التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

المعنى :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) في الدنيا بالحجة والدليل ، قال الإمام علي (ع) : ما ظفر من ظفر الإثم به ، والغالب بالشر مغلوب ، أما في الآخرة فلا حول للمبطلين ولا قوة. وقال الرازي : «قد تكون النصرة والغلبة بقوة الحجة ، وقد تكون بالدولة والاستيلاء ، وقد تكون بالدوام والثبات على الحق ، فالمؤمن وان صار مغلوبا في بعض الأحيان بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب ، ولا يلزم على هذه الآية ان يقال : قد قتل بعض الأنبياء ، وهزم كثير من المؤمنين. وقوله : قد تكون النصرة بالثبات ينطبق على صمود العرب ـ اليوم ـ ورفضهم الاستسلام وعزمهم على المقاومة مهما كانت «أحوال الدنيا» على الرغم من انتصار الاستعمار والصهيونية عليهم عسكريا. وتقدم الكلام عن دفاعه تعالى عن الذين آمنوا عند تفسير الآية ٣٨ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣١.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ). الخطاب لمحمد (ص) يأمره الله سبحانه أن يدع المشركين وشأنهم ، ثم ينتظر قليلا ، وسيرى انهم يستسلمون لأمره أذلاء صاغرين .. وهذا ما حدث بالفعل على الرغم من حشد الجيوش وتكتل الأحزاب ضده (أفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ). هذا جواب عن قول المشركين : فأتنا بما تعدنا ، ومعنى الجواب كيف تستعجلون عذاب الله مع العلم انه إذا نزل بكم لا تستطيعون له صرفا ، ولا منه مفرا (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ). المراد بساحتهم ديارهم ، وبالصباح يوم العذاب ، والمعنى ان يوم ينتقم الله منهم بعد أن أنذرهم هو شر يوم عليهم وأسوأه.

٣٦١

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ). كرر هذا سبحانه تأكيدا لإنجاز وعده وانه كائن لا محالة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). ختم سبحانه هذه السورة بتنزيهه عما لا يليق بعظمته لأنه حكى فيها أقوال المشركين ، ووصف نفسه بالعزة لأنه على كل شيء قدير ، وحمدها لأنه المنعم المتفضل ، وسلم على المرسلين لأنهم أدّوا الأمانة بإخلاص ، وتحملوا في سبيلها الكثير .. وبعد ، فلا عزة ولا حمد لمخلوق إلا لمن اعتز بالله وأطاع الله.

٣٦٢

سورة ص

وهي ٨٨ آية مكيّة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص والقرآن ذي الذكر الآية ١ ـ ١١ :

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

٣٦٣

اللغة :

في عزة وشقاق أي في استكبار عن قبول الحق وعداء له ولأهله. ولات حين ليس الحين. ومناص مفر. وعجاب أمر مفرط في العجب. والملأ جماعة الأشراف. والأسباب الطرق والوسائل التي يمكن التوصل بها الى الغاية.

الإعراب :

والقرآن قسم وجوابه محذوف أي انه الحق أو لقد جاء الحق. وكم في محل نصب بأهلكنا. ولات حين مناص «لا» نافية تعمل عمل ليس والتاء زائدة مثلها في ربت وثمت ، واسم لا محذوف وحين مناص خبرها أي لات الحين حين مناص ، ولا تدخل لات إلا على زمان. والمصدر من أن جاءهم مجرور بمن محذوفة أي عجبوا من مجيئهم منذر. ان امشوا «ان» مفسرة لقول محذوف ، والمعنى وانطلق الملأ منهم بقول هو امشوا. ولما أداة جزم. وعذاب أي عذابي. وجند مبتدأ وخبره مهزوم. وهنالك ظرف مكان يشار به للبعيد والعامل به مهزوم.

