التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

«صباح الخير» تاريخ ١ ـ ١ ـ ١٩٧٠ بعنوان «المعمار القرآني» نقتطف منه ما يلي :

«اني أحار في وصف الشعور الذي تلقيت به أول عبارة من القرآن .. فكانت كلماته تسعى الى نفسي وكأنها مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة .. وقد اكتشفت دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنية في العبارة القرآنية ، وهذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني .. انه ليس بالشعر ولا بالنثر ولا بالكلام المسجوع ، وإنما هو بيان خاص من الألفاظ صيغت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنية فيها .. ان الموسيقى المألوفة تأتي من الخارج ، وتصل الى الاذن من خارج العبارة ، وليس من داخلها ، بل من البحر والوزن والقافية ، أما موسيقى القرآن فتخلو من القافية والوزن والتشطير ومع ذلك فهي تقطر من كل حرف .. من أين؟ وكيف؟ هذا سر من أسرار القرآن لا يشاركه فيه أي تركيب أدبي .. انه محير لا ندري كيف يتم .. انه نسيج وحده بين كل ما كتب باللغة العربية سابقا ولاحقا. وتقليده محال».

أجل ، ان تقليده محال .. وهنا يكمن سر الاعجاز .. وبعد أن قدم الكاتب العديد من الشواهد على هذه الحقيقة من كلمات الله وآياته قال :

«وليست الموسيقى الباطنية هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية ، بل ان مع هذه الموسيقى صفة أخرى تشعرك بأنها من صنع الخالق لا من صنع المخلوق .. اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل وامرأة بكلمة رقيقة مهذبة لا تجد لها مثيلا ولا بديلا في أية لغة : («فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) ـ ١٨٩ الأعراف. هذه الكلمة تغشاها .. تغشاها .. يمتزج الذكر والأنثى كما يمتزج ظلان ، وكما تذوب الألوان بعضها في بعض .. هذا اللفظ العجيب يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين هو ذروة في التعبير .. لقد انفرد القرآن بخاصة عجيبة تحدث الخشوع في النفس ، وتؤثر في الوجدان والقلب بمجرد أن تلامس كلماته الأذن ، وقبل أن يبدأ العقل في العمل ، فإذا بدأ يحلل ويتأمل اكتشف أشياء جديدة تزيده خشوعا ، ولكنها مرحلة ثانية قد تحدث وقد لا تحدث ، قد تكشف الآية عن سرها وقد لا تكشف ، قد تؤتي البصيرة وقد لا تؤتي ، ولكن الخشوع ثابت ومستقر».

٣٠١

وهذه أيضا إحدى ظواهر الإعجاز في القرآن .. وختم الكاتب صاحب كتاب «الله والإنسان» مقاله الطويل بقوله : «ان القرآن لفظا ومعنى من الله الذي أحاط بكل شيء علما».

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ). بعد أن ذكر سبحانه ان محمدا (ص) هو رسول الله حقا ، وان القرآن تنزيل من العزيز الرحيم ـ بيّن مهمة القرآن وانه يهتف بالزواجر عن محارم الله في إسماع العرب الغافلين عن الله والحق دون ان ينذرهم منذر قبل رسول الله (ص). وعند تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ـ ٢٤ فاطر قلنا : ان المراد بالنذير في هذه الآية كل ما تقوم به الحجة من العقل والنقل ، وان المراد بالنذير في الآية التي نحن بصددها هو النبي بالخصوص.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). المراد بالقول هنا الوعيد بالعذاب ، وضمير أكثرهم يعود الى الآباء في قوله تعالى : (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي آباء العرب الذين كانوا في عهد رسول الله (ص) حيث مات أكثرهم على الشرك ، والقليل القليل منهم كانوا على دين التوحيد. أنظر تفسير الآية ١٠٧ من سورة الإسراء ، فقرة «الحنفاء» ج ٥ ص ٩٦.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ). الأغلال جمع غل وهو الطوق من الحديد ، والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللّحيين .. وإذا شدت الأيدي بالأغلال الى الأعناق ارتفع الرأس إلى فوق ، واستحال على المغلول ان يلتفت يمنة ويسرة أو ينظر الى الأمام فهو أبدا ينظر الى السماء ، وهذا هو المقمح (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). يجعلهم الله يوم القيامة بين سدّين من نار : واحد من أمامهم وآخر من خلفهم لا يجدون متقدّما عنهما ولا متأخرا ولا يبصرون سماء ولا غيرها لأن السدين قد أعميا أبصارهم .. وغير بعيد أن يكون هذا كناية عن أليم العذاب وشدته ، ومهما يكن فإن هذا العذاب وما اليه لا يختص بالمشركين ، بل يعم كل مجرم وظالم ، قال الإمام علي (ع) : «أما أهل معصيته فأنزلهم شر دار ، وغل الأيدي الى الأذقان ، وقرن النواصي بالأقدام ، وألبسهم سرابيل القطران ، ومقطعات

