التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ). المراد بالجزء هنا الولد لأنه بضعة من والده ، أما قوله تعالى : (مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) فيتضمن الدليل على فساد زعمهم بأن لله ولدا لأن المخلوق لا يكون جزءا من الخالق كما لا يكون البيت جزءا من بانيه ، ولم يكتف المشركون بهذا الافتراء حتى خصوا الله بما يكرهون من الأولاد ، وأنفسهم بما يحبون .. وتقدم مثله في الآية ١٠٠ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٣٧ والآية ٤٠ من سورة الاسراء ج ٥ ص ٤٦ والآية ١٥٢ من سورة الصافات.

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). فاعل ضرب ضمير مستتر يعود على أحدهم .. بعد أن وصف سبحانه بالكفر الواضح من أشرك وقال : اتخذ الرحمن ولدا ـ ذمّ من يحزن ويكتئب إذا ولدت له أنثى ، وفي الوقت نفسه يفتري على الله ويقول : اتخذ مما يخلق بنات. وتقدم مثله في الآية ٥٧ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٢٣.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ). أتنسب لله أيها المشرك الجاهل الإناث التي تتحلى بالزينة ، وإذا حاجّك وخاصمك في ذلك مخاصم عجزت عن الحجة والدليل؟ وقال المفسرون : ضمير هو يعود الى الأنثى بالنظر إلى أن لفظ «من» مذكر ، وعليه يكون المعنى ان الأنثى ناقصة العقل تعجز عن إيراد الدليل على قولها عند المخاصمة والمنازعة ، ومع ذلك يقول المشركون : انها بنت الله .. وظاهر السياق يرجح هذا التفسير.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)؟ كيف تجرأ المشركون على القول : ان الملائكة بنات الله؟ فهل كانوا عند الله حين خلق الملائكة أو أخبرهم بذلك شاهد عيان؟. وصدق من قال : كذب الإنسان على مثله وعلى ربه وعلى ملائكته ورسله ، وأيضا كذب على نفسه. ومثل هذه الآية قوله تعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) ـ ١٥٠ الصافات (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ). ان الله لا يخفى عليه شيء فهو يعلم افتراءهم عليه وعلى ملائكته ، وغدا يسألهم عنه ويحاسبهم عليه.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ). زعموا ان الله راض عن عبادة الأصنام والملائكة ، وإلا ردعهم عن ذلك بالقهر والقوة .. وجهلوا انه تعالى لو فعل ذلك لكان الإنسان أشبه بالجماد لا يستحق ثوابا ولا عقابا. وتقدم مثله في الآية

٥٤١

١٤٨ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٧٨ (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). نسبوا شركهم وضلالهم إلى الله تعالى علوا كبيرا .. وجهلوا انه جل وعز أمر ونهى تكليفا وإرشادا ، وترك التنفيذ لارادة المكلف لتظهر أفعاله التي يستحق عليها الثواب والعقاب.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ)؟ كلا ، لا دليل لهم من العقل ولا من النقل على ما يزعمون إلا هذا الدليل (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ). فتقليد الآباء هو ملجأهم الأول والأخير. وقد حكى الله سبحانه قولهم هذا في العديد من الآيات ، منها الآية ١٧٠ من سورة البقرة و ١٠٥ من سورة المائدة و ٥٣ من سورة الأنبياء و ٢١ من سورة لقمان وغيرها. وعقدنا فصلا خاصا للكلام عن التقليد وأقسامه في ج ١ ص ٢٥٩.

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). هذا منطق الانتهازيين والنفعيين منذ وجدوا والى آخر يوم. أنظر ج ٤ ص ٤٠٥ فقرة «تفكير الطغاة» وج ٥ ص ٣٠ فقرة «المترفون» وص ٤٥٣ فقرة «منطق أرباب المال : بنك وعقار» (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ). ويومئ هذا إلى صحة التقليد إذا كان المقلّد على هدى من ربه ، وعلى فساد التقليد إذا كان المقلد ضالا مضلا.

(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). والذي نفهمه من قولهم هذا انهم يكفرون بالحق أينما كان ويكون حتى ولو كان مع الآباء ، وانهم لا يؤمنون بشيء إطلاقا إلا بمكاسبهم ومنافعهم ، أما التذرع بدين الآباء فهو لمجرد الخوف أن يظهروا للملإ على حقيقتهم ، وقد رأينا الكثير من الأبناء يسخرون من الآباء وتقاليدهم ، لا لشيء إلا لأنها تصطدم مع ميولهم ورغباتهم .. ولا جزاء لمن عاند الحق إلا القسوة والعنف (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) انها خزي وجحيم من غير شك.

