التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

لوجه الحق؟. وأي شيء أولى وأهم من ذلك؟ وقد اتفق العلماء قولا واحدا على ان العقل يحكم بوجوب النظر إلى معجزة مدعي النبوة دفعا للضرر المحتمل ، وقالوا : ان العقل لا يعذر الجاهل بما يجب عليه إذا كان قادرا على البحث وتحصيل المعرفة ، وفي الحديث : يقال للعبد يوم القيامة : هلا علمت؟ فان قال : نعم. قيل له : هلا عملت؟ وان قال : ما علمت. قيل له : هلا تعلمت حتى تعمل (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) حلّ بهم غضب الله وعذابه بسبب كفرهم وتقصيرهم في البحث والسؤال (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) لانقطاع حجتهم ، وأيضا لدهشتهم من شدة الهول.

تمرالجبال مرالسحاب الآة ٨٦ ـ ٩٣ :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ

٤١

الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

اللغة :

داخرين أذلاء صاغرين. والمراد بالبلدة هنا مكة.

الإعراب :

داخرين حال من فاعل أتوه. وصنع منصوب على المصدرية أي صنع الله ذلك صنعا. ويومئذ متعلق بآمنون والتنوين عوض عن جملة محذوفة أي يوم إذ جاء بالحسنة. وجملة هل تجزون مفعول لقول محذوف أي يقال لهم : هل تجزون. والذي حرمها بدل من رب. والمصدر من ان اعبد مجرور بالباء المحذوفة ومثله ما بعده. وبغافل الباء زائدة اعرابا وغافل خبر لربك.

المعنى :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). تقدم مع التفسير في الآية ٦٧ من سورة يونس ج ٤ ص ١٧٧ (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). ينفخ في الصور إيذانا بقيام الساعة ، فتنخلع قلوب الخلائق من هذا النفخ خوفا وهلعا الا قلوب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين استثناهم سبحانه بقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) وأشارت اليهم الآية ٦٩ من سورة النساء : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

٤٢

وفي بعض التفاسير ان النفخات في الصور ثلاث : نفخة الفزع ، ونفخة موت الجميع ، ونفخة البعث ، ويدل على النفخة الأولى الآية التي نفسرها ، أما الثانية والثالثة فيدل عليهما قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ـ ٦٨ الزمر. (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي ان الخائفين يحشرون الى ربهم صاغرين.

الجبال وحركة الأرض :

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ). موضوع هذه الآية والتي قبلها واحد ، وهو الحديث عن يوم القيامة وأهواله ، وعليه يكون المعنى ان الله سبحانه يقتلع الجبال من أماكنها ويسيّرها في الفضاء تماما كما تسير السحاب ، ولكن يخيل للرائي انها ثابتة ، ذلك ان الجرم الكبير إذا سار في سمت واحد وخط مستقيم فلا تدرك الأبصار حركاته لضخامته وبعد أطرافه ، وبالخصوص إذا كان الرائي بعيدا عنه.

وبهذا يتبين معنا خطأ من استدل بهذه الآية على ان القرآن قد أشار إلى حركة الأرض ، وهناك آيات كثيرة تؤكد ان المراد بمرور الجبال في هذه الآية هو تسييرها في الفضاء يوم القيامة ، من تلك الآيات قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ) ـ ٤٧ الكهف. وقوله : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) ـ ٢٠ النبأ. وقوله : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ ـ أي تضطرب ـ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ـ ٩ الطور. وكلام القرآن واحد يشهد بعضه على بعض ، وينطق بعضه ببعض.

أجل ، ان أهل بيت النبي (ص) الذين عندهم علم الكتاب والسنة قد صرحوا بحركة الأرض قبل «كوبرنيكوس» بحوالى الف عام ، قال الإمام علي (ع) في نهج البلاغة : وبسط الأرض على الهواء ... وأرساها على قرار ... ورفعها بغير دعائم ... وعدّل حركتها بالراسيات. وقال حفيده الإمام جعفر الصادق (ع) : «ان تدل الأشياء على حدوثها من دوران الفلك بما فيه هي سبعة أفلاك : تحرك الأرض الخ».

