التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

المعنى :

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ). ما زال الكلام عن أحوال الجنة. قال سبحانه في الآيات السابقة : ان أهل الجنة يتنعمون بأنواع الملذات. وقال في هذه الآية : انهم يتكالمون مسرورين عما كان يجري معهم في الحياة الدنيا ، من ذلك (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ). يتحدث هذا المؤمن الى إخوانه وجيرانه عن جليس له كان يسخر من الذين آمنوا بيوم الدين ، ويقول فيما يقول : أبعد الفناء نبعث أحياء؟ حديث خرافة يا أم عمرو .. وهذا ما يلوكه كل ملحد .. والسر ان الايمان بالبعث فرع عن الايمان بالوحي من الله الى من اصطفى من عباده ، والملحد لا يؤمن بهذا الوحي فكيف يؤمن بالبعث بعد الموت؟. وفي جملة واحدة ان البعث غيب ، والغيب أسطورة عند الملحدين.

(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ). الخطاب من المؤمن لزملائه في الجنة يدعوهم أن يشرفوا على جهنم ليروا عاقبة ذاك الساخر المكابر (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ). قال لهم هذا ، وأشرف هو على جهنم فرأى قرينه في قلبها (قال ـ له موبخا ـ تالله ان كدت لتردين) أي تهلكني وتوقعني في الشك بوسوستك وشكوكك (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك في سواء الجحيم.

ثم يلتفت المؤمن الى إخوانه ويقول لهم : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يتحدث فرحا بما أصاب ، ويقول : تجاوزنا الامتحان بنجاح ، ولله الحمد .. فلا موت ولا أتعاب بعد اليوم .. لا شيء إلا نعمة الله ورضوانه ، وفي هذا المعنى قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ـ ٥٧ الدخان.

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) ويتنافس المتنافسون .. أضاف سبحانه الأعمال والأفعال الى العباد ، وأوجب عليهم عمل ما فيه خيرهم وصلاحهم ، ونهاهم عما يعود عليهم بالشر والفساد ، وترك لهم الخيار فعلا وتركا فيما عدا ذلك ، ووعد

٣٤١

من أطاع بالجنة ، ومن عصى بعذاب الحريق ، وليس من شك ان العاقل يرحم نفسه ويختار لها الأصلح ، وفي نهج البلاغة : ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة ، فلا تبيعوها إلا بها.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ). ذلك إشارة إلى النعيم ، وهو أجر من أصلح وأحسن عملا. ونزلا ما يعد للنازل. والفتنة هنا معناها العذاب كما هي في الآية ١٣ من سورة الذاريات : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يعذبون ، أما شجرة الزقوم فقد بينها سبحانه بقوله : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ). الزقوم من قول العرب : تزقم الطعام إذا تناوله على كره. وفي تفسير الطبري : ان أبا جهل لما نزلت هذه الآية قال ساخرا : انا آتيكم بالزقوم ، ثم أتى بزبد وتمر ، وقال : دونكم تزقموا ، هذا هو الزقوم الذي يخوفكم به محمد. ورؤوس الشياطين كناية عن قبح الشجرة ومنظرها المخيف .. ومن قال : ان شجرة الزقوم ترمز الى سوء العذاب فلا اعتراض لنا عليه.

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ). الشوب الخلط ، والحميم الحار ، والمعنى انهم يأكلون الزقوم ، ويشربون من ماء الصديد ، وهو القيح المخلوط بالدم : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) ـ ١٦ ابراهيم ج ٤ ص ٤٣٣ (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ). والمراد بمرجعهم سكنهم الأخير ومقرهم الدائم ، والمعنى طعامهم الزقوم ، وشرابهم الحميم ، وسكنهم الجحيم ، أما لباسهم فقد أشارت اليه الآية ٥٠ من سورة ابراهيم : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ).

ضل قبلهم أكثر الأولين الآية ٦٩ ـ ٨٢ :

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ

٣٤٢

فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

اللغة :

يهرعون يسرعون. وتركنا عليه أبقينا عليه ذكرا جميلا.

الإعراب :

فلنعم المجيبون اللام في جواب قسم محذوف وجملة نعم خبر لمبتدأ محذوف أي نحن. وأهله مفعول معه. وهم الباقين «هم» ضمير فصل لا محل له من الإعراب.