المعنى :

(ص) تقدم الكلام عن مثله في أول سورة البقرة (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ). كذبت قريش بالقرآن الذي فيه خيرهم وعزهم ، فأقسم سبحانه بالقرآن نفسه انه الحق من عند الله ، وانه لا سبب لهذا التكذيب إلا تعاظم المكذبين واستنكافهم عن الحق وعداؤهم لمحمد (ص) .. وقسمه تعالى بالقرآن يومئ الى انه الدال ببلاغته على اعجازه ، وبتعاليمه على صدقه ، ثم حذر سبحانه قريشا وذكرهم بهلاك الأولين لما كذبوا الرسل ، وذلك حيث يقول : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ). استنكف الأولون عن الحق وخاصموا أهله تماما كما استنكفتم وخاصمتم يا عتاة قريش ، ولما جاءهم العذاب

٣٦٤

تراجعوا وخضعوا ، ولكن بعد فوات الأوان ، فخير لكم أن تؤمنوا الآن وقبل أن تضيع عليكم الفرصة فتستغيثوا وتندموا حيث لا يجدي صياح ولا ندم.

تقليد الموحد وتقليد المشرك :

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ). محمد (ص) من قريش ، ما في ذلك ريب ، ولكنه ليس من عتاتهم وطغاتهم ، فكيف يعده هؤلاء منهم؟ ولو انه استعبد الناس ، وكان له كنز أو جنة من نخيل أو بيت من زخرف لكان منهم في الصميم ، وان لم يكن قرشيا. أنظر ج ٥ ص ٨٣ فقرة «التفكير من خلال المال وحب الذات» وفقرة «منطق أرباب المال بنك وعقار» ص ٤٥٣.

(وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ). ولما ذا هو ساحر كذاب؟ وهذا هو الجواب (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ). ليس العجب العجاب عند هؤلاء واقعا وحقيقة أن ينكر محمد (ص) الشرك وتعدد الآلهة ، وان خيّل ذلك اليهم ، وشعروا به من أنفسهم .. كلا ، انما العجب العجاب هو خروج محمد (ص) على تقاليدهم الموروثة وأوضاعهم المألوفة أبا عن جد .. انهم في الواقع يدافعون عن تقاليد الآباء والأجداد كدين ومبدأ ، وليس عن الأصنام من حيث هي ، انهم يدافعون عن الأصنام لأنها من تركة الأولين وميراثهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) ـ ٢٣ الزخرف.

وينطبق هذا على ايمان الجهلاء من الموحدين تماما كما ينطبق على ايمان المشركين لأن مصدر الايمانين واحد ، وهو التقليد .. والفرق ان تقليد الموحد صحيح ومقبول لأن له أساسا من الواقع تماما كقولي : ان صاحب نظرية الجاذبية اسمه نيوتن ، وصاحب نظرية النسبية اسمه اينشتين ، أما تقليد المشرك فضلال ، وصاحبه مسؤول ومعاقب إلا إذا كان قاصرا كالبهائم لأن الشرك بالله لا أساس له من الواقع. وبكلمة ان الفكرة تكون صادقة إذا كانت من صلب الواقع سواء أكانت عن علم أم عن تقليد. انظر ج ١ ص ٢٥٩ فقرة «التقليد وأصول العقائد».

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما

٣٦٥

سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ). المراد بالملإ هنا عتاة قريش. واصبروا على آلهتكم أي اثبتوا على عبادتها. وهذا شيء يراد إشارة الى الثبات على عبادة الأصنام. والملة الآخرة هي عقيدة التثليث في المسيحية ، ووصفها المشركون بالآخرة لأنها آخر ديانة ظهرت في عهدهم. وفي تفسير الطبري وغيره ان مشيخة قريش قالوا لأبي طالب : ليكف ابن أخيك عن آلهتنا ، وندعه وإلهه الذي يعبد. ولما ذكر أبو طالب ذلك للرسول الأعظم (ص) قال : أريدهم على كلمة واحدة يقولونها ، فتدين لهم العرب والعجم. فقالوا : نعطيكها وعشرا فما هي؟ قال : «لا إله إلا الله». فانصرفوا ، وهم يقولون : اجعل الآلهة إلها واحدا الخ. وهذه الرواية تتفق مع ظاهر الآية ، ويساعد عليها واقع المشركين ومكانة شيخ الأبطح.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا)؟ أيختار الله محمدا لرسالته ، ولا جاه له ولا مال؟ (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي). ضمير «هم» يعود لبعض المشركين لأن منهم من أنكر نبوة محمد (ص) حسدا ، ومنهم من أنكرها حرصا على مصالحه (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ). فإذا ذاقوه زال عنهم الشك والريب : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) ـ ٥٤ يونس.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ). المراد بخزائن الرحمة هنا النبوة فقط ، أو هي وغيرها من نعم الله وإحسانه ، والمعنى لما ذا أنكر المشركون واستكثروا رحمة الله لمحمد في اختياره رسولا للعالمين؟ ألأنهم يملكون هذا الاختيار من دون الله (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما). ان مالك الكون هو الذي يملك النبوة ويهبها ويعز بها من يشاء ، والمشركون لا يملكون مع الله شيئا كي يمنحوا النبوة لرجل من القريتين عظيم .. أجل هناك شيء واحد يستطيعون به أن يملكوا السموات والأرض ، وهو (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ). المراد بالأسباب الطرق والوسائل ، والمعنى ان النبوة يتحكم بها من يملك الكون بما فيه ، فإذا أراد عتاة قريش أن يختاروا للنبوة واحدا منهم فعليهم قبل كل شيء أن يملكوا الأسباب والوسائل التي تصل بهم الى هذا الملك ان كانت متوافرة لديهم .. وفي هذا من التعجيز ما هو في غنى عن البيان (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ). ان