٣٠٢

النيران ، وباب قد أطبق على أهله في نار لها كلب ولجب». وتقدم مثله في الآية ٥ من سورة الرعد و ٣٣ من سورة سبأ.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). سيان عندهم يا محمد وعظت أم لم تعظ فإنهم لا يتحركون إلا بوحي من أهوائهم ومصالحهم. وتقدم مثله في الآية ٧ من سورة البقرة (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ). انما يستمع اليك ويقبل منك من طلب الحق لوجه الحق ، ويمضي عليه مهما تكن النتائج. وتقدم مثله في الآية ١٨ من سورة فاطر.(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ). الإمام المبين كناية عن علمه تعالى ، والمعنى ان الله يبعث الناس غدا من قبورهم ، وقد أحصى عليهم ما فعلوا من خير وشر ، وما تركوا من آثار نافعة أو ضارة ، وانه يجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

رسولان عززهما الله بثالث الأة ١٣ ـ ٢٧ :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١)

٣٠٣

وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

اللغة :

عز عليّ اشتد عليّ ، وعزني في الخطاب غلبني في حجاجه ، وعززني بكذا قوّاني به ، وهذا المعنى هو المراد بقوله : فعززنا بثالث. وتطيرنا تشاءمنا ، وطائركم شؤمكم. وأقصى أبعد.

الإعراب :

اضرب بمعنى اجعل ، وأصحاب القرية مفعول أول ، ومثلا مفعول ثان. وإذ الثانية بدل من إذ الأولى. ومفعول عززنا محذوف أي فعززناهما. وجواب أئن ذكرتم محذوف أي أئن ذكرتم تطيرتم. ولا ينقذون الأصل ينقذونني. فاسمعون النون للوقاية والأصل فاسمعوا قولي ثم حذف المضاف وهو القول للتخفيف فصار الفعل فاسمعوني ثم حذفت الياء للوقف. يا ليت «يا» للتنبيه.

المعنى :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ). الخطاب في اضرب لمحمد (ص) وضمير «لهم» لمشركي العرب ، أما القرية فقال أكثر المفسرين : انها مدينة انطاكية ، ولكن الله سبحانه لم يحدد لأن القصد من ضرب المثل الاتعاظ والاعتبار ..

٣٠٤

وهذا لا يتصل باسم القرية وموضعها .. ويغلب على الظن ان المفسرين اعتمدوا على كتب النصارى حيث جاء في الاصحاح الحادي عشر من أعمال الرسل : ان برنابا وشاول ذهبا إلى انطاكية وعلّما جمعا غفيرا. والرسل هم التلاميذ الاثنا عشر الذين اختارهم السيد المسيح (ع) ليعاينوا حوادث حياته على الأرض ويروه بعد قيامه من القبر ، ويخبروا العالم بذلك. إنجيل متى وأعمال الرسل. أما برنابا فهو قبرصي اعتنق المسيحية في زمن الرسل ، وأصبح داعية اليها. (قاموس الكتاب المقدس).

(إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ). في كثير من التفاسير ان هؤلاء الرسل كانوا من حواريي عيسى (ع) وتلاميذه ، وانه هو الذي أرسل الى القرية اثنين ، ثم شد ازرهما بثالث .. ولكن كلمة المرسلين مع إسنادها اليه تعالى في قوله : أرسلنا .. فعززنا تدل على انهم أرسلوا بأمر الله مباشرة لا بأمر عيسى (ع) .. ومهما يكن فإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء .. هذا ، الى اننا غير مسؤولين عنها أمام الله ، ولا صلة لها بحياتنا من قريب أو بعيد. والمعنى واضح ، وهو ان الله سبحانه أرسل لأهل تلك القرية ثلاثة يدعونهم الى الحق.

(فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ). أبدا ماركة مسجلة : كلما جاء أمة رسولها قالوا ما أنت إلا بشر مثلنا وما كان لك علينا من فضل حتى يختارك من دوننا ، وما نحن لك بمؤمنين .. انظر الآية ١٠ من سورة ابراهيم والآية ٩٤ من سورة الإسراء والآية ٢٤ من سورة المؤمنون والآية ٣ من سورة الأنبياء والآية ١٥٤ من سورة الشعراء (قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). بعد أن أقام الرسل الحجة البالغة على صدقهم قالوا للمكذبين : لقد أرسلنا الله إليكم ، وزودنا بما رأيتم من البينات ، وأدينا رسالته على وجهها ، وما علينا من حسابكم من شيء وما حسابنا عليكم وانما ذلك على الله وحده ، وكفى به عليما وحسيبا.

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). طائركم معكم أي لا واقع للطيرة ، وإنما هي من وحي أوهامكم ، وفي الحديث المشهور : لا عدوى ولا طيرة ولا هامة. والهامة نوع من البوم يألف القبور والخرائب. وقال الإمام الصادق (ع) : الطيرة

٣٠٥

على ما تجعلها أنت ، فإن هونتها تهونت ، وان شددتها تشددت ، وان لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا. أي ان الطيرة لا شيء في ذاتها ، ولا أثر لها على الإنسان إطلاقا ، وإنما تؤثر على نفسه وأعصابه لأنه قد توهم انها تبصر وتؤثر تماما كالطفل نحال الشبح وحشا يفترسه.

والمعنى ان المكذبين قالوا للرسل : لقد تشاءمنا من دعوتكم ، ونحن نخاف ان تعود علينا بتفريق الكلمة ، وانقسامنا الى فئتين معكم وعليكم ، فسكوتكم خير لنا ولكم وإلا أسكتناكم بالرجم وشدة العذاب ، فقال لهم الرسل : لا مصدر لهذا الخوف والتشاؤم إلا أنفسكم التي توسوس إليكم بأن دعوتنا شؤم وشر والشر بأنفسكم وفيما أنتم عليه من الشرك والجهل والفساد.

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) لم يشر سبحانه الى اسم الرجل ومع هذا قال المفسرون أو أكثرهم : اسمه حبيب النجار ، وان بيته كان في أطراف المدينة ، وانه كان قد آمن بالله ، ولما سمع ان قومه يهمون بقتل الرسل أسرع إلى مناصرتهم والدفاع عنهم بلسانه .. ولا أدري من أين جاء المفسرون بهذا الاسم؟ وقد بحثت عنه في فهرست الكتاب المقدس وقاموسه أيضا ، فلم أعثر على اسم حبيب. ونقله الطبري عن ابن عباس وكعب الأحبار ، وأيا كان فلا علاقة لنا باسم الرجل ، ولا يعنينا منه إلا بقدر ما تدل عليه الآيات ، وقد وصفته بالايمان والصلاح لأنه (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ). نصح لقومه أن يقبلوا دعوة الرسل ، ولا ينكصوا عنها لأنها لخيرهم وصلاحهم ، والداعون للحق لا يطلبون أجرا ولا شكورا ، ولا علوا ولا فسادا في الأرض.