المعنى :

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ). الضمير الغائب يعود إلى مشركي العرب الذين ساروا على طريقة الآباء من غير بحث وتدبر ، وتومئ الآية إلى ان الضال ومن ضل به سواء في المعصية واستحقاق العقاب ، أما من قلد أهل الهداية والصلاح فهو في أمن وأمان من عذاب الله ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) ـ ١٧٠ البقرة. ومعنى هذا ان آباءهم لو كانوا مهتدين لجاز اتباعهم. أنظر ج ١ ص ٢٥٩ فقرة «التقليد وأصول العقائد».

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ). ان كذّبك يا محمد مشركو العرب ، وضلوا عن الحق فقد ضل قبلهم أكثر الأمم ، مع ان

٣٤٣

الله بعث اليهم رسلا مبشرين ومنذرين ، واتخذ عليهم الحجة وبيّن لهم محابّه ومكارهه من الأعمال ، فاتبعوا هذه ، واجتنبوا تلك ، فحقت عليهم كلمة العذاب (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) من الخزي والدمار (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فقد أنجاهم سبحانه من عذابه ، وكافأهم بأجره وثوابه.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ). يشير سبحانه الى ما جاء في الآية ٢٦ من سورة نوح : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). استنصر نوح بالله على طغاة قومه ، فأغرقهم الله ولم يبق منهم ديارا استجابة لدعاء نبيه نوح ، ونجاه ومن آمن معه من أذى الكفرة الفجرة ومن كل كرب وسوء.

سام ويافث وحام :

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) بعد الطوفان دون الناس أجمعين. وفي تفسير الطبري : «ذرية نوح هم الباقون في الأرض بعد مهلك قومه ، والناس كلهم من بعده الى اليوم إنما هم من ذرية نوح ، فالعجم والعرب أولاد سام بن نوح ، والترك والصقالبة أولاد يايف ، والسودان أولاد حام ، وبذلك جاءت الآثار وقالت العلماء». وقد توفي الطبري سنة ٣١٠ ه‍ أي قبل أكثر من ألف سنة ، ولسبقه وتقدمه يلقبونه بشيخ المفسرين.

وفي «قاموس الكتاب المقدس» : «سام اسم عبراني ومعناه «اسم» وهو أكبر أولاد نوح ، ومن نسله العرب والآراميون والآشوريون واليهود ، ولذلك تدعى اللغات التي يتكلمون بها السامية نسبة اليه ، مثل اللغة العربية واللغة العبرانية .. ويافث اسم ساميّ ربما كان معناه جمال .. ومن ذريته الذين سكنوا الجبال الغربية من النجاد جنوبي بحر قزوين والبحر الأسود حتى شواطئ وجزائر البحر المتوسط من أصل هندي أوروبي ـ ويدخل في هؤلاء الترك والصقالبة الذين أشار اليهم الطبري ـ وحام اسم عبري ، ومعناه حام أي ساخن ، وهو أصغر أبناء نوح».

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ). أبقينا له الذكر الجميل مدى الحياة (سَلامٌ

٣٤٤

عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ). هو في أمن وأمان من الله أن يذكره ذاكر بسوء ، وقد كان الأنبياء يسألون الله سبحانه أن يجعل لهم ذكرا حسنا عند الناس من بعدهم : قال ابراهيم (ع) : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) ـ ٨٤ الشعراء. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). أي يحسن الله اليهم لأنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) لأنه أحسن في أعماله وجاهد في الله حق جهاده ، وهذه هي سمات المؤمن ودلائله (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم جزاء بما كانوا يعملون.

وان من شيعته لابراهيم الآية ٨٣ ـ ٩٩ :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩))

اللغة :

شيعة الرجل الجماعة السائرون على دينه وطريقه ، ثم صارت هذه الكلمة بمفردها

٣٤٥

اسما لشيعة الإمام (ع) ومن قام مقامه من أبنائه. أإفكا أي زورا وباطلا. وراغ مال وحاد من جهة الى جهة. ويزفون يسرعون.

الإعراب :

إذ جاء «إذ» في محل نصب بفعل محذوف أي اذكر حين جاء. وإذ قال «إذ» هذه بدل من إذ الأولى. أإفكا مفعول به لتريدون. وآلهة بدل من الافك. فما ظنكم مبتدأ وخبر. ومدبرين حال. وما لكم مبتدأ وخبر. وضربا منصوب على المصدرية أي يضرب ضربا.