٤٣

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) من أكبر كبير إلى أصغر صغير ، وهذا الإتقان والترتيب والنظام من أقوى الشواهد على وجود الله ووحدانيته وعظيم قدرته (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ). والذي خلق الإنسان ، وأتقن صنعه يعلم ما يفعل من خير أو شر ، وما توسوس به نفسه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ـ ١٦ ق.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وأوضح تفسير لقول الله هذا هو قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ـ ١٦٠ الأنعام ج ٣ ص ٢٩٠.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). المراد بالبلدة مكة المكرمة ، وخصها بالذكر مع انه رب العالمين لينبه قريشا الى نعمته عليهم بسببها ، فلقد كانوا يستمدون سيادتهم على العرب من تعظيمها وجعلها حرما آمنا يحرم فيه القتل والقتال ، والصيد وقطع الأشجار ، وما إلى ذلك مما يدل على شرفها ومكانتها ، ومع هذا عبدت قريش الأصنام ، ودنست بها الكعبة ، فأشركت برب هذه البلدة المكرمة المعظمة الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .. وقول الرسول الأعظم (ص) : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) .. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هو تعريض بقريش وعبادتها الأصنام ، وان الواجب عليها أن تترك عبادة الأصنام التي لا تملك شيئا ، وتعبد رب هذه البلدة الذي له الخلق والملك والأمر ، وهو على كل شيء قدير ، وقد تفضل على قريش بالكثير من عطائه وآلائه.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ). المراد بتلاوة القرآن هنا الدعوة إلى الايمان به ، والسير على منهجه (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ). دعا الرسول الأعظم (ص) الى الهدى ، فمن سمع وأطاع فقد أحسن لنفسه ، وسلك بها سبيل الخير والنجاة ، ومن أعرض وتولى فقد أساء اليها وأوردها موارد الشر والهلاك .. والنبي (ص) غير مسؤول عما يحل بأهل الغي والضلال بعد أن نصح لهم وأبلغهم رسالات ربه (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما وفقني اليه من تبليغ رسالاته

٤٤

إلى عباده كما أحب وأراد (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها). لقد أراهم سبحانه آياته ودلائله في أنفسهم وفي الآفاق فأنكروها .. فقال لهم : تنكرونها الآن ، وتعترفون بها غدا حيث لا ينفعكم الاعتراف والإذعان (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). هذا تهديد ووعيد على إعراضهم وانكارهم آيات الله وبيناته.

٤٥

سورة القصص

قال الطبرسي : هي مكية ، وآياتها ٨٨ آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

آيات الكتاب الآة ١ ـ ٦ :

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

اللغة :

شيعا فرقا مختلفة متناحرة.

الإعراب :

بالحق متعلق بمحذوف حالا من فاعل نتلو أي متكلمين بالحق. وضمير منهم يعود الى الذين استضعفوا.

٤٦

المعنى :

(طسم) تقدم الكلام على مثله في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ). تلك إشارة الى هذه السورة ، والكتاب القرآن ، والمبين الواضح في تمييز الغي من الرشد (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). لقد تلا سبحانه هذا النبأ على نبيه الكريم مرات ومرات ، وأوضحنا الغاية من تكراره عند تفسير الآية ٩ من سورة طه ، فقرة : «تكرار قصة موسى». (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً). طغى وبغى ، وتكبر وتجبر ، وقسم أهل مملكته إلى فئات متطاحنة ليدوم له الملك ، يعطي فئة ، ويمنع أخرى (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً ـ أي بني إسرائيل ـ مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). تقدم مثله في الآية ٤٩ من سورة البقرة ج ١ ص ٩٩ والآية ١٢٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٨٢.

