التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

المعنى :

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ). تقدم نظيره في الآية ٥٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٢.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً). العزة لله ولدين الله بالذات ، وبهما يكون الإنسان عزيزا ، ومن اعتز بغير الله ذل ، قال ابن عربي في الفتوحات : عزة الحق لذاته إذ لا إله إلا هو ، وعزة رسوله بالله ، وعزة المؤمنين بالله وبرسوله .. فعزة هؤلاء بإعزاز الله ، فثبت للفرع ما ثبت للأصل. وما ذل المسلمون في هذا العصر إلا لأنهم اعتزوا بغير الإسلام ، وقد كانوا من قبل أقل من اليوم عددا ، ولكن كانوا كثيرين بالإسلام عزيزين بالاجتماع ووحدة الكلمة ضد عدو الله وعدوهم.

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ). صعود الكلام ورفع العمل اليه تعالى كناية عن قبولهما والاثابة عليهما ، والكلام الطيب ما نفع ، ومثله العمل الصالح ، وتومئ الآية الى ان سبب العزة والرفعة عند الله تعالى هو ما ينفع الناس من الأقوال والأفعال (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ). يمكرون السيئات أي يدبرون الأذى والاساءة الى المؤمنين والطيبين ، ولكن هذا المكر والخداع الى بوار وهباء ، وفي معنى ذلك قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ـ ٤٣ فاطر.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ). تقدم في الآية ٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣١٠ (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أصنافا أسود وأبيض وذكرا وأنثى (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) لأنه بكل شيء محيط (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). المعمر طويل العمر. ولا ينقص من عمره كناية عن قصر العمر ، وفي كتاب أي في علم الله ، والمعنى الأعمار بيده تعالى. وفي نهج البلاغة : «لا تنالون من الدنيا نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله». انظر ج ٢ ص ١٧١ فقرة : «الأجل محتوم».

٢٨١

وما يستوي البحران الأة ١٢ ـ ١٨ :

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

اللغة :

عذب حلو لذيذ. والسائغ سهل المرور في الحلق. وملح أجاج شديد الملوحة. ومواخر جمع ماخرة ، يقال : مخرت السفينة إذا جرت. وقطمير قشر رقيق على نوى التمر كاللفافة لها. والوزر الذنب. والمثقلة النفس التي أثقلتها الذنوب.

٢٨٢

الإعراب :

شرابه فاعل سائغ. وجملة تلبسونها صفة لحلية. والمصدر من لتبتغوا متعلق بمواخر. ذلكم مبتدأ والله خبر أول وربكم خبر ثان ، وله الملك مبتدأ وخبر والجملة خبر ثالث. ومن دونه متعلق بمحذوف حالا من مفعول تدعون المحذوف أي والذين تدعونهم كائنين من دونه. وكل من وازرة وأخرى ومثقلة صفة لنفس محذوفة أي ولا تزر نفس وازرة وزر نفس أخرى. ولو كان ذا قربى «لو» للوصل واسم كان محذوف أي ولو كان المدعو ذا قربى.

المعنى :

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ). هذه الآية من الآيات الكونية ، وهي تشير إلى تنوع الماء عذوبة وملوحة ، وهذا التنوع وان استند مباشرة إلى أسبابه الطبيعية فإنها تنتهي الى خالق الطبيعة ومبدعها. وتقدم مثله في الآية ٥٣ من سورة الفرقان ج ٥ ص ٤٧٦ (ومن كل) واحد من البحرين (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) كالسمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). تقدم بالنص الحرفي في الآية ١٣ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٠٢.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ). تتحرك الأفلاك ويدور بعضها حول بعض ، فتتعدد الفصول ، ويأخذ الليل من النهار في فصل ، والنهار من الليل في فصل آخر ، وهذا التنظيم الدقيق المطرد في كل عام مدى الملايين من القرون ـ يدل دلالة قاطعة على وجود المدبر الحكيم لهذا الكون ، تماما كما تدل الآلة التي تؤدي الغرض المطلوب منها ـ على صانعها ومنظمها ، والصدفة باطلة بحكم التكرار. وتقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧ (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى). تقدم بنصه الحرفي في الآية ٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ).