المعنى :

ذكر سبحانه مضمون هذه الآيات فيما تقدم ، ولذا نفسرها تفسيرا سريعا مع الاشارة الى رقم الآية والسورة السابقة.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ). ضمير شيعته يعود الى نوح ، والمعنى ان ابراهيم (ع) سار على نهج نوح عقيدة وعملا ، وفي بعض التفاسير القديمة : انه كان بين نوح وابراهيم ٢٦٤٠ سنة ، وصاحب هذا القول لم يسنده إلى مصدر موثوق.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). وصاحب هذا القلب هو الذي أخلص لله وحده في جميع أقواله وأفعاله. وفي الحديث : لا يستقيم ايمان عبد حتى يستقيم قلبه. وفي نهج البلاغة : طوبى لقلب سليم أطاع من يهديه ، وتجنب من يرديه (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ). أنكر ابراهيم عبادة الأصنام على قومه ، وجابههم بكلمة الحق قائلا : أتطلبون الزور والباطل بالرجوع إلى غير الله ، والتقرب اليه بعبادة سواه؟ وتقدم مثله في الآية ٧٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢١٢.

(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)؟ أتظنون به ، وهو خالق الكون ، انه حجر أو كوكب؟ ألا يردعكم عن هذا الجهل يقظة من عقل ، أو لمحة من فهم. وفي

٣٤٦

ج ٤ ص ٣٩١ فقرة : عقول الناس لا تغنيهم عن دين الله بيّنا لما ذا عبد المشركون أحجارا تبول عليها الكلاب والثعالب (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) يوهم قومه أنه يبحث عن خالق الكون لأنهم كانوا يعبدون آلهة كثيرة وبنوع خاص «نانار» إله القمر وزوجته «ننجال» (قاموس الكتاب المقدس). وفي معنى هذه الآية ما جاء في الآية ٧٦ من سورة الانعام.

(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ). للمفسرين في معنى سقيم أقوال ، أرجحها ان المراد به هنا الشاكّ ، وعليه يكون المعنى ان ابراهيم قال لقومه : انا الآن في حيرة أبحث وأدقق لأهتدي الى معرفة الخالق ، وقد نظرت في الأصنام فأيقنت انها ليست بآلهة ، ثم نظرت في النجوم فلم أهتد الى شيء بل بقيت على شكي وحيرتي. والسياق يعين إرادة هذا المعنى أو يرجحه ـ على الأقل ـ لأنه ربط بين قوله : اني سقيم وبين نظرته في النجوم .. وليس في قوله : اني شاك أيّ كذب .. كلا ، لأنه من باب المماشاة مع الخصم ليأخذه بالحجة ، ويقطع عليه كل معذرة.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ). تركوه وشأنه وذهبوا الى شأنهم (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ). أسرع الى الأصنام مغتنما فرصة غيابهم عنها ، وكانوا قد وضعوا بين يديها طعاما لتباركه (فقال ـ للأصنام ـ ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون)؟ ومعلوم انه قال هذا ازدراء بها ، واحتجاجا على من يعبدها ويتبرك بها (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ). مال على الأصنام يحطمها بيمينه حتى جعلها قطعا قطعا الا كبيرا لهم لعلهم اليه يرجعون (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ). أسرع القوم الى ابراهيم وقالوا له : أأنت فعلت هذا يا ابراهيم (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ)؟ ويلكم لا تفتروا على الله كذبا .. ان الإله خالق غير مخلوق ، ورازق غير مرزوق ، وقد صنعتم هذه الأصنام بأيديكم وتقدمون لها الأطعمة وتحرسونها من الاعتداء ، فكيف تكون آلهة؟ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) هو خالق كل شيء واليه المصير.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ). عجزوا عن مقابلة الحجة بالحجة فلجئوا الى القوة كما هو شأن الطغاة ، يضرمون النار ، ويلقون فيها دعاة الحق والخير كما كانت الحال في القديم ، ولما تقدم العلم المدمّر ألقوا النار على الشعوب المستضعفة بنسائها وأطفالها (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) حيث جعل

