التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

مفعول من أجله لوهبنا. وابراهيم وما بعده بدل مفصل من مجمل والمبدل منه عبادنا. وذكرى الدار خبر لمبتدأ محذوف أي هي ذكرى. ولمن المصطفين متعلق بمحذوف خبرا لأنهم.

المعنى :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ). لأيوب سفر خاص في العهد القديم ، وقد استغرق حوالى ٤٠ صفحة ، وفي قاموس الكتاب المقدس : ان هذا السفر كتب شعرا في الأصل ، وان بعض الناس يظنون انه كتب في القرن الرابع قبل الميلاد ، وان من المحتمل أن يكون أيوب عاش في الألف الثانية قبل الميلاد. ثم قال المساهمون في وضع القاموس ، في مادة عوص بضم العين : ان أيوب أقام في أرض عوص ، ويعتقد ان هذه الأرض في الصحراء السورية ، وهناك من يعتقد انها حوران.

(إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ). مضت مئات القرون ، والناس تضرب الأمثال بمصائب أيوب ، وينسجون حولها الأساطير .. وتدل هذه الآية والآية ٨٣ من سورة الأنبياء ان أيوب قد أصيب في نفسه وماله ، وانه نسب ما حل به الى الشيطان ، وهذا ما دعا جماعة من المفسرين أن يؤلفوا رواية «أيوب والشيطان» .. ومن قارن بين روايتهم وبين ما جاء في سفر أيوب من التوراة يجد أنهم يفسرون القرآن الكريم بالاسرائيليات .. وتتلخص رواية العهد القديم والمفسرين أيضا بأن الله سلط الشيطان على أيوب ليختبر إيمانه ، فأتلف أمواله وأهلك أسرته ، ولما فشل أصابه في جسده ، ففشل أيضا.

والآية صريحة في ان الشيطان قد مس أيوب بالأتعاب والصعاب ، ولكنها سكتت عن تحديدها وبيان نوعها ، ونحن نسكت عما سكت الله عنه ، ولا نتكلف البحث والتنقيب ، ولو كلفنا الله لبين ، وحيث لا بيان منه فلا تكليف. وقد أشرنا إلى قصة أيوب في ج ٥ ص ٢٩٥.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ). لجأ أيوب الى الله شاكيا اليه مما قاساه ، فاستجاب له ، وأمره أن يضرب الأرض برجله فيخرج ماء بارد ،

٣٨١

يغتسل به ويشرب منه ، فيبرأ بإذن الله تعالى. وهكذا كان (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ). شفاه الله ورزقه من الأولاد والأحفاد ضعف ما فقد منهم. وتقدم مثله في الآية ٨٤ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٩٥.

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). قال المفسرون : ان أيوب غضب على زوجته حين كان طريح الفراش ، غضب عليها لأمر يحدث بين المرء وزوجه .. فحلف ليضربنها كذا ضربة ان شفاه الله ، وبعد ان كتب الله له الشفاء أمره أن يضرب زوجته بمجموعة من الأغصان ونحوها دفعة واحدة ، وبذلك يتحلل من يمينه.

والآية لا تشير الى امرأة أيوب ولا الى غيرها من قريب أو بعيد ، ومع هذا فلا ننكر قول المفسرين ، حيث جاء في الآية ذكر الحنث والضرب ، وليس من شك ان الحنث فرع اليمين والضرب يستدعي وجود المضروب .. وطريح الفراش يضيق بأدنى الأمور ، وبالخصوص إذا حدث من أهله .. فمن الجائز ـ اذن ـ أن يحلف أيوب على ضرب زوجته لأدنى شيء يبدر منها .. وبالتالي فإن قول المفسرين غير بعيد.

وتسأل : ان قوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا الخ يدل على ان الاحتيال على الدين جائز في شريعة القرآن مع انه أنكر على بني إسرائيل احتيالهم لصيد الحيتان ، كما صرحت الآية ١٦٣ من سورة الأعراف : (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). أنظر ج ٣ ص ٤١٠.

