التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

مؤمنين بالله وقدرته ، وبكل غيب أشار اليه في كتابه بكلمة لا نعرف معناها على وجهه ولا ندرك سرها على حقيقته .. ولو ألححنا في طلب المزيد من المعرفة لا نجد أمامنا إلا النقل من كتب أهل الاختصاص ، على انهم لا يقيمون البراهين القاطعة على ما يثبتون وينفون إلا قليلا. ومن أراد الاطلاع على أقوالهم فليرجع إلى كتاب «الكون العجيب» لقدري حافظ طوقان وكتاب «مع الله في السماء» لأحمد زكي وغيره.

أنذرتكم صاعقة الآية ١٣ ـ ١٨ :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

اللغة :

صاعقة عذاب من السماء. وريحا صرصرا باردة مهلكة. ونحسات نكدات. والهون الذل.

٤٨١

الإعراب :

المصدر من ألا تعبدوا مجرور بباء الجر المحذوفة أي جاءتهم بعدم العبادة لغير الله. وعاد مبتدأ واستكبروا خبر. وقوة تمييز.

المعنى :

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ). ضمير أعرضوا لمشركي العرب والمخاطب بقل رسول الله (ص) ، ومن بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن مبالغة الرسل واجتهادهم في التبشير والانذار ، وانهم سلكوا من أجل هدايتهم كل سبيل ، ولكن استحوذ عليهم الشيطان ، وصدق فيهم ظنه حيث قال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ـ ١٧ الأعراف. والمعنى قل يا محمد لمن كفر بك وبرسالتك : لقد كذبت عاد وثمود بالرسل الذين دعوهم الى ما دعوتكم اليه من التوحيد ، وبذلوا كل جهد لهدايتهم ، ولما أصروا على الضلال أخذهم الله بعذاب الدنيا والآخرة ، واني نذير لكم أن يصيبكم ما أصابهم (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). أجاب عاد وثمود الرسل بالتكذيب لأن الله بزعمهم لا يبعث للناس رسولا منهم ، بل يبعثه من الملائكة .. ودحضنا هذا القول عند تفسير الآية ٨ من سورة الانعام ج ٣ ص ١٦٤.

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً). قوله بغير حق هو من باب الإيضاح والتأكيد ، لأن الاستكبار لا يكون من المخلوق إلا بالباطل بخاصة إذا كان عن عبادة الله ، وقد استكبر عنها عاد واحتقروا الضعفاء ، وقالوا : نحن أقوى وأعظم من أن ينالنا أحد بسوء (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً). وهذه بديهة لا تحتاج الى دليل. قال الإمام علي (ع) : كل عزيز غير الله ذليل ، وكل قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك ، وكل عالم غيره متعلم ، وكل قادر غيره يقدر ويعجز (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ).

٤٨٢

كفروا بالأدلة الكونية الدالة على وحدانية الله وعظمته ، وقالوا : كل ما في الكون من حياة وإحكام ونظام هو من عمل الطبيعة.

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ). أخذهم سبحانه في الدنيا بريح هو جاء باردة في أيام هي نحس وخزي عليهم ، ثم استكملوا العذاب في الآخرة بما هو أشد وأخزى من عذاب الدنيا.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). هذه الآية واضحة الدلالة على ان الإنسان مخيّر غير مسيّر لأنها تقول : ان الله أرشد ثمودا إلى طريق النجاة ، وأمرهم بسلوكه ، وحذرهم من المعصية ، وبيّن لهم طريق الهلاك ونهاهم عنه ، وأنذرهم سوء العاقبة ان سلكوه ولكنهم آثروه على طريق النجاة ، فكان جزاؤهم الوبال والخسران (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) نجاهم سبحانه لأنهم سلكوا طريق النجاة. وتقدم الكلام عن عاد في الآية ٥٠ وما بعدها من سورة هود ج ٤ ص ٢٣٩ ، وعن ثمود في الآية ٦١ ص ٢٤٤ من نفس السورة والمجلد.

شهد عليهم سمعتهم وأبصارهم الآية ١٩ ـ ٢٤ :

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ

٤٨٣

فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤))

اللغة :

الوازع الزاجر والمانع ويوزعون أي ان الملائكة تزجر أهل النار وتمنعهم من الفوضى. ومثوى مقام. وان يستعتبوا ان يعتذروا ويطلبوا الرضا.

