التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

الجزء الخامس والعشرون

٥٠١
٥٠٢

اليه يرد علم الساعة الآية ٤٧ ـ ٥٠ :

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠))

اللغة :

المراد بالساعة هنا يوم القيامة. والأكمام جمع كم بكسر الكاف ، وهو غلاف الثمرة قبل ظهورها. وآذناك أعلمناك. ومحيص مهرب. ولا يسأم لا يمل ، والمراد بالخير هنا المال والجاه والصحة والولد. والمراد بالرحمة كل ما يسرّ به الإنسان ، وضدها الضراء.

الإعراب :

وما تخرج وما تحمل «ما» نافية. من ثمرات «من» زائدة وثمرات فاعل تخرج. ومن أكمامها متعلق بمحذوف صفة لثمرات. وبعلمه متعلق بمحذوف حالا أي إلا كائنا بعلمه. وما لهم من محيص «من» زائدة ومحيص مبتدأ وخبره لهم.

٥٠٣

ومن دعاء الخير أي من دعائه الخير. فيؤوس خبر مبتدأ محذوف أي فهو يؤوس. ولئن اللام للقسم وان شرطية. وليقولن جواب القسم سادا مسدّ جواب الشرط.

المعنى :

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ). لا أحد يعلم متى تقوم الساعة الا الله وحده. وفي نهج البلاغة : أنتم والساعة في قرن. والقرن الحبل أي ان الإنسان مقرون بها. ومن مات فقد قامت قيامته (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) (١) (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ). تقدم مثله في الآية ٥٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٠٠ (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ). يسأل سبحانه غدا المشركين موبخا : أين ما كنتم تعيدون من دون الله؟ هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ فيقولون لله سبحانه : أخبرناك انه لا أحد منا يشهد في هذا اليوم ان لك شريكا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ). لا يجد الإنسان يوم القيامة صنما ولا مالا ولا ولدا ، ولا حيلة أو وسيلة ، لا شيء إلا الحساب والجزاء على الأعمال (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ). ينكشف الغطاء غدا للمجرمين ويوقنون انه لا مفر من العذاب.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ). يلح الإنسان في طلب المال والجاه والصحة والأمان ، ويبالغ في ذلك بلا ملل وانقطاع ، فإن أصيب بشيء من دنياه خارت قواه ، وقنط من رحمة الله (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي). يطلب الدنيا بإلحاح ، وييأس ان فاته شيء منها ، وان أنجاه الله من محنة يقاسيها قال : نجوت بحولي وقوتي ولا فضل لأحد عليّ .. ولا يسلم من هذا الغرور القاتل إلا أهل الحق والعقل السليم.

__________________

(١). آخر ما توصلت اليه الأبحاث الطبية انه يمكن معرفة نوع الجنين : هل هو ذكر او أنثى ابتداء من الشهر الثالث. انظر تفسير الآية ٣٤ من سورة لقمان.

٥٠٤

(وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى). ما زال الكلام للجاهل المغرور ، ومعناه ـ على لسانه ـ أنا الذي فعلت وفعلت في الحياة الدنيا ، أما البعث بعد الموت الذي يخوفني منه المؤمنون به فهو وهم .. وان صح فإن لي في الآخرة من الرزق والمكانة خيرا وأفضل لأني أهل لكل مكرمة .. وإذا لم يكن لهذا الجهول من ذنب إلا هذه الغطرسة لكفى بها ذنبا. وتقدم هذا بصورة أوسع في الآيات ٣٢ ـ ٤٤ من سورة الكهف ص ١٢٦ ـ ١٣١.

(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ). ما من سيئة يقترفها الإنسان في هذه الحياة إلا ويجد علمها غدا عند الله ، وهو سائله عنها ومعاقبه عليها بما يستحق ، فإن كانت من نوع الذنوب الكبار كالكفر والشرك والظلم أذاق الله صاحبها العذاب الأكبر ، وان كانت دون ذلك كان العذاب أخف مع العلم بأن كل بلاء دون النار عافية.