الجواب أولا : ان الضرب على هذا النحو مختص بأيوب وحده ولا يعم جميع الحالفين ، والا صرحت السنّة النبوية بذلك ، وأفتى به جميع العلماء. ثانيا : ان هذا احتيال من أجل الرحمة والانسانية ، وليس احتيالا على الحق والانسانية.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ). أولي الأيدي أصحاب القوة على الصالحات ، والأبصار كناية عن العلم بالله ودينه ،

٣٨٢

والمعنى أذكر يا محمد هؤلاء الأنبياء الذين علموا دين الله وعملوا به مخلصين ، وجاهدوا في سبيله صابرين ، أذكرهم واصبر على المكذبين من قومك كما صبر هؤلاء الرسل من قبلك.

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي دار الآخرة ، وخالصة صفة لا يشوبها شيء ، وهي انهم يعملون للآخرة ، ويؤثرونها على كل شيء (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ). أخلصوا لله فاختصهم برسالته ، وجعلهم من خيرة خلقه (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ). لم أجد في فهرس الكتاب المقدس وقاموسه ذكرا لليسع وذي الكفل ، والذي وجدته يشوع ابن نون خليفة موسى ، ويقال : انه اليسع ، ومهما كان فإنه هو وذو الكفل تماما كإسماعيل وإسحاق ويعقوب من الأنبياء الأصفياء. وتقدم مثله في الآية ٨٥ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢١٨ والآية ٨٤ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٩٥.

المتقون والطاغون الآية ٤٩ ـ ٦٤ :

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى

٣٨٣

رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

اللغة :

مآب مرجع. وعدن اقامة. وقاصرات الطرف ، على أزواجهن. وأتراب متساويات في السن. والمهاد الفراش. والحميم شديد الحرارة. والغساق قيح شديد النتن. وأزواج ألوان. وفوج جمع كثير.

الإعراب :

جنات عدن بدل من حسن مآب. ومفتحة حال من جنات عدن. والأبواب نائب فاعل. ومتكئين حال من ضمير لهم. وقاصرات وأتراب صفة لمبتدأ محذوف أي عندهم حور قاصرات الخ. ومن زائدة اعرابا ونفاد مبتدأ وله خبر. وهذا مبتدأ وخبره محذوف أي هذا شأنهم. وان للطاغين كلام مستأنف. وجهنم بدل من شر مآب. وهذا مبتدأ وحميم خبر وغساق عطف عليه. وآخر مبتدأ ومن شكله صفة وأزواج خبر ، وقيل : أزواج مبتدأ ثان ومن شكله خبره والجملة خبر المبتدأ الأول. لا مرحبا دعاء عليهم ، وهو منصوب بفعل محذوف يجب إضماره على حد تعبير أبي حيان الأندلسي أي لا تأتون رحبا وسعة. وسخريا مفعول ثان لاتخذناهم. ولحق خبر ان. وتخاصم خبر لمبتدأ محذوف أي هو تخاصم أهل النار.

المعنى :

(هذا ذكر). هذا إشارة الى الثناء على من ذكر سبحانه في الآيات السابقة كإبراهيم وإسماعيل وداود وسليمان وغيرهم. وذكر أي شرف تذكرهم به الأجيال

٣٨٤

(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ). لمن اتقى حسن الأحدوثة في الدنيا ، وثواب الله ومرضاته في الآخرة ، وهي (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) يدخلونها بسلام لا يسألهم سائل ، ولا يمنعهم حاجب (مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ). متعة في الطعام والشراب والفراش ، وفوق ذلك كله حور عين لا يمددن بطرفهن إلا لبعولتهن. وتقدم مثله في الآية ٤١ وما بعدها من سورة الصافات.

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ). وليس لما وعد الله من الخير مترك (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) بل هو قائم الى الأبد ، حياة خالدة ، ونعمة دائمة (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) تماما عكس ما للمتقين ، لهؤلاء مقام أمين ، ولأولئك سواء الجحيم (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) فهم حطب لها ، وهي لهم غطاء ووطاء (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ). في تفسير الرازي ان في الكلام تقديما وتأخيرا ، والأصل : هذا حميم وغساق فليذوقوه ، والحميم يحرق بحرّه ، والغساق صديد أهل النار (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ). لا يقف عذاب أهل النار عند الحميم والغساق ، بل هناك أشكال أخرى من العذاب ، تتشابه في شدتها وقسوتها ، وتختلف في لونها ومظهرها كالزقوم والسموم ، وما إلى ذلك مما لا عين رأت ولا اذن سمعت.

