرة القضاء ، وفيها نزل قوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) حيث تحقق ما رآه الرسول وأخبر به.

(فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا). لقد علم الله ان في تأجيل العمرة الى ما بعد صلح الحديبية مصلحة يجهلها المسلمون ، وهي تجنب القتال ، واسلام العديد من المشركين الذين صدوا الرسول والصحابة عن المسجد الحرام عام الحديبية (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً). ذلك اشارة الى تأويل الرؤيا بدخول المسلمين المسجد الحرام آمنين ، والمراد بالفتح صلح الحديبية ، أو هو وفتح خيبر ، والمعنى ان هذا الصلح والذي بعده أيضا بأيام وهو فتح خيبر ـ قد تحققا قبل تأويل الرؤيا ، وهما نصر كبير تماما كدخول المسجد الحرام (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). المراد بالرسول محمد (ص) وبالهدى ودين الحق الإسلام ، وقد ظهر وانتشر في شرق الأرض وغربها ، لأنه يدعو الى العمل من أجل حياة أفضل ، وينهى عن كل ما من شأنه أن يقف حجر عثرة في طريقها. وتقدم

١٠١

مثله في الآية ٣٣ من سورة التوبة ج ٤ ص ٣٤ (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أنه يظهر الإسلام على الدين كله.

الصحابة والقرآن :

حكى سبحانه في كتابه العزيز ان موسى بن عمران دعا بني إسرائيل الى القتال بأمر من الله ، فقالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) ـ ٢٤ المائدة. وأيضا حكى ، عظمت كلمته ، ان قوم السيد المسيح حاولوا قتله وصلبه ، وان حوارييه قالوا له : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)؟. ولما قال لهم نبيهم : (اتَّقُوا اللهَ). (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ـ ١١٣ المائدة. وأنزل جل وعز سورة خاصة في ذم المنافقين من أصحاب الرسول (ص) وغيرها عشرات الآيات ، وأيضا أنزل الكثير في المدح والثناء على المتقين الأبرار منهم ، من ذلك قوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ـ ١٨ الفتح. وقوله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ـ ١٠١ التوبة. وقوله :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) يجتمع المجرمون يدا واحدة على صيد الفريسة ، ثم يتناحرون على أكلها ... أما المخلصون فإنهم على نهج واحد لا تلون فيه ولا اختلاف على شيء ، اخوان في دين الله يتعاطفون ويتعاونون فيما بينهم تماما كالأسرة الواحدة ، وأعوان للحق وأهله ، وحرب على الباطل وحزبه ... وهذه هي بالذات صفة الخلص من أصحاب محمد (ص) بشهادة الله تعالى حيث عطفهم على نبيه الكريم ، ووصفهم وإياه بالغضب لله والرضا لله ... وأدرك هذا الدكتور طه حسين ، وهو الأديب الذي يفهم بالاشارة ولحن الدلالة ، قال في كتاب «مرآة الإسلام» : «لم يكن اسلام الأنبياء طاعة ظاهرة ، وانما كان إسلامهم أوسع وأعمق وأصدق ما يمكن أن يكون الإسلام ، وإسلام الصالحين من أصحاب النبي (ص) كذلك لم يكن ضيقا يقف عند الطاعة الظاهرة ، وانما كان أوسع وأعمق من هذا».

١٠٢

ثم ضرب الدكتور طه عمار بن ياسر مثلا على هذا الإسلام الواسع العميق وقال : «كان عمار بن ياسر يقاتل مع علي بصفين في حماس أي حماس ، وهو شيخ قد بلغ التسعين أو تجاوزها ، وكان يقاتل عن ايمان أي ايمان بأنه يدافع عن الحق ، وكان يوم قتل يحرض الناس ويقول : من رائح الى الجنة؟ اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه ... وكان قتل عمار تثبيتا لعلي والصالحين من أصحابه ، وتشكيكا لمعاوية ومن معه ، ذلك ان كثيرا من المهاجرين والأنصار رأوا النبي (ص) يمسح رأس عمار ويقول له : ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية».

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أي ان منظرهم يوحي الى الرائي بأنهم من أهل الركوع والسجود ، وان لم يرهم راكعين ساجدين (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ). ليس المراد بأثر السجود هنا سواد الجبهة ، كلا فإن أكثر هذا السواد أو الكثير منه رياء ونفاق ، وانما المراد به الصفاء والاشراق الذي يحدث بالوجه من أثر العبادة ، والمعنى ان الصحابة ركعوا وسجدوا رغبة في مرضاة الله وثوابه ، وخوفا من غضبه وعقابه ، وقد تجلى اثر ذلك في وجوههم لكل متوسم ، لأن العبادة الخالصة لوجهه تعالى تحدث في نفس العابد المخلص طهرا وصفاء تظهر دلائله على صفحات الوجه تماما كما تظهر عليه دلائل الحزن والفرح.

