التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

والتقدير فلما جاء الرسول سليمان. فما آتاني (ما) مبتدأ وخير خبر. وأذلة حال من ضمير الغائب في لنخرجنهم ، وجملة هم صاغرون حال.

المعنى :

(فَلَمَّا جاءَ ـ الرسول ـ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ). حمل وفد الملكة الهدية إلى سليمان ، وفيها كل نفيس وثمين ، ولما رآها قال للذين جاءوا بها : دعوتكم إلى الله ، فأتيتموني بالمال ، وعندي منه الشيء الكثير كما رأيتم ، بل أنعم الله عليّ بما هو أعظم من المال ، أنعم علي بالنبوة والعلم ، وتسخير الرياح والجن والطير .. أتقيسونني بأنفسكم في عبادة المال وتعظيمه؟

ويذكرنا هذا بقريش حين فاوضوا رسول الله (ص) ، وقالوا له : ان كنت تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وان كنت تريد ملكا ملكناك علينا. ولما استيأسوا منه لجأوا إلى عمه أبي طالب ليقنع ابن أخيه بالملك والمال ، وإلا فالبطش والحرب. فقال رسول الله (ص) مقالته الشائعة الذائعة : والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ). الخطاب في ارجع لرئيس الوفد الذين جاءوا بالهدية ، والمعنى ارجع أنت ومن معك بما جئتم به ، وبلّغ قومك اني سأغزوهم بجيش من الانس والجن والطير لا طاقة لهم ولا لغيرهم بمقاومته والصمود له. وكان الهدهد قد نقل لسليمان قول الملكة لقومها : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً). فأكد سليمان ذلك بقوله للرسول : (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها ـ من بلادهم ـ أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ).

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). لما رجع الوفد من عند سليمان إلى الملكة ، وأخبرها بما سمع ورأى لم تر بدا من السمع والطاعة ،

٢١

فتوجهت اليه مع حاشيتها ، وتركت عرشها العظيم يحفظه الجنود والحراس ، وحين علم سليمان بقدوم بلقيس أحب أن يريها آية تدل على نبوته وعظمته ، وان تكون هذه الآية والمعجزة أخذ عرشها الذي هو مظهر عزها وملكها ، فسأل من كان بين يديه : أيكم يأتيني به؟

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ). سخر الله سبحانه لسليمان الريح تجري بأمره ، وهذه معجزة خارقة ما في ذلك ريب ، وسخر له الطير يأتمر بأمره ، وهذه أيضا معجزة ، وأيضا خصه الله ببعض الجنود من الإنس والجن يأتون بعجائب الأعمال بالنسبة إلى عصرهم ، وكانوا يرافقون جند سليمان يستعين بهم للتغلب على العدو تماما كالفنيين وأهل الاختصاص الذين يحتاج اليهم الجيش المحارب في هذا العصر ، ويومئ إلى ذلك طلب سليمان منهم أن ينقلوا اليه عرش بلقيس في لحظات ، وهو يعلم ما بينه وبين مكان العرش من البعد ، فقال له بعض الجن : أنا آتيك به سالما كما هو ، وأنت في مجلسك هذا و (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) فكان النصر لهذا حيث استطاع بسلطان ما عنده من العلم أن يأتي بالعرش المطلوب في لحظة لا في لحظات.

هذا ما دل عليه ظاهر الآية ، أما التساؤل : من هو هذا الذي عنده علم من الكتاب؟. هل هو من الملائكة أو الخضر أو عبد صالح من الإنس اسمه آصف ابن برخيا ، وانه كان يعلم اسم الله الأعظم؟. وأي نوع من العلم استخدمه في نقل العرش هل هو اسم الله الأعظم أو غيره ، أما هذا التساؤل وما اليه من التساؤلات الكثيرة فجوابها عند ربي ، لأن الآية لم تصرح ، والحديث الصحيح لم يثبت ، فمن أين يأتي العلم باسم من نقل هذا السرير ، وبنوع العلم الذي كان عنده؟ وأقرب الاحتمالات انه لم يكن من الجن لأن النصر كان له على عفريت من الجن كما صرحت الآية السابقة ، وانه نقل العرش بمعجزة خارقة حيث أتى به قبل أن يرتد الطرف .. والمعجزة كما تظهر على أيدي الأنبياء فإنها تظهر أيضا على أيدي الذين يصطفيهم الأنبياء بأمر الله تعالى.