٣٦٦

الذين حاربوك وعارضوك يا محمد ليسوا بشيء ، فهم مغلوبون مهزومون أمام دعوتك على الرغم من كثرة جنودهم وتكتل أحزابهم.

اصبرعلى ما يقولون الآية ١٢ ـ ٢٠ :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

اللغة :

أصحاب الأيكة قوم شعيب ، والأيكة الشجر الملتف. والمراد بالفواق هنا الزمان اليسير ، قال أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط : الفواق بضم الفاء وفتحها الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع. والقط النصيب المفروض من قطّ الشيء إذا قطعه وأفرزه عن غيره ، وعليه يكون معنى عجّل لنا قطنا عجل لنا نصيبنا من العذاب. وذا الأيد ذا القوة. وأوّاب تواب. والاشراق الصباح. ومحشورة مجموعة. وشددنا قوينا.

٣٦٧

الإعراب :

أولئك مبتدأ والأحزاب عطف بيان ، وان نافية وكل مبتدأ ثان وكذب خبر ، والجملة خبر المبتدأ الأول والعائد محذوف أي منهم. وعقاب أي عقابي. وداود بدل من عبدنا. وذا الأيد صفة. والطير عطف على الجبال. ومحشورة حال من الطير.

المعنى :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ). كذبت هذه الأمم الرسل ، فأهلك الله بعضهم بالطوفان كقوم نوح ، والبعض الآخر بالغرق في البحر كفرعون. وذو الأوتاد كناية عن استقامة ملكه كما تستقيم الخيمة إذا شدت أطنابها بالأوتاد الثابتة في الأرض : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) ـ ٦ الحاقة. أما قوم لوط فجعل أعلى ديارهم أسفلها. انظر تفسير الآية ٨٢ من سورة هود ج ٤ ص ٢٥٥. وأخذ الله أصحاب الايكة ـ قوم شعيب ـ بعذاب أليم. انظر تفسير الآية ٧٨ من سورة الحجر ج ٤ ص ٤٨٧ والآية ١٧٦ من الشعراء ج ٥ ص ٥١٥.

(أُولئِكَ الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ). أخذ سبحانه أحزاب الشيطان بذنوبهم وقطع دابرهم جزاء بما يكسبون من الشرك وتكذيب أنبياء الله ورسله ، ألا يخشى الذين كذبوا محمدا (ص) أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك الأحزاب؟ (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ). هؤلاء إشارة الى الذين كذبوا محمدا (ص) والمعنى ما ذا ينتظرون من الله بعد ان كذبوك يا محمد؟ وهو القادر بكلمة واحدة أن يبعث عليهم عذاب النكال والاستئصال في أمد لا يستطيعون معه توصية ولا الى أهلهم يرجعون.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) هددهم سبحانه على لسان نبيه الكريم بعذاب جهنم ، فقالوا ساخرين : إذا كان هذا واقعا فلما ذا التأخير الى يوم القيامة؟ فليكن في الدنيا لا في الآخرة (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) يا محمد :