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ). هذا كناية عن ان أصحاب الرسول (ص) يكونون في البداية قليلا ، ثم يزدادون ويكثرون ... وتوضيح هذه الكناية أو هذا المثل ان التوراة والإنجيل قد بشّرا بمحمد (ص) ، ووصفا أصحابه بزرع نما وأينع وكثرت ثماره وفروعه ، واشتبك بعضها ببعض ، واستقامت على أصولها ، وبلغت غايتها من القوة والكثافة (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) بحسنه ونموه ... وغير بعيد أن يكون المراد بالزراع هنا رسول الله (ص) ما دام المراد بالزرع أصحابه (ص) لأنه هو الذي رفعهم الى ما بلغوه من العظمة وعلو الدرجات ، وبفضله انتصروا في المعارك التي خاضوها في عهده ومن بعده. وقال سبحانه «الزراع» ولم يقل الزارع تعظيما لشأن الرسول (ص). نقول هذا على سبيل الاحتمال ، وقد سبقنا اليه من قرأ

١٠٣

«الزارع». (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً). المعنى واضح. وتقدم مثله في الآية ٩ من سورة المائدة ج ٣ ص ٢٦.

هل الاثنا عشرية باطنيون؟

نشر الأديب المصري الدكتور مصطفى محمود على التوالي ١٣ مقالا في مجلة «صباح الخير» ، تكلم فيها عن إعجاز القرآن ، وقصة الخلق (١) ، وبعض الموضوعات الغيبية ، ثم جمع المقالات في كتاب أسماه «محاولة لفهم عصري للقرآن» وطبع ووزع في الشهر الثالث أو الرابع من سنة ١٩٧٠ ، وفي مقال «رب واحد ودين واحد» عد المؤلف الشيعة الاثني عشرية مع الفرق الباطنية ، وانهم تماما كالبابية والخوارج يفسرون القرآن تفسيرا باطنيا ، فكتبت اليه بأن الاثني عشرية أبعد الناس عن هذه البدع والضلالات ، وان كتبهم تشهد بذلك ، وهي في متناول كل يد ، وأرشدته الى بعضها ، والى ما قاله شيوخ الأزهر المنصفين عن الشيعة الإمامية كالمرحوم الشيخ شلتوت ، وغيرهم ممن نشروا في مجلة «الإسلام» التي تصدر في القاهرة عن «دار التقريب».

وفي مساء ٥ ـ ـ ١٩٧٠ ارتفع صوت الهاتف ، وإذا بالدكتور مصطفى محمود يكلمني من «تريونف اوتيل» ببيروت .. واجتمعنا لأول مرة ، وتحدثنا عن كتابه «الله والإنسان» ، وردي عليه بكتاب «الله والعقل» ... ثم موعد ولقاء ببيتي في اليوم التالي ، وكان حديثنا عن الإسلام والباطنية ، فقال الأديب المصري فيما قال : «ان بعض الشيعة يفسرون مرج البحرين يلتقيان بعلي وفاطمة».

قلت له : هل من العدل والمنطق أن تدان طائفة تبلغ عشرات الملايين بقول واحد منها لا يمثل إلا نفسه؟ وهل من الضروري إذا فسر شيخ آية قرآنية تفسيرا باطنيا أن تكون طائفته باطنية تدين بالتفسير الباطني للقرآن ، وإذا فسر أديب مصري بيتا من الشعر تفسيرا رمزيا أن يكون جميع الشعراء وكل من يفسر الشعر

__________________

(١). وأجاد في تصوير الموسيقى الباطنية في القرآن. انظر ما كتبناه بهذا العنوان في ج ٦ ص ٣٠٠.

١٠٤

في مصر رمزيين. وان للشيعة الاثني عشرية كتبا في العقائد تسالموا عليها وأجمعوا على الأخذ بها ، كأوائل المقالات للشيخ المفيد ، وقواعد العقائد لنصير الدين الطوسي ، وشرحه للعلامة الحلي ، وما جاء في شرح التجريد من التوحيد وصفات الله والقضاء والقدر والنبوة والإمامة والمعاد.