الإعراب :

ويوم منصوب بفعل محذوف أي واذكر يوم يحشر. وحتى للغاية. وإذا ما «ما» زائدة. وذلكم مبتدأ ، وظنكم بدل أو عطف بيان من ذلكم ، والذي صفة لظنكم ، وأراداكم خبر ذلكم.

المعنى :

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ). هذه الآيات التي نحن بصددها تتصل بالآية السابقة ، وهي : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) .. وأيضا قل لهم يا محمد : ان ملائكة العذاب تسوق غدا المجرمين الى جهنم بانتظام ، فمن تأخر زجروه ، ومن حاول الهرب صدّوه ، والقصد انه لا مفر لهم من عذاب الحريق.

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). لا شيء في اليوم الآخر إلا الحساب والجزاء .. وتدل بعض الآيات ، ومنها هذه الآية التي نفسرها ان الله لا يعاقب المجرم في ذاك اليوم إلا بعد أن يقتنع هو بأنه مذنب يستحق العقاب ، وهذا بعض الفروق بين حكم الحاكم في الدنيا حيث ينفذه

٤٨٤

الحاكم على كل حال سواء اقتنع به المحكوم عليه أم لم يقتنع ، وبين حكم الله في الآخرة فإنه تعالى لا ينفذه حتى يقنع المحكوم عليه بأنه يستحق العقاب .. ومن أجل هذا تتراكم الشهود على المجرم ، فحملة الدين يشهدون عليه بأنهم قد بلغوه حلال الله وحرامه ، والملائكة يشهدون بأنه عصى وتمرد ، وصحيفة أعماله تسجل عليه كل قول وفعل ، فإذا أظهر المجرم عدم الاقتناع بكلّ هذه الشواهد أقام الله عليه شاهدا من نفسه ، فيشهد عليه جلده بأنه لامس الحرام كالزنا ومقدماته ، ويشهد عليه سمعه بأنه سمع الحق فأعرض عنه ، ويشهد بصره بأنه رأى دلائل الوحدانية فجحدها ، وما الى ذلك من الرذائل والموبقات.

وتومئ الآية الى معنى دقيق ، وهو ان الشرط في الشاهد أن لا يتحيز ، وربما توهم المجرم ان المبلغين والملائكة قد مالوا بشهادتهم إلى الله لأنهم لا يعصونه وبأمره يعملون ، فأقام سبحانه شهودا على نفس المجرم من نفسه دفعا لهذا التوهم وان كان باطلا. وفي بعض الروايات ان العبد غدا يخاطب ربه ويقول : ألم تجرني من الظلم؟ فيأتيه الجواب بلى. فيقول العبد : انّي لا أجيز على نفسي إلا شاهدا من نفسي ، وعندئذ يأمر تعالى أعضاءه أن تشهد عليه. فيقول العبد المذنب لأعضائه : بعدا لكنّ وسحقا ، فكم ناضلت عنكنّ.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)؟ وفي قولهم هذا اشعار بأن بعض المجرمين لم يقبلوا شهادة المبلغين والملائكة ، وانهم توهموا ان هذا الرفض يجديهم نفعا لولا ان يقيم الله عليهم شهودا من أنفسهم (قالوا ـ أي الجلود ـ أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة واليه ترجعون). أعضاؤهم تنطق في الدنيا بلسان الحال ، ويشهد ما فيها من حكمة وإتقان بأن الله هو المبدئ والمعيد ، وتنطق بذلك صراحة في الآخرة أيضا. واختلف المفسرون في كيفية شهادة الأعضاء على أصحابها غدا ، فمن قائل : ان الله يظهر عليها علامات تشير الى الجرائم التي ارتكبوها. وقائل : ان الله ينطقها حقيقة. وهذا هو الصحيح لأن ظاهر الآية يدل عليه ، والعقل لا يأباه.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً ـ أي ما تخفون ـ مِمَّا تَعْمَلُونَ). ظننتم أي اعتقدتم ،

٤٨٥

انكم أيها المجرمون ارتكبتم الذنوب والجرائم وراء الستار خوفا من الناس ، لا خوفا من الله حيث اعتقدتم ان الله لا يعلم ما تفعلون في الخفاء ، وان أعضاءكم لن تشهد عليكم يوم الحساب لأنكم لا تؤمنون به (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ). ان هذا الاعتقاد الباطل هو الذي قادكم الى جهنم وبئس المصير .. وهذا ينطبق أيضا على الذين يؤمنون باليوم الآخر نظريا ، ويكفرون به عمليا حيث يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، بل هو أسوأ حالا ممن أنكر البعث وقدرة الله لأنهم عصوا وهم على يقين بأن الله معهم يسمع ويرى ، وأنه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ). ان يصبر المجرمون على النار فهي نصيبهم ومسكنهم ، ولا خلاص لهم منها ، وان يطلبوا الرضا من الله فلن يرضى عنهم : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) ـ ٢٩ الكهف.