ومحل العبرة والعظة في هذا الحادث ان بلقيس صاحبة الملك والنعيم قد خضعت

٢٢

صاغرة لسليمان ، واستلبها عرشها العظيم في طرفة عين ، وهو مظهر مجدها وعظمتها.

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ). المراد بالكفر هنا كفران النعم ، لا الكفر بالله ، وسليمان لا يجحد نعمة ربه ، ومحال أن يجحدها لأنه نبي معصوم ، ولكن قال ذلك تمهيدا لقوله : (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ). وفي معناه (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ـ ٧ الإسراء.

نكروا لها عرشها الآة ٤١ ـ ٤٤ :

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

اللغة :

تنكير الشيء تغييره من حال إلى حال. والصرح كل بناء عال. واللجة معظم الماء. والممرّد المملس. والقوارير الزجاج.

٢٣

الإعراب :

ننظر مجزوم بجواب نكروا. وما كانت (ما) فاعل صدّها. ورب العالمين بدل من كلمة الجلالة.

المعنى :

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ). قال سليمان لبعض رجاله : غيروا شيئا من عرش بلقيس لنرى هل تدرك انه هو أو يخفى عليها؟. (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) نكروا لها عرشها وسألوها عنه (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) لم تنف ولم تثبت .. لم تنف لأن وجه الشبه قوي ، ولم تثبت لأنها تركت عرشها في القصر ، ودونه الجنود والحراس. هذا ، إلى أن الساسة والحكام يحتفظون بخط الرجعة في أكثر كلامهم وأجوبتهم.

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ). هذا من كلام سليمان وقومه ، ومعناه انهم عرفوا الحق ، وآمنوا به قبل بلقيس (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ). أي ان الذي منع بلقيس عن معرفة الحق والايمان به هو شركها وعبادتها الشمس من دون الله.

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ). المراد بالصرح هنا القصر ، واللجة كثرة الماء ، والممرد المملّس ، والقوارير الزجاج ، ويدل ظاهر الآية أنه كان لسليمان قصر من زجاج شفاف ، وان الماء كان يجري من تحته ، وان بلقيس لما دخلت القصر لم تتبين الزجاج من شدة صفائه ، ولذا كشفت عن ساقيها لتخوض الماء ، فقال لها سليمان : هذا زجاج صاف ، والماء يجري من تحته (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). ظلمت نفسها بالكفر ، ثم تابت وأسلمت ، وحسن إسلامها.

٢٤

صالح الآة ٤٥ ـ ٥٣ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

اللغة :

المراد بالسيئة هنا العذاب ، وبالحسنة الرحمة. اطيرنا تشاءمنا. والرهط من ثلاثة رجال الى تسعة. وخاوية خالية.

الإعراب :

صالحا بدل من (أخاهم). وإذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ وخبر. وتقاسموا فعل أمر أي قال بعضهم لبعض : احلفوا. وكيف خبر كان وعاقبة اسمها. والمصدر من انّا دمرناهم بدل من عاقبة.

٢٥

المعنى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ). تقدم في الآية ٧٣ من سورة الأعراف والآية ٦١ من سورة هود (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) فريق آمن بالحق ، وفريق كذّب به ، لأنه يصطدم مع منافعهم وأغراضهم ، ومن هنا وقع الخصام بين الفريقين ، ولولاها لقال الفريق الثاني للأول : لكم دينكم ولي دين.

(قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). أنذر صالح المكذبين بالعذاب ان أصروا على الضلال والعناد ، فقالوا ساخرين : ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين كما في الآية ٧٧ من سورة الأعراف ، فقال لهم بعطف ولين : علام تستعجلون نقمة الله ، وهو سبحانه لم يعاجلكم بها ، وأمهلكم طويلا لترجعوا عن غيكم .. فخير لكم أن تتوبوا اليه ، وتطلبوا منه الرحمة ، وهو كريم وغفور رحيم يقبل منكم التوبة ، ويشملكم بعفوه ورحمته.

(قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ). التطير التشاؤم .. بعد أن دعاهم صالح إلى الله ، وأعرضوا عن دعوته أصابهم المرض والجدب ، فتشاءموا به ، وبدعوته وبمن أمن به وبها. (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ). ان الذي نزل بكم من البلاء هو بارادة الله التي تنتهي اليها جميع الأسباب ، وتقدم نظيره في الآية ١٣١ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٨٤. وكان النبي (ص) يحب الفأل لأن فيه الأمل والثقة بالله ، ويكره الطيرة لأن فيها التوقع للبلاء ، وفي الحديث : إذا تطيرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقق (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) تختبرون بالسراء والضراء لتظهر أفعالكم التي تستحقون بها الثواب والعقاب.

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ). كانوا من المترفين يتطاولون على الناس بثرائهم ، ويتخذون منه أداة للاستبداد والإفساد في الأرض ، ويقاومون كل مصلح ومحب للخير ، ولم يكن فيهم جهة تذم وجهة تمدح ، بل كل ما فيهم قبيح ومذموم ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : ولا يصلحون. (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ). ضمير تقاسموا يعود للتسعة المفسدين ، وضمير لنبيتنه وأهله

٢٦

ووليه يعود لصالح ، والمعنى ان هؤلاء التسعة قال بعضهم لبعض : احلفوا بالله ان نباغت صالحا وأهله ليلا ونقتلهم جميعا ، ثم نقول لأرحامه وأولياء دمه : ما قتلناهم ، ولا نعرف من قتلهم ، ونحن صادقون فيما نقول.

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). أما مكر التسعة فهو تدبيرهم ان يباغتوا صالحا بياتا ، ويقتلوه وأهله دون أن يشعر أحد بذلك ، وأما مكره تعالى فهو انه تعالى عجل بأخذهم وهلاكهم قبل أن يصلوا إلى صالح من حيث لا يشعرون. انظر تفسير الآية ٥٤ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٨٦ فقرة : (اللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ). أرادوا أن يهلكوا صالحا فأهلكهم الله ، وفي ذلك عبرة وعظة لمن يبيت الاساءة للآخرين (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أنفسهم. لأن الله حذرهم وأمهلهم ، فأصروا على الفساد والضلال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) المراد بالعلم هنا المقرون بالعمل والاعتبار ، أما العلم المجرد عن العمل فإن الجهل خير منه لأنه وبال على صاحبه (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ). هذا على عادة القرآن الكريم إذا ذكر الظالمين وعقابهم ذكر المتقين وثوابهم ، والقصد الترهيب والترغيب.

لوط الآة ٥٤ ـ ٥٨ :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

٢٧

حكاية الخبر بالمعنى :

تقدم نظير هذه الآيات في سورة الأعراف الآية ٨٠ ـ ٨٤ ج ٣ ص ٣٥٢ ـ ٣٥٤. ولا فرق إلا في بعض التعابير ، ففي سورة الأعراف حكى الله سبحانه عن لوط انه قال لقومه : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ). وحكى عنه هنا انه قال لهم : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وكلاهما ذم وتوبيخ. وقال هناك : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) وقال هنا : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وكل من الإسراف والجهالة تجاوز للحد. وقال تعالى هنا : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) وقال هناك : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي أنظر سوء عاقبتهم.

ومثله كثير في كتاب الله ، فهو يحكي كلام الأنبياء وغيرهم بلفظ آخر في آية ثانية ، وبثالث في آية ثالثة ، وفيه دلالة على ان للإنسان ان ينقل كلام الآخرين بنصه الحرفي وبمعناه أيضا دون لفظه على شريطة أن لا يقلّم أو لا يطعّم.