٣٤٧

سبحانه النار على ابراهيم بردا وسلاما (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ). بعد أن أنجاه الله من كيد قومه هاجر من بلده اور الكلدانيين ـ بابل ـ الى بلاد الشام. وفي قاموس الكتاب المقدس : «اكتشفت آثار ونقوش ترجع الى حوالى ألفي سنة قبل الميلاد ، وقد وجد عليها اسم ابراهيم بهذه الصيغ : ابرامو. إبرام. إبراما ، وأظهرت الكشوف التاريخية الحديثة الحالة التي كانت عليها مدينة اور التي هاجر منها ابراهيم كما كانت حينذاك». وتقدم مضمون هذه الآيات بنحو من التفصيل في سورة الأنبياء الآية ٥١ ـ ٧٠ ج ٥ ص ٢٨٣ ـ ٢٨٨.

ارى في المنام اني اذبحك الآية ١٠٠ ـ ١١٣ :

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

٣٤٨

اللغة :

أسلما استسلما لأمر الله. وتله صرعه وألقى به على الأرض. والجبين عن يمين الجبهة وشمالها ، والجبهة مكان السجود أي ان ابراهيم ألقى ولده على شقه. والذبح بكسر الذال المهيأ للذبح.

الإعراب :

وناديناه الواو زائدة عند الكوفيين وناديناه جواب لما ، وعند غيرهم جواب لما محذوف أي فازا وظفرا. وان يا ابراهيم «ان» مفسرة. ونبيا حال من اسحق.

المعنى :

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ). بلغ ابراهيم (ع) من الكبر عتيا ، ولم يرزق ولدا ، فسأل ربه أن يهبه ذرية مؤمنة وخلفا صالحا (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ). وهو إسماعيل ، ما في ذلك ريب ، بشهادة القرآن الكريم ، ويأتي البيان مفصلا بعد تفسير الآيات التي نحن بصددها.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى).

الضمير المستتر في بلغ يعود الى الغلام المذكور في الآية السابقة ، ونعني به إسماعيل ، وضمير معه يعود الى ابراهيم. وقد رأى في منامه أنه يذبح أو يقدم على ذبح ولده ، ففهم من هذه الرؤيا ان الله قد أمره بذبحه .. وفهم الأنبياء يقين ، ومن أجل هذا عزم من غير تردد على أن يحقق رؤياه بالفعل ، وأخبر ولده بعزمه وطلب منه أن يبدي رأيه في ذلك بعد النظر والتأمل.

(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ). أجابه على الفور لا رأي لي ولا أمر مع أمر الله وأمرك .. يا أبت اذبحني فلا قيمة للحياة في جنب مرضاة الله ومرضاتك .. افصل يا أبت رأسي عن جسدي وأنت عندي البر الرحيم ما دمت تبغي وجه الله وتستجيب لدعواه .. ثم أخذ إسماعيل يخفف عن أبيه ويهون عليه أمر الذبح ويقول : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). أتلقى الذبح رابط الجأش قوي اليقين.

٣٤٩

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). لما مدّ إسماعيل عنقه للذبح وهوى عليه ابراهيم بسكينة مفوضا كل منهما أمره لمن له الأمر ـ جاء النداء من الآمر الأعلى : هذا تأويل رؤياك .. انه العزم والاقدام منك على الذبح إخلاصا لله ، والانقياد من إسماعيل لأمر الله طيب النفس ، أما الذبح بالذات فما هو بمقصود.

وتسأل : إذا كان الذبح غير مقصود فما هو الغرض من الأمر به؟

الجواب : يرى البعض ان الغرض من ذلك ان يظهر الله سبحانه للملإ والأجيال عظمة كل من ابراهيم وإسماعيل في تضحيته وإخلاصه لله ، فيكون موضع التقديس والتقدير الى يوم يبعثون. وقال آخر : الغرض ان تبدل سارة غيرتها من هاجر ام إسماعيل ، وتكف قسوتها عن ابراهيم .. ونضيف نحن الى هذين القولين ان الله سبحانه أراد أيضا أن يضرب ذلك مثلا للمؤمن الحق وانه الذي يطيع الله في كل شيء حتى في ذبح ولده وفلذة كبده ، ويومئ الى هذا قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي ان هذا العزم على التضحية بالنفس والأهل امتثالا لأمر الله هو وحده المحكّ للمؤمن حقا وواقعا ، والحد الفاصل بينه وبين من يخيل اليه انه من المؤمنين وما هو من الايمان في شيء.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ). المراد بالذبح المذبوح. وقيل كان كبشا ، وقال آخر : بل كان وعلا .. وأيا كان الفداء فنحن غير مسؤولين عن معرفة نوعه ، ولا تتصل هذه المعرفة بحياتنا من قريب أو بعيد. وطريف قول من قال انه كان كبشا أملح ، ورعى في الجنة أربعين عاما ، وان ابراهيم (ع) أعطى طحاله وأنثييه لإبليس .. وإذا رعى في الجنة أربعين عاما فكم يكون وزنه يا ترى؟