وقال الذين كفروا لا تسمعوا هذا القرآن الآية ٢٥ ـ ٢٩ :

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

٤٨٦

اللغة :

قيضنا هيأنا. والقرناء جمع قرين. وكل كلام لا معنى له أو لا فائدة منه فهو لغو.

الإعراب :

ذلك مبتدأ وجزاء أعداء الله خبر. والنار بدل من جزاء. وجزاء منصوب على المصدر أي يجزي بالنار جزاء.

المعنى :

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ). المراد بما بين أيديهم الدنيا وحطامها ، وبما خلفهم الآخرة وهي مجرد خرافة عند الجاحدين ، والمعنى ان الله سبحانه هيأ للطغاة المجرمين قرناء سوء يغرونهم بالسيئات ، ويزهدونهم بالحسنات.

وتسأل : إذا كان الله هو الذي قيض لهم من يغريهم بالضلالة والمعصية فمن الظلم والجور أن يعاقبهم ويقول : «حق عليهم القول» أي العذاب؟

الجواب : الله سبحانه فعل بهم ذلك بعد أن سلكوا طريق الضلال والغواية بسوء اختيارهم .. وقد أوضح سبحانه ذلك في الآية ٣٦ من سورة الزخرف حيث قال : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ). وقال : («فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ـ ٥ الصف». وتقدم ذلك مرات ومرات.

(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ). طغوا وبغوا فاستحقوا العذاب تماما كما استحق أمثالهم من الأمم الماضية ، وتدل الآية على ان الجن أمم وأجيال ، وان فيهم رسلا وأنبياء ، وان منهم الصالحين ومنهم دون ذلك تماما كالإنس (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا

٤٨٧

الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). دهش الطغاة حين رأوا أثر القرآن وسلطانه على النفوس ، وماجوا في حيرة : ما ذا يصنعون بعد أن عجزوا عن مقارعته بالبرهان ، ومقابلة الحجة بالحجة .. ثم اتفقوا أن يحاربوه بالباطل ، ويصفوه بالسحر والأساطير ، ويقابلوا تلاوته بالتشويش والهذيان .. بهذا السخف والجهل ينتصرون لباطلهم ، ويريدون أن يطفئوا نور القرآن .. وإذا دل قولهم : («وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) إذا دل على شيء فإنما يدل على اعترافهم بالعجز الا عن اللغو والهذيان ، وان القرآن هو حصن الله الحصين الذي أعجز ويعجز الفكر الانساني على مدى العصور والأزمان.

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) ينقسم عمل المجرمين الى قسمين : سيئ وأسوأ ، وكذلك الجزاء ، لأن (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ـ ٤٠ غافر وانما ذكر سبحانه أسوأ أعمالهم ليبين ان جزاءهم غدا أسوأ الجزاء تماما كأعمالهم (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ). ذلك اشارة إلى الجزاء على أسوأ الأعمال ، وهو الخلود في نار جهنم ، وهذا الخلود قد جعله الله جزاء كل جاحد ومعاند لما أقامه الله من الدلائل الواضحة على وحدانيته وعظمته .. وفي الآية إيماء الى ان الجاحد والمشرك لا عذر لهما على الإطلاق ، وان الجهل إنما يكون عذرا في غير الجحود والشرك لأن دلائل الوحدانية لا غموض فيها ولا خفاء ، ولا تحتاج معرفتها والايمان بها إلا الى النظر المجرد عن الهوى والتقليد.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من الضعفاء التابعين : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) المتبوعين (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ). سألوا الله سبحانه أن يسلطهم على من أضلهم من شياطين الإنس والجن ليدوسوهم بالأقدام ويكونوا في مكان أعمق من مكانهم في الجحيم .. ولكن الله سبحانه قد كفاهم ذلك حيث أخذ كلا بذنبه السيء والأسوأ.

٤٨٨

قالوا ربنا الله ثم استقاموا الآية ٣٠ ـ ٣٦ :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

اللغة :

النزل ما يعد للنازل ، والمراد به هنا الرزق والعطاء. والنزغ في اللغة النغز والوكز ونزغ الشيطان اغراؤه بالشر.

