التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

الإعراب :

اثنتين صفة لمفعول مطلق محذوف أي إماتتين اثنتين وإحياءتين اثنتين. وذلكم مبتدأ ، وبأنه متعلق بمحذوف خبرا. وحده مصدر في موضع الحال من الله. ومخلصين حال من فاعل فادعوا ، ورفيع الدرجات خبر ثان لهو الذي يريكم. والمصدر من لينذر متعلق بيلقي. ويوم هم «يوم» بدل من يوم التلاق وهم مبتدأ وبارزون خبر. والملك فاعل فعل محذوف أي ثبت الملك. ولله متعلق بمحذوف أي ثبت لله. اليوم تجزى اليوم ظرف لتجزى. لا ظلم اليوم ظلم اسم لا واليوم خبرها.

المعنى :

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ). ضمير قالوا يعود إلى أهل النار ، والموتة الأولى قبل خروجهم من

٤٤١

بطون أمهاتهم ، والثانية الموت المعهود ، أما حياتهم الأولى فهي حياتهم في الدنيا ، والثانية البعث بعد الموت ، والمعنى ان أهل جهنم يتضرعون الى الله ، وهم في قعرها معذبون ، يتضرعون إليه تعالى ويقولون : إلهنا أنت القادر على كل شيء. أوجدتنا في الدنيا ، ثم أخرجتنا منها بالموت ، ثم بعثتنا بعده ، ونحن الآن بين يديك نادمين معترفين بالخطايا والذنوب ، فهل من سبيل إلى منك وكرمك بالخروج من النار ، ولك عهد الطاعة والامتثال؟

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) هذا جواب الله سبحانه على قولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) ويتلخص الجواب بأن داعي الله دعاكم الى الحق ، وأنتم في الحياة الدنيا ، فكذبتموه ، ودعاكم داعي الشيطان الى الباطل فأجبتموه .. والآن تدعون فلا تجابون ، واحدة بواحدة ، وقوله تعالى : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) يومئ الى أنه لا حكم غدا إلا لله وحده فلا عالي ولا كبير إلا هو : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ـ ١١١ طه.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ). أرانا سبحانه الكثير من الشواهد على وجوده وعظمته ، والدلائل على تدبيره وحكمته. في السماء والأرض ، وفي الإنسان والحيوان ، وفي المطر والزرع .. الى ما لا نهاية ، وبديهة ان هذه الدلائل والشواهد ـ على الرغم من كثرتها ـ لا تظهر إلا لمن أبصر وتدبر ، أما تائه القلب فإنه في عمى عنها ، قال طاغور :

ان الله أبرز وجوده في قالب حي من صور الخليقة ، أبرزه في هذا التنسيق والانسجام بين قوى الطبيعة المتصارعة في وحدة شاملة تخضع جميعها لقانون رتيب لا تحيد عنه ، وفي الوقت نفسه تهدف الى تحقيق غاية بعينها .. ان كل شيء في الطبيعة له وظيفة خاصة ، وعمل معين ، وهدف محدد يسعى اليه ، فما الحبة إلا عامل يكد ليبرز الشجرة الكامنة في أعماقها ، والشجرة بدورها تكد لتصل الى الزهرة ، والزهرة تجاهد في سبيل الثمرة ، ولا يدرك هذا إلا صاحب القلب السليم». والمراد بصاحب القلب السليم هو المراد بالذات من قوله تعالى : (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ

٤٤٢

فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). الخطاب للمؤمنين ، والمراد بالدعاء هنا العبادة ، وبالدين الطاعة ، والمعنى اعبدوا الله وحده ، وأطيعوه في أمره ونهيه ، ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم ، وقد سهل سبحانه لعباده سبل طاعته ، حيث أرشدهم محذرا ، وكلفهم يسيرا ، وما ترك عذرا لمتعلل (رفيع الدرجات). هذا كناية عن علوه تعالى وعظمته ، وقيل : ان المراد بالدرجات هنا تفاوت العارفين بالله في معرفتهم به قوة وضعفا ، ابتداء من معرفة الرجل العادي الى معرفة الفلاسفة والأنبياء (ذو العرش) كناية عن الملك والاستيلاء.

(يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ). المراد بالروح هنا الوحي ، وبيوم التلاق يوم القيامة حيث يلتقي فيه كل انسان بجزاء عمله ، والمراد بإنذار هذا اليوم الانذار بعذابه ، وجاء التعبير بأنه هو المنذر للإشارة إلى شدة وقعه وهو له ، والمعنى ان الله سبحانه ينزل الوحي على من يشاء من عباده لينذر الناس بأنهم يحشرون بعد الموت في شر يوم على الطغاة العصاة ، ويسألون عما كانوا يعملون (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي ظهروا لله على حقيقتهم (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ). هذا بيان وتفسير لقوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ).

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يسألون يوم القيامة ، وهم بارزون لفصل القضاء : لمن الأمر والحكم؟ فيجيب سبحانه عنهم لأن الجواب متعين واقعا وحقيقة ، أو هم يجيبونه بلسان الحال والمقال : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) فوق عباده (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) واضح. وتقدم مثله بالنص في الآية ٥١ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٦٠.

وأنذرهم يوم الآزقة الآية ١٨ ـ ٢٢ :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ

٤٤٣

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢))

اللغة :

الآزفة القريبة الدانية لأن يوم القيامة آت ، وكل آت قريب. وكاظمين محزونين. وحميم صديق. وخائنة الأعين هي التي تنظر ما لا يحل. وواق حافظ.

الإعراب :

يوم الآزفة مفعول به لأنذرهم. وإذ القلوب بدل من الآزفة. وكاظمين حال من القلوب. وما للظالمين خبر مقدم. ومن حميم «من» زائدة إعرابا وحميم مبتدأ ، وجملة يطاع صفة لشفيع. هم ضمير فصل. وأشدّ خبر كانوا. وقوة تمييز.

المعنى :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ). الخطاب في أنذرهم لرسول الله (ص). وضمير الغائب لمشركي العرب ، والمعنى ما عليك يا محمد إلا أن تنذر المشركين عذاب يوم تذوب فيه القلوب والأبصار هلعا وجزعا ، حيث لا صديق يتوجع ، ولا الشفاعة تنفع .. وهذا اليوم آت لا محالة.

٤٤٤

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ). ما أضمر الإنسان شيئا ، أو نظر اليه بخيانة وريبة إلا وكان الله عليما بما أضمر وأبصر ، وهو يقضي غدا بعلمه وعدله على كل خائن ومجرم قضاء لازما لا مرد له ولا اعتراض عليه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ). المراد بالذين يدعون الخ .. كل ما عدا الله مما تعبده الناس صنما كان أو مالا أو جاها أو غير ذلك .. وبديهة انه لا قضاء في الآخرة إلا لله. (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). هذا تعبير ثان عن قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) ـ ١٢ الطلاق.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ). هذا تحذير من الله للمجرمين أن يكون مصيرهم مصير الذين من قبلهم ، فقد كانوا أكثر منهم مالا وعددا ، ولما نزل بهم العذاب لم يجدوا وليا ولا نصيرا. وتقدم مثله في الآية ١٠٩ من سورة يوسف و ٤٦ من سورة الحج و ٩ من سورة الروم و ٤٤ من سورة فاطر.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ). تقدم مرارا ان عاقبة الذين كذبوا بالرسل الخراب والدمار. ولا فرق غدا في حكم الله وقضائه بين من كفر بالنبيين وبين من آمن بهم وخالف تعاليمهم وأطفأ سننهم وان عوملوا في الحياة الدنيا معاملة المسلمين.

موسى الآية ٢٣ ـ ٢٩ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ

٤٤٥

دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩))

اللغة :

سلطان مبين حجة واضحة. وهامان وزير فرعون. وقارون أغنى الأغنياء في زمانه. وعذت لذت وتحصنت. والمسرف هنا من تجاوز الحد في معاصي الله. وظاهرين غالبين. وما أريكم إلا ما أرى : ما أشير عليكم إلا بما أراه حقا وصوابا.

الإعراب :

وليدع اللام للأمر. والمصدر من أن يبدل مفعول أخاف ، ومن أن يظهر معطوف على ان يبدل. ما أريكم «ما» نافية. وإلا ما أرى «ما» اسم موصول مفعولا ثانيا لأريكم.