لما ذا اضطهد فرعون بني إسرائيل؟

قال بعض المفسرين الجدد في ظلاله : «اضطهد فرعون بني إسرائيل لأن لهم عقيدة غير عقيدته ، فهم يدينون بدين جدهم ابراهيم ويعقوب ، ومهما وقع في عقيدتهم من الانحراف فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد». ونحن نسأل هذا المفسر الجديد : من أين جاءك العلم ان اليهود كانوا في عهد فرعون على دين ابراهيم (ع) ، وأنه قد بقي لهم الاعتقاد بإله واحد؟ هل جاءك هذا العلم من قولهم : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، أو من قولهم له : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) ، أو من عبادتهم العجل ، أو من قتلهم الأنبياء؟ وإذا كان فرعون قد اضطهدهم لأنهم على دين ابراهيم فلما ذا وصفهم نبيهم ومخلّصهم موسى بالفاسقين كما في الآية ٢٥ من سورة المائدة ؛ وبالسفهاء في الآية ١٥٥ ، وبالمبطلين في الآية ١٧٣ ، وبالجهل في الآية ١٣٨ من سورة الأعراف ، كما وصفهم الله سبحانه في العديد من آياته بالفساد وبكل جريمة ورذيلة؟.

لقد ذكر القرآن ان فرعون اضطهد بني إسرائيل ، وانه تعدى الحدود في

٤٧

ظلمه ، ولكنه لم يشر الى السبب ، ولذا اختلف الفقهاء في تحديده ، فمن قائل : ان كاهنا قال لفرعون : يولد مولود في بني إسرائيل ينتزع منه الملك. وقائل : ان الأنبياء الذين كانوا قبل موسى بشّروا بمجيئه ، ولما علم فرعون بذلك خاف وذبح أبناء إسرائيل .. وما رأيت أحدا من المفسرين أو غيرهم قال : ان فرعون اضطهد اليهود لأنهم على دين ابراهيم.

وإذا نظرنا الى سيرة بني إسرائيل مع نبيهم ومخلّصهم موسى ، ومع غيره من أنبيائهم الذين جاءوا بعد موسى حيث كانوا يكذبون فريقا وفريقا يقتلون ، ونظرنا الى سيرتهم وأعمالهم في كل بلد يحلّون فيه من اثارة الفتن ، وتدبير المؤامرات ، ومحاولة السيطرة على وسائل الانتاج والدعاية وغيرها من المرافق العامة ، إذا نظرنا الى ذلك كله تبين لنا صحة ما قاله الشيخ المراغي في تفسيره : ان فرعون انما اضطهد بني إسرائيل لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات وبأيديهم زمام المال ، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة ، وغلبوا عليها المصريين ، والغلب الاقتصادي أشد وقعا من الغلب الاستعماري.

أجل ، ان فرعون طغى وبغى ، وتجاوز الحد في ذبح الأبناء واسترقاق النساء ، ولكن هذا التعدي والطغيان كان سببه اليهود ، فالتبعة تقع على الاثنين معا : على اليهود لحقدهم وسوء تصرفهم وأهدافهم ، وعلى فرعون لأنه أخذ البريء بجرم المذنب.

متى يمن الله على المستضعفين؟

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ). المستضعفون في الأرض هم الذين يضطهدهم الأقوياء ، ويتسلطون على أقواتهم ومقدراتهم ظلما وعدوانا ، والله سبحانه يمن عليهم بالحرية والخلاص من الاضطهاد إذا جاهدوا وثابروا واستماتوا من أجل حياتهم وكرامتهم تماما كما يمن سبحانه على المريض بالشفاء إذا استعمل العلاج الصحيح ، وعلى الفلاح بالثمر إذا عمل واتقن .. ان لله سنة في خلقه ، وهي ان تجري الأمور على أسبابها ، والغايات على وسائلها ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .. أبدا. كل من سار على الدرب وصل مؤمنا كان أو كافرا .. أما جزاء الكفر

٤٨

والايمان ففي يوم القيامة ، وليس في هذه الحياة ، فمن ركع للظالم خذله الله ، وأوكله الى من ظلمه حتى ولو صلى وصام وحج الى بيت الله الحرام ، لأنه خذل الحق ، ونصر الباطل ، وما له في الآخرة من خلاق.