٢٨٣

القطمير كناية عن أحقر الأشياء وأتفهها ، والمعنى ان ما ترونه من مظاهر الكون وعجائبه فهو من صنع الله الذي لا إله سواه ، أما الذين تعبدون وترجون فإنهم لا يملكون مع الله شيئا (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) ان كانوا بلا احساس وشعور كالأحجار والأشجار والكواكب (وَلَوْ سَمِعُوا) ان كانوا من الإنس أو الجن أو الملائكة (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فكيف يملكون ذلك لغيرهم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ). يبرءون منكم ويوبخونكم على الشرك والضلال (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) بمصير هؤلاء المكذبين بنبوتك يا محمد وغيرهم من العصاة والطغاة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). ان افتقار المخلوق الى خالقه لا ينقطع أبدا تماما كافتقار المعلول الى علته ، والمسبب الى سببه ، قال ابن عربي في الفتوحات : للإنسان وجهان : وجه مفتقر الى الله ، ووجه غني عن العالم ، فهو فقير ذليل أبدا بالنسبة اليه تعالى ، وغني عزيز بالنسبة الى من استغنى عنه.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ). ذلك اشارة الى إفناء العاصين ، وإيجاد المطيعين مكانهم ، ولو أراد ذلك سبحانه لكان ما أراد ، لأنه على كل شيء قدير. وتقدم في الآية ١٩ من سورة ابراهيم بالنص الحرفي ج ٤ ص ٤٣٦ ، وبالمعنى في الآية ١٣٢ من سورة النساء ج ٢ ص ٤٥٦ والآية ١٣٣ من سورة الانعام ج ٣ ص ٢٦٦.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) كل مذنب يحاسب ويعاقب على ذنبه فقط ، والعكس في التوراة سفر العدد اصحاح ٢٤ : «الرب طويل الروح .. ولكنه لا يبرئ بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء». وتقدمت الآية بنصها الحرفي في سورة الأنعام الآية ١٦٤ ج ٣ ص ٢٩٣ (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى). مثقلة أي نفس تحمل حملا ثقيلا من الأوزار ، والمعنى لا يجدي في ذلك اليوم تضرع وخضوع ولا طلب العون والغوث من قريب وحبيب لأن لكل انسان من نفسه شاغلا عن غيره : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ـ ٣٧ عبس.

٢٨٤

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ). انما يستجيب لدعوتك يا محمد الذين يخافون الله ، ويرجون ثوابه ، أما الذين لا يؤمنون به ولا باليوم الآخر فلا يجدي معهم نصح ولا إنذار (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ). هذا مثل قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ٤٦ فصلت. وفي نهج البلاغة : حاسب نفسك لنفسك ، فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فيثيب من آمن وأصلح ، ويعاقب من أفسد وأساء.

وما يستوي الأعمى والبصير الأة ١٩ ـ ٢٨ :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))

٢٨٥

اللغة :

استوى هذا وذاك أي هما سواء أو على سوية. والظّل الفيء والظلال ما أظلك. والحرور الريح الحارة والمحرور من داخلته حرارة الغيظ ونحوه. والجدد بضم الجيم جمع جدة بالضم أيضا ، وهي الطريق والجادة من الألوان المختلفة. وغرابيب جمع غربيب الشديد السواد، وفي البحر المحيط يقال : اسود حلكوك واسود غربيب.

الإعراب :

ان نافية ، ومن زائدة اعرابا ، وأمة مبتدأ ، وجملة خلا خبر. ومختلفا صفة لثمرات وألوانها فاعل مختلف. ومن الجبال جدد مبتدأ وخبر ، وبيض وحمر صفة لجدد. ومختلف ألوانها صفة لحمر. وبيض موصوفة بمختلف محذوف ، وهو من باب حذف الأول لدلالة الثاني عليه ، والمعنى ان الجدد البيض تختلف في البياض شدة وضعفا ، والجدد الحمر تختلف في الحمرة كذلك. ومن الناس وما بعده متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف ، ومختلف ألوانه صفة للمبتدإ المحذوف اي جنس مختلف ألوانه. وكذلك الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف اي اختلافا مثل ذلك.

