التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ). هذا أبلغ أسلوب يعبر عن غضب الله وتهديد من اتخذ معبودا من دونه (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ). خسروا أنفسهم لأنهم الى جهنم وبئس المصير ، وخسروا أهليهم لأن المشرك منهم هالك ، والمؤمن عدو لمن أشرك في الدنيا والآخرة (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ). أي ان عذاب الحريق أطبق عليهم من كل جانب.

(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ). بيّن لهم سبحانه عذاب الآخرة وشدته ليبتعدوا في الدنيا عن أسبابه بالطاعة والإخلاص ، وإلا فإنهم ذائقوه لا محالة.

وقال قائل : ان الجنة هي اللذة الروحية : والنار الألم النفسي ، وان كل ما جاء في القرآن من أوصافهما الحسية فإنما هو ألوان من ضرب الأمثال والتقريب الى الأذهان حيث لا أمنية للبدوي إلا أن يحظى بالعسل واللبن والخمر والحور العين ، واستدل هذا القائل بقوله تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) لأن معناه في مفهومه ان الله ذكر ألفاظ العذاب لمجرد التخويف ولا حقيقة لدلالة هذه الألفاظ ولا واقع لمداليها (١).

ونجيب بأن كل لفظ ورد في كتاب الله وسنّة نبيه يجب العمل بظاهره إلا أن يرفضه العقل ، وعندئذ نصرفه إلى معنى مجازي يتحمله اللفظ ، ولا يأباه العقل ، ولا شيء من أوصاف الجنة والنار التي ذكرها القرآن يتنافى مع العقل ، وعليه يجب إبقاء اللفظ على ظاهره ، ولا مبرر للتأويل ، أما قوله تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) فمعناه انه يبين لهم الحقيقة والواقع ليحتاطوا منه ويبتعدوا عن الأسباب المؤدية اليه والذي يفرض ارادة هذا المعنى نفس الآيات التي ذكرت أوصاف النار وشدائدها (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ـ ٦٤ ص.

أما القول بأن رحمة الله لا تتفق مع عذاب هذا الإنسان المسكين الذي لا يساوي

__________________

(١). هذا القول قديم جدا ، وهو متروك ، ولكن مصطفى محمود أراد أن يحييه بمقال نشره في مجلة «صباح الخير» عدد ٢٢ ـ ١ ـ ١٩٧٠.

٤٠١

ذرة أو هباء ، عذاب هذا الضعيف بنار لها كلب ولجب ، أما هذا القول فجوابه ان الله سبحانه أعد العذاب الشديد الأليم للذين يفسدون في الأرض ، ويسفكون الدماء ، ويستعبدون الشعوب ، ويدمرون الحياة بالأسلحة الجهنمية ، ويقتلون الألوف في دقائق معدودات .. وجهنم بجميع أوصافها القرآنية هي أقل وأدنى جزاء لهؤلاء ، وهي عين العدل بل والرحمة أيضا ، وسلام على من قال : «لا يشغله تعالى غضب عن رحمة ، ولا تلهيه رحمة عن عقاب». أنظر ج ٥ ص ٤٥٩ فقرة «جهنم والأسلحة الجهنمية».

الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية ١٧ ـ ٢١ :

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

اللغة :

الطاغوت مصدر بمعنى الطغيان مثل ملكوت ورحموت والمراد به هنا ما تكون

٤٠٢

عبادته سببا للطغيان. ويهيج يجف ويبلغ نهايته في اليبوسة. والحطام ما تكسر من الشيء اليبس ، والمراد به هنا التبن.

الإعراب :

المصدر من ان يعبدوها بدل اشتمال من الطاغوت. والذين يستمعون مبتدأ وأولئك الذين هداهم الله خبر. وأولئك هم أولو الألباب مبتدأ وخبر وهم ضمير الفصل. أفمن «من» مبتدأ وخبره محذوف أي كمن نجا من العذاب. وألوانه فاعل مختلفا. وحطاما مفعول ثان ليجعله.