الإعراب :

نزلا منصوب على المصدر أي أنزلكم ربكم نزلا ، ويجوز أن يكون حالا من «ما تدعون» أي من اسم الموصول. وإمّا كلمتان «ان» الشرطية و «ما»

٤٨٩

الزائدة ، ولذا دخلت نون التوكيد على ينزغنك لأنها لا تدخل على فعل الشرط إلا إذا كان مع الشرط «ما» الزائدة.

الله والإنسان والعمل :

من تتبع آي الذكر الحكيم يجد انها تدل بمنطوقها ومفهومها على ان العمل مع الايمان هو كل شيء بالنسبة الى الإنسان. واليك الدليل.

١ ـ الآيات الناطقة بأن الغاية الأولى والحكمة الكبرى من وجود الإنسان هي العمل الصالح. ومن هذه الآيات قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ـ ٢ تبارك وقوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). أي ليعملوا. أنظر فقرة لما ذا خلق الله الإنسان عند تفسير الآية ٣٣ من سورة لقمان.

٢ ـ الآيات التي دلت على ان العمل هو الميزان الذي يقيّم الإنسان على أساسه ، مثل قوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) ـ ٢١ الطور وقوله : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ـ ٣٩ الصافات وقوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) ـ ١٣٢ الأنعام إلى غير ذلك.

٣ ـ أما قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) فهو دليل واضح وقاطع على ان العمل هو الظاهرة الوحيدة التي تعكس الايمان بالله حقا وواقعا ، وان أي انسان يقول : أنا مؤمن دون أن يترجم إيمانه بالسلوك والعمل في علاقته مع خالقه ومع نفسه ومع مجتمعه فهو مفتر كذاب. ومن نافلة الكلام أن نقول : ان مقصود القرآن من العمل هو العمل البنّاء المثمر ، وان كل قول ينتج هذا العمل فهو في حكمه. وتكلمنا عن الاستقامة مفصلا في ج ١ ص ٢٦ وج ٥ ص ٢٧٣.

٤ ـ وفوق ذلك كله فإن الله سبحانه استدل على وجوده وعظمته بالعمل ، قال عز من قائل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ـ ٥٢ فصلت. ثم ذكر سبحانه في كتابه العديد من هذه الآيات ، نكتفي

٤٩٠

بواحدة منها : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) ـ ٤ الرحمن.

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). لكل شيء أجل معلوم ، وإذا جاء أجل الذين استقاموا على الطريقة الإلهية تنزلت عليهم ملائكة الرحمة بالسكينة والبشرى بأن الله قد اطّلع على عملهم ، ورضي سعيهم ، وأعد لهم مقاعد الكرامات التي وعدهم بها على لسان أنبيائه ورسله (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ). ما زال الكلام لملائكة الرحمة مع الذين استقاموا.

وما تدعون أي ما تتمنون ، والنزل العطاء ، ويتلخص المعنى بأن أهل الطاعة والاستقامة هم عند رب رحيم ، ولهم ما يشاءون من الرزق الكريم. وقال ابن عربي في الفتوحات المكية حول هذه الآية كلاما نلخصه بأن الملائكة تقول للمخلصين قبل أن ينتقلوا من دار الفناء الى دار البقاء ، تقول لهم : نحن أولياؤكم في الدنيا لأن الشيطان كان يغريكم بالعدول عن صراط الله المستقيم ، ونحن ننهاكم عنه وكنتم تسمعون لنا من دونه .. وأيضا نحن أولياؤكم في الآخرة لأننا نشهد لكم عند الله بالايمان والاستقامة.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). إذا عطفنا هذه الآية على قوله تعالى : (قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) وجمعناهما في كلام واحد ـ ينتج معنا ان الايمان الحق على ثلاث شعب : الأولى إعلان الايمان بالله. الثانية العمل بشريعة الله ، وأهمه وأعظمه الأسهام في خدمة الإنسان. الثالثة الدعوة الى الله. ويدل على الأولى (قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي أعلنوا ذلك على الملأ ، ويدل على الثانية «ثم استقاموا» وعلى الثالثة (دَعا إِلَى اللهِ). ومن جمع بين هذه الصفات الثلاث فله ان يدعي الإسلام ، ويقول : «انني من المسلمين» ومن قالها دون أن يؤمن بالله أو آمن ولم يسهم في خدمة الإنسان ولم يدع الى الله فما هو من الإسلام ولا المسلمين في شيء وان عومل معاملتهم في الدنيا.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). الخطاب في ادفع وفي بينك لمحمد (ص). ويدل السياق