المعنى :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ). المراد بالأعمى من انحرف عن طريق الحق والهداية ، وضده البصير ، والظلمات كناية عن الجهل والضلال والنور كناية عن العلم والهدى ، والظل يومئ إلى النعيم والحرور الى الجحيم ، أما الأحياء فهم أصحاب القلوب الحية الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وضدهم الأموات ، والمعنى ليس سواء عند الله وفي الواقع من آمن وأصلح ومن كفر وأفسد ، بل ان الفرق بينهما تماما كالفرق بين العمى والبصر ، والنور والظلام ، والجحيم والنعيم ، والموت والحياة.

٢٨٦

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ). ان كلامه تعالى يؤثر ويعمل عمله في نفوس الذين يطلبون الحق لوجه الحق ، ويستمعون اليه رغبة في العمل به ، أما الذين لا يحركهم شيء إلا المصالح الخاصة ولا يعملون إلا بوحي منها فإنهم لا يستمعون إلى كلامه تعالى ، ولا هو ، جلت حكمته ، يلجئهم إلى الهداية وإلا بطل الثواب والعقاب. وتقدم مثله في الآية ٤٢ من سورة يونس ج ٤ ص ١٦٢ والآية ٨٠ من سورة النمل.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً). أرسل الله محمدا (ص) بالحجج الكافية الوافية داعيا إلى الحق ، وشاهدا على الخلق ، فبلّغ رسالات ربه على أكمل وجه ، وكان رحمة للعالمين بعامة ، وللعرب بخاصة حيث نقلهم من الجاهلية الجهلاء الى نور الإسلام وكرامته. وتقدم بنصبه الحرفي الآية ١١٩ من سورة البقرة ج ١ ص ١٩٠.

لكل أمة رسول :

في القرآن الكريم آيات تدل صراحة على ان الله سبحانه أرسل لكل أمة رسولا ، منها هذه الآية : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ») ومنها : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) ـ ٤١ النساء ج ٢ ص ٣٢٧ ، ومنها : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) ـ ٣٦ النحل ج ٤ ص ٥١٢ ، ومنها : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) ـ ٤٧ يونس ج ٤ ص ١٦٥. بالاضافة الى قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٩٢ الحجر ، وقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) ـ ٣٦ القيامة ونحو ذلك.

وغير بعيد أن يكون المراد بالرسول والنذير والشهيد كل ما تقوم به الحجة ، وتقطع به المعذرة من نبي مرسل أو كتاب منزل أو مرشد مصلح أو حكم من أحكام العقل البديهية التي لا ينبغي ان يختلف فيها اثنان من ذوي العقول السليمة وفطرة الله التي فطر عليها الناس ، كقبح الظلم والخيانة ، وحسن العدل والأمانة ، وما إلى ذاك. ولا نعرف أمة من الأمم عاشت فوضى وبلا نظام ، تدع كل واحد من أفرادها وما يشاء لا تحاسبه على قول أو فعل.

وتسأل : ألا يتنافى قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) مع

٢٨٧

قوله : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) ـ ٤٤ سبأ حيث أثبت في الآية الأولى النذير لكل قوم ، ونفاه في الثانية عن قوم محمد (ص) قبل بعثته؟

الجواب : النذير في الآية الأولى يشمل كل نذير نبيا كان أم غير نبي ، أما النذير في الآية الثانية فالمراد به النبي بالخصوص ، وعليه فلا تضاد بين الآيتين لأن المعنى ان قوم محمد (ص) لم يأتهم نبي مرسل قبل البعثة ، ولكن أتاهم نذير من العقل والفطرة ، وهو كاف واف لالقاء الحجة عليهم بخاصة في عبادتهم الأحجار ومن أجل هذا كان الرسول الأعظم (ص) يجادلهم فيها بمنطق العقل ويقول لهم : (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ـ ٧٦ المائدة.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ). الزبر الكتب ، والمراد بها هنا الحكم والمواعظ ، والكتاب المنير التوراة التي نزلت على موسى ، والإنجيل الذي نزل على عيسى ، وغيرهما من الكتب المنزلة قبل بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين. وتقدم في الآية ١٨٤ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٢٢ (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ). المراد بالنكير العذاب أي ان الله سبحانه أنكر عليهم بالفعل لا بالقول. وتقدم في الآية ٤٤ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣٧ والآية ٤٥ من سورة سبأ.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) وطعمها وروائحها ، وليس من شك ان هذا الاختلاف يستند مباشرة إلى أسبابه الطبيعية ، ولكن هذه الأسباب تنتهي الى خالق الطبيعة. وتقدم مثله في الآية ٤ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٥ و ٢٧٦ فقرة «السيد الأفغاني والدهريون».