ومن ثار على الظلم وأهله ، واستمات من أجل كرامته نصره الله سبحانه على الظالمين الطغاة ، وان كان كافرا ، لأنه التقى مع ارادة الله وأمره بهذا الجهاد والنضال .. ولا نرجع إلى التاريخ القديم لنستمد منه الشواهد على هذه الحقيقة ، فإن صمود الشعب الفيتنامي الأعزل أمام أعتى قوى الشر والفساد لدليل قاطع على ان الله مع المظلوم المجاهد الصابر كائنا من كان.

والخلاصة ان الله لا يقاتل من أجل المستضعفين ، ولكنه يقف معهم ويمدهم بعونه إذا قاتلوا وناضلوا مستهدفين الحق والعدل ، والتحرر من البغي والاستغلال ، ان الله مع هؤلاء لأنه مع كل مجاهد وعامل من أجل الحياة. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ـ ١١ الرعد ج ٤ ص ٣٨٦.

وتسأل : ان الله سبحانه أغرق فرعون وقومه ، ونجّى بني إسرائيل من عذابهم واضطهادهم ، ومعنى هذا ان الله يقاتل عن المستضعفين ، بل جاء في الآية ٣٨ من سورة الحج : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)؟

الجواب : انه تعالى أغرق فرعون وقومه لشركهم وتكذيبهم الرسول ، وليس انتصارا لبني إسرائيل تماما كما أهلك قوم نوح وغيرهم من المشركين ، فترتب على ذلك خلاص المظلومين والمضطهدين من بني إسرائيل وغير بني إسرائيل ، أما آية سورة الحج فالمراد بالذين آمنوا المجاهدون ، أما الكسالى فهم على دين من قال لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي نجعل منهم أنبياء (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) يجعلهم الله أحرارا بعد أن استعبدهم فرعون أمدا طويلا (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ضمير منهم يعود على بني إسرائيل ، والمعنى ان فرعون وملأه خافوا أن يذهب سلطانهم على يد رجل من بني إسرائيل ، فاحتاطوا لذلك ولكن الله سبحانه أوقعهم فيما كانوا يحذرون.

٤٩

ام موسى الآة ٧ ـ ١٣ :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

اللغة :

أوحينا ألهمنا. واليمّ البحر والمراد هنا تهر النيل. وقرة عين فرح وسرور. وفارغا أي لا شيء فيه إلا الاهتمام بموسى. وربطنا ثبتنا. وقصّيه تتبعي خبره. وعن جنب أي جانب كأنه غير مقصود بالذات كما تقول : هذا شيء جانبي ، وقيل : المراد بالجنب هنا البعد.

٥٠

الإعراب :

ان أرضعيه (ان) بمعنى أي مفسرة لأوحينا. وليكون اللام للعاقبة مثل : لدوا للموت وابنوا للخراب ، والمصدر المنسبك من ان المضمرة وما دخلت عليه متعلق بالتقطه. وقرة خبر لمبتدأ محذوف أي هو قرة عين. وعسى تامة والمصدر من أن ينفعنا فاعل. وان كادت (ان) مخففة واسمها محذوف أي انها كادت. والمصدر من ان ربطنا مبتدأ وخبره محذوف ، وأيضا جواب لولا محذوف أي لولا ربطنا على قلبها حاصل لأبدت به. وعن جنب متعلق بمحذوف حالا من فاعل بصرت أي بصرت به بعيدة.