٤٩١

على ان المراد بالحسنة هنا حسنة الرسول الداعي الى الله ، وهي جهاده وصبره على الأذى في سبيل هذه الدعوة ، والمراد بالسيئة سيئة السفيه الجاهل من الدين دعاهم الرسول إلى الله ، والمعنى : فرق بعيد بين عملك يا محمد وأنت تدعو الى الله وتتحمل الأذى في سبيله صابرا محتسبا وبين عمل الذين أجابوا دعوتك الى الله بالإعراض والأذى والافتراء .. ان عملك صلوات وحسنات ، وعملهم سيئات ولعنات .. وعلى الرغم من ذلك فعليك أن ترفق بهم وتتسامح معهم وتصبر على سفاهتهم ، فإن منهم من لو قابلته بهذه السماحة لعاد إلى ربه وعقله وانقلبت عداوته لك إلى محبة ، وبغضه إلى مودة.

والإنسان أي انسان ، يستطيع أن يكسب أصدقاء يقاتلون معه بكلمة طيبة ، وان يخلق له أعداء يقاتلون ضده بكلمة خبيثة ، وقد استطاعت كلمات الأبرار ان تهدي الكثير من الفجار ، وتنهي العديد من المشاكل بين البشر ، ولولاها لجرت الدماء أنهرا.

(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). ضمير يلقاها يعود إلى هذه الصفة ، وهي دفع السيئة بالحسنة ، وذو الحظ العظيم من كان مرضيا عند الله ، والمعنى ان دفع السيئة بالحسنة منقبة عظمى لا يتحلى بها إلا من صبر عند الشدائد ، وكان وجيها عند الله. وفي نهج البلاغة : الصبر من الايمان كالرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس معه ، ولا في ايمان لا صبر معه. وفيه أيضا : احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). الخطاب لمحمد (ص) ، وتدل الآية بالفحوى على ان الإنسان معرّض للخطأ ، وان عليه أن يحتاط لنفسه ، ولا يزكيها بالغا ما بلغ من الدين والعلم والعقل. وتقدمت هذه الآية بالحرف الواحد في الآية ٢٠٠ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٣٩.

لا أتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه الآية ٣٧ ـ ٤٦ :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا ل

٤٩٢

ِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

٤٩٣

اللغة :

خاشعة هامدة لا حياة فيها. وربت زادت. والإلحاد الانحراف عن الحق والمراد به هنا الطعن في القرآن. وحميد محمود. والفرق بين الأعجم والعجمي ان الأعجم من لا يفصح وان كان عربيا ، والعجمي المنسوب الى العجم. وقد يطلق أحدهما على الآخر. والوقر الصمم.

الإعراب :

المصدر من انك ترى مبتدأ وخبره من آياته. وترى هنا بصرية تحتاج الى مفعول واحد وهو الأرض. وخاشعة حال. وآمنا حال من ضمير يأتي. وان الذين كفروا بدل من ان الذين يلحدون ، وخبر ان محذوف أي معذبون أو لا يخفون علينا ، وقد حذف من الثاني لدلالة الأول عليه. وعزيز صفة لكتاب ، وجملة لا يأتيه صفة ثانية ، وتنزيل صفة ثالثة. ولولا أداة تحضيض بمعنى هلا. وأعجمي خبر لمبتدأ محذوف وكذلك عربي أي أكتاب اعجمي ونبي عربي. فلنفسه متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فعمله لنفسه.

الرحلة الى القمر :

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ). ذكر سبحانه في كتابه العزيز العديد من الآيات الكونية ودلالتها على الخالق وصفاته ، ومن تلك الآيات اختلاف الليل والنهار ، وخلق الشمس والقمر. انظر تفسير الآية ٢٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧ وتفسير الآية ٣٧ وما بعدها من سورة يس والآية ٥ من سورة الزمر وغيرها من الآيات التي فيها ذكر الليل والنهار والشمس والقمر.