المعنى :

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ). المراد بالطاغوت هنا الأصنام ، ولذا عاد الضمير عليها مؤنثا .. بشّر سبحانه بالنجاة من نبذ الشرك وأطاع الله ، وان بدرت منه بادرة تاب إلى خالقه وأناب (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). ليس المراد بحسن القول حسن الكلمات وفصاحة الأسلوب ، وانما المراد به ما نفع دنيا وآخرة ، فإن كان مضرا فهو قبيح ، أما القول الذي لا يضر ولا ينفع فإنه لا يوصف بحسن ولا بقبح ، أما الوصف بالأحسن فهو نسبي ـ مثلا ـ رد التحية بمثلها حسن ، وكذا القصاص بالمثل ممن اعتدى عليك ، ولكن العفو أحسن من القصاص ، ورد التحية بخير منها أحسن من ردها بمثلها.

وقول الله تعالى أحسن من كل قول أيا كان قائله ، ولا شيء منه تعالى أحسن من شيء قولا كان أو فعلا لأن الأشياء بالنسبة اليه سواء ، والذين يستمعون قول الله ، ويعملون به هم المهتدون عند الله إلى معرفة الأحسن والآخذون باللباب دون القشور. وفي نهج البلاغة: «أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر ، وارغبوا فيما وعد المتقين فإن وعده أصدق الوعد ، واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدي ، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن ، وتعلموا القرآن فإنه

٤٠٣

أحسن الحديث ، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب».

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) كمن أنجاه الله منه (أفأنت ـ يا محمد ـ تنقذ من في النار). كلا ، لا وسيلة للانقاذ والخلاص من عذاب الله إلا العمل الصالح وعفو الله وكرمه ، جلت حكمته ، وليس من شك ان من لج وتمادى في الغي والضلال فلا ينظر الله اليه : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ـ ٧٧ آل عمران (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ). هذا على طريقة القرآن يقرن البشارة بالإنذار ، والوعد بالوعيد ، وذكر المتقين وثوابهم بذكر الطاغين وعقابهم ، فلهؤلاء من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ، ولأولئك غرف في الجنة فوقها غرف .. هذا وعده تعالى ووعيده ، ومن أصدق من الله حديثا؟.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ). ينزل المطر من السماء ، فيجري على سطح الأرض ، ثم ينفذ في جوفها ، فيكوّن عيونا وينابيع تنفع الناس .. فهل هذا صدفة ، أو من تدبير عليم حكيم؟ (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ). فهل هذا النبات المختلف لونا وطعما من صنع الطبيعة بما هي أو بعناية خالق الطبيعة بما فيها؟ وإذا كانت الحياة بشتى ألوانها من نتاج الطبيعة وخصائصها فلما ذا ظهرت الحياة في بعض أطراف الطبيعة وأجزائها دون بعض؟

(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) ثم يجف النبات الأخضر ويصفّر في أوانه وعند بلوغه (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) فتاتا متكسرا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ). ان في انزال المطر ، وإنبات النبات واخضراره ثم اصفراره ثم فتاته على وفق الحكمة والمصلحة ، ان في ذلك كله تذكيرا بالبارئ المبدع .. وإذا كان هذا من الماء والتراب فمن الذي أوجد الماء والتراب والكون بما فيه. انظر ج ٣ ص ٢٣١ فقرة «من أين جاءت الحياة» وج ٥ ص ٧٩ فقرة «الروح من أمر ربي ، والله وعلم الخلايا».

٤٠٤

شرح الله صدره للاسلام الآية ٢٢ ـ ٢٤ :

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤))

اللغة :

شرح صدره لكذا اتسع له واطمأن اليه. وأحسن الحديث القرآن. والمراد بالمتشابه هنا ان القرآن بكامله على نسق واحد أسلوبا ومحتوى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ـ ٨٢ النساء. ومثاني جمع مثنى ، وهو عبارة عن الأمر والنهي والوعد والوعيد وما إلى هذا ، وقيل : المراد بالمثاني هنا إيراد المعنى بأكثر من أسلوب ، ومهما يكن فإن معنى مثاني غير المعنى المراد منه في الآية ٨٧ من سورة الحجر. وتقشعر كناية عن الخوف عند ذكر الوعيد بالجحيم. وتلين كناية عن الاطمئنان عند ذكر الوعد بالنعيم.