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ). يدخل المجرمون الى جهنم أفواجا ، فإذا دخل القوم اللاحقون قال لهم السابقون : لا مرحبا بكم .. انكم في النار معذبون (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ). هذا بكامله من كلام اللاحقين ، وفيه جواب للسابقين ، استقبلهم هؤلاء بالشر ، فردوه عليهم مضاعفا .. وقولهم : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) يومئ الى ان الرؤساء المتبوعين يتقدمون التابعين الى جهنم تماما كما تقدموا عليهم في الحياة الدنيا .. والهاء في «قدمتموه» تعود إلى العذاب المفهوم من السياق .. ثم طلب التابعون من الله سبحانه أن يضاعف العذاب لمن خدعهم وغرر بهم .. وتكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ١٦٦ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥٥ والآية ٣٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٢٦ والآية ٣١ من سورة سبأ.

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ). ضمير قالوا للطغاة

٣٨٥

المترفين ، والمراد بالرجال هنا الضعفاء .. كان الأقوياء في الحياة الدنيا يسلبون أقوات المستضعفين في الأرض ، ثم يتيهون بها عليهم ، لأنهم من وجهة نظرهم مجرد حيوانات وأداة لما يبتغون ويشتهون.

الكادحون حيوانات وأشرار .. ولما ذا؟ لأنهم يأكلون من عرق الجبين ، ولا يقضون الليالي الحمراء في الكازينوهات ومواخير الدعارة .. أما الطغاة المترفون فنبلاء وأخيار لأنهم يفسدون ويتنعمون على حساب البؤساء والمناضلين .. الفقراء أنذال لأنهم لا يمشون في الخفاء .. أما المترفون فسادة أشراف لأنهم يتلونون بكل لون ، ويسلكون كل سبيل تدر عليهم الأرباح والمكاسب .. وفي يوم الفصل تزول الأقنعة ، ويرى الخائنون مكانهم في نار جهنم ، ولا يرون فيها أحدا ممن أسموهم بالأشرار ، فيعجبون ويتساءلون عنهم ، وعن مقرهم؟ وسرعان ما يعلمون انهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، فتذهب أنفسهم حسرات ويزدادون ألما على ألم.

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ)؟ هذا من كلام الطغاة يسخرون به يوم القيامة من أنفسهم لأنهم كانوا من الذين آمنوا يسخرون (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ). ذلك إشارة الى تلاعن أهل النار ، وقول بعضهم لبعض (لا مَرْحَباً بِكُمْ) وهو كائن لا محالة.

انما أنا منذر الآية ٦٥ ـ ٨٨ :

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢)

٣٨٦

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

اللغة :

المراد بالملإ الأعلى الملائكة. وخلقت بيديّ أي من غير أب وأم بل بأسباب أخرى أنا أوجدتها. ومن العالين أي من أهل الرفعة والعلو.

الإعراب :

رب السموات بدل من الله الواحد. ان يوحى «ان» نافية. وانما «ما» زائدة ، والأصل اني نذير مبين ، والمصدر من ان واسمها وخبرها نائب فاعل ليوحى أي ما يوحى إليّ إلا الانذار. وساجدين حال. وأجمعون تأكيد. والمصدر

٣٨٧

من أن تسجد مجرور بمن محذوفة. واستكبرت الأصل أاستكبرت الهمزة الأولى للاستفهام والثانية همزة الوصل ، وحذفت هذه لمكان تلك.

المعنى :

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ). قل يا محمد للمشركين : أنا بشيركم ان توحدوا الله ، ونذيركم أن تشركوا بعبادته أحدا ، فله وحده الملك والخلق والعزة والمغفرة لمن تاب وأناب (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ). ضمير هو يعود إلى القرآن ، وأعرض عنه المشركون جهلا أو عنادا وحرصا على مصالحهم .. ونعت سبحانه القرآن بالنبإ العظيم لأنه يرتكز بعقيدته وشريعته وجميع مبادئه وتعاليمه على أساس الخير للجميع والتعاون مع الجميع.