وكانت تظهر أمامي ـ وأنا أبحث وأنقب في المصادر ـ تفاسير باطنية لشيوخ من السنة ، فأهملها لأنها لا تلتقي مع تفسيري وغايتي في شيء ... وحين احتج الدكتور بمرج البحرين فكرت طويلا لعلي أتذكر تفسيرا واحدا من تلك التفاسير لأنقض به قول الدكتور ، فخذلتني الذاكرة وأنا في أشد الحاجة الى مؤازرتها ... ثم انتقلنا الى موضوع آخر ... ومن الصدف اني كنت أفسر سورة الفتح حين جرى النقاش بيننا ، وفي اليوم التالي وصلت بالتفسير الى قوله تعالى : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) وإذا بي أقرأ في تفسير روح البيان لإسماعيل حقي والتسهيل للحافظ بن أحمد الكلبي ، وهما من أهل السنة ، قرأت فيهما ما نصه بالحرف : «كزرع أخرج شطأه بأبي بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي». فانتقل بي هذا التفسير الباطني الى ما قرأته منذ زمان في كتاب حياة الإمام أبي حنيفة للسيد عفيفي ان السيوطي قال : «ذكر العلماء ان النبي (ص) بشّر بالإمام مالك في حديث : «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أعلم من عالم بالمدينة» وبشّر بالإمام الشافعي في حديث : «لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما» وبشّر بالإمام أبي حنيفة في حديث : «لو كان العلم معلقا عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس».

وفي الحال اتصلت هاتفيا بالدكتور مصطفى محمود ، وقرأت له تفسير الكلبي وحقي ، وقلت له : هل تجيزني أن أنسب هذا التفسير الى جميع السنة واجعلهم والبابيين سواء كما فعلت أنت ونسبت الاثني عشرية الى ما نسبت لا لشيء إلا لأن واحدا منهم قال ما قال؟ فما زاد في الجواب شيئا على قوله : «تمام ... تمام».

١٠٥

سورة الحجرات

١٨ آية مدنية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ١ ـ ٥ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

اللغة :

امتحن قلوبهم للتقوى أي أخلصها للتقوى من امتحن الذهب بالنار وأذابه ليميز جيده من رديئه. والحجرات جمع حجرة ومن ورائها أي من خارجها.

١٠٦

الإعراب :

لا تقدموا الأصل لا تتقدموا. أصواتكم منصوبة بالفتحة لأن التاء من أصل الكلمة. والمصدر من أن تحبط مفعول من أجله ل «لا تجهروا». وأولئك الذين امتحن الله الخ مبتدأ وخبر والجملة خبر ان الذين يغضون. ولهم مغفرة جملة ثانية. والمصدر من انهم صبروا فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت صبرهم.

المعنى :

ذكّر سبحانه المؤمنين في هذه الآية بأمور :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ). لا تسرعوا الى قول أو فعل يتصل بالدين والصالح العام حتى يقضي به الله على لسان رسوله الكريم (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). في نهج البلاغة : اتق الله بعض التقى وإن قل ، واجعل بينك وبين الله سترا ، وإن رق. وأدنى شيء يتقي به الإنسان خالقه أن يكف عن قول : لو أحل الله هذا الشيء الذي حرم ، أو حرم ذاك الذي أحل ، ويا ليت النبي فعل كذا ، أو لم يفعل الذي فعل ، وما الى ذلك من الجرأة والجهل.

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ). رفع الصوت بلا ضرورة غير مستحسن ، قال سبحانه : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ـ ١٩ لقمان ج ٦ ص ١٦٣ فكيف إذا ارتفع في محضر العظماء ومجلسهم؟ والرسول الأعظم (ص) سيد النبيين وأشرف الخلق أجمعين.

٣ ـ (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ). لا تخاطبوا النبي (ص) كما يخاطب بعضكم بعضا ، ومن يفعل ذلك فقد أبطل إيمانه من حيث لا يريد ولا يشعر ، ومن بطل إيمانه بطل عمله ، وكان من الخاسرين (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ

١٠٧

اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ـ أي أخلصها للعمل الصالح ـ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). يبتلي الله عباده بأنواع المحن ليتذكر متذكر ، ويزدجر مزدجر ، فمن تذكر وصبر استخلصه الله وهداه سواء السبيل ، وأنعم عليه بالغفران وأجور الصابرين ، وتومئ الآية الى أن الخطاب المهذب والأسلوب اللائق ـ من الايمان ، قال الإمام علي (ع) : «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). الخطاب في ينادونك لرسول الله (ص) ، والحجرات جمع حجرة ، وهي الغرفة ، وكان للنبي (ص) تسع زوجات لكل واحدة منهن حجرة من جريد النخل ، وعلى بابها ستار من الشعر. وقال المفسرون : انطلق ناس من العرب الى المدينة ، ووقفوا وراء حجرات النبي ونادوا يا محمد اخرج إلينا ، فتربص النبي قليلا ثم خرج اليهم ، ووصفهم سبحانه بأن أكثرهم لا يعقلون لما في فعلهم ذاك من البداوة والجفاء (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لأن في الأناة وترك العجلة أجرا لهم وثوابا ، وتعظيما لرسول الله ، ورعاية للآداب (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تتسع رحمته ومغفرته للهمج الرعاع وغيرهم.

ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية ٦ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

اللغة :

بجهالة أي بغير علم.

١٠٨

الإعراب :

المصدر من أن تصيبوا مفعول من أجله لتبينوا أي لئلا تصيبوا. فتصبحوا منصوب بأن مضمرة. ونادمين خبر تصبحوا.

المعنى :

اشتهر بين المفسرين ان رسول الله (ص) بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط الى بني المصطلق ليأخذ منهم الزكاة ، فاستقبلوه بجمعهم تكريما له ، ولكنه ظن بهم الشر وانهم يريدون الإيقاع به ، فانصرف الى النبي (ص) وقال له : منعوني وطردوني. فغضب النبي (ص) وقال له بعض الصحابة : نغزوهم يا رسول الله. فنزلت الآية في تبرئة بني المصطلق ، وقيل غير ذلك في سبب نزولها ... ونحن لا نثق بشيء من أسباب النزول إلا إذا ثبت بنص القرآن أو بخبر متواتر ، بالاضافة الى ان ظن الوليد بالشر لا يستوجب الفسق ، وانما هو خطأ واشتباه ، والمخطئ لا يسمى فاسقا وإلا استحق اللوم والعقوبة حتى ولو تحفظ واجتهد.

وأيا كان سبب النزول فإن الآية لا تقتصر عليه ، بل تتعداه الى غيره لأن المورد لا يخصص الوارد ، ولا فرق بينه وبين غيره من أفراد العام ، وانما ذكر بالذات لأمر لا يمت الى تخصيص اللفظ بصلة ، وعليه يجب الأخذ بظاهر الآية ، وهو يدل على حرمة الأخذ بقول الفاسق دون التمحيص والتثبت من خبره خوفا من الوقوع فيما لا تحمد عقباه كالإضرار بالآخرين والندامة حيث لا ينفع الندم ، وبكلمة الإمام علي (ع) «من سلك الطريق الواضح ورد الماء ، ومن خالف وقع في التيه» وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

واستدل بهذه الآية جماعة من شيوخ السنة والشيعة على وجوب الأخذ بقول الثقة مطلقا بلا شرط البحث عن صدقه فيما أخبر ، وشرح بعضهم وجه الاستدلال بكلام غامض ومعقد ، ويتضح بأن الآية تضمنت مبدأ عاما يقاس به الخبر الذي لا يصح الاعتماد عليه والعمل به إلا بعد التثبت وهو خبر الفاسق ، وأيضا يقاس به الخبر

١٠٩

الذي يعتمد عليه مطلقا ومن غير تثبت وهو خبر الثقة ، لأن الله سبحانه أناط الاعتماد على خبر الفاسق بالتبين والتثبت ، ولم يتعرض لخبر الثقة ، ومعنى هذا ان العمل بخبر الثقة لا يجب فيه التثبت ، ولو وجب لبيّن واشترط التثبت فيه تماما كما اشترطه في خبر الفاسق ، وحيث لا بيان فلا شرط.

وفي رأينا ان قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) لا يدل إلا على وجوب التثبت من خبر الفاسق ، وان هذا الشرط لا بد منه قبل العمل بخبر الفاسق ، ولا دلالة للآية على هذا الشرط بالنسبة الى خبر الثقة ، لا نفيا ولا اثباتا ... ونحن مع القائلين بأن السند الأول للأخذ بخبر الثقة هو طريقة العقلاء قديما وحديثا ، وسكوت الشارع عنها ، وهي بمرأى منه ومسمع ... أجل ، ان قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) يومئ الى ان أي خبر نأمن معه من الوقوع في الشبهات والمحرمات يجوز العمل به أيا كان المخبر ... وبالبداهة لا نكون آمنين من ذلك إلا بالاعتماد على قول الثقة ، أو بعد التثبت من خبر الفاسق.

الله حبب اليكم الايمان الآية ٧ ـ ٨ :

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

اللغة :

عنتم أصابكم تعب ومشقة. والمراد بالفسوق هنا القول المحرم كالكذب والغيبة أما العصيان فيشمل معصية الله بالقول والفعل.

١١٠

الإعراب :

فيكم خبر ان ورسول الله اسمها ، والغرض من هذا الاخبار أن يعظموا الرسول ، ولا يخبروه إلا بالصدق والواقع. فضلا منصوب على المصدر أو مفعول من أجله لفعل محذوف أي فعل الله ذلك تفضلا وانعاما.