الإعراب :

أفمن شرح «من» مبتدأ وخبره محذوف أي كمن قسا قلبه ، ومثله أفمن يتقي.

٤٠٥

وكتابا بدل من أحسن الحديث. ومتشابها صفة كتاب. ومثاني صفة ثانية. وجملة تقشعر صفة ثالثة.

المعنى :

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). من توكل على الله كفاه ، ومن طلب الهداية هداه ، فإذا علم الخير من عبده وانه يطلب معرفة الحق للعمل به أخذ سبحانه بيده وأرشده إلى بغيته وجعله على بينة من أمره : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) ـ ١٤٥ آل عمران.

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ). قست ولم تمل لهداية على الرغم من العظات والعبر والتحذير والتبشير (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وعذاب مهين. قال الحافظ محمد بن أحمد الكلبي في كتاب التسهيل لعلوم التنزيل : «روي ان الذي شرح الله صدره للإسلام علي بن أبي طالب وحمزة ، والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب وأولاده».

ثم وصف سبحانه القرآن بالأوصاف التالية :

١ ـ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) في عقيدته وشريعته ومواعظه وحكمه وجميع مبادئه وتعاليمه.

٢ ـ (كِتاباً مُتَشابِهاً) أسلوبا ومحتوى ، ولا تهافت بين معانيه لأنها من إله عليم حكيم.

٣ ـ (مثاني) أي تثنى أحكامه ومواعظه ، فهو يجمع بين الأمر والنهي ، وبين الوعد والوعيد وما إلى ذلك ، وفي كتاب «النواة في حقل الحياة» للشيخ العبيدي : «في القرآن صور الكائنات أمثالا وأضدادا ، ثم يهيب بك فيما يخص الفضائل بصوت الآمر المشفق ، وفيما يخص الرذائل بصوت الزاجر الجبار ، وفيه طمأنينة العابد وزمجرة القائد».

٤٠٦

٤ ـ (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) هذا كناية عن خوف المؤمنين حين يسمعون وعيد الله وتهديده بالجحيم ، ومثله قول الإمام علي في وصف المتقين : وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون.

٥ ـ (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) كناية عن اطمئنانهم حين يسمعون وعد الله وبشارته بالنعيم ، ونحوه قول الإمام علي (ع) : وهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ). يدع الله سبحانه الإنسان وما يختار ، فمن اختار لنفسه الموت والانتحار بأحد أسبابه أماته الله ، ومن اختار لها الحياة بأسبابها أحياه لأجل مسمى ، وكذلك من اختار لنفسه الهدى وسلك سبيله هداه الله وشمله بعنايته ، وما له من مضلّ ، ومن اختار لها الضلال وسلك مسلكه أضله الله ، وما له من هاد ، وكفى دليلا على ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) ـ ٥ الصف أي لا يهدي الذين اختاروا لأنفسهم بأنفسهم الفسق والفساد ، وقوله : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ـ ١٧ فصلت وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ ١٧ محمد أي طلبوا الهدى والتقوى بإخلاص فأرشدهم الله اليه.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ). ليس سواء من يغمره العذاب من فرع إلى قدم ، ومن هو في أمان منه .. وانما ذكر سبحانه الوجه بالخصوص لأنه أعز الأعضاء على الإنسان وأشرفه ، وبه يتميز عن غيره (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ). تماما كما تدين تدان ، وكما تزرع تحصد ، وما قدمت اليوم تقدم عليه غدا ، كما قال الإمام علي (ع).