الإسلام وفتاة انكليزية :

في شهر كانون الثاني ١٩٧٠ قرأت محاضرتين ل «روجيه جارودي» ألقاهما في دار «الأهرام» بالقاهرة في تشرين الثاني ١٩٦٩ ، وجارودي من قادة الفكر التقدمي الفرنسيين ، وحائز على لقب بروفسور في الفلسفة ودكتور في الآداب ، وقد نشرت المحاضرتين مجلة «الطليعة» المصرية عدد ١ ـ ١٩٧٠. ومما قاله في المحاضرة الأولى : «ان الفتح العربي لم يكن غزوا ولا استعمارا ، وإنما هو في كل بلد فرصة لخلق حضارة من صنع الإسلام والحضارة المحلية .. ان الفتح العربي قد سبب انتعاشا حقيقيا للاقتصاد العالمي رغم سيطرة الاقطاعيين في السنوات الأولى من الفتح». وقال في المحاضرة الثانية : «نحن أمام تراث سام عظيم من القيم الاسلامية التي تستطيع أن تسهم مساهمة كبيرة في التقدم الاسلامي» ـ وقال ـ نرى «بيكون» المفكر الغربي الكبير يقول : ان الفلسفة كلها نابعة من الإسلام».

وأيضا قرأت في جريدة «الجمهورية» المصرية عدد ٢١ ـ ١ ـ ١٩٧٠ :

٣٨٨

ان فتاة انكليزية مثقفة اسمها «برجت هوني» دخلت الإسلام حديثا ، وروت قصتها لجريدة«الجمهورية» ، وتتلخص بأن هذه الفتاة كانت كبقية الناس في الغرب تحمل أحقادا وشكوكا وشبهات حول الإسلام ، وبعد أن قرأت بوعي وتجرد ترجمة معاني القرآن وبعض الكتب عن الإسلام وتشبعت بتعاليمه وجدت نفسها مسلمة تلقائيا ومن حيث لا تشعر ، ثم قالت للجريدة : من العسير أن أبيّن حقيقة الإسلام بكلام سريع لأنه كنموذج هندسي بديع كامل يكمل كل جزء من أجزائه بقية الأجزاء الأخرى ، وسر جماله يكمن بانسجام هذه الأجزاء وتلاؤمها ، وهذه الصفة للإسلام هي التي تمارس تأثيرا عميقا على البشرية .. ان الانسجام اللطيف في الإسلام بين متطلبات الجسد والروح له جاذبية قوية لدى الغرب اليوم ، ويستطيع أن يؤثر في الحضارة الحديثة ، ويبين الطريق للغربيين المؤدية إلى النجاح والخلاص الحقيقيين.

وحبذا لو سلك شبابنا ـ ومنهم صاحب «نقد الفكر الديني» ـ مسلك هذه الفتاة ، فقرءوا القرآن وتدبروا معانيه ، واطلعوا على بعض ما كتبه أهل الاختصاص عن الإسلام ، كما فعلت هذه الفتاة الانكليزية ، ثم حكموا على الإسلام في ضوء ما قرأوا وما فهموا .. ان أقل أثر يتركه تدبر القرآن وآياته في قلب الإنسان هو الايمان بعدالة قادر قاهر ، وانه يجزي الذين أحسنوا بالحسنى والذين أساءوا بما عملوا .. وما ذا يبقى للإنسان ان حرم من هذا الايمان؟.

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ). المراد بالملإ الأعلى الملائكة ، وضمير يختصمون يعود اليهم ، وهذا الكلام كله مفعول للقول ، والمعنى قل يا محمد للمشركين : لقد أخبرتكم بحديث الملائكة حين قال لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وانهم قالوا له : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وما علمي بهذا لولا ان علمني ربي وأوحى به إلي ، أم ترون أني أكذب على الله؟ وما أدعي أية منقبة لنفسي إلا الانذار لتعبدوا الله وحده رغبة في ثوابه ورهبة من عذابه.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ). المراد بروح الله هنا الحياة ، وقال أديب معاصر : بل المراد ضمير الإنسان بالخصوص ، وان الله انما أمر الملائكة بالسجود لآدم لأنه علم كم سيعذب الضمير ذلك المخلوق الذي له جسم الطين وروح الله : (لَقَدْ خَلَقْنَا