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). تقدم هذا النص في الآية ٧٨ وما بعدها من هذه السورة نفسها.

(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ). هذه البشارة من الله لإبراهيم بولد ثان انما هي جزاء على صبره وإقدامه على ذبح ولده طاعة لله. وفي قاموس الكتاب المقدس : ان سارة ولدت إسحاق ولها من العمر ٩٠ سنة ، ولإبراهيم مائة سنة ، وان معنى إسحاق في العبرية يضحك. أما هاجر فقد ولدت

٣٥٠

إسماعيل ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ). والمحسن من هذه الذرية هو الذي اتبع ملة أبيه ابراهيم حنيفا ، والظالم من حاد عنها.

هل الذبيح إسماعيل أو اسحق؟

ذهب البعض الى ان الذبيح ـ أي الذي أمر ابراهيم بذبحه ـ هو اسحق وليس إسماعيل .. ولا مصدر لهذا القول إلا اسرائيليات كعب الأحبار وحسد اليهود لأبناء إسماعيل ، وليس هذا بكثير على بني إسرائيل ، أما الأدلة على ان الذبيح هو إسماعيل فهي :

أولا : قوله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) فإنه يدل بصراحة على ان المبشر به والساعي والذبيح صفات لموصوف واحد ، وهو الولد البكر لإبراهيم ، وبكر ابراهيم هو إسماعيل باتفاق المسلمين والنصارى واليهود ، فلقد جاء في التوراة الاصحاح ١٦ الآية ١٥ من سفر التكوين ما نصه بالحرف : «وكان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لابرام» أي ابراهيم ، وإذا عطفنا على هذا ما جاء في التوراة من السفر المذكور الاصحاح ١٧ الآية ١٧ وما بعدها : ان الله لما بشّر ابراهيم باسحق من سارة سقط على وجهه وقال في قلبه : هل يولد لي وأنا ابن مائة سنة ، وسارة بنت تسعين؟. إذا جمعنا بين الآيتين تكون حصيلتهما ان إسماعيل هو الولد البكر ، وانه يكبر اسحق بأربعة عشر عاما ، وبينا ان البكر هو الذبيح ، فالذبيح ـ اذن ـ إسماعيل لا اسحق.

ثانيا : قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) حيث جاءت هذه البشارة لإبراهيم بإسحاق جزاء له على طاعته لله في ذبح ولده البكر ، كما قدمنا ، فلا بد ـ وهذه هي الحال ـ أن يكون زمن إسحاق متأخرا عن زمن الذبيح ، تماما كما يتأخر الثواب على العمل عن نفس العمل.

ثالثا : قوله تعالى في الآية ٧١ من سورة هود : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ

٣٥١

وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) فإن الله بشّر سارة بإسحاق وبولده يعقوب في آن واحد ، فكيف يأمر بذبح إسحاق بعد أن بشّر به وبنسله؟ وما ذا تقول سارة عند ما تسمع الأمر بذبح وليدها بعد أن سمعت البشارة به وبولده؟.

رابعا : لو كان الذبيح إسحاق لوجب أن يكون النحر والسعي ورمي الجمار في أرض الشام حيث كانت سارة وولدها إسحاق ، وليس بمكة حيث كانت هاجر وولدها إسماعيل.

موسى والياس الآية ١١٤ ـ ١٣٢ :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

اللغة :

المستبين الواضح. وبعل اسم صنم.

٣٥٢

الإعراب :

الله وربكم بدل من أحسن الخالقين.