المعنى :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ). المراد بالوحي هنا الإلهام مثل قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ـ ٦٨ النحل. ونقلنا في ج ٣ ص ٣٧٣ عن كتاب «قصص القرآن» ان اسم أم موسى يوكابد ، ثم قرأنا في التوراة ان هذا هو اسمها ، وانه قد تزوجها ابن أخيها عمرام أبو موسى ، وفي قاموس الكتاب المقدس ان معنى يوكابد في العبرانية «يهوه مجد» وان موسى كان أصغر أولاد أبيه ، وثالث ثلاثة : مريم البكر ، وهرون الثاني. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ). إذا خافت عليه من الذبح تلقيه بيدها في لجة البحر! .. كيف؟ وأي عاقل يستجير من الرمضاء بالنار؟ (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). ولا تخافي عليه : ان الله هو الحافظ له والوكيل ، فالذي جعل النار بردا وسلاما على ابراهيم يجعل البحر أمانا لموسى ، أخبرها سبحانه بسلامة وليدها ، وانها ستربيه وتحضنه ، وبشرها بأنه قد اختاره لرسالته ، وخصه برحمته. وتقدم نظيره في الآية ٣٩ من سورة طه.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً). التقطوه وربوه لينفعهم أو يتخذوه ولدا ، فكان عاقبة أمره ان صار عدوا لعقيدتهم وعاداتهم ، يدخل الهم والحزن على قلوبهم ، وفي النهاية كان مصرعهم وذهاب ملكهم على يده (إِنَ

٥١

فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) ضالين في جميع أعمالهم وتصرفاتهم ، وبخاصة قتلهم ألوف الصبيان ليتخلصوا من موسى ، فكانت النتيجة ان خلصوه هو من الموت ليقضي عليهم. وفي قاموس الكتاب المقدس (١) ان حياة موسى في بيت فرعون مجهولة التفاصيل ، وان العلماء المؤرخين اختلفوا في زمانه ، فقال بعضهم : انه كان في أيام أمون (١٤٣٦ ـ ١٤١١ ق. م.). وقال آخرون : انه كان في أيام رعمسيس الثاني (١٢٩٠ ـ ١٢٢٣ ق. م.) وقال ثالث : كان في أيام منفتاح (١٢٢٣ ـ ١٢١١ ق. م.).

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). امرأة فرعون هي آسية بنت مزاحم ، وقد أثنى الله عليها في الآية ١١ من سورة التحريم : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وفي الحديث : «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد» .. ولما نظر فرعون الى موسى ثار وقال : كيف سلم هذا الصبي العبري من الذبح؟ هل خفي أمره على العيون والجواسيس ، أو أخفوه عني؟ .. فتلطفت به امرأته ، وحبّبته بالصبي ليكون قرة عين لهم ، فكان قذى في عيونهم ، وشجى لقلوبهم.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). ألقت وليدها في البحر ، وهي تأمل أن يلتقطه من يحفظه من فرعون ، وإذا بالقدر يخرجه من البحر الى بيت فرعون .. ولما أتاها الخبر انه وقع في يد الجلاد توقعت هلاكه ، فجزعت جزعا شديدا ، ونسيت نفسها ، وما كان قد وعدها الله به من رده اليها ، وكادت تظهر جزعها ، وتهتف باسم عزيزها ، ولكن الله شملها بلطفه وعنايته ، فثبتها لتكون من المؤمنين بوعده ،

__________________

(١). يطلق المسيحيون اسم الكتاب المقدس على التوراة والأناجيل الأربعة ، والقاموس المذكور يبين معاني الكلمات التي جاءت في الكتاب المقدس ، ويشير الى تاريخ الوقائع والأشخاص ، وغير ذلك مما يتصل بالتوراة والأناجيل.

٥٢

وهو قوله سبحانه : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) فصبرت وتمالكت (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) اذهبي وتلمسي خبره ، فذهبت فرأت أخاها عند آل فرعون (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). نظرته نظرة جانبية كأنها لا تريده بالذات ، وآل فرعون لا يعلمون قصدها وانها أخت هذا الصبي الذي التقطوه من اليمّ.

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ). استمع فرعون لامرأته وأبقى الصبي بعد أن ألقى الله محبته في قلبه ، وأمر بالبحث عن مرضعة تكفله وترعاه ، وسيقت اليه المراضع من هنا وهناك ، وكل واحدة تود لو يقبل ثديها لتنال المنزلة عند فرعون ، ولكنه عاف الجميع ونفر منهن قبل مجيء أمه (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ). لما رأت أخت موسى حيرة آل فرعون في أمر الصبي عرضت عليهم أن ترشدهم الى من يقبل ثديها من دون النساء ، وتهتم بشأنه ، ولا تقصر في رعايته. وتقدم مثله في الآية ٤٠ من سورة طه (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أيضا تقدم في الآية ٤٠ من سورة طه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ). ضمير تعلم يعود إلى أم موسى ، والمراد بوعده تعالى قوله لها : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وليس لما وعد الله مترك (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لطائف تدبيره تعالى ، وغوامض حكمه.