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). هذه حكاية لقول المؤمن الناصح ، ومعناه أي مانع يمنعني عن عبادة الذي أوجدني من العدم ، ثم يبعثنا جميعا بعد الموت للحساب والجزاء؟ وفي هذا تعريض بقومه لتركهم عبادة الواحد الأحد ، وهو يمضي في هذا التقريع ويقول : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). كيف أعبد أصناما لا تضر ولا تنفع ، ولا تنقذ ولا تشفع .. لقد ضللت اذن ، وما أنا من المهتدين .. كلا (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ). لا يجابه بهذه الكلمة قوى الشر والفساد إلا من لا يبالي بالموت في سبيل الحق ونصرته .. وفي بعض

٣٠٦

الروايات : انه لما جابه قومه بهذه الحقيقة قتلوه رميا بالحجارة وما وجد من يدافع عنه .. وليس هذا ببعيد عن سيرة الطغاة وأهل الفساد ، والذي يؤيد صدق هذه الرواية قول المشركين للرسل : «لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم». وفي تفسير الزمخشري والثعلبي : ان سباقي الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين : علي بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) باع نفسه لله ، فكانت الجنة هي الثمن ، وكفى بالجنة ثوابا ونوالا (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). لم يقل هذا تشفيا من قومه برغم انهم كذبوه وآذوه .. حاشا الأصفياء الأخيار .. بل قاله حبا بالخير وتحسرا على ما فاتهم منه متمنيا لو علموا انه كان لهم من الناصحين ، وان تطيرهم به وبالمرسلين كان وهما وجهلا.

٣٠٧
٣٠٨

الجزء الثّالث والعشرون

٣٠٩
٣١٠

يا حسرة على العباد الأة ٢٨ ـ ٣٦ :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

اللغة :

القرون جمع قرن ، وهو القوم المقترنون في زمن واحد. والأزواج الأصناف.

الإعراب :

اسم كانت محذوف أي ان كانت الصيحة أو العقوبة إلا صيحة واحدة. وحسرة منادى أي احضري يا حسرة فهذا وقتك ونصبت لأن على العباد يتعلق بها. وكم خبرية ومحلها النصب بأهلكنا. والمصدر من انهم اليهم لا يرجعون مفعول لفعل محذوف أي قضينا انهم لا يرجعون ، وقيل : ان هذا المصدر بدل من

٣١١

أهلكنا ، ويلاحظ بأن البدل على نية التكرار ، ولا يقال : كم كونهم لا يرجعون. وان نافية وكل مبتدأ ولمّا بمعنى الا ، وقال صاحب البحر المحيط : ان «لمّا» لا تستعمل في الاستثناء إلا في المسموع فقط ، فلا يقال قام القوم لمّا زيدا. والأرض مبتدأ والميتة صفة لها ، وآيه خبر أي والأرض الميتة آية لهم. وما عملته «ما» عطف على ثمره أي ويأكلون من الذي عملته أيديهم.

المعنى :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ). ضمير قومه يعود إلى المؤمن الذي قال : اتبعوا المرسلين الخ. والمراد بجند السماء الملائكة ، والصيحة هي صيحة العذاب ، وخامدون ميتون. والمعنى ان إهلاك المكذبين علينا سهل يسير ، فإذا أردناه فلا نرسل عليهم ملائكة العذاب ، بل ما هي إلا صيحة يسمعونها من السماء حتى تصبح بيوتهم قبورا لأجسامهم.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). هذا بيان وتفسير للسبب الموجب للحسرة ، وهو إصرار المشركين على تكذيب الرسل ، واتخاذهم سخريا وهزوا. وتسأل : من هو المتحسر ، مع العلم بأن الله سبحانه لا يتحسر على أحد؟

الجواب : لا متحسر في الدنيا على الإطلاق ، لأن الحسرة هنا كناية عن سوء مصيرهم وعاقبتهم الوخيمة التي يتحسرون معها حين يرون عذاب جهنم ، ويندمون على اضاعة الفرصة في الحياة الدنيا.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ). يتحسرون ويندمون في الآخرة لأنهم لم يتعظوا في الدنيا بالأمم الماضية الذين أهلكهم الله لما كذبوا الرسل (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ). قال أكثر المفسرين القدامى والجدد ، ومنهم المراغي وصاحب الظلال ، قالوا في معنى هذه الجملة الكريمة : ألم ير المكذبون ان الأمم الذين أهلكناهم لا يعودون إلى الدنيا ثانية! .. وفي هذا التفسير نظر ، لأن عدم عودة الأموات إلى الدنيا حجة للمكذبين بالبعث ، وليس حجة عليهم .. والمعنى الصحيح

٣١٢

ـ كما نظن ـ ألم ير المكذبون ان الله قد أهلك الماضين بقضهم وقضيضهم ، ولم يبق منهم أحد يرجع الى المكذبين اللاحقين ينبئهم بخبر المكذبين السابقين ، وانما دل على إهلاكهم المعالم والآثار : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ـ ٥٢ النمل فهذه الجملة أشبه بقوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) ـ ٥٠ يس. (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ).