٣٨٩

الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) ـ ٤ البلد أي في مكابدة مستمرة وشقاء دائم (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ). قال صاحب «نقد الفكر الديني» في صفحة ٩٠ : «ان رفض السجود لآدم من إبليس ينسجم كل الانسجام مع مشيئة الله». وهذا القول من صاحب النقد ينسجم مع مذهب السنة القائلين : لا تلازم بين ما يأمر به الله وما يريد ، ولا بين ما ينهى عنه وما يكره ، فقد يأمر بما يكره ، وينهى عما يحب (المواقف ٨ : ١٧٦) واستدلوا على ذلك بأدلة منها ان الله أمر إبليس بالسجود لآدم مع انه تعالى لم يرد ذلك منه ولو أراده لسجد إبليس لأن الله فعال لما يريد .. ولا ينسجم قول صاحب النقد مع مذهب الشيعة الذين قالوا : ان لله إرادتين : ارادة الخلق والتكوين التي يعبر عنها سبحانه بقوله : «كن فيكون» وارادة الطلب والتشريع التي يعبر عنها بالأمر والنهي (انظر ج ١ ص ٧٢ فقرة التكوين والتشريع). والله سبحانه أراد السجود من آدم بإرادة الطلب والتشريع ، لا بإرادة التكوين والإيجاد.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ). والله سبحانه يعبر عن الأسباب الطبيعية بيده لأنها تنتهي اليه ، قال تعالى : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) ـ ٧١ يس. والمعنى لما ذا امتنعت يا إبليس عن السجود لآدم؟ هل غلبت عليك شقوتك وأخذتك العزة بالإثم ، فاستكبرت ووضعت نفسك فوق قدرها ، أم لأنك في حقيقتك وواقعك أجلّ وأعظم من آدم؟ (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). أجاب إبليس بالشق الثاني وانه في حقيقته وواقعه أجل وأعظم من آدم لأنه من نار ، وبها تدار المصانع ومنها الأسلحة الجهنمية أما آدم فهو «فلاح» لأنه من ماء وتراب .. ونسي الخبيث أو تناسى ان الماء أصل الحياة وان الحضارة فرع.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) الخ. وتقدمت قصة خلق آدم وسجود الملائكة وامتناع إبليس في سورة البقرة الآية ٣٠ ـ ٣٤ ج ١ ص ٧٩ ـ ٨٣ ، والآية ١١ ـ ١٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٠٥ ـ ٣١٠ والآية ٢٦ ـ ٤٤ من سورة الحجر ج ٤ ص ٤٧٣ ـ ٤٧٩ والآية ٦١ ـ ٦٥ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٦١ ـ ٦٣ والآية ٥٠ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٣٦.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ). ضمير عليه يعود الى

٣٩٠

التبليغ والتذكير ، والتكلف التصنع ، والمراد به هنا الكذب ، والمعنى قل يا محمد للذين كذبوك : انما أنصحكم لوجه الله لا أريد منكم جزاء ولا شكورا ، وما أنا بمفتر على الله ، كيف ولديّ كتاب ينطق بالحق ويعجز العقول والألسن أن يأتوا بسورة من مثله (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ممن له قلب أو ألقي عليه السمع وهو شهيد (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ). سيتبين لكم عما قليل أيها المكذبون بالقرآن أنه الحق الذي لا ريب فيه ، يتبين لكم ذلك في الحياة الدنيا حيث يدخل الناس في دين الله أفواجا ، وأيضا يتبين الحق في الآخرة حيث تثبت الحقائق ، وتضمحلّ الأباطيل.

٣٩١

سورة الزّمر

٧٥ آية مكية. وقيل : إلا ٣ آيات.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لله الذين الخالص الآية ١ ـ ٤ :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

اللغة :

الزلفى القربى.

الإعراب :

تنزيل مبتدأ ، وخبره «من الله» ويجوز أن يكون تنزيل خبرا لمبتدأ محذوف

٣٩٢

ومن الله متعلق بتنزيل أي هذا تنزيل الكتاب. وبالحق متعلق بأنزلناه. ومخلصا حال من ضمير فاعبد. وألا أداة تنبيه. والذين مبتدأ والخبر محذوف أي يقولون ما نعبدهم. وزلفى مفعول مطلق مثل قمت وقوفا.

المعنى :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). القرآن من عند الله الذي خلق الخلائق بقدرته ، ودبرها بحكمته (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ). قد يقال : ان النبي (ص) على يقين بأن القرآن من لدن عزيز حكيم ، وانه يعبد الله مخلصا له الدين ، اذن ، فما الغرض من هذا الأمر ، وذاك الإخبار؟.