المعنى :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ). منّ سبحانه على موسى وهرون بالنبوة وخلود الذكر والنصر على الأعداء ، ولا تكون النبوة بالكسب والعمل ، وإنما هي اختيار من الله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ـ ١٢٤ الأنعام. ومن أجل هذا لا يتعلق بها التكليف ، فلا يقال : كن نبيا كما يقال : كن تقيا (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ). من طبيعة اليهود أن يتقبلوا كل شيء من أجل المال وجمعه حتى الذل والعار .. هذا ما نطق به تاريخهم ، فلقد استعبدهم فرعون ولم يحركوا ساكنا حتى جعل الله لهم على يد موسى من الكرب والبلاء فرجا ومخرجا.

(وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ). أغرق سبحانه فرعون وجنوده ، فتحرر بنو إسرائيل من المذلة والعبودية (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ). أنزل سبحانه على موسى وهرون التوراة : وفيها أحكام الله الواضحات (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) طريق الحق والعدل (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) ذكرا حسنا ، وثناء جميلا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أمن وأمان من الله عليهما ولهما دنيا وآخرة (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ). وفي معناه : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان. وتقدم الكلام عن موسى وهرون وبني إسرائيل في عشرات الآيات.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). قال المفسرون : الياس هو واحد من أنبياء بني إسرائيل ، وان نسبه ينتهي الى هرون. وفي أكثر من تفسير : أن الياس هذا هو النبي إدريس الذي جاء ذكره في الآية ٥٦ من سورة مريم والآية ٨٥ من سورة الأنبياء ، وفي «قاموس الكتاب المقدس» : ان إيليا اسم عبري ، ومعناه إلهي يهوه والصيغة اليونانية لهذا الاسم هي الياس ، وتستعمل أحيانا في العربية.

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ)؟ ارشدهم الى التوحيد ، وحذرهم من الشرك

٣٥٣

تماما كما فعل غيره من الأنبياء (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ). وبعل الذي يدعونه من دون الله اسم صنم كما دل سياق الآية. وفي قاموس الكتاب المقدس : ان بعل بريث اسم كنعاني ومعناه رب العهد .. عكف قوم الياس على عبادة بعل كما عكف من كان قبلهم على عبادة الأصنام فدعاهم الى التوحيد كما فعل نوح وابراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أعرضوا عن دعوته ، فيحضرهم الله يوم القيامة للحساب والعذاب.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) وهم الذين استجابوا لدعوة الياس ، فإنهم بمنجاة من العذاب ولهم أجر كريم (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ذكرا طيبا (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ). قال جماعة من المفسرين : ان أبا الياس اسمه يس ، فعليه يكون المراد بأل ياسين الياس بالذات لأن الابن من آل الأب ، ومهما يكن فإن المقصود هنا بأل ياسين هو الياس بقرينة السياق ، فلقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة نوحا وقال : سلام على نوح ، ثم ذكر ابراهيم وأتبعه بقوله : سلام على ابراهيم ، ثم موسى وهرون وقال : سلام على موسى وهرون ، ثم ذكر الياس وانه من المرسلين ، وقال : سلام على إل ياسين ، فتعين انه هو المقصود من آل يس.

لوط ويونس الآية ١٣٩ ـ ١٤٨ :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)

٣٥٤

فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))

اللغة :

الغابرين أي الباقين مع الذين كفروا ، وأيضا تأتي كلمة غبر بمعنى ذهب. ومصبحين داخلين في الصباح. وابق فرّ. وساهم أقرع من القرعة. والمدحضين المغلوبين. ومليم فعل ما يستحق عليه اللوم والعتاب. والعراء المكان الخالي.

الإعراب :

مصبحين حال من واو تمرون ، وبالليل متعلق بمحذوف معطوفا على مصبحين أي وداخلين بالليل. والمصدر من إنه كان مبتدأ وخبره محذوف أي لولا تسبيحه ثابت. أو يزيدون «أو» هنا بمعنى بل ، ويجوز أن تكون للإبهام على المخاطب.

المعنى :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ). تقدم في الآية ٨٠ ـ ٨٤ من سورة الاعراف ج ٣ ص ٣٥٣ ـ ٣٥٤ وفي سورة هود الآية ٧٧ ـ ٨٣ ج ٤ ص ٢٥٣ ـ ٢٥٦ وفي سورة العنكبوت الآية ٢٨ ـ ٣٥. وفي التوراة الاصحاح ١٩ من سفر التكوين الآية ٣٠ ـ ٣٨ : انه كان للوط بنتان ، فأسقتا أباهما خمرا فواقعهما ، وأولد كلا منهما ذكرا.