ولما بلغ أشده الآة ١٤ ـ ١٩ :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ

٥٣

هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))

اللغة :

بلغ أشده استكمل قوته جسما وعقلا. وعلى حين غفلة أي دخل موسى المدينة والناس ذاهلون عنه. وظهيرا معينا. ويترقب ينتظر. واستنصره طلب نصره. ويستصرخه يطلب غوثه ومعونته. والغوي الضال.

الإعراب :

على حين غفلة متعلق بمحذوف حالا من فاعل دخل. وهذا من شيعته وهذا من عدوه بدل مفصل من مجمل. وبما أنعمت الباء للقسم وما مصدرية أي بانعامك عليّ. وجملة يترقب حال من فاعل أصبح. فلما ان أراد (ان) زائدة إعرابا. والمصدر من ان يبطش مفعول أراد. وان تريد (ان) نافية.

المعنى :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). تقدم

٥٤

بنصه الحرفي في الآية ٢٢ من سورة يوسف. وجاء هناك وصفا ليوسف ، وهنا وصفا لموسى.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ). المراد بالمدينة هنا مصر .. وفي ذات يوم دخل موسى بعض شوارعها دون أن يشعر أحد به ، فرأى رجلين يتشاجران ويقتتلان : أحدهما قبطي من أتباع فرعون ، والآخر اسرائيلي من جماعة موسى ، وكان الأقباط بوجه العموم يضطهدون الاسرائيليين ، ويحسبونهم خدما لهم وعبيدا ، فاستنجد الاسرائيلي بموسى ، فوكز موسى القبطي بيده أو بعصاه بقصد التأديب والردع عن البغي ، لا بقصد القتل ، فوقع جثة هامدة ، ويسمى هذا بقتل الخطأ (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ). هذا اشارة إلى الشجار والقتال الذي وقع بين القبطي والاسرائيلي ، لا إلى الوكز أو القتل غير المقصود ، والمعنى ان القتال بين الاثنين مصدره وسوسة الشيطان واغراؤه بالمعاصي والذنوب.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). كل تقصير في حق الله تعالى ينسبه الأنبياء والأولياء إلى أنفسهم فهو دعاء وخشوع لله سبحانه ، ولا دلالة فيه على الذنب والتقصير ، لأن العارف بالله حقا يتهم نفسه بالتقصير في طاعة الله وعبادته ، ومن أجل هذا يسأله العفو والصفح عن الذنب ، وقديما قيل : سيئات الأبرار حسنات الأشرار. انظر ما قلناه بعنوان التوبة والفطرة ج ٢ ص ٢٧٥ (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ). سأل موسى ربه العفو ، وأعطاه عهدا على نفسه أن يكون حربا على الطغاة المجرمين كفرعون وجنوده ، وعونا لكل مؤمن صالح.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ). خاف موسى ان يطالب بدم القبطي ، وتوقع الشر من فرعون وقومه .. وبينما هو كذلك (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) يطلب النصر من موسى بصياح وصراخ (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ). ما شأنك تشتبك كل يوم مع قبطي؟ وتسبب لنا المتاعب والمشاكل؟ ألا ترعوي عن غيك وضلالك؟.

٥٥

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما). أراد موسى أن يبطش بالقبطي لأن الأقباط هم الذين كانوا يعتدون على الاسرائيليين ويعاملونهم معاملة العبيد كما أشرنا ، وقد ظن القبطي أن موسى يريد قتله ، ولذا (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ). بالأمس قتلت رجلا ، واليوم تريد قتلي ، هل أنت من الجبارين ، أم المصلحين؟ ويومئ هذا إلى أن موسى كان معروفا بالصلاح وحسن السلوك ، وان القتل لا يتفق مع سيرته ومسلكه.