الجواب : لقد أوذي النبي (ص) ، وتحمل الكثير ، فقال له سبحانه : انك تدعو إلى الحق ، ومن دعا اليه في محيط مثل بلدك لا بد أن يدفع الثمن من نفسه أو أهله أو ماله .. وأيضا أنت مخلص لله في جميع أقوالك وأفعالك ، ومن أخلص لله لاقى الكثير من أعدائه. وبتعبير ثان ليس قوله تعالى : (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) مجرد إخبار ، ولا قوله : (فَاعْبُدِ اللهَ) مجرد أمر ، بل هما شهادة للنبي بالعظمة وتسلية عما يقاسي من أعداء الله والحق.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) من كل شائبة ، أما الدين المشوب بالرياء والأهواء فهو للشيطان ، لا للرحمن .. ولا يكون هذا الدين الخالص إلا لمن يجعل منه مثله الأعلى ، ويضحي من أجله بنفسه وجميع منافعه ، ولا يضحي به لأجل منفعته ومصلحته (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى). عاد سبحانه الى المشركين وأخبر أنهم يتخذون من دون الله أربابا ليشفعوا لهم عنده. وتقدم مثله في الآية ١٨ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٤.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). لا يختلف المشركون فيما بينهم على الشرك ، وانما يختلف المشركون والموحدون ، والله سبحانه يفصل بين الفريقين فينعم على من وحّد واتقى ، وينتقم ممن أشرك وبغى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ). انه تعالى يهدي من سلك سبيل الهداية ، ويضل من اختار طريق الضلال ، ويهلك من ألقى بيديه الى التهلكة ، وينجي من احتاط وتجنب المهالك.

٣٩٣

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ). هذا من فرض المحال ، وفرض المحال ليس بمحال ، والوجه في امتناعه ان اتخاذ الولد يستدعي بطبعه الحاجة والافتقار اليه ، والله غني عن كل شيء .. هذا ، الى ان كل والد فهو موروث ، وكل موروث فهو هالك ، فكل والد هالك ، فكيف يكون الله والدا (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) لا شريك له ولا كفؤ ولا صاحبة ولا ولد. لا شيء إلا هو.

يكور النهار على الليل الآية ٥ ـ ٨ :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

٣٩٤

اللغة :

التكوير اللف ، ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض ، والمراد بتكوير الليل والنهار تكوير الأرض بالأصل والليل والنهار بالتبع ، ويأتي المزيد من البيان في الشرح. والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. وتصرفون أي عن الصدق إلى الكذب وعن الحق إلى الباطل. والوزر الذنب. ومنيبا راجعا. وخوّله أعطاه.

الإعراب :

ذلكم مبتدأ والله عطف بيان وربكم خبر ، وله الملك مبتدأ وخبر والجملة خبر ثان لذلكم. وانّى تصرفون أي إلى أين تصرفون. ومنيبا حال من ضمير دعا. وقليلا أي زمنا أو تمتعا قليلا.

المعنى :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ). قلنا فيما سبق : ان لله كتابين : كتاب ناطق مسطور ، وهو القرآن ، وكتاب صامت منظور ، وهو الكون ، وان هذا الكتاب بما فيه من وحدة التصميم وحكمة التنظيم يدل دلالة قاطعة على وحدة المصمم وحكمة المنظم .. أما الصدفة فإنها ان صدقت في شيء فإنها لا تصدق في كل شيء ، ولا تتكرر مرات في الشيء الواحد.

وقال صاحب الظلال وهو يتكلم عن هذه الآية : ان التعبير بيكوّر يقسرني قسرا على النظر في موضوع كروية الأرض .. انها تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ، فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا ، ولكن هذا الجزء لا يثبت لأن الأرض تدور ، وكلما تحركت بدأ الليل يغمر سطح الأرض الذي كان عليه النهار ، وهذا السطح مكور فالنهار عليه يكون مكوّرا ، والليل يتبعه مكورا ، وهكذا في حركة دائبة».