المعنى :

تقدم الكلام عن موسى مرات ومرات ، وكنا نشير عند الآية اللاحقة الى الآية

٤٤٦

السابقة واسم السورة ورقم الآية ، والآن عاد الحديث الى قصة موسى ، وسيأتي أيضا .. وعند تفسير الآية ٩ من سورة طه ج ٥ ص ٢٠٦ فقرة «تكرار قصة موسى» بيّنا السبب الموجب لهذا التكرار ، والآن نعطف على ما بيّناه هناك انه من غير البعيد ان كل آية ، وان تكررت ، فإنها تلقي أضواء جديدة قد خفيت علينا لأننا لم نتصدّ للبحث عنها ، أو لأننا لا نملك الموهبة التي تؤهلنا لإدراكها ، ومهما يكن فإن الجديد في هذه الآيات التي نحن الآن بصددها والتي بعدها هو الحديث عن مؤمن آل فرعون.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ). هامان وزير فرعون ، وقارون أغنى رجل في عصره ، وقيل : انه كان وزير المالية عند فرعون .. والله سبحانه أرسل موسى لأهل زمانه كافة ، وخص بالذكر هؤلاء الثلاثة لأنهم أصل الفساد ومصدر الضلال ، ولو آمنوا لآمن الجميع (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) تماما كما قال الذين من قبلهم ومن بعدهم لمن جاءهم بالآيات والبينات.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ). أمر بقتل الذكور خوفا منهم ، وإبقاء الإناث للخدمة .. وتسأل : لقد أصدر فرعون هذا الأمر من قبل أن يأتي موسى ، فما هو القصد من هذا التكرار؟.

وأجاب بعض المفسرين بأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى رسولا عاد فرعون إلى ما كان .. وهذا يحتاج إلى اثبات. وغير بعيد أن يكون الأمر الثاني بالقتل استمرارا للأول ، وانه لا يصح العدول عنه بحال.

(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) ـ ٤٣ فاطر. (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ). يومئ هذا إلى ان بعض رجال فرعون أشاروا عليه أن لا يقتل موسى مخافة أن يثأر رب موسى من قاتله. قال فرعون : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ). فرعون مصلح لأنه يقول : أنا ربكم الأعلى. وما علمت لكم من إله غيري .. وموسى مفسد لأنه يدعو الى تحرير الإنسان من

٤٤٧

عبادة الإنسان .. ولا بدع فهذا هو بالذات منطق الجبابرة الطغاة في كل زمان ومكان. (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ). تعوّذ موسى بالله ممن جمع بين التكبر وعدم الخوف من الله وحسابه وعقابه لأن أرذل الخلق على الإطلاق من جمع بين هاتين الرذيلتين.

(قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ). ان الحق لا يخلو من ناصر ، ولو بكلمة الإخلاص يجابه بها أهل الباطل والضلال .. هذا رجل من قوم فرعون آمن بالله عن صدق ويقين ، ولكنه كتم إيمانه خوفا على نفسه من القتل ، ولما أراد فرعون الشر بموسى دفعت به حرارة الايمان الخالص الى ان يحذر ويستنكر ولكن بأسلوب العالم العاقل والناصح المشفق ، وقال فيما قال : ما ذا جنى هذا الرجل حتى استحق منكم القتل؟ ألأنه قال : ربي الله ومعه الحجة القاطعة التي أفحمتكم وأعجزتكم كاليد البيضاء والعصا التي تلقف ما تأفكون؟.

وقال الشيخ المراغي في تفسيره ما نصه بالحرف : «الرجل المؤمن هو ابن عم فرعون وولي عهده وصاحب شرطته ، وهو الذي نجا مع موسى ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) ـ ٢٠ يس. ويلاحظ بأنه قد سبق من الشيخ المراغي ان قال وهو يفسر سورة يس : ان هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة كان في عهد عيسى تماما كما قال غيره من المفسرين. فمن الذي أحياه وجاء به إلى زمن عيسى وبينه وبين زمن موسى أكثر من ١٢٠٠ سنة على أقل التقادير التي ذهب اليها المؤرخون؟ .. ولكن العصمة لأهلها.

(وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ). وما عليكم من تبعته شيء (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) سواء أقتلتموه أم تركتموه لشأنه. وقال المؤمن «بعض» الذي يعدكم ولم يقل «كل» لأن البعض كاف واف في الإهلاك (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). زعمتم انه كاذب ، فدعوه يلاقي من الله جزاء الكاذبين ، وفيه إيماء الى ان هذا الوصف ينطبق على فرعون ، وانه سيلاقي جزاء كذبه وإسرافه لا محالة.

(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ

٤٤٨

جاءَنا). ما زال الخطاب من المؤمن الصالح لقومه آل فرعون ، ومعناه : أنتم الآن في أمن وأمان ، ولكم الملك والغلبة ، وهذه نعمة امتن بها الله عليكم ، فلا تعرضوها للزوال بقتلكم من قال : الله ربي .. ومن الذي ينجينا من بأسه تعالى إذا جاءنا بياتا أو نهارا؟.

والخلاصة ان مؤمن آل فرعون دافع عن موسى بالتي هي أحسن ، وجادل أعداء الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فبرّأ أولا موسى من الذنب ، ثم أمّن ثانيا أعداءه من خطره وضرره ، ثم ذكّرهم ثالثا بنعمة الله عليهم ، وحذرهم أن يبدلوها كفرا .. وقد استطاع هذا الأسلوب الحكيم أن يثني الطاغية عن عزمه وتصميمه على قتل موسى حتى (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ). وهذا القول من فرعون يشبه الاعتذار مما كان قد عزم عليه من قتل موسى والفضل في ذلك للمؤمن الناصح ، والمعنى اني ما أشرت بقتل موسى إلا بعد التدبر وإمعان النظر ، وما أردت بذلك إلا خيركم وصلاحكم.

وما الله يريد ظلما العباد الآية ٣٠ ـ ٣٥ :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ

٤٤٩

كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥))

اللغة :

دأب عادة. ويوم التناد هو يوم القيامة حيث ينادى فيه الناس كما في الآية ٤١ من سورة ق : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ). وعاصم مانع. والمراد بالمرتاب الشاك في الحق. والجبار يطلق على من يصلح الأمور وعلى الطاغية ، وإذا وصف به ذو الجلال فمعناه العالي.

الإعراب :

مثل يوم الأحزاب «مثل» صفة لمفعول محذوف أي أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب. ومثل دأب بدل من مثل يوم الأحزاب. ويوم تولون بدل من يوم التناد. ومدبرين حال. والذين يجادلون بدل من «من هو مسرف» لأن «من» هنا اسم موصول بمعنى الجمع. وكذلك يطبع أي مثل ذلك الطبع يطبع.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ). المراد بالأحزاب الجماعات التي تكتلت وتحزبت ضد أنبيائها بدليل قوله : (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ) .. لما قال فرعون : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) قال المؤمن الناصح : وأنا أيضا ما قلت لكم الذي قلته إلا خوفا أن يصيبكم ما أصاب الأولين من الهلاك حين كذبوا أنبياءهم (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بتكذيب الرسل والتمرد على أمر الله ونهيه.

٤٥٠

وبعد أن حذرهم المؤمن عذاب الدنيا حذرهم عذاب الآخرة بقوله : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) أي عذاب يوم القيامة حيث تسمعون الصيحة بالحق ، فتخرجون من القبور الى الحساب والجزاء (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) تحاولون الهرب من عذاب الحريق ، ولكن هيهات (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) كيف وهو الغالب على أمره لا يرده شيء ، ولا ينازعه شيء (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي من يسلك طريق الضلال فإن الله يضله ، ولا يجد من يهديه تماما كمن يشرب السم فإن الله يميته ولا يجد من يحييه أو يشفيه.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ). هذا على حذف مضاف أي جاء آباءكم أيها المصريون ، فشكوا في نبوة يوسف ، فكذلك أنتم شككتم في نبوة موسى. وفي قاموس الكتاب المقدس ان يوسف معناه في العبرية يزيد ، وان امه أسمته بهذا الاسم ليزيدها ابنا آخر ، وانه مات وهو ابن ١١٠ سنين (حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً). ويومئ هذا الى انهم فرحوا بموت يوسف لأنهم تحرروا من التكاليف الإلهية ، وقالوا من غير علم بل بدافع من الشهوات والأهواء : ان الله لن يرسل رسولا بعد يوسف الى يوم يبعثون.