المعنى :

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) وأشرف الأولين والآخرين ، فعليكم أن تعظموه ولا تخبروه إلا بالحق والصدق (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ). هذا أمر من الله تعالى موجه الى المؤمنين بأن يسمعوا للرسول ويطيعوا ولا يشيروا عليه بما يعلم من الله ما لا يعلمون ، ولو استجاب الى الكثير مما يدعونه اليه لتعبوا ووقعوا في الجهد والإثم.

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ). أمر الله عباده أن يؤمنوا به ويطيعوه ، وبيّن لهم محاسن الايمان والطاعة ، ورغّبهم في ذلك بكل أسلوب ، ووعد من آمن وعمل صالحا بالثواب الجزيل والأجر العظيم ، ونهاهم عن الكفر والمعصية وبيّن مساوئهما ، وهدد من كفر وعصى بأشد العذاب ، ووصف هذا العذاب بما لا يمكن أن يحده عقل أو يتصوره انسان إلا بعد البيان ، وأي انسان يتصور عذابا ما هو بالموت ولا بالحياة!

وأرسل سبحانه رسله الى الناس ليبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده ، فمنهم من استجاب حقا وصدقا ، ومنهم من أعرض وعاند ، ومنهم من استجاب خوفا على مصالحه وطمعا بالغنيمة ، والذين استجابوا لله والرسول حقا وصدقا في كل ما دعا اليه هم الراشدون المعنيون بقوله تعالى : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) الخ. أي حببه سبحانه اليهم وزينه في قلوبهم بما بينه من محاسن الايمان والترغيب فيه بالثواب الجزيل ، وكرّههم في الكفر بما بيّنه من مساوئه ، والتهديد عليه بالعذاب الأليم.

١١١

وتسأل : ان الله سبحانه بيّن ذلك للمؤمنين والكافرين ، فلما ذا خص المؤمنين بالذكر دون غيرهم؟.

الجواب : أجل ، ولكن ما كل من سمع بيان الله آمن وانتفع به ، ولا كل من نصحه الله قبل نصيحته ، بل قبل الطيبون وأعرض المجرمون ، فذكر سبحانه وأثنى على من استمع القول فاتبع أحسنه ، وأهمل من أعرض وتولى (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ليس من شك ان الذي يختار الهدى على الضلال له الفضل والأجر ، ولكن الفضل الأكبر لمن مهّد طريق الهدى وأرشد اليه وزود السالك بالقدرة على سلوكه ، وقديما قيل : وما المسبّب لو لم ينجح السبب.

وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا الآية ٩ ـ ١٠ :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

اللغة :

تفيء ترجع. وأقسطوا اعدلوا.

الإعراب :

طائفتان فاعل لفعل مقدر أي وان اقتتل طائفتان. وجمع سبحانه «اقتتلوا»

١١٢

بالنظر الى المعنى لأن الطائفة جماعة من الناس ، وثنّى «بينهما» بالنظر الى لفظ طائفتين.

المعنى :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما). للإسلام تعاليم وإرشادات لبناء المجتمع وإصلاحه ، منها وجوب حماية الإنسان في دمه وماله وعرضه ، وحريته في القول والفعل ، لا سلطان عليه لأحد ولا لشيء إلا الحق ، فإذا خرج عنه وانتهك حرمته بالاعتداء على الآخرين فقد رفع هو الحصانة عن نفسه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ـ ٧٠ الإسراء أنظر ج ٥ ص ٦٦ فقرة «بماذا كرم الله بني آدم». وقال مخاطبا نبيه الكريم : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) ٢٢ الغاشية. وقال : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ـ ٤٢ الشورى.

ومنها التعاطف والتكافل بما يعود على الجميع بالخير والصلاح ، فإذا ما حدث خصام وقتال بين فئتين من المؤمنين فعلى المؤمنين الآخرين أن يتلافوا ذلك ، ويصلحوا على أساس الحق والعدل حرصا على وحدة الجماعة وجمع الشمل ، وفي الحديث الشريف : «الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : إصلاح ذات البين.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ). إذا أبت إحدى الفئتين الرضوخ للحق بالحسنى ، وأصرت على العدوان فعلى المؤمنين الآخرين ان يحموا الفئة الأخرى من الظلم بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإن لم ترتدع الفئة الباغية إلا بالقتال قاتلوها في حدود التأديب والدفاع المشروع الذي يحقق الأمن للجميع (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). فإن تابت الفئة الباغية ، وانتهت عن بغيها فإن الله غفور رحيم ، وما لأحد عليها من سبيل ، وعلى المؤمنين أن يبذلوا الجهد لازالة ما حدث في نفوس الطرفين.