أهم يقسمون رحمة ربك الآية ٢٦ ـ ٣٥ :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي

٥٤٢

فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))

اللغة :

براء بفتح الباء مصدر يستوي فيه التذكير والتأنيث والافراد والتثنية والجمع ، تقول : انا براء مما تعملون ، وأنتم براء مما أعمل أي أنا بريء وأنتم بريئون أو أنا ذو براء ، وأنتم ذوو براء. وفطرني خلقني. وفي عقبه في ذريته. ومن القريتين على حذف مضاف أي احدى القريتين ، وهما مكة والطائف. والمراد برحمة ربك هنا النبوة. وسخريا هنا بمعنى التسخير ، لا بمعنى الاستهزاء. ومعارج جمع معرج وهو الدرج. وعليها يظهرون أي يصعدون. وسرر وأسرة جمع سرير. والزخرف الزينة.

٥٤٣

الإعراب :

هؤلاء إشارة إلى مشركي مكة. ولولا نزل «لولا» أداة طلب مثل هلا. ولولا أن يكون «لولا» هذه تدل على امتناع الثاني لوجود الأول ، والمصدر من أن يكون مبتدأ والخبر محذوف أي لولا كراهية كون الناس الخ حاصل أو لولا رغبة الناس في الكفر حاصلة ، ولبيوتهم سقفا أي على بيوتهم سقفا كما قيل. وان كل «ان نافية» ولما بالتشديد بمعنى إلا.

المعنى :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ). كان قوم ابراهيم يعبدون الأصنام ، ومنهم أبوه كما يدل ظاهر الآية ، فنهاهم عن عبادتها ، وأعلن براءته منهم ومن آلهتهم ، وانه يعبد الله الذي خلقه على فطرة التوحيد ، وانه سيهديه ويرشده إلى ما فيه خيره وصلاحه ، وقوله : «سيهدين» يومئ إلى يقينه وثقته بالله .. وهكذا كل من طلب الهدى والحق بإخلاص يثق بأن الله معه وكافيه وهاديه لقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ .. * إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .. * إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). وتقدم مثله في الآية ٧٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١١٢ والآية ٤٢ من سورة مريم و ٥٢ من سورة الأنبياء و ٧٠ من سورة الشعراء و ٨٥ من سورة الصافات.

(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ). ضمير جعلها يعود إلى كلمة التوحيد التي دل عليها قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) والمراد بجعلها وصى بها لقوله تعالى في الآية ١٣١ من سورة البقرة : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ) (اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .. (لعلهم يرجعون). هذا تعليل لوصية ابراهيم ، والمعنى انما وصى ابراهيم بنيه بكلمة التوحيد ليعملوا بها ، وإذا أشرك واحد منهم أو حاول يذكّر بوصية أبيه ، ويقال له : انك خالفت ما وصى به ابراهيم. وقد حدث ذلك بالفعل : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ـ ٩٥ آل عمران .. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) ـ ٧٨ الحج.

٥٤٤

لما ذا كرم الله وجه علي؟

في العام الماضي ١٣٨٩ ه‍ صمت رمضان المبارك في (دبيّ) بدعوة من أهلها ، وقد وجه إليّ الشباب العديد من الأسئلة منها هذا السؤال : لما ذا يقول السنة عند ذكر بعض الصحابة : رضي الله عنه ، ويقول الشيعة عند ذكر أحد الأئمة : عليه السلام؟

فأجبت بأن كلا من السنة والشيعة يستقون من القرآن الكريم ، وقد جاء فيه : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ـ ١١٩ المائدة وأيضا جاء فيه : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) ـ ٥٩ النمل فأخذ الشيعة بهذه الآية ، وأخذ السنة بتلك .. وحين بلغت بالتفسير الى قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قرأت في تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي من علماء السنة ـ ما نصه بالحرف : «قال بعضهم في سبب تكريم وجه علي بن أبي طالب بأن يقال : كرّم الله وجهه : انه نقل عن والدته فاطمة بنت أسد أنها كانت إذا أرادت أن تسجد للصنم ، وعلي في بطنها يمنعها من ذلك».

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ). هؤلاء اشارة الى مشركي قريش ، وهم من ذرية ابراهيم (ع) ، والمراد بالحق هنا القرآن ، وبالرسول محمد (ص) وقد وصفه سبحانه بالمبين لأن رسالته ظاهرة الدلائل ، ومعجزته أفحمت كل منكر ، والمعنى ان عتاة قريش أشركوا بالله ، وأعرضوا عن وصية أبيهم ابراهيم (ع) بالتوحيد ، فأمهلهم سبحانه وأنعم عليهم من فضله ، ولكن تملّكهم الغرور ، وطغوا وبغوا الى ان جاءهم رسول من أنفسهم بكتاب الله يدعوهم الى التوحيد ملة أبيهم ابراهم.