ان الملأ يأتمرون بك الآة ٢٠ ـ ٢٨ :

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ

٥٦

اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

اللغة :

أقصى المدينة آخرها. ويسعى يسرع في المشي. وتلقاء مدين حذاءها وجهتها. وسواء السبيل وسط الطريق. تذودان تمنعان غنمهما عن ورود الماء. ما خطبكما؟ ما شأنكما؟ حتى يصدر الرعاء حتى ينصرف الرعاء ، والرعاء والرعاة والرعيان بمعنى واحد. والاستحياء شدة الحياء. والقصص الحديث المقصوص. والحجج جمع حجة ، وهي السنة.

الإعراب :

ليقتلوك منصوب بأن مضمرة والمصدر متعلق بيأتمرون. وخائفا حال من فاعل خرج. وجملة يترقب حال ثانية. وتلقاء ظرف مكان. وجملة تذودان صفة لامرأتين. وفقير خبر ان ، ولما أنزلت متعلق بفقير. وعلى استحياء في موضع الحال أي مستحية. والقوي الأمين خبر ان. وهاتين عطف بيان من ابنتيّ. وعلى ان تأجرني في موضع الحال أي مشروطا عليك. وثماني ظرف لأنها مضافة اليه وعشر أيضا ظرف لأن المعنى فإن أتممت العمل في عشر سنين. فمن عندك متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي فالتمام كائن من عندك. وذلك مبتدأ وبيني وبينك خبر

٥٧

أي بيننا. أيما كلمتان (اي) الشرطية و (ما) الزائدة ، ومحل أي نصب بقضيت. فلا عدوان جواب الشرط.

المعنى :

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ). علم فرعون وحاشيته بما كان من موسى مع القبطي الأول الذي قتله خطأ ، والثاني الذي قال له : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي) فتشاوروا في أمر موسى ، وصمموا على قتله ، ولما علم أحد المؤمنين بذلك أسرع إلى موسى ، وأخبره بما دبروا له ، وأشار عليه بالفرار من القوم الظالمين ، وقال كثير من المفسرين : ان هذا المؤمن هو الذي أشارت اليه الآية ٢٨ من سورة غافر : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ)؟.

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). قبل موسى النصح من المؤمن ، وخرج من مصر بلا زاد وماء وظهر ورفيق ، وهو خائف يترقب أن تلحق به جلاوزة فرعون ، وفوق هذا لا يدري أين يتجه؟ فالتجأ الى ربه ، وسلم اليه أمره ، وسأله الهداية والنجاة من فرعون وقومه (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ). سار موسى دون أن يقصد بلدا معينا ، وهو على يقين من ربه ، وانه سيرشده إلى الطريق القويم الذي يؤدي به إلى النجاح والفلاح ، وأخذ سبحانه بيده ، واتجه به إلى مدين بلد شعيب ، وبين مصر وبينها صحراء واسعة الأطراف ، ممتدة الأبعاد ، يقطعها المسافر مشيا في ثمانية ايام ، فاجتازها موسى برعاية الله وتوفيقه ، وكان يأكل من نبات الأرض .. وبالأمس القريب كان في قصر فرعون يتمتع بما لذ وطاب ، ولكن حشائش الأرض والخوف خير الف مرة عند المخلصين الأحرار من النعمى مع الظلمة الطغاة كما قال الإمام الحسين (ع) : والله لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ

٥٨

تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقى لَهُما) موسى .. فقد انتهى به السير إلى بئر ، فوجد عنده جماعة من الرعاء يستقون منها لماشيتهم ، ورأى امرأتين في ناحية عن جماعة الرعاء ، ومعهما غنيمات تحاول أن ترد الماء ، والمرأتان تصرفانها عنه .. أثار هذا المنظر انتباه موسى ، وقال لهما : لما ذا تمنعان غنمكما عن الماء ، وهي عطاشى؟ فقالتا : نحن نسوة ضعاف ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، وأبونا شيخ كبير يعجز عن الرعي والسقي ، فننتظر حتى يفرغ الرعاء فنستقي ، فتحركت في نفس موسى نخوة الدين والانسانية وسقى لهما.