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). كان العرب يسافرون من الحجاز الى الشام للتجارة وغيرها ، ويمرون في طريقهم صباحا ومساء وذهابا

٣٥٥

وإيابا على أرض قوم لوط ، ويرون آثار الهلاك والدمار ، فحذر سبحانه مشركي العرب الذين كذبوا محمدا (ص) قائلا لهم : ألا تعتبرون بما قد رأيتم من ديار قوم لوط كيف أصبحت خالية خاوية؟ ألا تخافون أن يصيبكم ما أصابهم؟

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). يونس هذا هو ذو النون الذي جاء ذكره في الآية ٨٧ من سورة الأنبياء : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) وأيضا هو صاحب الحوت الذي أشارت اليه الآية ٤٨ من سورة القلم : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ). وقال بعض المفسرين : ان يونس من أهل نينوى بكسر النون. وفي قاموس الكتاب المقدس : «ان نينوى كانت عاصمة الأشوريين ، وانها ازدهرت ازدهارا عظيما في بعض القرون للميلاد ، وانها كانت على الضفة الشرقية من نهر دجلة ، وان أهلها كانوا يعبدون الإلهة عشتار أو عشتروت التي اشتركت في عبادتها معظم شعوب العالم القديم».

(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ). دعا يونس قومه الى عبادة الله ، فلم يستجيبوا لدعوته ، فضاق صدره بهم ، وهاجر مغاضبا لهم حتى إذا انتهى الى ساحل البحر وجد سفينة مشحونة بالناس والأحمال ، فسأل أهلها أن يصحبوه ففعلوا ، ولما توسط البحر أشرفت السفينة على الغرق ، وكان لا بد من إلقاء واحد من ركابها في البحر لتنجو من الغرق ، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس ، فألقى نفسه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) لأنه لم يصبر على أذى قومه كما صبر غيره من الأنبياء.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وبيّن سبحانه نوع تسبيحه في الآية ٨٧ من سورة الأنبياء : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ ـ أي في بطن الحوت ـ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فاستجاب الله لندائه ، ونجّاه من سجنه السيار في بطون البحار ، ولولا لجوءه الى الله مخلصا لكان سجنه مؤبدا الى قيام الساعة.

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ). قالوا : خرج من بطن الحوت كالفرخ الممتعط في فلاة لا أنيس فيها ولا حسيس ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا

٣٥٦

فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). أرسله سبحانه الى هذا العدد ، فأعرضوا في البداية ، ولما تركهم مغاضبا خافوا من نقمة الله وعذابه ، فآمنوا بالله وطلبوا منه العفو والرحمة ، فعفا وأنجاهم من الهلاك الى أن وافاهم الأجل ، وعاد اليهم يونس ففرحوا بقدومه وفرح بإيمانهم. أنظر ج ٤ ص ١٩٣ فقرة «القصة» وج ٥ ص ٢٦٩.

ألربك البنات ولهم البنون الآية ١٤٩ ـ ١٦٠ :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))

الإعراب :

أصطفى أصلها أاصطفى الهمزة الأولى استفهام والثانية وصل ، ثم حذفت هذه لمكان تلك. وكيف في محل نصب بتحكمون. عباد الله المخلصين استثناء من فاعل جعلوا.

المعنى :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ).

٣٥٧

الخطاب في استفتهم لرسول الله (ص) ، وضمير الغائب لمشركي العرب .. والقرآن حجة تاريخية عليهم لا تقبل الشك والجدل ، وقد سجل على بعض القبائل منهم انهم كانوا يقولون : اتخذ الله من الملائكة إناثا له ، ثم رد سبحانه قولهم بأنه رجم بالغيب وعمى عن الحق لأنهم لا يعرفون عن الملائكة شيئا. وفي معنى ذلك الآية ١٩ من سورة الزخرف : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) والآية ٤٠ من سورة الاسراء ج ٥ ص ٤٦.