(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ). كفروا بالقرآن وقالوا : سحر مفترى ، وكفروا بالرسول وقالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ـ ٧ الحجر. (وقالوا ـ أيضا ـ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم). محمد فقير .. ومع هذا يقول : ان الله نزّل عليّ قرآنا .. وهذا أعجب العجب! لأن الله لا يختار لرسالته إلا العظيم الكبير ، وهو في مفهومهم من ملك الجاه والمال مثل

٥٤٥

الوليد بن المغيرة بمكة ، وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف ، وعلى أحد هذين يجب أن ينزل القرآن لو كان هناك قرآن. وهكذا نفوا الرسالة عن محمد (ص) لا لشيء إلا لأنه لا يملك مالا ولا عقارا .. وجهلوا ان المال يملكه البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، أما الرسالة فهي وقف على الأكفاء وصفوة الأصفياء. ولا فرق عند الله سبحانه بين من نفى النبوة عن محمد لفقره ، وبين من يكرّم ويقدّر الأغنياء لمالهم وثرائهم ، ويزدري المؤمن الفقير لفقره وبؤسه ، لا فرق عند الله بين هذين إطلاقا ، وان نطق أحدهما بالشهادتين. غاية الأمر ان من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله يعامل في الدنيا معاملة المسلم ، أما في الآخرة فهو مع الجاحدين والمشركين.

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)؟. الهمزة للإنكار ، والمراد برحمة الله هنا النبوة ، والمعنى هل أمر النبوة بيد الطغاة المترفين ليختاروا لها من يشاءون ويحرموا منها من يريدون؟ وهل النبي مختار في قرية ، أو نائب في برلمان؟. ان النبوة منصب إلهي ، والنبي يبلغ عن الله سبحانه ، فهو لسانه وبيانه ، فهل يريد المترفون أن يختاروا لله من يبلغ عنه ويتكلم باسمه من لا يأتمنه ويرتضيه؟ وهل يجيز المترفون لأحد أن ينوب عنهم ، ويتكلم باسمهم دون أن يأذنوا له في ذلك؟ فكيف أجازوا على الله ما لا يجيزونه على أنفسهم؟

(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). الله يرزق من يشاء ما في ذلك ريب ، ولكنه شاء أيضا أن لا يرزق إلا بسبب : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ـ ١٥ الملك. وهذه الأسباب أو السعي في الأرض على أنواع ، منها الصناعة والزراعة والتجارة والاستخدام الذي عبّر عنه سبحانه ب «سخريا» كالذي يستخدم في الدولة أو في المصنع أو عند تاجر أو طبيب وغيرهما من أرباب العمل ، وفي مفهوم الناس ان رب العمل أرفع من العامل ، أما عند الله تعالى فالأكرم والأرفع هو الأتقى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ـ ١٣ الحجرات .. (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ١٣٣ آل عمران. وفي نهج البلاغة : «جاع رسول الله في الدنيا مع خاصته ـ أي خصوصيته عند ربه ـ وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته ،

٥٤٦

فلينظر ناظر بعقله أكرم الله محمدا بذلك أم أهانه ، فإن قال : أهانه فقد كذب والعظيم ، وان قال : أكرمه فليعلم ان الله قد أهان غيره حيث بسط له الدنيا وزواها عن أقرب الناس منه».

وتسأل : وما ذا تفعل بقوله تعالى : «نحن قسمنا .. ورفعنا» فإنه صريح في ان الله هو الذي يفقر ويغني ويجعل هذا عاملا ، وذاك ربا للعمل؟

الجواب : ان قوله هذا حكاية للواقع الذي عليه الناس ، وأسنده اليه تعالى لأن التفاوت يرجع الى أسبابه الكونية مباشرة ، وإليه تعالى بالواسطة لأنه خالق الكون وموجده ، ويدل على إرادة هذا المعنى قوله سبحانه في آخر الآية : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) حيث أسند جمع المال الى الناس لا إليه .. وبهذا يمكن التوفيق بين الآيات الآمرة بالسعي من أجل الرزق ، والآيات التي أسندت الرزق الى الله عز وجل .. وأشرنا عند تفسير الآية ٢٧ من سورة الشورى إلى أنه تعالى قد يشمل بعض عباده بالتوفيق والعناية ، فيرزقهم من القليل كثيرا.

(ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا. أي معارج من فضة وأبوابا من فضة وسررا من فضة. والآية رد على من قال : ان الفقير لا يصلح للنبوة لأن الفقر منقصة في الخلق ، ويتلخص الرد بأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، والآخرة خير عند ربك وأبقى ، ولكن الناس يؤثرون الدنيا على الآخرة ، ويميلون معها انّى اتجهت ، ولولا ذلك لأعطى سبحانه الكافر بيوتا من فضة بسقفها وأبوابها ومصاعدها وأثاثها ، وزادهم على ذلك من زخرف الدنيا وزينتها احتقارا لها .. وقال بعض العارفين : مال الناس مع الدنيا ، وما فعل الله ذلك ، فكيف لو فعل؟ وتدل هذه الآية على ان الله يلطف بعباده ، ويفعل ما يقربهم من الطاعة ، ويبتعد بهم عن المعصية ـ وعلى الأقل ـ لا يفعل ما يغريهم بالمعصية.

(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إن نعيم الدنيا مهما كان نوعه فهو الى زوال لا يستحق العناية والاهتمام ، وقد جاء التعبير عنه في بعض الآيات باللهو واللعب والغرور (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) وهم الذين أخلصوا لله في أقوالهم وأفعالهم.

٥٤٧

أفأنت تسمع الصم الآية ٣٦ ـ ٤٥ :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥))

اللغة :

ومن يعس عن ذكر الرحمن أي من يعرض مثل : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) ـ ١٧ الجن. ونقيض ننح ونهيئ. والمراد بذكر الرحمن القرآن وبذكر لك ولقومك الشرف.

الإعراب :

يا ليت بمنزلة الكلمة الواحدة ومعناها أتمنى. فبئس القرين المخصوص بالذم محذوف وهو أنت. والمصدر من أنكم في العذاب مشتركون فاعل ينفعكم أي لا

٥٤٨

ينفعكم الاشتراك في العذاب أو كونكم مشتركين فيه. فاما نذهبن «إما» كلمتان ان الشرطية وما الزائدة ، وهي هنا بمنزلة لام القسم ، ولذا اتصلت نون التوكيد بالمضارع. واسأل من أرسلنا على حذف مضاف أي اتباع من أرسلنا.

المعنى :

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ). الله سبحانه عادل وحكيم لا يسلط الشياطين على عباده ليغريهم بالضلال والمعصية ثم يعاقبهم عليها ، كيف وهو القائل : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ـ ٤٢ الحجر والقائل : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ ٤٦ فصلت؟ وعليه يكون معنى الآية من ينصرف عن دين الله وشريعته الى الشهوات والملذات يتخلى سبحانه عنه ، ويكله إلى نفسه الأمّارة ، وإلى شياطين الانس والجن تفتك به ، وتقوده إلى المهالك ، ولا يردعه الله عن المعصية بالجبر والقهر. وتقدم مثله في الآية ٢٥ من سورة فصلت.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ). الضمير في انهم يعود إلى الشياطين لأن المراد بالشيطان الجنس ، وضمير يصدونهم يعود إلى أتباع الشياطين ، والسبيل هو طريق الهدى والحق (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ). الشياطين يقودون أتباعهم إلى الضلال ، والأتباع يعتقدون انهم على الهدى في الانقياد إلى الشياطين .. وأشقى الناس من سار على طريق الهلاك ، وهو يعتقد انه على طريق السلام والصراط القويم : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ـ ١٠٥ الكهف».

(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ). في جاءنا وقال ضمير مستتر يعود إلى الذي اتبع الشياطين والمضللين ، وفي الكلام حذف أي ان التابع يقول غدا للمتبوع : ليتني كنت بعيدا عنك بعد المشرق عن المغرب ، فبئس الصاحب كنت لي والرفيق ، ومثله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) ـ ١٦٦ البقرة. (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ). الخطاب في ينفعكم للتابعين ، والمعنى قد يهون عذاب الدنيا بعض الشيء على صاحبه إذا رأى غيره يعاني مما

٥٤٩

يعانيه ، أما عذاب الآخرة فهو هو في شدته ، سواء أكان خاصا بالتابعين أم عاما لهم وللمتبوعين ، فاشتراك هؤلاء مع أولئك في العذاب لا يخفف منه شيئا ، ولا يجدي التابعين نفعا.