٣٩٥

وكلمة التكوير غير بعيدة في دلالتها عن كروية الأرض ، ومن أجل هذا فنحن مع صاحب الظلال في قوله : ان التعبير بيكور يستدعي النظر في كروية الأرض. وقال مصطفى محمود في مجلة «صباح الخير» كما قال صاحب الظلال دون أن يشير اليه ، ولا أدري ان كان هذا من باب توارد الخاطر. وتقدم نظيره في سورة يس الآية ٣٧ ، ولم ترد فيها كلمة التكوير ، وعند شرحها أشرنا إلى دوران الأرض حول نفسها ، وان جانبها الذي يحاذي الشمس حين الدوران يكون نهارا ، وغير المحاذي يكون ليلا.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) تقدم في الآية ٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣ والآية ٢٩ من سورة لقمان و ١٣ من سورة فاطر (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها). تقدم في الآية ١ من سورة النساء ج ٢ ص ٢٤٢ والآية ١٨٩ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٣٤ (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ). تقدم في الآية ١٤٣ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٧٤.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ). خلقا من بعد خلق إشارة إلى ما جاء في الآية ٥ من سورة الحج : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) ج ٥ ص ٣١٠ ، والظلمات الثلاث هي ظلمة البطن والرحم والمشيمة ، وهذا الارتقاء من طور لآخر داخل هذه الظلمات دليل قاطع على وجود الباري المصور .. وإذا كان هذا الارتقاء من صنع الطبيعة مباشرة فإن الطبيعة من صنع من يقول للشيء «كن فيكون» ولا يعمى عن هذا إلا أعمى ، قال الإمام علي (ع) :

أيها المخلوق السوي والمنشأ المرعي في ظلمات الأرحام ، ومضاعفات الأستار ، بدئت من سلالة من طين ، ووضعت في قرار مكين الى قدر معلوم ، تمور (١) في بطن أمك جنينا لا تحير دعاء ولا تسمع نداء ، ثم أخرجك من مقرك الى دار

__________________

(١). تمور تتحرك ، ولا تحير لا تستطيع.

٣٩٦

لم تشهدها ، ولم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك ، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وارادتك؟

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ). فلا تضره معصية من عصى ، ولا تنفعه طاعة من أطاع ، (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي الرضا عنكم ان كنتم متقين (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ). قال الأشاعرة : ان الله مريد لجميع الكائنات حتى كفر الكافر وزنا الزاني وقتل القاتل ظلما وعدوانا لأنه خالق كل شيء ، ومع ذلك فهو ينهى عن الكفر والزنا والقتل (المواقف ج ٨ ص ١٧٣) أما التكليف بما لا يطاق فجائز عند الأشاعرة لأن الله لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء (نفس المصدر ص ٢٠٠). ولا شيء أوضح في الدلالة على بطلان هذا المذهب من قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ).

(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ). وما يرضاه لنا فهو أمان ورحمة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تجزي نفس عن نفس شيئا. وتقدم بالنص الحرفي في الآية ١٦٤ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٩٣ والآية ٥ من سورة الإسراء والآية ١٨ من سورة فاطر (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). اليه تعالى مصائر الخلق ، وبيده جزاء الأعمال ، وهو العليم بسرائر أصحابها وما يهدفون من ورائها.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ). مسه أصابه ، والضر ما يؤذي ويسوء ، والإنابة الرجوع الى الله ، وخوله أعطاه ، والأنداد الأشباه ، والمعنى ان الإنسان إذا أصيب بنفسه أو أهله أو ماله التجأ الى خالقه خاشعا متضرعا ، فإذا كشف كربه وضره ، وأسبغ عليه من جوده وكرمه نسي تضرعه إلى خالقه ، واتجه الى غيره بالعبادة والطاعة .. وفي الآية إيماء الى ان الإنسان حين الضراء يعود الى فطرته التي فطره الله عليها. وتقدم مثله في الآية ١٢ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٩ والآية ٥٤ من سورة النحل ص ٥٢١ من المجلد المذكور والآية ٦٧ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٦٥.

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ). هذا تهديد ووعيد لمن

٣٩٧

يؤمن عند الشدة ، ويكفر عند الرخاء ، وما من شك ان متاع الدنيا مع الكفر وخيم العاقبة.

يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه الآية ٩ ـ ١٦ :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦))

اللغة :

قانت قائم بالطاعة. وآناء جمع آن أي ساعة من الزمن. وظلل جمع ظلة أي ما يستظل به من حر أو برد.