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). يأتي الافك بمعنى الصرف ، ومنه الآية ٢٢ من سورة الأحقاف : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) أي لتصرفنا عنها ، وهذا المعنى هو المراد من الإفك هنا أي انهم من أجل انصرافهم عن التوحيد الى الشرك قالوا : ان لله ولدا .. وليس من شك انهم كاذبون في هذا القول (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) أيختار سبحانه الأدنى ، ويخصكم بالأعلى ـ كما تزعمون ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ـ ٥٧ النحل ج ٤ ص ٥٢٣.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) على ما غاب عن عيونكم وعقولكم؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وترتدعون عن الشرك وقول الزور ، وقد ذكركم الله وحذركم بلسان نبيه وأمين وحيه (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). أروني حجة من عقل أو نقل ان الله اتخذ من الملائكة إناثا.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً). اختلف المفسرون في معنى هذه الآية ، والذي نفهمه من ظاهرها ان المشركين نسبوا لله تعالى نسلا من الجن كما نسبوا اليه ذلك من الملائكة. وفي بعض التفاسير نقلا عن مجاهد ومقاتل : ان كنانة وخزاعة قالوا : خطب الله الى سادات الجن ، فزوجوه من سراة بناتهم ، وان الملائكة بناته من الجنيات.

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) كيف يكون نسب بينه وبين الجن ، وهم يعلمون ان الله خلقهم وانه يبعثهم ويسألهم عما كانوا يعملون (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) وتعالى عما يقول المشبهون والجاحدون علوا كبيرا (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فإنهم ينزهونه عن الشريك والولد ، ويخلصون له في الأقوال والأفعال وهو سبحانه يثيبهم على ايمانهم وإخلاصهم بأحسن ما كانوا يعملون.

٣٥٨

فأنكم وما تعبدون الآية ١٦١ ـ ١٧٠ :

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))

اللغة :

بفاتنين بمضلين ومفسدين .. وصال الجحيم معذّب فيها ، وحذفت الياء من صالي للتخفيف والكسرة دليل عليها ، ومثله (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ) أي الجواري. والمراد بالذكر هنا الكتاب.

الإعراب :

وما تعبدون «ما» اسم موصول ومحلها النصب عطفا على اسم ان. ما أنتم «ما» نافية وأنتم مبتدأ وفاتنون خبر والباء زائدة إعرابا وضمير عليه يعود الى ما تعبدون وعلى بمعنى باء السببية أي ما أنتم بسببه فاتنون ، ومثله حقيق عليّ ان لا أقول إلا الحق أي حقيق وجدير بي. ومن هو صال «من» مفعول فاتنين وهو مبتدأ وصال خبر وحذفت ياؤه تخفيفا كما أشرنا في فقرة «اللغة». ومنا متعلق بمحذوف صفة لموصوف محذوف أي ما أحد كائن وأحد مبتدأ وخبره له مقام معلوم. وان كانوا «ان» مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي انهم ، واللام في ليقولون اللام الفارقة.

٣٥٩

المعنى :

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ). الخطاب في انكم للمشركين ، والمعنى لا يستجيب لتضليلكم وعبادة أصنامكم أيها المشركون الا من تنكب عن طريق الحق والهداية التي تؤدي به الى مرضاة الله وثوابه ، وسلك طريق الضلالة والغواية التي ينتهي معها الى غضب الله وعذابه.

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ). هذا من كلام الملائكة يردون به على المشركين الذين قالوا : ان الله اتخذ مما يخلق بنات واصطفاهم بالبنين ، ومحصل الرد انّا جميعا عباد الرحمن نقدسه ونسبّح بحمده ، ولكل واحد منا وظيفته في العبادة لا يتعداها (إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ). منا الذين يقفون صفوفا للعبادة ، ومنا الذين لا يسأمون من الذكر والتسبيح ، وفي الحديث : فمنهم راكع لا يقيم صلبه ، ومنهم ساجد لا يرفع رأسه.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ). واو الجماعة في كانوا ويقولون تعود لمشركي العرب الذين جعلوا لله بنات من الملائكة وبينه وبين الجنة نسبا ، والمعنى ان المشركين قالوا قبل أن يأتيهم محمد (ص) بالقرآن : لو جاءهم كتاب من عند الله بالحق لآمنوا به وعبدوا الله مخلصين له الدين ، فلما جاءهم ما كانوا يتمنون ازدادوا عتوا ونفورا ، والى هذا أشار سبحانه بقوله : (فَكَفَرُوا بِهِ) أما قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فهو تهديد ووعيد.

وان جندنا لهم الغالبون الآية ١٧١ ـ ١٨٢ :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ

٣٦٠