(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). لقد ختمت الشهوات على أعينهم وقلوبهم وآذانهم ، فكيف يرون الحق ويسمعون كلمته؟ وتقدم مثله في الآية ٤٢ من سورة يونس و ٨٠ من سورة النمل و ٥٢ من سورة الروم (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ). الخطاب لرسول الله (ص) ، وضمير منهم وعليهم للمشركين ، والمعنى ان الله سبحانه لا يدع المشركين على ما هم عليه ، فإن انتقل الرسول إلى رحمة ربه قبل أن يسلموا أو يستسلموا انتقم الله منهم ، وان بقي الرسول حيا أظهره الله عليهم وأخضعهم لأمره مرغمين ، وفاء لوعد الله تعالى. وهذا ما حدث بالفعل. فلقد دخل الرسول الأعظم مكة فاتحا واستسلم له عتاتها بعد أن أخرجوه منها خائفا يترقب. وتقدم مثله في الآية ٤٦ من سورة يونس والآية ٤٠ من سورة الرعد والآية ٧٧ من سورة غافر.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). اعتصم يا محمد بالقرآن لأنه الحق ، والله معك لأنك على صراطه القويم ، وهو كافيك المستهزئين والمعاندين (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي ان القرآن شرف لك وللعرب لأنه رفع من شأنهم ونشر سلطانهم ولغتهم في شرق الأرض وغربها كما ذكرنا عند تفسير الآية ٤ من هذه السورة. وتقدم مثله في الآية ١٠ من سورة الأنبياء (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ). أيها العرب عن العمل بالقرآن .. ولا شيء أهون اليوم عليهم منه ، ومن هنا أصبحوا أكلة سائغة لكل آكل وطامع.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ). اسأل يا محمد أهل الأديان واتباع من سبقك من الرسل : هل سمعوا بنبي من الأنبياء أجاز الشرك ، وأباح عبادة الأصنام؟ وإذا كان جميع الرسول دعوا الى التوحيد ونبذ الشرك كما دعا محمد فعلام أيها المشركون تعلنون الحرب عليه وعلى دعوته؟

٥٥٠

موسى الآية ٤٦ ـ ٥٦ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦))

اللغة :

بآياتنا بمعجزاتنا التي أظهرناها على يد موسى. وملئه أشراف قومه. ومهين حقير. ويبين يفصح. وأسورة جمع سوار مثل أخمرة جمع خمار. ومقترنين ملازمين. وآسفونا أغضبونا. وسلفا أي سابقين الى النار. ومثلا عبرة وموعظة.

٥٥١

الإعراب :

أم أنا بل أنا. فلولا فهلا. ومقترنين حال من الملائكة. وأجمعين تأكيد لضمير أغرقناهم. وللآخرين متعلق ب «مثلا».

المعنى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ). هذه هي المرة السادسة عشرة التي تكررت فيها قصة موسى (ع) ما عدا الآيات التي جاء فيها ذكره. وتكلمنا مفصلا حينا ومجملا حينا آخر عن هذه القصة ، وعند تفسير الآية ٩ من سورة طه في المجلد الخامس ذكرنا السبب الموجب لتكرارها ، وقال بعض المفسرين : ان الله عز وجل أعاد هنا قصة موسى لأن عتاة قريش طعنوا بنبوة محمد (ص) لفقره ، فبيّن سبحانه انه قد أرسل موسى الفقير إلى فرعون الغني ، والآيات السابقة تؤيد هذا القول. ومهما يكن فإن معنى الآية التي نحن بصددها واضح ، ويتلخص بأن الله بعث موسى إلى فرعون وقومه بالمعجزات الدالة على نبوته ، كالعصا واليد البيضاء ، فسخروا منه ومن دعوته ومعجزاته.

(وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها). المراد بالآية هنا العذاب ، كما قال سبحانه : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) ـ ١٣٣ الأعراف. ومعين أكبر هنا أوضح ، وأختها أي شريكتها في العذاب (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن الضلال إلى الهدى ، وعن الفساد في الأرض إلى إصلاحها ، ولكن ما أغنت الآيات والنذر عن قوم لا يبصرون إلا منافعهم ومكاسبهم.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ). في هذه الآية حكى سبحانه ان قوم فرعون خاطبوا موسى بالساحر ، وفي الآية ١٣٤ من سورة الأعراف حكى انهم خاطبوه باسمه : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَ). وغير بعيد انهم خاطبوه مرة بالاسم ،

٥٥٢

ومرة بكلمة الساحر .. وهذا مألوف في الحوار عند الناس (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ). أخذهم الله بالسنين ، فاستغاثوا بموسى وعاهدوا الله أن يتوبوا اليه ان كشف عنهم العذاب ، ولكنهم نكثوا واستمروا على الكفر والضلال بعد أن كشف عنهم الرجز وشملهم برحمته وعنايته.