قرأنا عربيا غيرذي عوج الآية ٢٥ ـ ٣١ :

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ

٤٠٧

اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١))

اللغة :

غير ذي عوج مستقيم على الحق والعدل في جميع معانيه. ومتشاكسون مختلفون. وسلما أي خالصا.

الإعراب :

قرآنا حال مؤكدا من القرآن. وعربيا صفة. وغير ذي عوج صفة بعد صفة. وضرب هنا بمعنى جعل ومثلا مفعول أول ورجلا مفعول ثان وقيل : ان رجلا بدل من «مثلا». وفيه خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر ومتشاكسون صفة لشركاء. ويستويان مثلا ، «مثلا» تمييز.

المعنى :

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). ضمير

٤٠٨

قبلهم يعود الى مشركي مكة الذين كذبوا رسول الله (ص) ، وتقول لهم الآية : أتكذّبون نبيكم محمدا ، ولا تعتبرون بما أصاب الأمم الماضية من الهلاك لأنهم كذبوا أنبياءهم؟ وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ١٤٨ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٧٨ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). حوى القرآن من التعاليم ما يكفل للناس حياة طيبة آمنة في كل عصر وقطر ، فقد بيّن لهم ما فيه الخير والصلاح وأمرهم به ، وما فيه الشر والفساد ونهاهم عنه بأساليب متنوعة ، وأمثال واضحة ليتعظوا ويستقيموا. وتقدم مثله في الآية ٥٤ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٣٩ والآية ٥٨ من سورة الروم.

ترجمة القرآن :

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). القرآن عربي لغة ، وانساني دينا ومبدأ لا يحده زمان ومكان ، ولا قومية وعنصرية : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ـ ٢٨ سبأ ، وهو مستقيم في مبناه ومحتواه ، لا لبس فيه ولا انحراف لأنه من لدن عليم حكيم يهدف الى هداية الناس وإرشادهم الى جادة الحق وصراطه القويم. وتقدم مثله في الآية ٢ من سورة يوسف ج ٤ ص ٢٨٦ والآية ٣٧ من سورة الرعد والآية ٢٠ من سورة طه.

وتسأل : هل تجوز ترجمة القرآن الى اللغات الأجنبية؟ ومع الجواز هل تجري احكام القرآن على ترجمته فلا يمسها إلا المطهرون؟

الجواب : لا شبهة ولا ريب في جواز ترجمة القرآن الى كل اللغات ، بل ورجحانها أيضا لأن القرآن هو رسالة الله والإسلام الى الانسانية كلها ، والترجمة عامل أساسي على بث هذه الرسالة الإلهية المحمدية وانتشارها .. وقد أسلم جماعة أو عرفوا حقيقة الإسلام عن طريق ترجمة القران ، وبالأمس القريب أسلمت فتاة انكليزية مثقفة بعد أن قرأت ترجمة معاني القرآن الى لغتها. انظر فقرة «الإسلام وفتاة انكليزية» عند تفسير الآية ٦٨ من سورة ص.

وتجدر الاشارة الى ان القرآن مترجم الى ٢٧ لغة ، وأول ترجمة له كانت

٤٠٩

سنة ١١٤٣ ميلادية (مجلة اللسان العربي. «الرباط» عدد كانون الثاني ١٩٦٩).