٣٦٨

انك ساحر كذاب وما الى ذلك من الافتراءات ، فان عاقبة أمرهم الخسران والاستسلام. وقد صبر النبي (ص) على أذى المشركين ١٣ سنة في مكة ، وعلى مكر المنافقين بضع سنوات في المدينة ، صبر هذا الأمد الطويل ، وهو واثق بالمستقبل ، وان أدبر الحاضر .. ولم تمض الأيام حتى نصر الله محمدا ، وأظهر الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) هذا الاسم عبري ، ومعناه محبوب ، وداود هو ثاني ملوك بني إسرائيل ، والأول اسمه طالوت : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) ـ ٢٤٧ البقرة ج ١ ص ٣٧٧. والتوراة تعبر عن طالوت هذا بشاول ، فقد جاء في «قاموس الكتاب المقدس» : ان شاول أول ملوك إسرائيل ، وان داود حارب في جيشه.

وقال الرازي : ان الله وصف داود بأوصاف كثيرة .. ثم شرحها في أربع صفحات بالقطع الكبير ، نلخصها بالأسطر التالية :

١ ـ قال الله لمحمد (ص) : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ). وهذا إكرام لداود.

٢ ـ (ذا الأيد) أي ذا القوة على طاعة الله.

٣ ـ (انه أوّاب) أي يرجع في أموره كلها الى الله.

٤ ـ (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ). ومثله قوله تعالى في الآية ١٠ من سورة سبأ : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) والآية ٧٩ من سورة الأنبياء : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) انظر ج ٥ ص ٢٩٢.

٥ ـ (وشددنا ملكه) أي قويناه.

٦ ـ (وآتيناه الحكمة) وهي وضع الأشياء في محلها ، وبتعبير الرازي «هي العلم والعمل به ، وانما سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها».

٧ ـ (وفصل الخطاب) قال الرازي : فصل الخطاب هو القدرة على ضبط

٣٦٩

المعنى والتعبير عنه إلى أقصى الغايات. وهذا أشمل مما نفهمه نحن من ان فصل الخطاب هو العلم بالقضاء والفصل في الخصومات على أساس العدل.

بهذه الأوصاف الكاملة الفاضلة نعت القرآن الكريم داود ، أما التوراة فقد وصفته بأقبح النعوت كالظلم والفسق والغدر واغتصاب النساء من الأزواج حتى قال المسهمون في وضع قاموس الكتاب المقدس صفحة ٣٦٥ طبعة ١٥ آذار سنة ١٩٦٧ ما نصه بالحرف الواحد : «ارتكب داود في بعض الأحيان خطايا يندى لها الجبين خجلا».

٩٩ نعجة ونعجة واحدة الآية ٢١ ـ ٢٥ :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

اللغة :

الخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق ، ويستعمل في الواحد والاثنين

٣٧٠

والجماعة والمذكر والمؤنث على السواء. والمحراب عند المسلمين المصلى ومكانه في جهة القبلة. والشطط تجاوز الحد. وسواء الصراط وسط الطريق والمراد به هنا طريق الحق والنعجة أنثى الضأن. وأكفلنيها اعطنيها واجعلني كافلها. وعزني بفتح العين غلبني ، وفي الخطاب أي في مخاطبة الكلام. والخلطاء جمع خليط وهو الشريك الذي يمتزج ماله ويختلط بمال شريكه. وفتنّاه ابتليناه. والزلفى القرب من الله. والمآب المرجع.

الإعراب :

إذ دخلوا بدل من إذ تسوروا. خصمان خبر لمبتدأ محذوف أي نحن خصمان. لقد ظلمك اللام في جواب قسم محذوف. الا الذين استثناء من بعضهم. وقليل خبر مقدم و «ما» زائدة وهم مبتدأ. وراكعا حال. وأنما فتناه الأصل أننا فتناه و «ما» كافة. وذلك مفعول غفرنا.