٢٨

الجزء العشرون

٢٩
٣٠

سلام على عبادة الدين اصطفى الآة ٥٩ ـ ٦٤ :

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))

اللغة :

ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من يراه. والمراد بيعدلون هنا يحيدون عن الحق لأنهم جعلوا لله عديلا ومثيلا ، وخلالها بين أماكنها. والرواسي الجبال.

٣١

الإعراب :

آلله الأصل أألله والهمزة للاستفهام والله خير مبتدأ وخبر. وأمّا كلمتان أم العاطفة المتصلة وما بمعنى الذي أي أم الذي يشركون. وأمّن كلمتان أم المنقطعة بمعنى بل والهمزة ومن اسم موصول ، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف أي بل الذي خلق السموات والأرض خير. وكذا ما بعدها من نظائرها. والمصدر من أن تنبتوا اسم كان. وإله مبتدأ والخبر محذوف أي أإله تثبتون مع الله. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف وما زائدة إعرابا أي تذكرون تذكرا قليلا.

الصلاة والسلام على المتقين :

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى). بعد أن ذكر سبحانه بعض الأنبياء وما خصهم به من الآيات والمعجزات أمر نبيه الكريم أن يحمد الله على ما خصه به من النعم ، وان يسلم على جميع الأنبياء الذين اصطفاهم لرسالته ، وقرن السلام عليهم بالحمد له تنبيها الى منزلتهم وتعظيما لشأنهم ، وكل من اتقى الله وعمل بسنّة رسول الله (ص) يجوز السلام والصلاة عليه حيا وميتا ، نبيا أو غير نبي ، وبالخصوص إذا كان من أهل بيت محمد (ص) وجاهد من أجل الإسلام وانتشار دعوته وعلوّ كلمته ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) ـ ٤٣ الأحزاب. وفي صحيح البخاري وغيره ، قالوا : كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال : قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على ابراهيم وآل ابراهيم إنك حميد مجيد.

وقد جرت عادة المسلمين من عهد الرسول الأعظم (ص) أن يفتتحوا كتبهم وخطبهم بالبسملة والحمد والصلاة على محمد وعلى من استن بسنته من أهل بيته وصحابته ، ومصدر ذلك هذه الآية الكريمة : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.

(آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ). المراد بهذه الآية وما بعدها توبيخ المشركين والرد

٣٢

عليهم بصيغة الاستفهام وبأسئلة لا جواب لها إلا الإذعان والتسليم ، وهي :

١ ـ (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)؟ أيهما خير وأعظم ، الله جلت كلمته أم الأوثان وما اليها مما تعبدون؟

الجواب : الله ، ما في ذلك ريب حتى عند المشركين ، لأنهم لا بنكرون وجود الخالق ، وانما يدعون معه إلها آخر.

٢ ـ (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بنظامهما وترتيبهما الدقيق العجيب الذي يدل على ارادة عليم حكيم (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) ينزل المطر من السماء بأسبابه الطبيعية ، وأيضا تنبت الأرض من كل زوج بهيج بالأسباب الطبيعية ، وبما ان الله سبحانه هو الذي خلق الطبيعة بكل ما فيها صح إسناد المطر والانبات وغيرهما اليه تعالى (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) بل ولا أن تعرفوا مصدر الحياة في النبات وغيره إلا إذا فسرتموه بوجود إله قادر يقول للشيء (كُنْ فَيَكُونُ) ومثله قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ـ ٦٤ الواقعة. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) تزعمون انه أعانه على خلق السموات والأرض ، وإنزال الغيث ، وإنبات الحدائق؟ (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) عن الحق لأنهم يساوون بين الله وغيره.

٣ ـ (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي مستقرة على ما هي عليه في شكلها وحجمها وعناصرها ومركزها ، وما الى ذلك مما لا يكون الا بتصميم من خبير عليم (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) ينتفع بها الخلائق (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) كيلا تميد بكم (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) المراد بالبحرين الماء المالح والماء العذب ، وبالحاجز انخفاض مكان الأول عن مكان الثاني ، ولو انعكس الأمر لفسد الماء العذب. أنظر ما قلناه في تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) ـ ٥٥ الفرقان. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) شاركه في ذلك (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أما غير الأكثر فإنهم يعلمون ، ولكنهم يكابرون ويعاندون خوفا على مكاسبهم.