سنريهم آاتنا ف الآفاق الآية ٥١ ـ ٥٤ :

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

اللغة :

جانب الإنسان أحد شقيه ، ونأى بجانبه كناية عن تعاظمه. وعريض كثير.

٥٠٥

أرأيتم اخبروني. والشقاق البعيد ، الخلاف مكابرة وعنادا. والآفاق أقطار السموات والأرض.

الإعراب :

فذو دعاء خبر لمبتدأ محذوف أي فهو ذو دعاء. والمصدر من انه الحق فاعل يتبين. والباء في «بربك» زائدة وربك فاعل يكف. والمصدر من أنه على كل شيء بدل من ربك. وألا أداة تنبيه.

المعنى :

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ). ان استغنى بطر وفتن ، وان افتقر قنط ووهن كما قال الإمام علي (ع). وتقدم مثله في سورة يونس الآية ١٢ ج ٤ ص ١٣٩ وسورة هود الآية ٩ ج ٤ ص ٢١٢ وسورة الإسراء الآية ٨٣ ج ٥ ص ٧٨.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). الخطاب في أرأيتم لمن كذّب بالقرآن ، والشقاق البعيد الخلاف مكابرة وعنادا .. أمر سبحانه نبيه الكريم أن يقول لهم : أتزعمون ان القرآن أساطير؟ اخبروني ما ذا يكون حالكم ومآلكم ان كان القرآن حقا من عند الله ، وأنتم تخالفونه مكابرة وعنادا .. ألا ترحمون أنفسكم ، وتحتاطون لها من عذاب النار؟

الكون هو قرآن الله الكبير :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ). يقيم سبحانه الدليل لعباده كي يقنعهم بوجوده وصحة دينه وصدق كتبه ورسله ، يقيم لهم الدليل على ذلك من الحس والمشاهدة من أنفسهم ومن الكون الظاهر للعيان ، ويكشف عما فيهما من الدلائل ، فينبه العقول الى خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل

٥٠٦

والنهار ، وتصريف الرياح والسحاب ، وإحياء الأرض بعد موتها ، وحركة الكواكب ومنافعها ، وخلق الإنسان في أحسن تقويم ، وما إلى ذلك مما يدركه الإنسان بحواسه ويدل دلالة قاطعة على وجود الله ، وانه هو وحده الخالق المهيمن على كل شيء.

وإذا كان الله سبحانه يعتمد على الدليل الحسي لاقناع عباده ويخاطبهم بقوله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) ـ ٢ الحشر أي العيون ، وقوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ٢٧ السجدة إذا كان كذلك فكيف يقال : ان الدين غيب في غيب لا يعتمد على الحس والتجربة؟ كلا ، انه يثبت بالحس والمشاهدة ما غاب عن العين تماما كما نثبت عقل العاقل من أقواله وأفعاله ، ويثبت علماء الطبيعة بالحس الكثير من من الحقائق التي لا تدرك بالحس والعيان ، وبهذا يتبين خطأ بعض الأدباء في قوله : «ان الله دائما يتقبل من الذين يؤمنون بالغيب دون حاجة الى برهان ودون حاجة الى عيان ـ مجلة صباح الخير ٢٦ ـ ٢ ـ ١٩٧٠» .. هذا ، الى أن علماء المسلمين أجمعوا على وجوب النظر لمعرفة الله تعالى والايمان به مستندين في ذلك الى حكم العقل والآيات القرآنية ، ولكن أديبا ما يقول العكس .. ومع ذلك يتصدى لتفسير القرآن.

قال ابن عربي في الفتوحات المكية : انك لا تقدر أن تنكر ما ترى ، كما انك لا تقدر أن تجهل ما تعلم ، وأنت ترى الوجود ، وتعلم به علم اليقين ، وهو حروف وكلمات وسور وآيات تنطق بوجود كاتبها وهو الله وان لم تره ، فالوجود قرآن الله الكبير الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. انظر تفسير الآية ٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٦١ فقرة «لا دكتاتورية في الأرض ولا في السماء».