التفسير والاسرائيليات :

نسب جماعة من المفسرين الى داود ـ وهم يشرحون هذه الآيات ـ أشياء لا تليق بأهل المروءة والحياء فضلا عن الأنبياء المعصومين ، وذكروا قصة طويلة جاءت في سفر صموئيل الثاني الاصحاح ١١ و ١٢ من العهد القديم المحرف بحكم القرآن ، وشهادة التاريخ ، ونصوص العهد نفسه التي ترفضها الفطرة ، ولا يقبلها عقل عاقل .. وتتلخص تلك القصة أو الفرية بأن داود عشق زوجة رجل من خدمه وجنوده ، يدعى «أوريا» ، فاحتال داود لقتله بالسيف ، واستأثر بزوجته ، وقالت التوراة : ان الله غضب لذلك غضبا شديدا ، وهدد داود على هذا الفعل الشنيع والجريمة النكراء ، وقال له فيما قال : «قتلت أوريا بالسيف ، وأخذت امرأته .. والآن لا يفارق السيف بيتك الى الأبد لأنك احتقرتني .. ها إذا أقيم عليك الشر من بيتك ، وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهن لقريب من أقربائك ، فيضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس لأنك أنت فعلت بالسر ، وأنا أفعل هذا

٣٧١

الأمر ـ أي الزنا ـ قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس». وفي الاصحاح الأول من سفر الملوك الأول : ان زوجة «أوريا» اسمها «بثشيع» ، وانها هي أم سليمان ابن داود.

داود يزني سرا .. فيعاقبه الله ويؤدبه على فعلته النكراء ، لا باقامة الحد ، ولا باللوم والتأنيب .. بل بهتك نسائه وحرائره وتجريدهن والفجور بهن علنا وفي وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد.

هذه هي الاسفار «المقدسة» تصف خالق الكون بأوصاف أوحش الوحوش ، وأخبث اللئام والطغام .. تعالى الله علوا كبيرا عما يقول الظالمون. هذا مثال واحد من عشرات الأمثلة .. اقرأ مصارعة الله ليعقوب وعجز كل منهما أن يغلب صاحبه حتى اضطر يعقوب أن يضرب «حقّ فخذ الله». واقرأ أيضا الاصحاح السابع من سفر التثنية من التوراة الذي جاء فيه : ان الرب التصق باليهود وأباح لهم أن يأكلوا جميع الشعوب من غير شفقة.

وعلى هذه الاسرائيليات اعتمد جماعة من أهل التأويل وفسروا بها آي الذكر البشير النذير ، ومنها الآيات التي نحن بصددها .. فعلى القارئ أن يواجه أقوالهم وتفاسيرهم باليقظة والحذر.

المعنى :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ)؟ يقص سبحانه على نبيه الكريم حادثة وقعت لداود ، وهي انه كان في ذات يوم منقطعا الى ربه في مصلاه فإذا باثنين (١) أمامه وجها لوجه ، فراعته هذه المفاجأة في غير أوانها .. وفوق ذلك دخولهما من أعلى الحائط ، لا من المدخل المعتاد.

وتجدر الاشارة إلى أن دخولهما كذلك على داود لا دلالة فيه من قريب أو بعيد على انهما من الملائكة كما استنتج بعض المفسرين .. فإن الإنسان قد يدخل البيوت

__________________

(١). ذهب البعض الى ان اقل الجمع اثنان مستدلا بقوله تعالى : (تَسَوَّرُوا). و (دَخَلُوا). وقالوا. ومنهم مع انهما اثنان بدليل (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ).

٣٧٢

من غير أبوابها لسبب من الأسباب ، وليس في الآيات أي ذكر للملائكة ، والمفهوم من كلمة الخصمين اثنان من الناس ، فتأويلهما بملكين لا مبرر له.

(قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ). حين رأيا ما حل به من الخوف أسرعا الى طمأنته وقالا : جئنا للتقاضي عندك ، فاحكم بالعدل وأرشدنا الى الحق ولا تنحرف عنه ، ثم قال أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أكفلنيها أعطنيها ، وعزّني في الخطاب غلبني في القول ، والنعجة أنثى الضأن ، ولا داعي للتأويل ، فظاهر الآية ان حادثة من هذا النوع وقعت في عهد داود ، ولها أمثال في كل زمان ومكان بخاصة في زماننا ، فيجب الأخذ بالظاهر والعمل به.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ). قال هذا داود قبل أن يطلب من المدعي البينة ، ويستوجب المدعى عليه (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ). قال المفسرون : المراد بالخلطاء الشركاء ، ولكن لا شراكة بين المتخاصمين ، والسياق يومئ الى أن المراد بهم الأقوياء ولو من باب المجاز (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ). القوة للحق إذا كانت في يد الأخيار أما إذا ملكها الأشرار فهي على الحق من غير شك ، وأهل الخير قلة في عددهم ، ولكنهم أقوياء في أخلاقهم وصفاتهم.