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) في الله والحق .. وأضل الله المسرف المرتاب لأنه خرج من الهدى وارتكس بسوء اختياره في الضلالة والعمى (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ). المراد بالذين يجادلون الخ المسرفون المرتابون ، وآيات الله دلائله على وحدانيته ونبوة أنبيائه ، والسلطان الحجة ، والمعنى ان المجرمين يردون حجج الله القاطعة بالرغبات والأهواء وتقليد الآباء.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أن يجادل المجرمون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ). كل من التكبر والتجبر هو بالذات سبب من أسباب الختم على القلب ، وانما أسند ذلك اليه تعالى لأنه هو الذي جعل التكبر سببا لعمى القلب تماما كما جعل الجهل سببا للحيرة والبعد عن الحق ، وجعل الدرس والبحث سببا للعلم والوعي.

٤٥١

لعلى أبلغ الأسباب الآية ٣٦ ـ ٤٠ :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠))

اللغة :

الصرح البناء العالي. والأسباب جمع سبب وهو الذي يكون وسيلة إلى غيره. وتباب خسران وهلاك.

الإعراب :

أسباب السموات بدل من الأسباب. فاطلع بالنصب جوابا للترجي الذي يشبه الطلب. والحياة الدنيا عطف بيان من هذه. وهي ضمير الفصل ، وجملة وهو مؤمن حال من «من عمل صالحا».

المعنى :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ

٤٥٢

فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً). طلب فرعون من وزيره هامان أن يبني له برجا عاليا يصعد به إلى السماء ليبحث فيها عن الله ، ويتأكد من قول موسى .. طلب هذا ، وهو على يقين انه أعجز وأحقر ، ولكنه أيضا على يقين ان في مملكته قاصري العقل والوعي يصدقونه فيما يقول ، ولذا موّه ودلّس ، وليس قوله هذا بأعظم من قوله : أنا ربكم الأعلى .. وما كان ليجرأ على مثله لولا أن يجد من يقول له : أجل ، إنك أنت العلي الكبير! .. ونحن الآن في القرن العشرين وعصر الفضاء والقمر ، ومع هذا وجد الدالاي لاما من يقول له : أنت إله .. ووجد آغا خان من يقول له : أنت نصف إله ، «وفي كل قطر كعبة وإمام».

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ). أمران يزينان للإنسان سوء أعماله : اتباع الهوى ، والإصرار على الجهل ، وقد زيّن الهوى لفرعون أن يدّعي الربوبية فادّعاها ، وزيّن الجهل طاعة فرعون فأطاعوه (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي في خسران .. وكل من حاول أو يحاول أن يخدع الناس ويمكر بهم ويكيد لهم فهو خاسر وان كان له ملك فرعون ومال قارون.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ). حذر المؤمن الناصح قومه أولا وثانيا ، وهذه هي المرة الثالثة ، وفيها يرغب إلى قومه أن يقبلوا منه النصيحة لأنه يريد لهم النجاة والخير ، أما غيره فيقودهم الى الشر والهلاك (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ). متاع الحياة الدنيا زائل بائد ، ما في ذلك ريب ، أما الحياة الآخرة فباقية دائمة ، فأي الحياتين أولى بالعمل لها؟ وفي نهج البلاغة : ما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة؟ وما يصنع بالمال من عما قليل يسلبه ، وتبقى عليه تبعته وحسابه؟ وفيه أيضا : مرارة الدنيا حلاوة الآخرة ، وحلاوة الآخرة مرارة الدنيا.

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ). الله عادل وكريم ، ويتجلى عدله في عقوبة المسيء ، فإنها عند الله تساوي سيئته جزاء وفاقا. وقد

٤٥٣

تنقص العقوبة رأفة منه تعالى ورحمة ، أما المحسن فيضاعف له الجزاء أضعافا كثيرة وبغير حساب ذكرا كان أو أنثى ، وكفى بالجنة ثوابا ونوالا ، وتدل الآية بوضوح على ان الجنة وقف خاص على من آمن بالله واليوم الآخر إيمانا لا يشوبه ريب ، أما من يفعل الخير لوجه الخير ، وهو كافر بالله واليوم الآخر ، أما هذا فجزاؤه في غير الجنة لأنها محرمة على الكافرين. انظر ج ٢ ص ٢١١ فقرة «الكافر وعمل الخير». وفي بعض الروايات ان رسول الله (ص) قال : ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله. فقيل يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة وأشباه ذلك. قيل : فما اثابته في الآخرة؟ قال : يعذب عذابا دون عذاب.