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ). يقول ، عز من قائل : انه جعل في الجبال طرقا ، بعضها طرق بيض ، وبعضها طرق حمر ، وبعضها طرق سود ، وكل صنف من هذه الطرق الثلاث يختلف في لونه شدة وضعفا ، والعبرة في هذا الاختلاف هي الدلالة على قدرة الله وارادته تعالى تماما كدلالة اختلاف الثمار (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ). وعطف الانعام على الدواب من باب عطف الخاص على العام لأن المراد بالدواب الحيوانات التي تدب على الأرض ، ومنها الانعام التي تطلق على الإبل والبقر والغنم

٢٨٨

والماعز ، والمعنى ان اختلاف ألوان الناس واختلاف ألوان الدواب يدلان على قدرة الله تماما كما دل اختلاف الثمرات والطرق.

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ). المراد بالعلماء هنا الذين آمنوا بالله عن علم لا عن تقليد ، وعرفوا عظمته بالأدلة والبراهين ، وما من شك ان العالم بقدرة من لا يقهره شيء ولا يفوته شيء ـ لا ينفك أبدا عن الخوف منه ، ومن ثم كان العلماء بالله أشد الناس خوفا من غضب الله وسطوته ، وأكثرهم رجاء لفضله وعفوه .. ونحن من الذين يؤمنون بأنه لا إيمان حقا بلا تقوى ، ولا تقوى بلا وعي ، ومن أجل ذلك قال الرسول الأعظم (ص) : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على النجوم» واشتهر عنه (ص) : نوم العالم خير من عبادة الجاهل (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ). عزيز في انتقامه ممن طغى وبغى ، غفور لمن تاب وأناب.

ظالم نفسه ومقتصد وسابق بالخيرات الأة ٢٩ ـ ٣٥ :

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ

٢٨٩

شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

اللغة :

العدن الاقامة. والحزن بفتحتين من الأرض ضد السهل ، ومن النفس ضد الفرح. ودار المقامة دار الخلود ، وهي الجنة. والنصب تعب الجسم. واللغوب تعب النفس الناشئ عن تعب الجسم.

الإعراب :

سرا قائم مقام المفعول المطلق أي إنفاقا سرا مثل قمت طويلا أي قياما طويلا. وجملة يرجون خبر إنّ. والمصدر من ليوفينهم متعلق بيرجون أي يهدفون من أعمالهم الصالحة إلى أجر الله وفضله. هو ضمير الفصل لا محل له من الإعراب والحق خبر الذي ، ومصدقا حال. جنات عدن خبر لمبتدأ محذوف أي ثوابهم جنات عدن. وجملة يدخلونها حال ، ومثلها جملة يحلّون ، ومن أساور متعلق بيحلون. ولؤلؤا عطف على محل أساور لأن كل مجرور لفظا هو منصوب محلا أو مفعول لفعل محذوف أي ويحلون فيها لؤلؤا. ودار الاقامة مفعول ثان لأحلنا و «نا» مفعول أول. وجملة لا يمسنا حال من «نا».