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ). بعد ان حكم داود لأحد الخصمين تنبه الى أنه حكم له قبل أن يدلي الخصم الآخر بحجته ، فندم وطلب من الله العفو والمغفرة (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ). غفر الله لداود لأنه من السابقين الأولين الى طاعة الله ومرضاته.

وفي كتاب «عيون الأخبار» للشيخ الصدوق : ان سائلا سأل الإمام الرضا (ع) عن قصة داود مع أوريا وزوجته؟ فنفى الإمام ما ينسبه الناس الى داود. فقال السائل : ما كانت خطيئته يا ابن رسول الله؟ فأجاب بجواب طويل جاء فيه : عجّل داود على المدعى عليه ، فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ولم يسأل المدعي البينة ، ولم يقبل على المدعى عليه ، فيقول له : ما تقول ،

٣٧٣

فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، لا ما ذهب اليه الناس ، ألا تسمع الله عز وجل يقول : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى).

وتسأل : كيف حكم داود للمدعي من غير بينة مع ان الأنبياء معصومون عن الخطأ والخطيئة؟.

الجواب : ليس معنى العصمة ان للمعصوم طبيعة غير طبيعة الناس بخصائصها وغرائزها .. كلا ، ان هو إلا بشر ، وانما معنى العصمة ان الله سبحانه يلطف بالمعصوم ، ولا يتخلى عنه إطلاقا ، فإذا حاول ـ مثلا ـ أن يخدعه انسان بحسن مظهره أرشده الله إلى حقيقته قبل أن يقع في الشباك ، وهذا ما حدث بالفعل لداود .. خدعه صاحب النعجة الواحدة بأسلوبه الذي يثير الإشفاق والرحمة فحكم له ، ولكن الله ألهمه الحقيقة قبل تنفيذ الحكم فاستدرك وأناب.

وقريب من هذا ما حدث لرسول الله (ص) مع سارق ادعى براءته ، وكاد الرسول الأعظم ينخدع لولا أن ثبته الله بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ـ أي لا تخاصم عن الخائنين ـ وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) ـ ١٠٦ النساء ج ٢ ص ٤٢٩. وقال تعالى مخاطبا نبيه الكريم محمدا (ص) : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) ـ ٧٤ الإسراء. وفي الحديث الشريف : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ ، وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له شيئا من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار. وهذا الحديث لا ينطبق تماما على ما نحن فيه ، ولكن يمكن الاستئناس به. أما توبة الأنبياء واستغفارهم من الذنوب فهي ضرب من العبادة والتواضع لله سبحانه. وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة.

٣٧٤

جعلناك خليفة في الأرض الآية ٢٦ ـ ٢٩ :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

الإعراب :

فيضلك منصوب بأن مضمرة على جواب النهي ، والمصدر المنسبك مبتدأ وخبره محذوف أي فإضلالك كائن. وباطلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي خلقا باطلا وكتاب أي هذا كتاب. وليدبروا أصلها ليتدبروا مثل ليتذكر ثم أدغمت التاء بالدال.

المعنى :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ). كل انسان وجد أو يوجد فهو خليفة الله في أرضه بمعنى انه مسؤول أمام الله عن العمل في هذه الحياة لخير الدنيا والآخرة. هذا معنى خلافة الإنسان في الأرض أيا كان ، والفرق بين الأفراد إنما هو في نوع العمل المسئول عنه ، حيث يطلب من كل حسب طاقته ومهنته ،

٣٧٥

وبما ان وظيفة الأنبياء هي التبشير والتحذير كيلا يكون للناس على الله الحجة ـ وجب عليهم الحكم بين الناس بالحق ، وعلى غيرهم السمع والطاعة.