ولمناسبة ذكر القمر في هذه الآية نشير الى الحدث العالمي الهام ، وهو رحلة رائدي الفضاء : «ونج» و «ادوين» الأمريكيين الى القمر في صيف سنة ١٩٦٩ ، وقد تكلم الناس عنها كثيرا ، وسألني أكثر من واحد عن رأي الدين في هذه

٤٩٤

الرحلة ، وأجبت بكلمة نشرتها الصحف ، ثم أدرجتها في المجلد الخامس من التفسير الكاشف بمناسبة بعض الآيات ، ولما وصل اليها عامل المطبعة شعرت من أعماقي بناصح يأمرني بالعدول عنها فاستنصحته دون ان أعرف السبب.

وبعد الانتهاء من طبع المجلد الخامس بقليل ظهر لي ان الخير فيما وقع ، ذلك اني قرأت في جريدة الأخبار المصرية عدد ٦ ـ ٢ ـ ١٩٧٠ مقالا مترجما عن جريدة برافدا السوفيتية لعالمين بارزين في العلوم الطبيعية ، وهما «م فاسين» و «اشر باكوف» السوفياتيان .. اطلع هذان العالمان على النتائج التي أعلنها العلماء الامريكيون لدراسة تربة القمر والمعادن الموجودة في أرضه ، وقالا : «ان هذه الدراسة ترفض كل النظريات الشائعة عن أصل القمر ، ولا تقبل إلا تفسيرا واحدا ، وهو ان القمر مصنوع صنعا دقيقا ومحكما ، وان الذي صنعه قوة خارقة مذهلة تملك من الطاقات ما لا يملكه كائن من الكائنات» ، وينتج من هذا ان ما يعتقده الماديون عن الكون هو مجرد أوهام ، ونقتطف من هذا المقال الكلمات التالية :

«ان الدراسات العلمية الحديثة ترفض كل ما قيل من النظريات والافتراضات عن نشأة القمر ، وتبدأ بفكرة جديدة لحل هذا اللغز .. وتقول هذه الفكرة الجديدة : ان صناعة القمر تمت بأيدي «كائنات» متقدمة في علومها وآلاتها الفنية .. ثم «فرملت» حركته بواسطة الأجهزة البالغة التقدم بداخله .. ان في القمر ظواهر غريبة يستحيل أن توجد بالصدفة ، وقد اجتهد صانعو القمر كثيرا حتى توصلوا إليها».

«ان الغلاف الخارجي للقمر يتكوّن من طبقتين أساسيتين : الأولى طبقة عازلة للحرارة ، سمكها حوالي ٤ كيلومترات ، والثانية سمكها ٣٠٠ كيلومتر ، وفوقها أجهزة وآلات مختلفة تم تصميمها لحماية المحركات. فالقمر ـ اذن ـ مذهل الصنع يستطيع تحمّل السفر الطويل والتواجد في مكانه ملايين الملايين من السنين. ولكن يبقى هذا السؤال قائما ، وهو إذا كان القمر قد صنعته «كائنات عاقلة متقدمة» فمن أين جاءت هذه الكائنات؟ ولما ذا تكبدت هذا المجهود لصنع هذا الكوكب؟ ألمجرد ان يدور حول كوكبنا بالذات؟. وهنا لا تقدم النظرية الجديدة إجابات .. ولكنها تعتقد ان أقرب الافتراضات إلى العقل من أي شيء آخر هو ان القمر مصنوع ، وقد أحكمت صنعه قوة مذهلة».

٤٩٥

هذا هو بيت القصيد وشاهدنا من المقال ، أعني قول العالمين الشيوعيين : «ان العقل يرفض كل افتراض وتفسير لوجود القمر إلا افتراضا واحدا ، وهو ان القمر مصنوع ، وان الذي صنعه قوة مذهلة». أجل ، هو مصنوع وصانعه لا شريك له ولا مثيل ، وهندسته هي التي أرشدتنا إلى ذلك. أما قول العالمين : صنعته كائنات متقدمة .. وفرملته أجهزة خارقة بالغة الدقة .. وان صانعيه بذلوا جهدا كبيرا في صنعه لأجل إخراجه ، أما هذا القول فإنه اعتراف صريح بأن ما في القمر من دقة وإحكام لا يكون ومحال أن يكون إلا من لدن قدير حكيم ليس كمثله شيء ، وهو الخلاق العليم .. ونحن على يقين بأننا سنقرأ في المستقبل القريب اعترافات أوضح تهدم أقوال الماديين ونظريات الملحدين ، وتثبت بالحس والتجربة ان وراء هذا الكون قوة قاهرة تقول للشيء كن فيكون .. وهذه نتيجة لا مفر منها لتقدم العلوم وانطلاق العقل نحو الكون العجيب .. وهنا يكمن السر لقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ـ ١٨٥ الأعراف. وقوله : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ـ ١١ لقمان. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ـ ٤ الرعد.