أدعوكم الى النجاة وتدعوني الى النار الآية ٤١ ـ ٤٦ :

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦))

اللغة :

مردنا مرجعنا. وحاق به أحاط ونزل به. غدوا وعشيا صباحا ومساء.

٤٥٤

الإعراب :

جرم اسم لا مبني معها على الفتح ، والمعنى لا محالة ، والمصدر من ان ما تدعونني مجرور بحرف جر محذوف متعلق بمحذوف وهو خبر لا. وهم أصحاب النار «هم» ضمير فصل. والنار بدل من سوء العذاب. وأدخلوا ان كان أمرا للملائكة فآل فرعون مفعول ادخلوا ، وان كان أمرا لآل فرعون فآل فرعون منادى ، وفي الحالين أشد العذاب منصوب بنزع الخافض أي في أشد العذاب مثل دخلت الدار أي في الدار.

المعنى :

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ). هذا الكلام وما بعده الى آخر (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) يحكيه سبحانه عن المؤمن الناصح ، والمعنى أخبروني أيها المشركون عن حالي معكم : أنا أدعوكم الى الخير الذي فيه خلاصكم من العذاب والهلاك ، وهو الايمان بالله العزيز الذي ليس كمثله شيء ، والغفار لمن تاب اليه وأناب ، وأنتم تدعونني الى عذاب الحريق ، الى الشرك الذي لا يغفره الله ، ولا يقره العقل ، ولا يدين به إلا من ضل عن سواء السبيل.

(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ). ليس من شك ان الذي تدعونني الى عبادته كفرعون أو غيره لا شأن له ولا فائدة منه في الدنيا ولا في الآخرة : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ـ ١٤ فاطر .. (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ). كل الخلائق ترجع غدا الى الله تعالى ، لا الى فرعون ولا الى سواه ، ويقفون بين يديه تعالى للحساب والجزاء (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ). نقل الطبري والرازي عن مجاهد ان المراد بالمسرفين هنا سفاكو الدماء بغير حقها.

(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) من الصدق والنصح حين ترون العذاب وتنزل بكم الأهوال (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ). قال محيي الدين بن عربي

٤٥٥

في الفتوحات المكية ما توضيحه : ان أفوّض هنا مأخوذة من فاض الإناء إذا امتلأ ، ولم يتسع للمزيد .. وإذا حمّل المؤمن أكثر مما في وسعه رجع في الزائد الفائض الى الله تعالى ، فيتلقى سبحانه الزائد من المؤمن ويخفف عنه ، وهو جل وعز العليم البصير بمن آمن به وتوكل عليه ، ومن يلتجئ في المهمات الى غيره.

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ). أضمر فرعون السوء لموسى والمؤمن الناصح ، فأنجاهما الله من كيده ، وأغرق فرعون وملأه في اليم .. وهكذا يصرف سبحانه السوء عن المخلصين ، وتدور دائرته على رؤوس المجرمين. هذا قبل الموت ، أما بعد الموت فلهم (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا). وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق : ان ذلك بعد الموت وقبل يوم القيامة لأن هذا اليوم لا غدو فيه ولا عشي ، ولو عذب المجرمون في الغدو والعشي فقط لكانوا بين ذلك من السعداء.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ). كل مجرم يقال له يوم القيامة : ادخل جهنم وساءت مصيرا ، سواء أكان من آل فرعون أم من غيرهم : وإنما خص سبحانه آل فرعون بالذكر لأن الحديث عنهم.

يتحاجون في النار الآية ٤٧ ـ ٥٥ :

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ

٤٥٦

الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥))

اللغة :

المراد بالضعفاء هنا الأتباع المرءوسون. وبالذين استكبروا الرؤساء المتبوعون. ومغنون دافعون. ونصيبا قسطا. والاشهاد جمع شاهد ، ويوم الاشهاد هو يوم القيامة حيث يؤتى بشهود الحق لمن أطاع وعلى من عصى.