٤ ـ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ). إن الله سبحانه يمد بالعون والتوفيق من يلجأ اليه ، ويتوكل عليه ، فيهيئ له الأسباب التي يبلغ بها

٣٣

حاجته ، وتكشف عنه البأساء والضراء إذا سعى لها سعيها المألوف .. ومن قبع في مكانه ، وهو قادر على السعي ، فقد ظلم نفسه (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) يخلف الجيل اللاحق الجيل السابق في ملك الأرض وعمارتها (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) المراد بالتذكر هنا العمل بالدلائل ، والانتفاع بالنذر ، والاتعاظ بالعبر.

٥ ـ (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بواسطة الجبال والكواكب والآلات ، وما الى ذلك مما يدخل في قوله تعالى : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ـ ١٦ النحل. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ). تقدم في الآية ٥٥ من سورة الأعراف والآية ٥٠ من سورة الفرقان (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ويفترون بنسبة الشريك والولد اليه تعالى.

٦ ـ (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). يدل التدبير والإحكام في الخلق على أنه فيض من مدبر حكيم ، ومتى ثبت ابتداء الخلق منه تعالى ثبتت إعادته إذا أخبر هو بذلك لأن الاعادة أهون من الابتداء على حد تعبير الآية ٢٧ من سورة الروم. (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بإنزال الغيث من الأولى ، وإخراج النبات من الثانية (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ان لله شريكا أو ولدا.

والخلاصة ان الله سبحانه أورد العديد من الأدلة والبراهين على وجوده ووحدانيته ، وأوضحها بكل أسلوب ، فليأت الجاحد أو المشرك بدليل واحد على جحوده أو شركه .. وهذا الأسلوب في جدال الخصوم ودعوتهم إلى حكم العقل دليل قاطع على ان الإسلام يرتكز على فطرة الله التي فطر الناس ، ومن أجل ذلك وصفه تعالى بالدين القيم.

عالم الغيب والبعث الآة ٦٥ ـ ٧٥ :

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ

٣٤

هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

اللغة :

ادّارك تتابع وتلاحق. وعمون جمع عم ، وهو أعمى القلب والبصيرة. وأساطير خرافات. وردف فعل ماض بمعنى لحق وتبع. وتكنّ تستر وتخفي.

الإعراب :

أيان ظرف زمان يتضمن معنى الاستفهام ، وهو مبني على الفتح في محل نصب بيبعثون. وادارك فعل ماض وأصله تدارك. وأئذا كلمتان همزة الاستفهام وإذا وهي متعلقة بفعل محذوف أي أنخرج من القبور إذا كنا ترابا. وهذا إشارة إلى الإخراج وهي مفعول ثان لوعدنا. والمصدر من أن يكون اسم عسى. واسم يكون ضمير الشأن ، وردف فعل ماض ، ولكم اللام زائدة إعرابا والأصل ردفكم أي لحقكم.

٣٥

المعنى :

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). طلب الجاحدون من الرسول الأعظم (ص) ان يحدد لهم أمد البعث ، فقال له العلي الأعلى : قل لهم : لا أحد من الانس والجن والملائكة يعلم الغيب وأمد البعث الا الله ، وانهم يحشرون من حيث لا يشعرون (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ). ادارك تتابع ، والمعنى ان الأنبياء أخبروا المشركين بالآخرة ، فلم يصدقوا ، ولما بعثوا ورأوا الآخرة رأي العين علموا ان إخبار الأنبياء كان حقا وصدقا ، فالتتابع المقصود هنا ان علم المشركين بالآخرة حصل بعد إخبار الأنبياء بها وبعد رؤيتها (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي كيف يسألون عن وقت الآخرة ، وهم غير مؤمنين بها؟ (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) بل عميت قلوبهم عن الآخرة لضلالهم وعنادهم حتى استحال أن يروها.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ). تقدم مثله في الآية ٥ من سورة الرعد والآية ٣٦ و ٨٤ من سورة المؤمنون.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ). هذا تهديد لمن كذب بنبوة محمد (ص) أن يصيبهم من الهلاك ما أصاب غيرهم من الأمم السابقة الذين كذبوا أنبياءهم. وتقدم نظيره في الآية ١٣٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٩.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ). تقدم بنصه في الآية ١٢٧ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٦٥.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). حذّر الرسول الأعظم (ص) قريشا من عاقبة تكذيبهم وتمردهم ، فقالوا له ساخرين : ومتى يكون ذلك؟ وكل نبي كان يسمع هذا الجواب الساخر من قومه إذا أنذرهم وحذرهم (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) ربما كان العذاب وراءكم ، وأنتم لا تشعرون ، وفي هذا المعنى الآية ٥١ من سورة الإسراء : (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).