وأيضا لا شك ان ترجمة القرآن لا تجري عليها أحكام القرآن. أولا لأن العربية من خصائص القرآن ومقوماته : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ـ ٢ يوسف. فإذا زالت عنه هذه الصفة تبعتها الصفة القرآنية حتما. ثانيا ان الترجمة في واقعها انما هي لمعاني القرآن ، لا للقرآن بالذات. وبكلام أوضح ان القرآن عبارة عن الفصاحة العربية ومعانيه الحقيقية ، وكل منهما جزء متمم للآخر بالنسبة الى القرآن ، فإذا زال أحد الجزئين ذهبت جنسية القرآن ، وأصبح الجزء الباقي شيئا غير القرآن .. وعليه يكون حكم ترجمته تماما كحكم تفسيره .. أجل ، ان حكم اسم الله تعالى وصفاته هو حكم القرآن بالذات يحرم مسه ومسها على غير المطهرين مهما كانت اللغة.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً)؟ هذا المثل ضربه سبحانه للمشركين المكذبين برسالة محمد (ص) ، وتوضيحه ان المشرك الذي يعبد أكثر من واحد هو أشبه بعبد مملوك لجماعة مختلفين في الرأي والأخلاق ، ولا يتفقون على شيء ، وكل واحد منهم يطلب من العبد ما يناقض طلب الآخر ، ولا يستطيع العبد تلبية الجميع وارضاءهم ، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يغضب واحدا منهم ، فهو معهم أبدا ودائما تائه في فكره وحائر في أمره لا يدري ما ذا يصنع؟

أما المؤمن الموحد فهو أشبه بعبد يمتلكه رجل واحد ولا يطلب منه إرضاء أحد سوى مولاه الحكيم فيما يأمر وينهى ، وقد استراح كل منهما للآخر ، فالسيد لا يكلف العبد ما لا يطيق ، والعبد يسمع ويطيع ، وهو طيب النفس لأنه على يقين من مرضاة مولاه .. فهل هذا الرجل الذي هو سلم لمولاه الواحد الحكيم ولا يخضع إلا له وحده ، وذاك الرجل الذي يطلب منه أن يخضع ويطيع الرعناء المتشاكسين هل هما سواء؟ كلا : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ـ ٣٩ يوسف.

(الحمد لله) الذي عزز دينه ورسوله بالحجج الدامغة والبينات الواضحة ، وخذل أعداءه المبطلين وردهم على أعقابهم خاسئين (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان المشرك كالعبد المملوك الرعناء متشاكسين (انك ميت ـ يا محمد ـ وانهم

٤١٠

ميتون) لأن الموت نهاية كل حي نبيا كان أو غير نبي ، ولا يبقى إلا وجهه الكريم ، جلت عظمته ، ولكن أعداء محمد (ص) يموتون موت الكفر والجهل ، ولا يبقى لهم من أثر إلا الذم واللعن ، أما رسالة محمد (ص) فخالدة مدى الحياة ، ويبقى اسمه مقرونا بالصلوات والتحيات إلى آخر يوم (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ). المراد بالخصومة هنا ان النبي (ص) يشهد عليهم أمام الله يوم القيامة بأنه قد بلغهم رسالات ربهم : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) ـ ٨٩ النحل.

٤١١
٤١٢

الجزء الرّابع والعشرون

٤١٣
٤١٤

أليس الله بكاف عبده الآية ٣٢ ـ ٣٧ :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧))

اللغة :

المثوى المكان الذي يثوي فيه الإنسان إذا أقام فيه.

الإعراب :

فمن استفهام انكاري ومحلها الرفع بالابتداء وأظلم خبر. والذي جاء مبتدأ ، والمراد به الجنس حيث أخبر عنه بالجمع ، وهو أولئك هم المتقون. والمصدر من ليكفروا متعلق بيشاءون. وبكاف الباء زائدة إعرابا وكاف خبر ليس ومثله بعزيز. وعبده مفعول كاف لأنه بمعنى يكفي.

المعنى :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ)؟ فجعل له شريكا أو ولدا .. وشر القول

٤١٥

الكذب ، وأعظم الكذب شرا الكذب على الله ورسوله (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) من الله على لسان رسله .. وهكذا أرباب المصالح والمنافع في كل مكان وزمان يكذّبون الصدق ويصدّقون الكذب لأن مصالحهم تقوم على الزور والباطل ، ومما قرأته في هذا الباب : ان من أعظم الكذب أن يقول الكاذب : الله يعلم أني لصادق (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) بلى ، انها مثوى ومأوى لهم ولكل طاغ وباغ.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). رسول الله (ص) جاء بالصدق من عند الله ، والمسلمون صدقوا ما جاء به ، وهم عند الله من الأبرار إذا اتقوه في محارمه ، وإلا فإن التصديق بلا عمل لا يجديهم عند الله نفعا (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي المتقين محارم الله لأن الحديث عنهم ، ولم يحدد سبحانه في هذه الآية جزاءهم بشيء معين ، بل ترك الخيار لمشيئتهم.

(لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ). ان الله يغفر الذنوب جميعا كبيرها وصغيرها لمن تاب وآمن وعمل صالحا ، ويجزي سبحانه العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته بأحسن من طاعتهم وشكرهم (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). المراد بعبده محمد (ص) ، وهو سبحانه كافيه شر من يريد به الشر ، والمراد بالذين من دونه الأصنام لأن ضمير دون يعود إليه تعالى. وقال جماعة من المفسرين : ان رسول الله (ص) لما ذكر الأصنام بسوء قالت قريش : لئن لم ينته محمد عن ذكر آلهتنا لنسلطنها عليه ، فتصيبه بخبل أو تعتريه بسوء .. فأنزل الله سبحانه هذه الآية .. وليس هذا ببعيد عن عقول أهل السفه والجهل. وليس من شك ان الله كاف عبده ورسوله.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ). قلنا عند تفسير الآية ٢٣ من هذه السورة وغيرها من الآيات : ان الله يضل من سلك مسلك الضلال بسوء اختياره ، ويهدي من اختار الهداية لنفسه وسلك بها سبيلها (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) ممن كفر وظلم بمشيئته وبعد إلقاء الحجة عليه؟

٤١٦

قل حسبي الله الآية ٣٨ ـ ٤٥ :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥))

اللغة :

حسبي كافيني. ومكانتكم الحال التي أنتم عليها. وأصل التوفي الإيفاء وهو أخذ الشيء كاملا وافيا ، ومن مات فقد استوفى عمره. واشمأزت انقبضت ونفرت.

٤١٧

الإعراب :

الله فاعل لفعل محذوف أي خلقهن الله. وحسبي مبتدأ والله فاعل سادّ مسد الخبر. فلنفسه متعلق محذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فاهتداؤه كائن لنفسه. أو لو كانوا الهمزة للإنكار والواو للحال أي تتخذونهم شفعاء وهم لا يعقلون. وجميعا حال من الشفاعة.

المعنى :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). جوابهم هذا من وحي الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لأنها لا تجد تفسيرا للكون إلا بوجود الله ، ولكن الجاحدين يقولون : نحن لا نؤمن إلا بالتجربة ، أما الفطرة فكلام فارغ ، ونحن بدورنا نقول لهم : إذا كنتم لا تؤمنون إلا بالتجربة فأرونا التجربة التي دلتكم على ان الله غير موجود .. ونحن لا نشك في ان من أنكر هذه الفطرة أو أنكر منطقها فقد أنكر إنسانية الإنسان وأغلى ما فيه من طاقات وغرائز. وتقدم مثله في الآية ٦١ من سورة العنكبوت والآية ٢٥ من سورة لقمان.

(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَ ـ أي الأصنام ـ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ)؟ هدد المشركون الرسول الأعظم (ص) بالأصنام ، فأمره الجليل الأعلى أن يقول لهم : أي سلطان للأصنام علي أو على غيري؟ فهل تدفع عني ما أراده الله بي من الضر ، أو تمنع ما أراده لي من الخير؟ بل هل تستطيع الأصنام أن تدفع عن نفسها إذا أراد إنسان أن يحطمها بفأسه ، أو يدوسها بنعله؟ وتقدم مثله في الآية ١٧ من سورة الانعام ج ٣ ص ١٦٩ والآية ١٠٧ من سورة يونس ج ٤ ص ١٩٩.

(قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ). قل يا محمد لمن كذّب برسالتك : أستعين بالله واسترشده ، وهو يكفيني ما أهمني ، ومن ضاقت عليه الأمور فليلجأ اليه وحده ، وكفى به وليا ونصيرا.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ

٤١٨

يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ). على مكانتكم أي على حالتكم ، ومقيم دائم مدى الأبد ، والمعنى ليبق كل منا على ما هو عليه ، ثم ينتظر المصير ، وهو عليكم خسران وجحيم ، وعلينا بركة ونعيم. وتقدم مثله في الآية ١٣٥ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٦٧ والآية ٩٣ من سورة هود ج ٤ ص ٢٦٤ (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ). فبلغه عن ربك مبشرا ومنذرا بآياته ، ولا تدع لأحد عذرا يتعلل به (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) فكل إنسان مسؤول عن عمله ، وحسابه على خالقه ، ولا سلطان لك عليه بعد ان بلغت ونصحت. وتقدم مثله في الآية ١٠٤ من سورة الانعام ج ٣ ص ١٣٨ والآية ١٠٧ من سورة يونس ج ٤ ص ١٩٩.

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها). قال الماديون : الإنسان هو هذا الجسم ولا شيء وراءه. انظر «الماديون والحياة بعد الموت» ج ٤ ص ٣٧٩ ومع الماديين ص ٥٣٦ من المجلد المذكور. وقال المؤمنون : ان الإنسان روح وبدن ، وان الروح هي التي تسيّر البدن وتدبره بأمر الله تعالى ، والموت عبارة عن قطع العلاقة بين الروح والبدن ، وانها بعد ذلك تذهب الى خالقها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) ـ ٢٧ الفجر. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) انه تعالى يقبضها اليه حين موت الأبدان.

(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها). النوم نوع من الموت والوفاة أو هو وفاة مجازا ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ـ ٦٠ الأنعام. وقال صاحب مجمع البيان : «التي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز ، وهي التي تفارق النائم فلا يعقل ، أما التي تتوفى عند الموت فهي نفس الحياة التي إذا زالت زال معها النفس ، والنائم يتنفس ، فالفرق بين قبض النوم وقبض الموت ان قبض النوم يضاد اليقظة ، وقبض الموت يضاد الحياة ، وقبض النوم تكون الروح معه ـ أي مع القبض ـ في البدن ، وقبض الموت تخرج الروح من البدن».

(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). يقبض سبحانه النفس عند موت الجسد ، وعند منامه ، وتبقى التي قضى عليها الموت عند خالقها ولا يردها إلى الجسد ، أما الثانية فيردها

٤١٩

اليه إلى أمدها المعين. قال عمر بن الخطاب : «العجب ان الرجل يرى رؤيا فتكون كالأخذ باليد ، ويرى رؤيا فلا تكون شيئا .. فقال له الإمام علي بن أبي طالب : ان الله يتوفى الأنفس كلها ، فما رأته وهي عنده فهي صادقة ، وما تراه بعد إرسالها فهي كاذبة ، فعجب عمر من قول الإمام». نقل هذا الشيخ المراغي في تفسيره عن أبي حاتم وابن مردويه.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ). الأصنام لا تعقل شيئا ، ولا تدفع عن نفسها ضرا ، ومع ذلك يرجو المشركون أن تشفع لهم وتنفعهم عند الله .. وهكذا يفعل الجهل بنفسه .. ان خير شفيع عند الله تعالى للمذنبين التوبة والانابة (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي لا أحد يملك من الشفاعة شيئا إلا ما ملكه الله منها : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ـ ١٥٤ آل عمران. (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). ومثله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ـ ١٨ المائدة ج ٣ ص ٤٠.

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ـ أي من دون الله وهي الأصنام ـ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). كان المشركون إذا سمعوا قول لا إله إلا الله نفروا ، وإذا سمعوا مدح الأصنام فرحوا. وهذا شأن المبطلين قديما وحديثا ، لا يؤنسهم إلا الباطل ، ولا يوحشهم إلا الحق .. وفي نهج البلاغة : من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه.

أنت تحكم بين عبادك الآية ٤٦ ـ ٥٢ :

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ

٤٢٠