ولا عجب إذا أنجد موسى نسوة ضعافا ، فقد ينجد المرأة الضعيفة الكافر والشقي ، وأيضا لا عجب أن يعيش شعيب وبناته من كد اليمين وعرق الجبين ، فهذه هي سيرة الأنبياء وخلفائهم الأتقياء من قبل ومن بعد ، وإنما العجب أن لا يكون لهذه الروح القرآنية أي أثر في نفوسنا نحن الذين ندعي العلم بالله وكتابه وسيرة أنبيائه .. وأعجب العجب أن نتسابق ونتنافس في طلب الدنيا ومظاهرها.

(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). سقى موسى غنم الفتاتين ، وذهب الى شجرة يتفيأ ظلالها ، وكان قد أنهكه وأعياه التعب والجوع ، فسأل الله من فضله وكرمه ، ولم يبالغ ويلح في المسألة لأن المطلوب سد الخلة وكفى ، ولو طلب الآخرة لبالغ وألح ، وفي نهج البلاغة : والله ما سأله إلا خبزا يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، وقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه. الصفاق الجلد الأسفل ، والتشذب انهضام اللحم.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا). رجعت الفتاتان إلى أبيهما ، وأخبرتاه بما كان ، فقال لواحدة منهما : اذهبي وادعيه لنجزيه على إحسانه ، فجاءته الفتاة يكسوها الحياء والخجل ، والطهر والعفاف ، وقالت له ما قال أبوها (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). استجاب موسى للدعوة ، ورحب به الشيخ وشكره على صنيعه ، ولما طابت نفس موسى واطمأنت الى الشيخ حدثه بما جرى

٥٩

له مع فرعون وقومه فقال له الشيخ : لا تخف .. انك عندنا في مكان حصين أمين ، لا سلطان عليك فيه لفرعون ولا لغيره من الظالمين.

واختلف المفسرون في هذا الشيخ من هو؟ فأكثرهم على أنه شعيب ، وقال فريق منهم : انه غيره .. ولا مستند لهؤلاء وأولئك إلا مرجحات لا تغني عن الحق شيئا .. ولسنا نهتم بمثل هذه الاختلافات ، ما دامت لا تمت الى العقيدة والحياة بسبب .. وقد اخترنا اسم شعيب لهذه الشخصية لمجرد التعبير عنها ، ولأن هذا الاسم هو الشائع بين الأكثرية كما شاع بين طلاب النجف وعلمائها : ليس النزاع في التسمية من دأب المحصلين.

(قالت إحداهما) وهي التي استدعته الى أبيها كما يشعر وصفها له بالقوي الأمين (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). وما شهدت إلا بما رأت من قوته وهو يسقي لها ولأختها ، ومن عفته حين توجهت اليه بالدعوة إلى أبيها (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). موسى الشريد الطريد والفقير الذي لا يملك شيئا ، والذي عاش أياما على نبات الأرض حتى سأل الله لقمة يقيم بها الأود ، هذا الجائع اللاجئ يعرض عليه شيخ جليل احدى ابنتيه ، ويدع له الخيار في أيتهما يريد .. اذن ، لا بد أن يكون هناك سر .. أجل ، هناك سر ، وهو يكمن في شخصية موسى وعظمته التي لمسها الشيخ في صنعه مع ابنتيه ، وفي حديثه وسيرته مع فرعون وقومه التي قصها عليه ، فأدرك الشيخ بفطرته النقية الصافية ان هذه الشخصية سيكون لها ابعد الآثار لأن الأعمال التي تصدر عن الإنسان تكون في الغالب من نوع واحد .. فالشيخ ـ اذن ـ هو الفائز الرابح بهذه المصاهرة ، وأي ربح أعظم من مصاهرة الأنبياء والأتقياء؟.

الشريعة الاسلامية نسخت جميع الشرائع :

وتكلم الفقهاء كثيرا حول هذه الآية ، واستدلوا بها على ان لولي المرأة أن يعرض

٦٠