وقال الجصاص الحنفي في كتاب أحكام القرآن ، وهو يتكلم حول هذه الآية :

١١٣

«قاتل علي بن أبي طالب الفئة الباغية بالسيف ، ومعه كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم ، وكان محقا في قتاله لهم لم يخالف فيه أحدا إلا الفئة الباغية التي قاتلته واتباعها .. وقال أبو بكر المالكي المعروف بابن العربي المعافري في أحكام القرآن : «تقرر عند علماء الإسلام ، وثبت بدليل الدين ان علي بن أبي طالب كان إماما ، وان كل من خرج عليه باغ ، وان قتاله واجب حتى يفيء الى الحق».

الاخوة الدينية والاخوة الانسانية :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). هذا تأكيد للأمر بإصلاح ذات البين مع الاشارة الى أن هذا الإصلاح تفرضه رابطة الاخوة. وفي الحديث : المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه.

وتسأل : لما ذا قال سبحانه : إنما المؤمنون اخوة ، ولم يقل : انما الناس اخوة ، وقال الرسول الأعظم (ص) : المسلم أخو المسلم ، ولم يقل : الإنسان أخو الإنسان؟ مع العلم بأن الرب واحد والأصل واحد والخلقة واحدة والمساواة بين بني الإنسان واجبة ، فالحب ينبغي أن يكون عاما لا خاصا تماما كرحمة الله التي وسعت كل شيء؟. وأي فرق بين أن نقسّم بني آدم على أساس ديني أو اقتصادي كما فعلت الماركسية أو على أساس الجنس والعرق كما دانت النازية أو على أساس النار والدولار كما هي السياسة الأمريكية؟. ثم ما هو السبب لما عانته وتعانيه الانسانية من الويلات والمشكلات التي تقودها الآن الى المصير المدمر المهلك بعد أن ملك الإنسان أبشع قوى التدمير والإهلاك؟. هل يكمن هذا السبب في طبيعة الإنسان بما هو انسان أو ان السبب الأول والأخير يكمن في الانقسامات بشتى أنواعها؟. وبالتالي هل على بني الإنسان أن يتعاطفوا ويتراحموا على أساس ديني أو أساس انساني؟.

الجواب : هذه التساؤلات بكاملها حق ، وجوابها واحد وواضح تحمله هذه التساؤلات معها وتدل عليه كلماتها ، وهو ان التعاون والتكافل يجب أن يكون بين

١١٤

بني الإنسان قاطبة دون استثناء ، وهذه هي دعوة الإسلام بالذات ، ويدل عليها عشرات الآيات والروايات ، نكتفي منها بذكر آية ورواية ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ـ ١٣ الحجرات. فنداؤه تعالى بيا أيها الناس مع قوله : من ذكر وأنثى .. وأتقاكم دليل قاطع وواضح على ان دعوة القرآن انسانية عالمية تعتبر الإنسان أخا للإنسان مهما كانت عقيدته وقوميته وجنسيته ، ومثل هذه الآية معنى ووضوحا قول الرسول الأعظم (ص) : «الناس سواسية كأسنان المشط ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على اسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى .. كلكم من آدم وآدم من تراب». بالاضافة الى الآية ٣٠ من سورة الروم التي تنص على ان دين الإسلام هو دين الفطرة ، والآية ٢٣ من سورة الأنفال التي تدل على ان دين الله هو دين الحياة.

وبهذا يتبين معنا ان كتاب الله وسنة رسوله يعتبران الايمان بالإنسان جزءا متمما للايمان بالله ورسله وكتبه ، وعليه يكون المراد بالمؤمن في الآية والمسلم في الحديث هو الذي يؤمن بالله وبالإنسان بما هو انسان .. وبكلام آخر لا صراع ولا تناقض بين الاخوة الانسانية والاخوة الاسلامية ، بل هذه تدعم تلك ، وتزيدها قوة ورسوخا.

لا يسخر قوم من قوم الآية ١١ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١))

١١٥

اللغة :

قيل : ان كلمة قوم لا تقع إلا على الذكور بدليل عطف النساء عليهم. واللمز الطعن والعيب بقول أو فعل يقال : لمزه أي عابه. والنبز اللقب ، ولكن المراد هنا بتنابزوا بالألقاب تعايروا بها ولقب بعضهم بعضا بالعيب المكروه. والمراد بالاسم الفسوق ذكر العيب.