كل الناس موقوفون غدا بين يدي الله لنقاش الحساب وجزاء الأعمال. كان على ربك حتما مقضيا.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ). تقدم مثله في الآية ٩٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٣٤ والآية ٤ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٦ والآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣١١.

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعم الله التي لا تعد ولا تحصى. وقوله : «ما عملته أيديهم» فيه إيماء الى أن النعمة حقا هو المال الحلال المكتسب من كد اليمين وعرق الجبين ، أما المال الحرام فهو نار وجحيم : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) ـ ١٠ النساء : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ١٧٤ البقرة.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ). تنزه عن الشريك ، وتعالى علوا كبيرا الذي خلق الأنواع والأصناف في الحيوانات والطيور ، وفي النباتات والإنسان ، وفيما لا نعلم من أقطار السماء وتخوم الأرض ، وكل صنف من هذه الأصناف يختلف لونا وحجما ، وفي بعضها طعم كالنبات ، وفي آخر أخلاق كالإنسان. ويقول أهل الاختصاص : ان المادة الجامدة مؤلفة من شيئين أيضا : سالب وموجب ، ولولاهما لما وجد كائن .. ولا مصدر لذلك إلا العليم الحكيم ، أما الصدفة فلا يلجأ اليها إلا قاصر أو مكابر.

وفي كل شيء له أة الآية ٣٧ ـ ٤٤ :

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي

٣١٣

لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))

اللغة :

نسلخ منه النهار أي نزيل النهار ونضع الليل مكانه. ومظلمون داخلون في الظلام. والعرجون على وزن فعلول من الانعراج أي الاعوجاج ، وهو غصن النخلة شبه به القمر إذا انتهى في نقصانه. فلا صريخ فلا مغيث.

الإعراب :

الليل مبتدأ مؤخر وآية خبر مقدم. ذلك تقدير العزيز كلام مستأنف مبتدأ وخبر. والقمر على حذف مضاف والعامل به فعل محذوف أيضا دل عليه الموجود أي وقدرنا دوران القمر قدرناه. ومنازل منصوب على الظرفية أي في منازل مثل دخلت الدار أي في الدار خلافا لصاحب مجمع البيان. وكل مبتدأ وفي فلك متعلق بيسبحون والجملة خبر ، والجمع باعتبار المنازل ، وتدل يسبحون على ان واو الجمع تطلق بعض الأحيان على غير العقلاء ، وقال قائل : ان الشمس والقمر من العقلاء. والمصدر من انّا حملنا مبتدأ مؤخر ، وآية لهم خبر مقدم أي حملنا ذريتهم في الفلك آية لهم. ورحمة مفعول من أجله ومتاعا عطف على رحمة.

٣١٤

المعنى :

ذكر سبحانه هنا آيات كونية تدل على قدرته وعظمته ، وهي :

١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ). يتعاقب الليل والنهار نتيجة لكروية الأرض ودورانها حول نفسها تماما كدوران الرحى ، وجانب الأرض الذي يحاذي الشمس حين الدوران يصير نهارا ، وغير المحاذي يصير ليلا ، فإذا تجاوز عن الشمس ما كان محاذيا لها بسبب الدوران وحلّ محله الجانب الآخر الذي كان ليلا ، إذا كان كذلك ينعكس الأمر ، فيصير ما كان ليلا نهارا ، وما كان نهارا يصير ليلا ، وهكذا دواليك ، وقد عبّر سبحانه عن هذا بالانسلاخ ، وأسنده اليه لأنه خالق الكون وسبب الأسباب ، وتقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧ والآية ١٢ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٢٦.