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). بعد ان قال سبحانه أنه يقيم الدليل لعباده في آفاق السموات والأرض وفي أنفسهم على ان الله حق ، والقرآن حق ، ونبوة محمد حق ، بعد هذا قال : وكفى بأدلته تعالى شاهد عدل وصدق على ذلك. وقال الصوفية في معنى الآية : ان الله هو الذي يشهد ويدل على وجود غيره ، أما هو فلا يحتاج شاهدا من غيره يدل عليه.

٥٠٧

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ). إنما كذبوا بالقرآن لأنهم لا يؤمنون بالغيب والجزاء .. وفي هذا إشعار بأن من لا يؤمن بلقاء الله فلن يهتدي الى خير (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) يعلم ظاهر العباد وباطنهم ، ويجازي كلا بما كسبت يداه ، ان خير فخير ، وان شرا فشر ، ومن أجل هذا يعذب الذين كفروا بلقائه ، وكذبوا بكتابه جزاء بما كانوا يكسبون.

٥٠٨

سورة الشّورى

٥٣ آية مكية. وقيل : إلا بضع آيات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

کذلک يوحى اليك الآية ١ ـ ٨ :

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨))

اللغة :

حفيظ رقيب. وما أنت عليهم بوكيل أي لست موكلا بهم. وأم القرى مكة.

٥٠٩

الإعراب :

كذلك الكاف بمعنى مثل ومحلها النصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي ايحاء مثل ذلك. والله فاعل يوحي. والذين اتخذوا مبتدأ أول والله مبتدأ ثان وحفيظ خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول. وقرآنا مفعول أوحينا. وجملة لا ريب فيه صفة ليوم الجمع. وفريق مبتدأ وخبره محذوف أي منهم فريق. ومن ولي «من» زائدة إعرابا وولي مبتدأ وما لهم خبر مقدم ، والجملة خبر الظالمون.

المعنى :

(حم عسق). تقدم الكلام عن هذه الأحرف أو الكلمات في أول سورة البقرة ، وقال بعض المفسرين : ان (حم عسق) هما اسمان لهذه السورة لبيان فضلها على سائر الحواميم. وقال الرازي : ان الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيق ، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل اليه ، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله.

(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). ان القوي القادر الذي يدبر الأمور وفق تقديره وحكمته قد أوحى اليك يا محمد والى الأنبياء من قبلك ان (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). هو وحده مالك الكون بما فيه لا يملك معه أحد شيئا إلا ملكه (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ). المراد بالسماوات الكواكب العلوية ، وضمير فوقهن يعود اليها ، والمعنى ان الكواكب التي يعلو بعضها بعضا تكاد تنشق من قول من قال : ان لله أندادا. ومثله قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) ـ ٩٢ مريم ج ٥ ص ٢٠٠.

(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). ولو كان لله أنداد لما سبّحت الملائكة بحمد الله الذي لا إله سواه. قال الإمام علي (ع) : لو كان لله شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته (ويستغفرون) أي الملائكة (لمن في الأرض) من المؤمنين والتائبين كما في الآية ٨ من سورة غافر :

٥١٠

(يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ). (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لا يمنع سائلا يسأله الرحمة والمغفرة أيا كان شريطة أن يسلك طريقهما ، وهو التوبة وصدق النية.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ). يقول سبحانه لنبيه : أنت مبلّغ تبشّر وتنذر فقط ، والله هو الذي يحصي على العباد أعمالهم وأقوالهم ومقاصدهم ويحاسبهم عليها. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات. وليس من شك انه لا قسر ولا جبر على الايمان ، ولكن من يعتدي على حرمة الناس يجب تأديبه وردعه لأنه هو الذي انتهك حرمة نفسه ، وأيضا من يولد على الإسلام ثم يرتد عنه يجب قتله ، وكذا المسلم إذا ترك الصلاة أو الصوم تهاونا فإنه ينبه ويعزر ، فإن أصر يقتل بعد التنبيه الرابع.