(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) لأن منصب النبوة يستدعي ذلك بطبعه ، وبكلام آخر ان الله سبحانه يختار لوحيه من يؤمن بالحق ويعمل به ، ويستحيل في حقه الخطأ والخطيئة (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ). أشقى الناس من خالف مولاه واتبع هواه .. وفي الحديث : ان أخوف ما أخافه عليكم الهوى وطول الأمل ، أما الهوى فإنه يصد عن الحق ، واما طول الأمل فينسي الآخرة. ومن نسي هذا اليوم فهو من المعذبين بناره وجحيمه.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً). ولو كان في خلق الكون شائبة للعبث والباطل لما ثبت واستمر على نظامه المحكم ملايين السنين. وتقدم مثله في الآية ١٩١ من سورة ال عمران ج ٢ ص ٢٣١ (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). ويومئ هذا الى أنه لا فرق بين من أنكر وجود الله من الأساس ، ومن اعترف به وأنكر الحكمة في خلقه .. لأن دلائلها ظاهرة ، وأعلامها واضحة. قال الإمام علي (ع) : قدر ما خلق فأحكم تقديره ، ودبره فألطف تدبيره ، ووجهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته ، ولم يقصر دون الانتهاء الى غايته.

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). الفرق بين الصالح والمفسد وبين التقي والفاجر تماما كالفرق بين الطيب والخبيث وبين الأعمى والبصير. وتقدم مثله في الآية ١٠٠ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٣١ والآية ٥٠ من سورة الأنعام ص ١٩٣ من المجلد المذكور. وفي «أحكام القرآن» للقاضي أبي بكر المعروف بابن العربي : ان هذه الآية نزلت في بني هاشم ، وان الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمتقين هم علي بن أبي طالب وأخوه جعفر وعبيدة بن الحرث والطفيل بن الحارث وزيد بن حارثة وأم أيمن وغيرهم ، وان المفسدين والفجار هم من بني عبد شمس. (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ). الخطاب لرسول الله (ص) ،

٣٧٦

والكتاب القرآن ، وهو بركة على من آمن به ، وشفاء له من الكفر ومساوئ الأخلاق ، ونجاة من الشرك والهلاك. وفي نهج البلاغة : استنصحوه على أنفسكم ، واتهموا عليه آراءكم ، واستغشوا فيه أهواءكم.

سليمان الآية ٣٠ ـ ٤٠ :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

اللغة :

الصافنات جمع الصافنة من الخيل ، وهي الفرس تقوم على ثلاث قوائم ، وترفع إحدى يديها. والجياد جمع جواد وهو من الخيل السريع ومن الناس الكريم. وتوارت غابت أو استترت. وطفق شرع. والسوق جمع ساق. ورخاء سهلة طيعة. وأصاب قصد وأراد. والأصفاد السلاسل والأغلال. فامنن أعط. وأمسك امنع.

٣٧٧

الإعراب :

جملة نعم العبد خبر لمبتدأ محذوف أي هو. وإذ في محل نصب بفعل محذوف أي اذكر إذ عرض. وقيل : أحببت هنا بمعنى آثرت وعليه يكون حب الخير مفعولا به لأحببت. وطفق من أفعال المقاربة واسمها ضمير مستتر وخبرها محذوف دل عليه «مسحا» أي وطفق يمسح مسحا. ورخاء حال من الضمير المستتر بتجري. والشياطين عطف على الريح. وكل بناء وغواص وآخرين بدل مفصل من مجمل ، والمبدل منه الشياطين. ومقرنين صفة لآخرين. وبغير حساب حال من الضمير في امنن أي غير محاسب.

المعنى :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). جاء في قاموس الكتاب المقدس عند الكلام عن سليمان ما نصه بالحرف : سليمان اسم عبري معناه رجل سلام ، وهو ابن الملك داود الذي خلفه على العرش .. مع انه كان له ستة اخوة من أمهات مختلفات .. وسليمان هو ابن بثشيع التي كانت زوجة لأوريا ، وقد أحب داود سليمان لأنه كان ابن زوجته المفضلة .. وكان داود قد وعد بثشيع ان يملك ابنها على الشعب بعده.