(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ). من تحتي كناية عن تصرفه في الأنهار كما يشاء .. وقد استدل فرعون على عظمته وعلو شأنه بالمال والعقار .. ولا عجب ، فهذا هو المنطق السائد عند الأكثرية الغالبية في كل قطر وعصر .. وأصحاب المال في هذا العصر هم الحاكمون بأمرهم في كثير من البلدان (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ). مهين حقير لفقره ، ويبين يفصح ويوضح عما يريد. وقد كان في لسان موسى لثغة فأزالها الله سبحانه بدليل قول موسى لربه : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) وقوله تعالى لموسى : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) ـ ٣٦ طه. وفرعون عيّر موسى بما كان ، لا بما هو كائن بالفعل.

(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي ملازمين لموسى تماما كما تلازم الرجل العظيم حاشيته. وقال المفسرون : جرت عادة قوم فرعون إذا اختاروا رئيسا لهم ان يسوّروه بسوار من ذهب ، ويطوقوه بطوق من ذهب علامة على رياسته ، ومن أجل هذا قال فرعون : كيف يكون موسى نبيا ، ولا سوار في يده ، ولا طوق في عنقه ، والذي جرأه على ذلك هو جهل قومه وضلالهم وضعف عقولهم كما قال سبحانه : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ). في العام الماضي طلبت عاملا ليصلح خط الكهرباء في مكتبتي ، ولما رأى الكتب مبعثرة في كل جزء من الغرفة ذهل وقال: ان زوجتي تكرهني ، فأرجوك أن تكتب لها كتاب محبة. فقلت له : أنا جاهل بهذا الفن. فقال : ولما ذا تقتني هذه الكتب؟

(فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا بتكذيب الرسول ، ونكث العهد وإصرارهم على الكفر والضلال (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) القائد منهم والمقود (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي متقدمين على غيرهم الى النار (وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) عبرة وعظة لمن

٥٥٣

يأتي بعدهم ، ومثله : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) ـ ٣٧ الفرقان.

ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية ٥٧ ـ ٦٦ :

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦))

اللغة :

يصدون أي يصيحون ويضجون. وخصمون شديدون في الخصومة. وجعلناه مثلا أي آية. والامتراء الشك.

٥٥٤

الإعراب :

مثلا مفعول ثان لضرب لأن الفعل هنا بمعنى جعل ، وهو يعود الى ابن مريم. وما ضربوه كلام مستأنف ، و «ما» نافية. وجدلا مفعول لأجله. وان هو «ان» نافية. فلا تمترن النون للتوكيد. واتبعون أي واتبعوني ومثله وأطيعون. والمصدر من أن تأتيهم بدل من الساعة لأن المعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة. وبغتة صفة لمفعول مطلق محذوف أي اتيانا بغتة أو في مكان الحال أي مباغتة.

المعنى :

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ)؟ الخطاب في قومك لرسول الله (ص) وضرب مبني للمجهول. وقال المفسرون : ان الذي ضرب ابن مريم مثلا هو عبد الله بن الزبعرى بكسر الزاي وفتح الباء والراء ، وتشير الآية إلى حادثة خاصة بين النبي (ص) وكفار قريش ، وملخصها انه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ـ ٩٨ الأنبياء شق ذلك على قريش ، فقال ابن الزبعرى قبل أن يسلم ، قال للرسول : ان النصارى يعبدون المسيح ، فإذا كان المسيح في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا معه لأنه خير منها ، أو هي ليست خيرا منه. ولما سمع المشركون هذا النقض من ابن الزبعري رفعوا أصواتهم بالضجيج ليسكتوا الرسول عن الجواب ويوهموا الناس انه أعجز وأفحم ، وفي بعض الروايات ان رسول الله (ص) قال ابن الزبعرى : ما أجهلك بلغة قومك؟ أما فهمت ان «ما» لما لا يعقل؟.

(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً). ان نقض المشركين عليك يا محمد بالمسيح ما هو بقصد إحقاق الحق وإظهاره .. كلا ، بل للتهرب منه بالكذب والتمويه ، وإلا فإنهم على علم اليقين بأن المراد من «وما تعبدون» أصنامهم بالذات (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) يبالغون في اللجاج والخصومة بالباطل حرصا على أرباحهم وعدوانهم (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ). ان عيسى

٥٥٥

عبد من عباد الله أنعم الله عليه بالنبوة ، وخلقه كآدم من غير أب ليكون آية تدل بني إسرائيل على قدرة الله وعظمته لعلهم يهتدون ويتقون .. ولكنهم ازدادوا عتوا وطغيانا ، وقالوا عن السيد المسيح وأمه ما يهتز له العرش.