٣٦

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ). انه تعالى يتفضل عليهم بالإمهال وتأخير العذاب ليتوبوا ويرجعوا عن غيهم ، وكان عليهم ان يشكروا الله على ذلك ، ولكنهم استعجلوا العذاب ساخرين مستهزئين (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ). أعلنوا الشرك بالله ، وأضمروا الكيد والشر لرسول الله ، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، وانه مجازيهم لا محالة على هذا وذاك بما يستحقون (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). لا يغيب شيء عن علمه تعالى ، ما في ذلك ريب ، والقصد من هذا الإخبار تهديد الخونة والعملاء الذين يتسترون بثوب النفاق والرياء.

ان هذا القرأن يقص الآة ٧٦ ـ ٨٥ :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥))

٣٧

اللغة :

الفوج الجماعة. ويوزعون يمنعون.

الإعراب :

بهادي الباء زائدة وهادي خبر أنت على لغة تميم ، وخبر (ما) على لغة أهل الحجاز. والمصدر من ان الناس مجرور بالباء المحذوفة أي تكلمهم بكون الناس غير موقنين بآياتنا.

شعار إسرائيل سمعنا وعصينا :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). تحدث القرآن عن غرائب بني إسرائيل ، وكرر الحديث عنها وعنهم ، تحدث عن خصائصهم وشعارهم ، وعما اختلفوا فيه على عهد موسى وبعده ، ويتلخص شعارهم الذي يدينون به ولا يحيدون عنه ، يتلخص بقولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ، كما جاء في الآية ٩٤ من سورة البقرة والآية ٤٥ من سورة النساء. أي سمعنا من الله وأنبيائه وعصينا الله والأنبياء ، وقد التزموا هذا الشعار في عهد موسى نفسه حتى شكاهم إلى ربه ، ووصفهم بالفاسقين ، وهو يقول بحسرة ولوعة : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ـ ٢٥ المائدة ، وفي آية ثانية وصفهم بالسفهاء : (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) ـ ١٥٥ الأعراف. وما زالوا على هذا الشعار والمبدأ إلى يومنا هذا ، ففي سنة ١٩٦٧ قررت هيئة الأمم المتحدة التي تمثل شعوب الأرض شرقها وغربها ، قررت انسحاب إسرائيل من القدس ، فما كان جواب مندوبها إلا أن قال : الأمم المتحدة تنكة زبالة كما نشرت الصحف.

أما الذي اختلفوا فيه فهو العمل بالتوراة على عهد موسى حتى رفع الله الجبل فوقهم وهددهم بالهلاك : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا

٣٨

قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ـ ٩٣ البقرة. و (١) اختلفوا في الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى ، ومنهم السيد المسيح (ع) ، ففريقا كذبوا ، وفريقا يقتلون كما في الآية ٨٧ من سورة البقرة. وأيضا اختلفوا في نبوة محمد (ص) ، وما آمن به إلا قليل .. ولو كانوا طلاب حق لاتفقوا على الأخذ بالقرآن الذي قامت الدلائل والبراهين على صدقه (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). هدى لمن طلب الهداية ، ورحمة لمن عمل بأحكامه وتعاليمه.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ). يقضي يوم القيامة حيث تزاح الأباطيل وتضمحل العلل ، يحكم ويفصل الله بين بني إسرائيل وغيرهم فيما اختلفوا ويختلفون فيه من شئون الدين والدنيا (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فمن التجأ اليه فهو في كهف حريز ، ومانع عزيز (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) والمحقّ لا يبالي بما قيل ويقال عنه.