وعلى هذا يتحتم تفسير الآيات التي قالت للنبي : ما أنت عليهم بوكيل ، يتحتم تفسيرها وتخصيصها بغير هذه الموارد وما اليها من المستثنيات ، أو نقول : انها نزلت في زمان ما كان النبي يملك فيه القوة الرادعة المؤدبة.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي لتبدأ يا محمد أول ما تبدأ بالدعوة الى الإسلام في بلدك مكة والبلدان التي حولها ، ثم تنتشر في أرجاء العالم ، كأية دعوة عامة تبتدئ حيث تولد ، ثم تنطلق الى سائر الأقطار. انظر تفسير الآية ٩٢ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٢٥ (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). يوم الجمع هو يوم القيامة الذي نفى سبحانه الريب عن وقوعه ، وميّز فيه أهل الجنة عن أهل النار ، وانما سمي يوم الجمع لأن الخلائق تجتمع فيه للحساب والجزاء : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ـ ١٠٤ هود.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) لو ان الله حمل الناس على دين واحد بالقسر والجبر لزالت صفة الانسانية عن الإنسان حيث يكون ، وهذه هي الحال ، بلا ارادة واختيار تماما كريشة في مهب الريح. وتقدم ذلك في الآية ٤٨ من سورة المائدة والآية ٩٣ من سورة النحل والآية ١١٨ من سورة هود ، وتكلمنا عنه مفصلا عند تفسير الآية الأخيرة ج ٤ ص ٢٧٨ (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي

٥١١

رَحْمَتِهِ) وهم المؤمنون بدليل قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ـ ١٣٢ آل عمران. (وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لأنهم استحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون.

اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه الآية ٩ ـ ١٤ :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

٥١٢

اللغة :

أنيب ارجع. وفاطر خالق ومبدع. وأزواجا الأولى الإناث ، والثانية الذكور والإناث. ويذرؤكم يبرزكم الى الوجود نسلا بعد نسل. ومقاليد مفاتيح. ويقدر يضيق. ويجتبي يصطفي.

الإعراب :

أم اتخذوا «أم» بمعنى بل للانتقال من كلام الى كلام ، وقيل هي بمعنى الهمزة فقط. وما اختلفتم «ما» اسم متضمن معنى ان الشرطية ، ويحتاج الى فعل الشرط وجوابه. ومن شيء «من» بيان لما ، أي كل شيء تختلفون فيه. وذلكم مبتدأ والله خبر وربي بدل وفاطر خبر آخر. ويذرؤكم فيه ضمير فيه يعود الى الجعل المفهوم من قوله تعالى جعل لكم. وكمثله الكاف زائدة اعرابا أي ليس مثله. وان أقيموا «ان» مفسرة لشرع لكم. وبغيا مفعول من أجله لتفرقوا.

المعنى :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). بعد أن قال سبحانه في الآية ٦ : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أعاد هنا هذا القول وزاد عليه بأنه تعالى وحده الناصر والمعين والمحيي والمميت والقادر على كل شيء ، أعاد مع هذه الزيادة بقصد الاستنكار على من اتخذ من دونه أولياء مع ان غير الله لا يحيي ولا يميت ولا ينصر ويعين لأنه لا يقدر على شيء.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ). هذا حكاية لكلام الرسول الأعظم (ص) يخاطب به جميع الناس ، ويقول لهم ، ان كل شيء يختلف الناس في أنه حق أو باطل فالمرجع فيه إلى القرآن ،