(ولو نشاء لجعلنا منكم ـ أي بدلا منكم ـ ملائكة في الأرض يخلفون) أي يخلفونكم. هذا تهديد ووعيد للمشركين ، ومعناه ان الله غني عنكم وعن عبادتكم أيها المشركون ، ولو شاء أهلككم وجعل مكانكم ملائكة يخلفونكم في الأرض يقدسونه ويسبّحون بحمده ولا يعصون له أمرا. ومثله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) ـ ٣٨ محمد.

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). ضمير انه يعود الى القرآن ، والمعنى ان القرآن يعلم الناس بيوم القيامة ويخبرهم عن حقيقته ، ويحذرهم من أهواله ، ولا يجوز الشك فيه .. و «هذا» اشارة الى القرآن أيضا وانه صراط الله المستقيم ، قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ـ ٩ الإسراء. والأقوم هو الصراط المستقيم.

وتسأل : كيف يعود الضمير الى القرآن مع العلم بأنه لم يرد له في الآيات ذكر ، والذي ذكر فيها هو عيسى (ع) فينبغي أن يعود الضمير اليه ، لا إلى القرآن؟

الجواب : ان موضوع الآيات هو الجدل في عيسى ، والحديث عنه كما وصفه القرآن ، لا كما هو في ذاته بصرف النظر عما جاء في كتاب الله ، وعليه يكون ذكر السيد المسيح ذكرا للقرآن ، ويؤيده قوله تعالى في نفس الآية : هذا صراط مستقيم ، فإن المراد به القرآن كما أسلفنا. والغريب ان بعض المفسرين أعادوا الضمير إلى عيسى ، ومع هذا فسّروا الصراط المستقيم في الآية بدعوة محمد (ص) والقرآن.

(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) عن الحق والعمل بالقرآن (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، ظاهر العداوة والبغضاء يغريكم بالمنكر والفحشاء ، ومثله : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) ـ ٢٧ الأعراف. (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

٥٥٦

المراد بالبينات هنا المعجزات الدالة على نبوة عيسى ، كشفاء الأكمه والأبرص ، والمراد بالحكمة العلم بدين الله وشريعته ، والمعنى ان عيسى الذي ثبتت نبوته بالدلائل الواضحة قال لبني إسرائيل : قد جئتكم من عند الله بأحكام الدين كلها عقيدة وشريعة ، وبها تعرفون المحق من المبطل ، فاتقوا الله ترشدوا.

وتسأل : لما ذا قال بعض الذين تختلفون فيه ولم يقل كل :

وأجاب جماعة من المفسرين بأن القصد من ذلك ان عيسى (ع) بوصفه نبيا يبين لهم أمور الدين فقط ، أما شئون الدنيا فلا تدخل في مهمته. وقد روى علماء السنة في صحاحهم عن النبي (ص) انه قال : «أنتم أعلم بأمور دنياكم ، وأنا أعلم بأمور دينكم».

(إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). هذا إشارة الى التوحيد والنهي عن الشرك ، والمعنى ظاهر على حد تعبير الرازي (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ). المراد بالأحزاب اليهود والنصارى من جهة ، والنصارى فيما بينهم من جهة ثانية. قال اليهود : ان عيسى ابن زنا مخالفين في ذلك جميع النصارى والمسلمين ، أما النصارى فقد اختلفوا بعد المسيح وتفرقوا شيعا ، فمن قائل : ان عيسى عبد الله ورسوله ، وقائل : هو ابن الله ، وقائل : بل هو الله بالذات .. تعالى الله عما يصفون.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)؟ هذا تهديد ووعيد لمن ألّه عيسى. وتقدم مثله في سورة يوسف الآية ١٠٧.

الاخلاء يومئذ الآية ٦٧ ـ ٨٠:

(الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها

٥٥٧

خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠))

اللغة :

مسلمين منقادين لله. تحبرون تسرون. وصحاف جمع صحفة كجفان جمع جفنة ، وهي إناء يؤكل فيه الطعام. وأكواب جمع كوب ، وهو كوز أو ما أشبه ، ولا أذن له كما قيل. لا يفتر عنهم لا يخفف عنهم. ومبلسون آيسون من النجاة. ومالك خازن النار. وأبرموا أحكموا.