الإعراب :

عسى هنا تامة والمصدر من ان يكونوا فاعل. وهم ضمير فصل.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ). عند تفسير الآية ٥٥ من سورة الفرقان ج ٥ ص ٤٧٨ قلنا : ان الظالم يعامله الله غدا معاملة الكافر ، وان عومل في الدنيا معاملة المسلم إذا نطق بالشهادتين .. ومن سخر من الأبرياء فهو ظالم وسفيه ، وقد هدده الله بأشد العقوبات ، من ذلك قوله عز من قائل : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ـ ٨٠ التوبة. وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ـ الى ـ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) آخر المطففين وقوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ).

كيف تكسب الأصدقاء؟

تذكرت ، وأنا أفسر هذه الآية ، اني منذ ١٦ سنة أو أكثر قرأت ترجمة كتاب «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر بالناس» ل «دايل كارنيجي». وأيضا

١١٦

تذكرت حكمة بالغة للإمام زين العابدين (ع) تتصل بهذا الموضوع ، وهي أجمع وأبلع أثرا من الكتاب المذكور على الرغم من رواجه وترجمته الى أكثر من لغة .. وكأن الإمام يقصد بحكمته تفسير قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ). وهذه هي :

«إياك أن تتكلم بما سبق الى القلب إنكاره وان كان عندك اعتذاره ، فليس كل من تسمعه شرا يمكنك أن توسعه عذرا .. واجعل من هو أكبر منك بمنزلة الوالد ، والصغير بمنزلة الولد ، والترب بمنزلة الأخ ، فأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره؟ وان عرض لك الشيطان ان لك فضلا على غيرك فانظر : ان كان أكبر منك فقل : قد سبقني بالايمان والعمل الصالح فهو خير مني ، وان كان أصغر منك فقل : قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني ، وان كان تربك فقل : أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره فما لي أدع يقيني لشكي ، وان رأيت الناس يعظمونك فقل : هذا فضل أخذوا به ، وان رأيت منهم جفاء فقل : هذا لذنب أحدثته ، فإنك ان فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك وكثر أصدقاؤك وقلّ أعداؤك ، وفرحت ببرهم ، ولم تأسف على جفاء من جفاك».

ومهما قال العلماء والحكماء في هذا الموضوع فلن يزيدوا شيئا عما انطوت عليه هذه الحكمة البالغة ... ولا بدع فإن قائلها ابن الوحي ، وخازن علمه ، والمتأدب بأدبه.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ). لا يطعن بعضكم على بعض ، ولا تقولوا لأحد ما لا تحبون أن يقال لكم (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ). لا يخاطب أحدكم غيره بلقب يكرهه ، وقال الفقهاء : إذا لم يقصد من اللقب النقص والاستخفاف فلا بأس ، كالأعرج والأحدب والأعمش لمن اشتهر بذلك (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ). فيه تفسيران : الأول لا تقولوا للمؤمن : يا كافر وما أشبه. الثاني من عاب غيره بما يكره يصير فاسقا بعد ان كان مؤمنا ، وهذا أرجح من الأول عند كثير من المفسرين (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). من تاب من الذنب كمن لا ذنب له ، ومن أصر عليه فقد ظلم نفسه لأن الله ينتقم من المذنبين.

١١٧

الظن والتجسس والغيبة الآية ١٢ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

الإعراب :

المصدر من أن يأكل مفعول يحب. وميتا حال من اللحم.

المعنى :

في الآية السابقة نهى سبحانه عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب ، وندد بمن يفعل شيئا من ذلك ، وفي هذه الآية نهى عن سوء الظن والتجسس والغيبة ، والتفصيل فيما يلي :

الظن :

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). هذه الفقرة من الآية يمكن تلخيصها بجملة واحدة هي كل انسان بريء حتى تثبت ادانته ، ويمكن أن نشرحها بصفحات طوال ، فنحدد ما يقتضيه الأصل في الظن هل هو صحة الأخذ به ، أو وجوب الاجتناب عنه في سائر الأحوال ، أو عند تعذر العلم؟ وهل العلم بالاحكام الشرعية الفرعية متعذر أو غير متعذر؟ وعلى الأول هل نأخذ بكل ظن أيا كان سببه وكانت مرتبته؟ وعلى الثاني ما هي الوسائل العلمية الى الأحكام الشرعية؟ الى آخر التفريعات المدونة في أصول الفقه

١١٨

التي أمضينا في دراستها أمدا غير قصير. ومن الخير أن نلتزم التفسير الوسط بين الإيجاز والاطناب. وقبل كل شيء نمهد ببيان الفرق بين الشك والظن والعلم ، فالشك هو استواء كفتي الاحتمالين اثباتا ونفيا ، والظن ترجيح كفة أحدهما على الآخر ، مع بقاء الطريق مفتوحا للذي خف ميزانه ، والعلم تعيين أحدهما مع سد الطريق على الآخر من الأساس.