٥١٣

فقوله الفصل ، وحكمه العدل ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ـ ٥٩ النساء ج ٢ ص ٣٦٢.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما ومدبرهما ، ولا فرق عند الله بين خلق السموات والأرض وبين خلق النملة ، فقد أحكم خلق هذه تماما كما أحكم خلق الكون (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) لتسكنوا اليها (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ـ ٢١ الروم. (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) ذكورا وإناثا (يذرؤكم فيه) أي في هذا الجعل ، ويذرؤكم هنا تتضمن معنى التكثير ، أي ان الله جعل الناس ذكورا وإناثا وكذلك الأنعام ليتكاثر الناس والأنعام ، وهذا التكاثر نعمة من الله تعالى.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لا في ذاته ، ولا في صفاته لأنه فوق كل شيء وخالق كل شيء ، لا إله إلا الله الواحد القهار (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يسمع الأقوال ، ويبصر النوايا والأفعال (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). أرزاق السموات والأرض بيد الله يبسطها لهذا ، ويقبضها عن ذاك ، وهو عليم بما تستدعيه الحكمة ، وليس من شك ان البلغة من المال مع الصحة والأمان والدين والصلاح خير الف مرة من الكثرة مع الخوف والسقم والكفر والفساد. وتكلمنا عن الرزق بعنوان «الرزق وفساد الأوضاع» عند تفسير الآية ٦٦ من سورة المائدة ج ٣ ص ٩٤ ، وبعنوان «هل الرزق صدفة أو قدر» عند تفسير الآية ١٠٠ ص ١٣١ من نفس السورة والمجلد ، وبعنوان «الإنسان والرزق» عند تفسير الآية ٢٦ من سورة الرعد ج ٤ ص ٤٠١.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ). أرسل سبحانه جميع الأنبياء بكلمة التوحيد والايمان باليوم الآخر ، واقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وتحريم الظلم والغش والزنا والكذب ، والأمهات والبنات والأخوات ، وما إلى ذلك من أصول الدين والشريعة دون فروعها التي تختلف وتتفاوت بحسب الظروف والمصالح ، وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ـ ٤٨ المائدة

٥١٤

ج ٣ ص ٦٨ ، وانما خص سبحانه بالذكر نوحا وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد لأنهم من أولي العزم ، وإلا فإن هذا الموصى به واحد الى جميع الأنبياء.

وإذا كان الإله واحدا ، والدين واحدا ، والدعوة واحدة فلما ذا التناحر والعداء في الدين؟ وما هو المبرر لتلك الحروب الدينية التي سجلها التاريخ بأحرف الخزي والعار؟ وتكلمنا مفصلا عن دعوة الأنبياء وانهم على دين واحد بعنوان : «الدين عند الله الإسلام» ج ٢ ص ٢٦ ، وتكلمنا عن الاختلاف بين أهل الأديان والمذاهب في المجلد المذكور ص ٢٩ بعنوان : «تفترق أمتي ٧٣ فرقة» وفي المجلد الأول ص ١٧٨ فقرة «احتكار الجنة» ، وص ١٨١ فقرة «كل يعزز دينه».

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) يا محمد أولا لأنك لا تملك سلطانا ولا مالا. ثانيا انك تدعو الى الحق ، ولا شيء أثقل منه على أهل الأهواء والباطل. ثالثا وصمت آباءهم بالجهل والضلال. (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ). وقد اختار محمدا لأنه أهل لرسالته ، وختم به جميع الرسل حيث لا يقاس به أحد من الأولين والآخرين (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). كل من يلجأ الى الله بصدق واخلاص يستجيب له ويهديه : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ـ ١١ التغابن.

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ). تقدم مثله في الآية ٢١٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٣١٧ والآية ١٩ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٨ (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). تقدم في الآية ١٩ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٤ والآية ١١٠ من سورة هود ج ٤ ص ٢٧٢ والآية ١٢٩ من سورة طه ج ٥ ص ٢٥٣ والآية ٤٥ من سورة فصلت.

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ). المراد بالذين أورثوا الكتاب اليهود والنصارى ، وضمير من بعدهم يعود إلى الأنبياء أو إلى الأمم السابقة ، وضمير منه يعود الى محمد المفهوم من قوله تعالى : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) والمعنى ان أهل الكتاب جحدوا ما جاء به محمد (ص) على الرغم من شواهد البينات على نبوته وصدق رسالته.