الإعراب :

تبعا خبر كنّا وهو مصدر في موضع اسم الفاعل أي تابعين. ونصيبا مفعول مطلق ل «مغنون» لأنه بمعنى شيء فيعرب اعرابه ، ونحوه قوله تعالى : (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) ـ ٢٥ التوبة. وكل مبتدأ وفيها خبر. والجملة خبر انّا. ومفعول يخفف محذوف ويوما منصوب على الظرفية أي يخفف عنا شيئا من العذاب في يوم من الأيام. واسم تك ضمير مستتر يعود الى القصة ، وتأتيكم رسلكم تفسير للقصة. ويوم لا ينفع بدل من يوم الاشهاد. وهدى وذكرى مفعول من أجله لأورثنا أي أورثناهم الكتاب لأجل الهداية والتذكير ، أو هما مصدران في موضع الحال من الكتاب أي هاديا ومذكرا.

المعنى :

تقدمت هذه الآيات باللفظ أو بالمعنى ، لذا نفسرها تفسيرا سريعا ، ونشير الى سورة الآية ورقمها.

٤٥٧

(وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء ـ أي التابعون ـ للذين استكبروا ـ أي المتبوعون ـ انا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار)؟ الإنسان في الآخرة مع من أحب في الدنيا وأطاع ، فمن تبع الهداة في هذه الدار فهو معهم في نعيم الجنان ، ويشكرهم على هدايته الى سبيل السلامة والنجاة ، أما من أسلس قياده للطغاة فإنه يلعنهم غدا ، ويقول لهم : أنتم السبب في شقائي ، فهل تخففون عني بعض ما أقاسيه من العذاب؟. وتقدم مثله في الآية ٢١ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٣٤.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ). ويجيب المتبوعون من سمع لهم وأطاع : لا جدال اليوم ولا كلام ، فقد حكم الله على كل نفس بما كسبت ، وقضى علينا وعلى من اتبعنا بعذاب الجحيم (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ). قاسوا عذاب جهنم على سجن الدنيا ، حيث يسمح للمسجونين فيه أن يستروحوا ساعة خارج السجن ، ومن ثم طلبوا ان يعاملوا في النار كما يعامل المسجون في الدنيا.

(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ). أجابهم الخزنة : ان الله قد أعذر إليكم على لسان رسله باعترافكم ، اذن ، فلا لوم إذا لم يستجب لدعائكم ، ولوموا أنفسكم ان كنتم تعقلون. وتقدم مثله في الآية ٧١ من سورة الزمر ، وبصورة أوسع في الآية ٥٠ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٣٥.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ). يوم الاشهاد هو يوم القيامة حيث يشهد على المجرمين الكرام الكاتبون والعلماء المبلّغون وأعضاء المجرم وجوارحه : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٢٠ فصلت. وتدل الآية بوضوح ان الله ينصر الأنبياء والمؤمنين المخلصين في الدنيا والآخرة ، والنصر في الآخرة واضح ، أما النصر في الدنيا فله صور ومظاهر ، فقد يكون بالقهر والغلبة على الأعداء ، وقد يكون بانتشار العقيدة والمبدأ ، وعلو الشأن وجميل الذكر مدى الأجيال ، فإن بعض شهداء الفضيلة صارت قبورهم كعبة يحج اليها الملايين ، والتاريخ متخم

٤٥٨

بالشواهد على ذلك ، وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣١ فقرة لا يخلو المؤمن من ناصر.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) حيث لا حميم يدفع ولا معذرة تنفع العصاة لأن الله سبحانه قطع عليهم جميع الأعذار ، والسعيد من استغنى عن الاعتذار بصالح الأعمال (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ). المراد هنا بالهدى المعجزات الدالة على نبوة موسى ، وما أوحى الله به اليه من حلاله وحرامه ، والمراد بالكتاب التوراة الصادقة .. بعد أن ذكر سبحانه انه ينصر الرسل والمؤمنين أشار الى موسى ومن أخلص من بني إسرائيل لأنه نصرهم على فرعون وقومه.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ). الخطاب لمحمد (ص) يأمره الله فيه أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ويشير الى وعده تعالى الذي صرحت به الآية ٣٣ من سورة التوبة : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). وليس لما وعد الله مترك (واستغفر لذنبك). والأمر بالاستغفار من الذنب لا يستدعي وجوده ، فقد سأل النبي ربه أن يحكم بالحق مع العلم انه لا يحكم إلا به : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) ـ ١١٢ الأنبياء.