وقد تظن بإنسان خيرا أو شرا ، وقد تكون مصيبا في ظنك أو مخطئا .. ولا بأس عليك إطلاقا في حسن الظن بأخيك أصبت أو أخطأت ، ظهر اثر ذلك في أقوالك وأفعالك أو لم يظهر ، قال الرسول الأعظم (ص) : «ظنوا بالمؤمنين خيرا». وقال الإمام علي (ع) : «ضع أمر أخيك على أحسنه». أنظر ج ١ ص ١٤١ فقرة «أصل الصحة». وبهذا يتبين معنا لما ذا قال سبحانه : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) ولم يقل : كل الظن ، فإن كلمة كل من صيغ العموم تشمل حسن الظن وسوء الظن ، أما كلمة كثير فقد تستعمل بمعنى بعض وبمعنى معظم ، وهذا هو المراد بكلمة كثير في الآية ، والقصد هو حصر موضوع الآية ودلالتها بسوء الظن.

وسوء الظن من حيث هو ودون أن يظهر أثره في قول أو فعل ـ ما هو بمحرم وصاحبه غير مسؤول عنه ، لأن الإنسان لا حرية له في ظنونه وتصوراته ، وانما توحي بها الظروف والأسباب الخارجة عن ارادته واختياره .. أجل ، عليه أن لا يعول على ظن السوء ، ويعتبره كأنه لم يكن ، وإذا عوّل عليه وظهر اثر ذلك في قول أو فعل كان مسؤولا ومستحقا للذم والعقاب ، وهذا هو الظن الذي أراده سبحانه بقوله : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ). قال الرسول الأعظم (ص) : «ثلاثة لا يسلم منها أحد : الطيرة ، والحسد ، والظن .. فإذا تطيرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقق». وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) لا تعولوا عليه ، ولا تعملوا به تماما مثل قوله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ).

١١٩

التجسس :

٢ ـ (وَلا تَجَسَّسُوا). التجسس تتبع العورات والعثرات ، والبحث عنها في الخفاء ، وهو محرم كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا ، فمن الكتاب قوله تعالى : (وَلا تَجَسَّسُوا). وقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ـ الى ـ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) ـ ٢٨ النور ج ٥ ص ٤١٢. ومن السنة قول الرسول الأعظم (ص) : «من اطلع عليك فحذفته بحصاة ففقأت عينيه فلا جناح عليك». وقد أجمع الفقهاء قولا واحدا على العمل بهذا الحديث. أما العقل فإنه يعتبر التجسس غزوا لحياة الناس ، واعتداء على حرياتهم وأشيائهم الخاصة بهم من معلومات وعادات.

تذكرت ، وأنا أكتب هذه الكلمات مقالا مطولا في هذا الموضوع ، نشرته جريدة الأهرام عدد ٧ ـ ـ ١٩٦٩ ، قرأته آنذاك ، واحتفظت به في ملف قصاصات الصحف التي احتفظ بها وادخرها الى وقت الحاجة ، فرجعت الى المقال ، وقرأته من جديد ، فإذا بي أقرأ ما لا يبلغه الخيال ، وفيما يلي بعض ما جاء فيه :

«لقد تساقطت الجدران في الولايات المتحدة حتى أصبح الأمركيون بفضل الغزو الالكتروني المنظم يشعرون بأن الجدران ليست لها آذان وحسب ، بل عيون وعدسات أيضا ، كما تقول مجلة التايم .. لقد اخترعوا في الولايات المتحدة جهازا بحجم المليم الصغير ، يسترق ويسجل السمع ، ويمكن وضعه في «الجاكت» كالزر ، وهو في متناول كل فرد ، ويتراوح ثمنه بين ١٠ و ١٥ دولارا .. وفي نيويورك تجار يعلنون في الصحف عن أجهزة تسترق السمع من بيوت الناس ومنازلهم ، وتعرض في الأسواق كلعب الأطفال ، ولا يزيد ثمنها على ١٨ دولارا ، وإذا وضع واحد من هذه الأجهزة في سيارة تقبع في اتجاه العمارة ـ سجل كل كلمة تقال في داخل العمارة .. بل هناك جهاز لاستراق السمع لا يزيد حجمه على حبة العدس الصغيرة يمكن أن يوضع في القلم وما أشبه ، وتعمل بطاريته بين ١٨ و ٥٠ ساعة .. وأيضا اخترعوا في الولايات المتحدة جهازا صغيرا للارسال ، يذيع ما بدور في البيوت على بعد ٥٠ قدما منها ، وثمنه ٤٠٠ دولار .. وأعجب من ذلك

١٢٠