(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). ضمير الإناث في خلقهن يعود الى الليل والنهار والشمس والقمر ، أو إلى جميع الكواكب ، وعبّر سبحانه عنها بالشمس والقمر لأنهما أظهر الأفراد .. وقد اتفق الفقهاء قولا واحدا على أنه يجب أن يسجد قارئ هذه الآية ومن استمع اليها ، وقال بعضهم : بل ومن سمعها من غير قصد. وهي تخاطب الصابئة الذين عبدوا الكواكب لما فيها من المنافع ، تخاطبهم وتقول لهم : ان الله هو الذي خلق الكواكب وسخرها لمنافع العباد ، وما هي إلا مخلوقات مثلنا تتوجه اليه تعالى بالسجود وتعترف له بالعبودية.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ). ضمير استكبروا يعود لعبدة الكواكب ، والمعنى ان أصر هؤلاء على الشرك فإن الله غني عنهم وعن عبادتهم لأن له عبادا ـ الملائكة ـ لا يفترون عن التسبيح له ليلا ونهارا (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). تكرر هذا المعنى

٤٩٦

في العديد من الآيات وبأساليب شتى ، منها الآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣١١.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا). طعن المشركون بالقرآن فقالوا : هو سحر ، وقالوا : انه أساطير .. والله عليم بأقوالهم ، وسائلهم عنها ، وآخذهم بها (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ)؟ وهذا السؤال يحمل جوابه معه ، وأي عاقل يقول : النار خير من الجنة ، والخوف أحسن من الأمن؟ ولكن المجرمين ذهلوا عن هذه البديهة وانهم في واقعهم قد آثروا الجحيم على النعيم ، والخوف على الأمن (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). هذا تهديد ووعيد بأنهم سيلاقون العذاب بعد أن ركبوا اليه طريق الكفر والضلال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ). المراد بالذكر القرآن ، وخبر ان محذوف أي معذبون.

إسرائيل والقرآن :

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). وصف سبحانه القرآن بأنه عزيز وانه لا يأتيه الباطل ، ومعنى عزيز انه القاهر الغالب بحججه الواضحة وبراهينه القاطعة ، أما حفظه من الباطل فقد ذكر له المفسرون خمسة معاني ، وأقربها ان كل ما فيه من عقيدة وشريعة وأنباء وغيرها فهو حق لا ريب فيه. وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٩ من سورة الحجر ج ٤ ص ٤٦٨. وذكرنا هناك ان إسرائيل طبعت ألوف النسخ من القرآن ، وشوهت بعض الآيات ، منها الآية ٨٥ من سورة آل عمران التي صارت في قرآن إسرائيل : ومن يبتغ غير الإسلام دينا يقبل منه. وقد حدث هذا سنة ١٩٦٨. فجمع الأزهر هذه النسخ ومنعها من الانتشار ، ولكن إسرائيل عادت ثانية وزوّرت سنة ١٩٦٩ آيات أخرى منها : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) ـ ٦٤ المائدة فغيرت إسرائيل كلمة لعنوا الى كلمة «آمنوا» وغمرت بهذه النسخ أسواق لبنان ومعظم البلاد العربية وماليزيا وباكستان والهند وأندونيسيا وغينيا وساحل العاج وايران .. وفي هذا اليوم بالذات ٢٥ ـ ٢ ـ ٧٠ نشرت جريدة «النهار» البيروتية ان المحامي فاروق سعد أقام بوكالته عن مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني بالقاهرة دعوى على مجهول بجرم تزوير طبعة القرآن الكريم

٤٩٧

وتقليدها وتحريفها وتعديلها ، وان النسخ المحرفة طبعت في ألمانيا الغربية في مطبعة «كولونيا ـ دويتس».

ولم تقف إسرائيل في حربها للإسلام والمسلمين عند هذا الحد .. فأذاعت القرآن من اذاعتها محرفا ، وقد ظلت اذاعة القاهرة شهرا كاملا تسجل القرآن من اذاعة إسرائيل .. وأيضا صممت إسرائيل «راديوهات» لا تلتقط إلا اذاعتها التي تحرف القرآن وباعتها بأبخس الأثمان .. فعلت إسرائيل هذا وأكثر من هذا تطبيقا للمبدإ الصهيوني الذي أعلنه أحد زعماء الصهاينة بقوله : «يجب أن نتخذ القرآن سلاحا مشهرا ضد الإسلام لنقضي عليه».