الإعراب :

الأخلاء مبتدأ وبعضهم مبتدأ ثان وعدو خبره ، والجملة خبر الأول ، ويومئذ متعلق بعدو. وجملة يا عباد الخ مفعول لقول محذوف ، والأصل يا عبادي وحذفت الياء تخفيفا. والذين آمنوا بدل من يا عبادي. وفيها ما تشتهيه مبتدأ وخبر. وتلك الجنة مبتدأ وخبر. وهم الظالمين «هم» ضمير فصل لا محل له من الإعراب. أم أبرموا اضراب ومثلها ام يحسبون.

٥٥٨

المعنى :

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). المراد بالعداء هنا انقطاع الصلة سواء أكان معه تباغض وتلاعن أم لم يكن ، والمعنى ان صلة الحب والصداقة التي كانت في الدنيا قائمة بين الناس تنقطع يوم القيامة وتزول إلا إذا كان مصدرها الاخوة في الله والتعاون على طاعته ، فإنها عندئذ تستمر إلى ما لا نهاية بل تنمو وتزداد كلما طال المدى لأن ما كان لله ينمو .. هذا ، إلى ان أهل الجنة أسرة واحدة على اختلاف قومياتهم وبلادهم في الدنيا ، قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ـ ٤٧ الحجر.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ). هذا أمان الله من الحزن والخوف غدا لمن آمن بالله واتقاه (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ). هذا بيان وتفسير لعباد الله وانهم الذين آمنوا به وانقادوا لطاعته ، وان جزاءهم عنده تعالى أن يدخلهم الجنة مع أزواجهم الصالحات ، ومعنى تحبرون تسرون أي ان ثوابهم لا يقف عند الأمن وعدم الخوف بل يتعداه إلى النعيم والحبور ، وأيضا (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ). الصحاف للطعام ، والأكواب للشراب (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) من الملذات الروحية والمادية (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) من المناظر الجميلة (وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) الى ما لا نهاية (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجنة حق لكم أيها المؤمنون العاملون تماما كالارث من مورثكم لأنكم في الحياة الدنيا عملتم من أجلها (لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ). طعام وشراب وفاكهة أيضا. والذي تشتهيه الأنفس لا يبلغه الحصر ، لأن شهوة النفس لا ضابط لها ، وكذلك لذة العين.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ). بعد أن ذكر سبحانه الهادين المهديين ذكر الضالين المضلين ، وانهم في عذاب دائم لا أمل لهم في انقطاعه ، ولا في تخفيفه بعض الشيء (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ). لأنه سبحانه حذرهم وأنذرهم ، فأبوا إلا كفورا.

(وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ). استغاثوا بمالك خازن النيران ، وطلبوا منه أن يمن الله عليهم بالموت ليستريحوا من العذاب. فأجابهم

٥٥٩

مالك : لا نجاه مما أنتم فيه. هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.

وتسأل : لقد وصفهم سبحانه في الآية السابقة بأنهم مبلسون أي آيسون حتى من تخفيف العذاب لحظة واحدة فضلا عن انقطاعه ، فكيف أخبر عنهم هنا انهم يطلبون الموت ليستريحوا من العذاب؟ ألا يدل هذا الطلب على الرجاء الذي يتنافى مع اليأس؟

الجواب : ان لأهل النار حالات يغلب عليهم اليأس في بعضها ، وتلوح لهم بارقة من أمل في بعضها الآخر .. هذا ، الى أنه من الجائز أن يكون نداؤهم مالكا لمجرد التعبير عن شدة ما بهم.

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ). الذين يعرضون عن الحق على نوعين : الأول يعرض عنه لجهله به. والثاني يعرض عنه لأنه يصادم أهواءهم وأغراضهم. وهذا النوع من الناس هم الأكثرية الغالبية .. وكل من يدخل النار غدا يدخلها لأنه أعرض عن الحق ولم يعمل به ، ولكن القليل منهم استحق العذاب لأنه قصّر في طلب العلم بالحق ، والأكثر استحقوا العذاب لأنهم تركوا الحق لتصادمه مع أهوائهم ، لا لجهلهم به (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ). ضمير أبرموا يعود إلى المشركين ، والمعنى ما دبر المشركون كيدا للنبي إلا أبطل الله كيدهم ، كما فعل بقريش حين اجتمعت على اغتيال الرسول (ص) وهو نائم في فراشه (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ). انهم يدبرون الكيد بالسر ، ويعتقدون ان ذلك يخفى عليه تعالى ، ولكنه يعلم السر وأخفى ، وهو لا يهدي كيد الخائنين.

ان كان الرحمن ولد الآية ٨١ ـ ٨٩ :

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ

٥٦٠