وقد لخص هذا المساهمون في وضع القاموس ، لخصوه من التوراة سفر الملوك الأول وسفر صموئيل الثاني. ومعناه ان التوراة تقول عن داود : انه لا يأتمر بأمر الله ، ولا يعمل بوحي منه ، بل بوحي امرأة اغتصبها من زوجها الذي قتله بحد السيف .. وانها هي الآمرة الناهية عليه وعلى شعبه .. وإذا كانت المرأة في عصرنا تطالب بالمساواة مع الرجل فإن التوراة تجعل الملوك والأنبياء طوع أهواء المرأة وشهواتها .. ولا بدع فلقد كان الجنس اللطيف وما زال عند اليهود أفضل الوسائل للربح وبلوغ المآرب.

(إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال اني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها عليّ فطفق مسحا بالسوق والأعناق).

٣٧٨

للمفسرين هنا أقوال ، أرجحها ان سليمان قد بدا له في مساء يوم من الأيام أن يستعرض ما أعده للحرب والعزو من رباط الخيل ، وقد كانت آنذاك السلاح الذي يرهب الأعداء ، وبكلمة أراد أن يجري استعراضا عسكريا ، فأمر بإحضار الخيل ، وان يجريها الفرسان أمام عينيه ، وقال : أفعل هذا عن أمر ربي ، لا عن هوى في نفسي .. حتى إذا أجريت أعجب بها واطمأن اليها ، ولما غابت عن بصره في ركضها أمر بردها ، وشرع يمسح سوقها وأعناقها مسرورا بها وراضيا عنها .. وعلى هذا يكون المراد ب «حب الخير» استعراض الخيل وجريها أمام عينيه ، أما قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) فمعناه اني فعلت هذا عن أمر الله لا عن أمري.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً). ابتلى سبحانه سليمان بمرض عضال ، وألقى به على سريره كجسد بلا روح ، تماما كما ابتلى غيره من الأنبياء بأنواع البلاء ، وتومئ الآية الى ان الابتلاء كان جزاء على شيء صدر من سليمان ، ولكن الله سبحانه لم يبين هذا الشيء ، وما ذكره المفسرون في بيانه وتحديده لا يقوم على أساس ، ومهما يكن فقد تاب سليمان مما حدث منه كما تاب غيره من الأنبياء ، وقبل الله من سليمان كما قبل من الأنبياء (ثُمَّ أَنابَ قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي). وتجدر الاشارة الى أن الأنبياء يتوبون لتركهم الأولى والأفضل ، لا لاقترافهم المعصية ، وبيّنا ذلك في ج ١ ص ٨٨.

(وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ). طلب ملكا لا نظير له من بعده في الكيف لا في الكم ، ومن نوع الخوارق والمعجزات كتسخير الرياح والطير والجن ، فاستجاب الله دعوته بشهادة قوله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ). رخاء أي طيعة ، وحيث أصاب أي إلى أية جهة يشاء (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ) لما يريده سليمان من محاريب وتماثيل وغيرها (وغواص) في البحر على اللآلئ والجواهر (وآخرين) من الشياطين أيضا (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) لأنهم خرجوا عن أمره وطاعته. وتقدم مثله في الآية ١٢ و ١٣ من سورة سبأ.

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ). وعطاء الله لا يثلمه الإنفاق ولا ينقصه البذل ، ولذا أمر الله سليمان ان ينفق بالجملة ومن غير وزن وكيل ان شاء.

٣٧٩

وفي نهج البلاغة : من أيقن بالخلف جاد بالعطية. ومع هذا فإن سليمان ضعيف كأي انسان «تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة».

أيوب الآية ٤١ ـ ٤٨ :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨))

اللغة :

النصب التعب والمشقة. والمغتسل موضع الغسل والمراد به هنا الماء. والضغث القبضة من العيدان ونحوها. والحنث في اليمين ترك المحلوف عليه. والأيدي القوة. وخالصة أي صفة خالصة من كل شائبة. والمصطفين المختارين.

الإعراب :

أيوب بدل من عبدنا. والمصدر من أني مسّني مجرور بباء محذوفة. ورحمة

٣٨٠