٥١٥

واستقم كما امرت الآية ١٥ ـ ١٨ :

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨))

اللغة :

لا حجة بيننا أي لا خصومة ولا جدال. ويحاجون في الله يخاصمون في دينه. استجيب له دخل الناس في الإسلام. حجتهم داحضة خصومتهم باطلة. والميزان العدل. والساعة القيامة. ومشفقون خائفون. ويمارون يجادلون.

الإعراب :

والذين يحاجون مبتدأ أول ، وحجتهم مبتدأ ثان ، وداحضة خبره ، والجملة حبر المبتدأ الأول. والميزان عطف على الكتاب. ولعل الساعة على حذف مضاف أي لعل مجيء الساعة.

٥١٦

المعنى :

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ). ذلك إشارة إلى دين الله وإقامته ، والمعنى ادع يا محمد الى الدين الحنيف الذي وصى به سبحانه جميع الأنبياء ، واثبت عليه وعلى الدعوة اليه ، وقال تعالى في الآية ١١٣ من سورة هود : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) ج ٤ ص ٢٧٢ تماما كما في الآية التي نحن بصددها ، وتكلمنا هناك عن الاستقامة وأقسامها.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ). النبي معصوم يتبع ما يوحى اليه ، ولا يتبع هواه ولا هوى غيره .. وقلنا أكثر من مرة : ان النهي عن الشيء لا يدل على جواز وقوعه من المخاطب ، وان للأعلى أن ينهى غيره بما شاء. وتقدمت هذه الجملة بالحرف في الآية ٤٨ من سورة المائدة ج ٣ ص ٦٧ (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ). أعلن يا محمد على الملأ إيمانك بكل كتاب أنزله الله كائنا ما كان ، وان الله هو رب الجميع ، وانك تحكم بين الناس بالعدل ، فتنتصف للمظلوم من الظالم ، وتقتص للضعيف من القوي ، وان كان ذا قربى ، وأعلن أيضا ان كل امرئ هو وحده المسئول عن عمله أمام الله ، وانه لا خصومة بينك وبين أي انسان ، وان اليه تعالى مصير العباد ، فيجازي كل نفس بما كسبت ، وبهذا النهج القويم والمنطق السليم تقيم الحجة على أعدائك ، ولا تبقي علة لمتعلل.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ). كان أهل الكتاب يجادلون المسلمين ويحاولون أن يردوهم عن دينهم بعد أن هداهم الله الى الإسلام. وروى الطبري في تفسيره ان اليهود والنصارى قالوا للمسلمين : «كتابنا قبل كتابكم ، ونبيّنا قبل نبيكم ، فنحن خير منكم» .. وليس هذا ببعيد عن جدال أعداء الحق والدين ، بل هو أقل ما ينتظر منهم .. ولكن حجتهم باطلة لأن الفضل يكون بالعمل لا بالوقت وتقدمه ، وإلا كان إبليس أفضل من آدم ، لأنه أقدم منه. وعلى أية حال فإن عاقبة من جادل بالباطل الى الوبال والخسران دنيا وآخرة.

٥١٧

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ). المراد بالكتاب هنا القرآن ، ومعنى نزوله بالحق ان كل ما فيه حق ، وأيضا يقر ويعترف بكل ما هو حق ، ومعنى نزوله بالعدل انه يفصل بين الناس بالعدل ، فالعدل يحتاج الى طرفين دون الحق أي ان الحق أعم ، فكل عدل يقال له حق ، وليس كل حق يقال له عدل .. تقول : الشمس حق لأنها موجودة ، ولا تقول : الشمس عدل (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ). هذا جواب قول المستهزئين : متى قيام الساعة؟ أما قربها فلأن كل آت قريب. ومن مات فقد قامت قيامته.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا) استهزاء (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها). وكم من مستعجل امرا ودّ حين يدركه ان بينه وبينه بعد المشرقين (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ). أجل ، انهم يعرفون حقيقتها تماما كمن قد رآها ، لذا خافوا منها ، ومما قاله الإمام علي (ع) في وصفهم : «قد براهم الخوف بري القداح ـ أي السهام ـ ينظر اليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول :

قد خولطوا ، ولقد خالطهم أمر عظيم» ونظم هذا المعنى بعض الشعراء فقال :

يقال مرضى وما بالقوم من مرض

أو خولطوا خبلا حاشاهم الخبل

تعادل الخوف والرجاء فلم

يفرط بهم طمع يوما ولا وجل

(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ). يمارون يجادلون ، وفي ضلال بعيد أي أوغلوا في الضلال لأنهم أنكروا النشأة الأخرى ، وهم يرون النشأة الأولى.

الله لطيف بعبادة الآية ١٩ ـ ٢٢ :

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ

٥١٨

مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢))

اللغة :

الحرث الكسب ، يقال : فلان يحترث لعياله أي يكتسب لهم ، وحرث الآخرة والدنيا العمل لهما. وشرعوا بيّنوا وزيّنوا. ومشفقين خائفين.

الإعراب :

من نصيب «من» زائدة إعرابا ونصيب مبتدأ ، وما قبله خبر. وضمير لهم للكفار ، وضمير شرعوا للشركاء. وكلمة مبتدأ والخبر محذوف أي لولا كلمة الفصل موجودة أو سابقة.

المعنى :

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ). ذكر سبحانه في هذه الآية انه اللطيف الرزاق ، والقوي العزيز ، والمراد باللطيف البر ، قال تعالى : («إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ـ ٢٨ الطور» والبر هو المحسن ، ومعنى الرزاق ان الله يهب الإنسان القوة وجميع الطاقات التي تؤهله للعمل من أجل الرزق ، ويرشده إلى طريقه وسبيله ، بالاضافة الى ان ما في الأرض والسماء من الخيرات هو من صنعه تعالى وفضله ، أما القوي العزيز فهو الذي لا يقهر ولا يغلب ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

٥١٩

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ). من عمل للآخرة فله أجر ما عمل ، ويزيده الله من فضله أضعافا ، ولا ينقص من دنياه شيئا ، وليس من شك ان الكد في سبيل العيش من عمل الآخرة أيضا ، ومن أعرض عن الآخرة وعمل للدنيا وحدها تمتع فيها أياما قلائل ، ثم يرتحل عنها الى عذاب مقيم .. وأسوأ حالا ومآلا من هذا الذين يتاجرون بالدين ، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة نفاقا ورياء. وتقدم مثله في الآية ١٤٥ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٧٢ والآية ١٨ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٣٢.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ). أم استفهام توبيخ وانكار ، والمراد بالشركاء هنا شياطين الانس والجن ، وشرعوا أي أغروا وزينوا ، والمعنى لما ذا يعمل المجرمون للدنيا ، وينسون الآخرة؟ ألأن لهم شياطين يصدونهم عنها ، ويوسوسون لهم بأشياء ما هي من دين الله في شيء؟ ثم هددهم سبحانه وتوعدهم بقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). لقد شاءت حكمته تعالى أن يؤخر عذاب المجرمين إلى يوم يبعثون ، ولولا ذلك لأخذ بنقمته كل معتد أثيم (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ، والقليل منه كثير بالنسبة إلى عذاب الدنيا.

(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ). تجري غدا عملية الإحصاء والفرز لجميع الأعمال ، فمن عمل صالحا فهو في أمن وجنان ، له فيها ما أحب وأراد (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ومن عمل السيئات فهو في خوف من غضب الله وعذابه .. وهذا العذاب محيط به لا محالة جزاء لما كسبت يداه.

أطعني تكن مثلي :

كنت من قبل في شك من حديثين ترددا كثيرا على سمعي ، أولهما هذا الحديث القدسي : يا عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون. وثانيهما هذا الحديث

٥٢٠