نذكر هذا كمثل للحرب التي تشنها إسرائيل على الإسلام .. عسى أن يعتبر به بعض الملوك والرؤساء بل وبعض الشيوخ أيضا الذين يتسمون باسم الإسلام ، ويعملون في الخفاء لصالح إسرائيل ومن يساندها .. وطريف قول بعض الشيوخ المزيفين : ان إسرائيل أحسن من غيرها لأنها تذيع القرآن من اذاعتها .. أجل ، يا شيخ انها تذيعه بل وتطبعه وتنشره أيضا ، ولكن مزيفا ومحرفا لتقضي على الإسلام تماما كبعض المعمّمين المزيفين.

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ). قال مشركو الأمم السابقة لرسلهم وأنبيائهم : «قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه .. ما هذا إلا سحر مفترى .. ان هذا إلا أساطير الأولين .. ان رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون الخ ..» وهكذا قال لك يا محمد طغاة قومك لأن الإله الذي أرسلك وأرسل من كان قبلك واحد ، ورسالته واحدة ، ومصلحة الطغاة التي تحول بينهم وبين اتباع الحق هي هي في كل زمان ومكان (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ). جمعت الآية بين ذكر الضدين : العفو عن الذنب إذا تاب صاحبه ، والأخذ به إذا أصر عليه .. وهكذا سبحانه في الكثير من الآيات يقرن الوعد بالوعيد والترغيب بالترهيب كي يخشى العبد من عذاب الله فيتقيه ، ولا يقنط من رحمته فيتوب ويؤوب.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ). نزل القرآن على العرب بلغتهم التي يحبونها ويعتزون بها ، فقال بعض طغاتهم لبعض : «لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه». ولو نزل بغير لغتهم لاعترضوا وقالوا : أنبي عربي وكتاب أعجمي؟ هكذا يعدون لكل باب مفتاحا ، ولكل ليل مصباحا ،

٤٩٨

ولا هدف إلا الهروب من الحق.

(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) القرآن هدى لمن طلب الهدى والحق لوجه الحق ، وشفاء لمن طلب الشفاء من الكفر والنفاق. قال الإمام علي (ع) : «ان في القرآن شفاء من أكبر الداء ، وهو الكفر والنفاق والبغي». (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) القرآن هدى ونور للمخلصين ، وعمى لعيون المنافقين ، وصمم لأسماعهم ، ومرض لقلوبهم (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ). ناداهم القرآن في الدنيا بدعوة الله فلم يستجيبوا له ، حتى كأنه لا نداء ، أو ان النداء بعيد لا تسمعه الآذان .. وأيضا سوف يناديهم المنادي يوم القيامة : ألا كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرث القرآن كما في نهج البلاغة. وقال المفسرون : ان قوله تعالى : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) إشارة إلى أنهم لا يسمعون ولا يفهمون تماما كالذي يدعى بصوت بعيد عنه لا يسمعه ولا يفهمه .. ويلاحظ بأن هذا المعنى يناقض الغرض المطلوب من النداء لأنه غير مسموع. والأرجح أن يكون قوله تعالى : من مكان بعيد إشارة الى أن الصيحة تأتي من السماء ولكن يسمعها الجميع ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) ـ ٤٢ ق.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ). المراد بالكتاب التوراة ، وقد اختلفوا فيها عند نزولها ، فمن مصدق ومكذب ، وكذلك اختلفوا في القرآن عند نزوله ، فمن مؤمن به وكافر (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). لقد شاءت حكمته تعالى أن يؤخر عذاب المجرمين الى يوم يبعثون ، ولولا ذلك ما ترك على ظهرها من طاغ ولا أثيم (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ). ضمير انهم يعود لمشركي العرب ، وضمير منه للقرآن ، والمراد بالشك هنا الجدل بغير العلم والحق ، والمعنى انهم يجادلون في القرآن ، ولكن بالجهل والباطل وتقدمت هذه الآية بنصها الحرفي في سورة هود الآية ١١٠ ج ٤ ص ٢٧٢ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ٥٤ من سورة يس : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). والآية ١٧ من سورة غافر : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) وكثير غيرها من الآيات التي تنطق بأن الإنسان مخير غير مسير.

٤٩٩
٥٠٠