٣٩٨

الإعراب :

أم للاستفهام. ومن مبتدأ وخبره محذوف أي كمن ليس بقانت. وهو قانت مبتدأ وخبر والجملة صلة لمن. وساجدا حال من ضمير قانت. وللذين أحسنوا خبر مقدم وحسنة مبتدأ مؤخر. وان أعبد أي بأن أعبد. ولأن أكون أي من أجل أن أكون وقيل : اللام زائدة. الله أعبد ، الله مفعول مقدم. ومخلصا حال. وظلل مبتدأ ولهم خبر ومن النار صفة. ذلك يخوف مبتدأ وخبر. يا عباد فاتقون أي يا عبادي فاتقوني.

حتى الأنبياء يفعلون رغبة ورهبة :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ). بعد أن ذكر سبحانه من يؤمن عند الضراء ، ويكفر عند السراء عقبه بقوله : ليس سواء عند الله هذا الذي يؤمن في الشدة دون الرخاء ، ومن يعبد الله في جميع حالاته ، ولا تزيده النعمة إلا ايمانا وشكرا وسجودا وركوعا في ظلمة الليل والناس نيام ، ولا يفعل شيئا إلا رغبة في ثواب الله ورهبة من عذابه.

وفي الآية إيماء إلى ان الإنسان لا ينقاد إلا بدافع الرغبة والرهبة تقيا كان أم شقيا ، والفرق ان الشقي يفعل ويترك رغبة في زينة الدنيا وحلاوتها أو رهبة من همها ومرارتها ، أما التقي فإنه يفعل ويترك رغبة في حرث الآخرة ونعيمها ، ورهبة من عذابها وجحيمها ، وهذا ينطبق حتى على الأنبياء المعصومين الذين وصفهم الله بقوله : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) ـ ٩٠ الأنبياء ج ٥ ص ٢٩٦.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). ليس المراد بالعلماء هنا الذين حفظوا الشروح والمتون ، ولا الذين اكتشفوا قوى الطبيعة ، واخترعوا العقول الألكترونية والصواريخ عابرة القارات ، وغزوا الفضاء وصعدوا إلى القمر أو المريخ .. كلا ، انما المراد بهم العاملون لخير الانسانية جمعاء ، وتحرير المعذبين في الأرض وخلاص الناس من البؤس والشقاء ، أما العلماء اللامبالون أو الذين باعوا دينهم وأنفسهم للأبالسة والشياطين ، لجلادي الشعوب ،

٣٩٩

فاخترعوا لهم الأسلحة الجهنمية ، أما هؤلاء فهم كالأنعام بل أضل سبيلا .. ولا يدرك هذه الحقيقة إلا أولو العقول والأبصار.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ). لأن الايمان بلا تقوى والعمل الصالح لا يجدي نفعا ، ومن أجل هذا ذهب جمع من العلماء إلى ان العمل الصالح جزء من الايمان الحق (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ). هذا كلام مستأنف ومنقطع عن سابقه ، ومعناه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ). فمن ضاق عليه بلده وعجز عن القيام فيه بواجبه الديني أو الدنيوي فليهاجر الى غيره ، وتقدم مثله في الآية ٩٧ من سورة النساء ج ٢ ص ٤١٩.

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي الصابرون على الشدائد صبر الأحرار الذين يرتفعون فوق الأحداث ، ويرفضون الاستسلام للفقر والذل ، أما الذين يخضعون للاقوياء ويجبنون أمام الطغاة فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ). أبدا لا فرق بين النبي وغيره .. انه عبد مأمور بالإخلاص لله في جميع أقواله وأفعاله كأي انسان (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) دعا الرسول الأعظم (ص) الى الإسلام بعد ان سبق الناس اليه لأنه منسجم مع نفسه يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). محمد (ص) يخاف الله لأنه لا براءة معه من الله ، ولا حجة له عليه ، بل لله الحجة على محمد (ص) وعلى جميع خلقه .. وأعظم ما في محمد انه مطيع لله مخلص له في العبودية سابق الى الخيرات يتلقى الوحي من ربه ويؤديه على وجهه : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ـ ٩ الأحقاف.

(قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) مرة ثانية يؤكد محمد (ص) بأمر الله انه عبد مأمور. قال المستشرق الانكليزي «هاملتون جب» الأستاذ في جامعة اكسفورد في كتاب «دراسات في حضارة الإسلام» ، قال : «يرفض القرآن فكرة الوساطة بين الله والإنسان .. ويضع الإنسان أمام خالقه دون عناصر وسائطية روحية أو شخصية». وهذه هي الميزة الكبرى للإسلام على جميع الأديان.

٤٠٠