٢ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). اختلف المفسرون في المراد من مستقرها على أقوال أنهاها الرازي الى أربعة ، وكلها بعيدة عن الافهام ، والصواب ان مستقرها كناية عن سيرها بنظام محكم ودقيق ، ويومئ الى هذا قوله تعالى : ذلك تقدير العزيز العليم. ونقل مؤلف كتاب القرآن والعلم الحديث عن كبار علماء الفلك المعاصرين : «ان الشمس تجري بسرعة ١٢ ميلا في الثانية غير دورانها حول نفسها ، وانها تختلف عن حال دوران الأرض». وتقدم ما يتصل بذلك في الآية ٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ). وهذه المنازل لا تبدل بغيرها ، ولا تتحول من مكانها ، ولا القمر يضل عنها. وقال الفلكيون : انها ٢٨ ينزل كل ليلة في واحد منها ، ويستتر في ليلتين إذا كان الشهر ٣٠ يوما ، وفي ليلة واحدة إذا كان ٢٩ ، وعندئذ يصير كغصن النخلة في الدقة والانحناء ، وهذا هو المراد بالعرجون. وتقدم ما يتعلق بذلك في الآية ٣٦ من سورة التوبة ج ٤ ص ٢٩ فقرة الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). لكل كوكب فلكه الخاص يدور فيه بنظام ، ويجري في منازل مقدرة إلى أن يطويها الله طي السجل للكتاب. وفي نهج البلاغة : «وجعل شمسها ـ أي

٣١٥

شمس الكواكب ـ آية مبصرة لنهارها ، وقمرها آية ممحوة من ليلها ـ أي ان ضوء القمر يطغى على ضوء بقية الكواكب ـ فأجراهما ، وقدر سيرهما في مدارج درجهما ليميز بين الليل والنهار بهما ، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما .. ومما قرأته في هذا الباب حديث قدسيّ ذكره صاحب الأسفار في المجلد الثالث ، ومعناه ان الله سبحانه قال : لو وضعت الشمس في جانب خاص من الكون لرفع الغني بناءه وحجب نور الشمس عن الفقير ، ولكن وضعتها في أفق تدور فيه وتسير حتى يجد الفقير نصيبه من ضوئها تماما كما يجد الغني.

٣ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ). ضمير «لهم» وذريتهم يعود إلى أبناء آدم .. يذكرهم الله سبحانه بأنعمه العظام عليهم ، ومنها حملهم في السفن مملوءة بهم وبمتاعهم تنقلهم من بلد الى بلد. وتقدم مثله في الآية ٣٢ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٤٨ والآية ٦٦ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٦٥.

٤ ـ (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ). ضمير مثله يعود إلى الفلك ، وقال المفسرون القدامى : المراد بمثله الإبل والخيل والبغال والحمير. قالوا هذا حيث لا طائرة ولا سيارة ولا مركبة فضاء (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) ولو كانوا في المدرعات وحاملات الطائرات. والغرض هو أن يذكرهم سبحانه بنعمة النجاة من الغرق ، وانه لولا رحمته وعنايته لكانوا من الهالكين (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) من الغرق مهما استغاثوا واستجاروا (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) إلا أن يتداركهم الله برحمته من أهوال البحر ، ويؤخرهم الى أجل مسمى وفقا لعلمه وحكمته.

اتقوا ما بين ايديكم الآية ٤٥ ـ ٥٤ :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ

٣١٦

لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))

الإعراب :

جواب وإذا قيل لهم اتقوا محذوف أي أعرضوا بدلالة قوله : معرضين في الآية التالية. وويلنا منادى أي يا ولينا احضر هذا أوانك. هذا ما وعدنا الرحمن مبتدأ وخبر والكلام مستأنف.