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ). هذه الجمل تهدف الى شيء واحد ، وهو ان هناك صفات تميت القلب ، وتدفع بالإنسان أن يصر على الكفر والنفاق والضلال ، وتجعله والموتى سواء لا تجدي معه عظة ولا إنذار ، ومن أهم هذه الصفات الطمع والحرص على المكاسب والمناصب .. وقد تكرر هذا المعنى بأساليب شتى ، منها قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ـ ١٧٩ الأعراف. ج ٣ ص ٤٢٥ ، وقوله : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ـ ٤٣ يونس ج ٤ ص ١٦٢ (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ). ان الذي يسمع منك ويطيعك يا محمد هو الذي يطلب الحق لوجه الحق بحيث إذا قام عليه الدليل آمن به وانقاد له ، أما أرباب المطامع والمصالح فيولون عنك مدبرين.

__________________

(١). من أغرب ما قرأت ما نقل عن كتاب التلمود ، وهو كتاب منزل كالتوراة عند اليهود أو الكثير منهم : «ان الله إذا نزل به مسألة معضلة استشار الخاخامات في حلها ، وانه في ذات يوم رأى رأيا خاطئا ، فنبهه الى خطئه أحد الخاخامات ، فاعترف وأذعن».

٣٩

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ). وقع أي ثبت ولزم ، والمراد بالقول هنا ما وعد الله به من قيام الساعة ، وبالناس الكافرون ، أما الدابة فقد كثر الكلام فيها ، والله سبحانه لم يبيّن لنا ما هي. والحديث عن المعصوم في بيانها لم يثبت ، حتى ولو صح سنده لم نعمل به لأنه خبر واحد ، وهو حجة في الأحكام الفرعية ، لا في الموضوعات وأصول العقيدة ، والقول بغير علم حرام ، فلم يبق إلا الأخذ بظاهر الآية الذي يدل على ان الله سبحانه عند ما يحشر الناس للحساب يخرج من الأرض مخلوقا يعلن ان الكافرين جحدوا الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة على وجود الله ووحدانيته ، ونبوة رسله.

وتسأل : لما ذا لم يبين سبحانه حقيقة هذه الدابة ، وترك الناس في حيرة من أمرها ، حتى قال من قال فيها بالجهل والوهم؟

الجواب : ان الغرض من ذكرها هو مجرد التشهير بالكافرين ، وانهم يحشرون غدا أذلاء مفضوحين على رؤوس الاشهاد ، وهذا الغرض يحصل بمجرد الاشارة إلى الدابة ، وان لم تعرف باسمها وحقيقتها. فهذه الآية أشبه بقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ـ ١٠٦ آل عمران.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا). ممن يكذب (من) هنا بيانية ، وليست للتبعيض ، مثلها في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) أي كل الأوثان لا بعضها ، والمعنى ان في الأمم مصدقين بآيات الله ومكذبين بها ، والله سبحانه يحشر غدا للحساب والجزاء جميع المكذبين دون استثناء ، ومعلوم ان الله سبحانه يحشر المصدقين والمكذبين ، ولكن الغرض من ذكر المكذبين التهديد والوعيد (فَهُمْ يُوزَعُونَ) تمنعهم الملائكة من الذهاب يمنة ويسرة ، وتسوقهم إلى الموقف سوق النعاج إلى الذبح.

(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). إذا وقف الجاحدون بين يدي الله غدا للحساب يقول لهم موبخا ومقرعا : لما ذا كذبتم رسلي ، ولم تستجيبوا لدعوتهم؟ وإذا كنتم جاهلين بصدقهم فلما ذا أعرضتم عن أدلتهم التي توجب العلم ، ولم تنظروا اليها نظرة من يطلب الحق ويبحث عنه

٤٠