وتسأل : اذن ، ما الفائدة من الأمر بالاستغفار من الذنب؟

الجواب : لا شيء سوى العبادة تماما كالأمر بالتهليل والتكبير والتسبيح (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ). العشي من الزوال الى الليل ، والأبكار من الفجر الى الضحى .. هذا ، الى أن أمر النبي بالاستغفار من الذنب مع عدم صدوره منه يدل على أمر المذنبين بالتوبة بطريق أولى ، وتسمى هذه الدلالة بفحوى الخطاب ولحنه أيضا لأن السامع يدرك ان الحكم الثابت للمنطوق ثابت للمسكوت عنه بمجرد سماع اللفظ.

الله وإسرائيل :

ولمناسبة قوله تعالى : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى) نشير إلى أنه في المجلد الأول قلنا : ان معنى إسرائيل عبد الله ، لأن كلمة «اسرا»

٤٥٩

معناها في العبرية عبد ، و «ايل» الله ، قلنا هذا تبعا لكثير من المفسرين ، منهم الطبري والرازي وصاحب مجمع البيان ، وبعد أن باشرنا بالمجلد السادس تبين لنا ان هذا القول يفتقر الى الإثبات ، وكان علينا أن لا نثق بأقوال المفسرين ، أو ننسب هذا القول الى قائله ـ على الأقل ـ كما يقتضيه منطق العلم ، ولكن الثقة بالمخبرين وبخاصة القدامى كانت وما زالت آفة المؤلفين والمحدثين.

منذ أمد بحثت في مكتبات بيروت التجارية عن كتاب «التلمود» فلم أجده ووجدت الكنز المرصود في قواعد التلمود وقاموس الكتاب المقدس. فاشتريتهما ، وقد ساهم في وضع القاموس ٢٧ مثقفا مسيحيا ، منهم ١٧ قسا ، والباقون بين دكتور وشماس وأستاذ واشمندريت ، وجاء فيه بالنص : «إسرائيل : معنى هذا الاسم العبري «يجاهد الله» أو «يصارع الله» وهو اسم يعقوب إذ أطلقه عليه الملاك الذي صارعه حتى مطلع الفجر. التوراة سفر التكوين الاصحاح ٣٢ الآية ٢٨».

فمعنى إسرائيل ـ إذن ـ يصارع الله ويجاهده بنص التوراة ، والفرق كبير جدا بين العبد والمصارع ، لأن المصارع والمبارز نظير ومثيل ، أما العبد فرقيق وضعيف ، وبهذا يتبين معنا ان التوراة الحالية غير الكتاب الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً وَذِكْرى) لأن هذا الكتاب كما وصفه سبحانه هدى وذكرى ، أما التوراة الموجودة فهوى وعمى لأنها تقول : يعقوب صارع الرب حتى مطلع الفجر ، ولوط ضاجع ابنتيه وحملتا منه ، وداود اغتصب الزوجات وقتل أزواجهن ، وقد أجمع الباحثون ان التوراة الحالية كتبت بعد موسى بأمد غير قصير (انظر قاموس الكتاب المقدس ص ٧٦٣ و ١١٢٠ المطبعة الانجيلية ببيروت سنة ١٩٦٤ ، وكتاب «الأسفار المقدسة» لعبد الواحد وافي ص ١٦ وما بعدها ، الطبعة الأولى سنة ١٩٦٤.

وأيضا يتبين معنا أن بني إسرائيل الأوائل الذين أورثهم الله الكتاب هم أبعد الناس نسبا وشبها بدولة إسرائيل قاعدة الاستعمار الجديد في الشرق الأوسط.

ونشرت مجلة «المجلة» المصرية في عدد كانون الثاني سنة ١٩٧٠ بحثا استغرق حوالى ٢٠ صفحة بعنوان «توراة اليهود» لحسين ذي الفقار صبري نقل فيه عن الصهيوني «نيهر» ان إله إسرائيل كما يراه الفكر اليهودي مرتبط ارتباطا عضويا

٤٦٠