المعنى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). ضمير «لهم» يعود الى مشركي العرب. والمراد بما بين أيديهم معاصي الله ومحارمه ، وبما خلفهم العقاب عليها. وفي نهج البلاغة : «ان الساعة تحدوكم من خلفكم». والمعنى ان رسول الله نهاهم عن المعاصي ، وأنذرهم بنقمة الله وعذابه ان عصوا ، وبشرهم برحمته وثوابه ان أطاعوا ، ولكنهم انقلبوا على أعقابهم مدبرين. (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ). كلما جاءهم الرسول بمعجزة

٣١٧

ظاهرة أو بيّنة واضحة كذّبوا بها تمردا وعنادا. وتقدم مثله في الآية ٥ من سورة الشعراء ج ٥ ص ٤٨٨.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) للمترفين مبدأ واحد ودين واحد ، وهو الحرص على ثرائهم ومصالحهم ، فإذا تكلموا أو فعلوا فبوحي منه يقولون ويفعلون ، وإذا نظروا فمن خلاله ينظرون ، وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض قالوا : انما نحن مصلحون ، وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس. قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء؟ وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن؟ بل نسجد للدرهم والدينار. وإذا أمرهم آمر أن ينفقوا على المحاويج قالوا : قضى الله عليهم بالفقر ، وقدر لنا الغنى .. وجهلوا أو تجاهلوا ان الفقر من صنع الأرض لا من صنع السماء ، من فساد الأوضاع وجور أنظمة السلب والنهب واستغلال الضعفاء.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). وإذا حذرهم الله والرسول من سوء العاقبة وبئس المصير. قالوا ساخرين : ومتى هذا المصير؟ وتقدم مثله في العديد من الآيات (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي يتنازعون في شئون دنياهم ، ومثله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ـ ٩٥ الأعراف.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ). إذا جاءت صيحة العذاب فلا يمهل أحد منهم ليوصي أهله بما أهمه ، وان كان غائبا عنهم لا يملك الرجوع اليهم (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ). تقدم مثله في الآية ١٠٠ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٦٢.

(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا). تعجبوا من إحيائهم بعد الموت ، وكانوا من قبل يسخرون ممن يعدهم به ، ويأمرهم بالاستعداد له ، وبعد أن شاهدوه قالوا : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) بأن الساعة آتية لا ريب فيها وان الله يبعث من في القبور (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ). فالخلق والموت والبعث لديه تعالى سواء .. كل واحد منها

٣١٨

يكون بكلمة واحدة : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) ـ ٢٨ لقمان. وتقدم مثله في الآية ٣٢ من هذه السورة (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). وفي معناه : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ـ ١٧ غافر.

أصحاب الجنة وأصحاب النار الآية ٥٥ ـ ٦٨ :

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

اللغة :

فاكهون مرحون من الفكاهة لا من الفاكهة. وظلال جمع ظل وهو الفيء.

٣١٩

والأرائك جمع أريكة وهي السرير. وما يدعون ما يطلبون. وامتازوا انفردوا وابتعدوا عن أهل الخير والصلاح. جبّلا كثيرا خلقا كثيرا. اصلوها قاسوا حرها والزموا العذاب بها. والطمس المحو والمراد به هنا العمى أي لأعميناهم. فاستبقوا من الاستباق أي بادروا وانطلقوا. ونكس الشيء هو جعل أسفله أعلاه.

الإعراب :

في شغل خبر ان وفاكهون خبر ثان. وهم مبتدأ وأزواجهم عطف عليه ، وفي ظلال خبر ، ومتكئون خبر ثان وعلى الأرائك متعلق به. وسلام بدل من ما يدعون. وقولا منصوب على المصدرية. أن لا تعبدوا «أن» مفسرة للعهد. وان اعبدوني عطف على أن لا تعبدوا الشيطان.

المعنى :

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ). ان أغلى أمنية للإنسان الصحة والأمان وراحة البال من المشاغل والمتاعب ، وان يتوفر له ما لذ وطاب من مأكل ومشرب ومسكن وملبس ومتعة بالنساء والأشجار والأنهار ، وكل ذلك وما إليه متوفر لأهل الجنة ، وفوق كل شيء (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) وسلام الله أمان ورحمة ، ورضوانه منتهى السعادة والنعمة .. ومن هنا قال الإمام علي (ع) : كل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ). كان المجرمون في الحياة الدنيا يتظاهرون بالصلاح ويلبسون مسوح الرهبان ، ويختلطون مع أهل التقى والخير .. ويخفى حالهم على الكثير من الناس ، أما في يوم الفصل والجزاء فيباعد الله بينهم وبين الصالحين ، ويقول لهم : ادخلوا النار مع الداخلين (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ـ ٤١ الرحمن.

٣٢٠