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ). المراد بكتاب الله القرآن الكريم ، وبالتلاوة التدبر والعمل ، لأن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) الخ بعد قوله :

٢٩٠

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) يومئ الى ان المراد من «يتلون» ما قلناه ، وفي نهج البلاغة : ليس في ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا أنفق منه ـ أي اروج ـ إذا حرف عن مواضعه .. فقد دل السياق على ان المراد بحق التلاوة العمل. ومعنى الآية ان الذين يتدبرون القرآن ويعملون بأحكامه قاصدين وجه الله فقد ربحت تجارتهم ، وكانوا هم الفائزين. وفي نهج البلاغة : باع المؤمنون قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ). آمنوا وعملوا وأخلصوا طلبا لمرضاة الله ومثوبته ، وعفوه ورحمته فنالوا ما يبتغون. وتقدم مثله في الآية ٢٧٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٤٢٨ والآية ٢٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٩٨.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُ). المراد بالكتاب القرآن ، وهو يحمل معه الأدلة والبراهين على صدقه وحقيقته ، وهي أحكامه وتعاليمه التي تعطي الأولية للايمان بعدل الله ووحدانيته ، وبكرامة الإنسان وحريته (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب والشرائع التي تقوم على هذا الأساس ، أساس الايمان بالله وبالإنسان (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) بما يصلحهم وما يفسدهم ، فينهاهم عن هذا ، ويأمرهم بذاك. ولكن المسلمين تركوا ما امر به القرآن ، وفعلوا ما نهى عنه ، وصدق عليهم قول الرسول الأعظم : يأتي على أمتي زمان ينهون فيه عن المعروف ، ويأمرون بالمنكر .. فلا بدع إذا تسلط عليهم شرار خلق الله.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا). المراد بالكتاب القرآن ، ما في ذلك ريب ، واختلف المفسرون في المراد بالمصطفين ، فذهب أكثرهم أو الكثير منهم الى انهم أمة محمد (ص). والذي نراه نحن انهم محمد (ص) وأهل بيته وصحابته وعلماء أمته الذين ساروا بسيرته ، وعملوا بسنته لأن كلمة اصطفينا معناها اخترنا ، والله سبحانه لا يختار إلا المتقين الأبرار ، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الاصطفاء بهذا المعنى في العديد من الآيات ، منها : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) ـ ٣٣ آل عمران. ومنها : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ـ ١٣٠ البقرة. أما ضمير «منهم» في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) أما هذا الضمير فإنه يعود الى «عبادنا» لأنهم أقرب من «الذين اصطفينا».

٢٩١

والظالم لنفسه من رجحت سيئاته على حسناته ، والسابق بالخيرات من رجحت حسناته على سيئاته ، وبالأولى من لا سيئات له ، والمقتصد بينهما أي الذي استوت حسناته وسيئاته.

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ). ذلك اشارة الى الميراث والاصطفاء ، وجنات عدن الخ. بيان وتفسير لفضل الله الكبير الذي جعله جزاء للذين اصطفى ، والذهب واللؤلؤ والحرير تعبير ثان عن قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ـ ٧١ الزخرف وفي الحديث ان أعرابيا قال : يا رسول الله هل في الجنة سماع أي غناء؟ قال : نعم يا أعرابي.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ). حمدوا الله وشكروه على الخلاص من الخوف والاضطراب ، والنجاة من الجحيم والعذاب ، والتحرر من الأتعاب والأرزاء ، وعلى الخلود في النعيم والهناء.

لا يقضي عليهم الأة ٣٦ ـ ٣٩ :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا

٢٩٢

يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))

اللغة :

يصطرخون يصيحون مستغيثين. نعمركم نمهلكم. وخلائف جمع خليفة وهو الذي يخلف من قبله.

الاعراب :

فيموتوا منصوب بأن مضمرة لأن الفعل وقع جوابا للنفي ، والمصدر المنسبك فاعل لفعل محذوف أي فيحصل لهم الموت. وصالحا صفة لمفعول محذوف أي عملا صالحا. وما يتذكر «ما» مصدرية ظرفية أي ألم نعمركم أمدا كافيا للتذكر. ومقتا وخسارا تمييز.

المعنى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها). ذكر سبحانه صورا لعذاب العصاة الطغاة ، منها هذه الصورة ، وهي أليم العذاب وشدته ، ودوامه واستمراره ، فلا موت ينتهي به العذاب ، ولا سبب يوجب التخفيف (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) جزاء وفاقا لجرمه وجريرته وتقدم مثله في الآية ٥٦ ج ٢ ص ٣٥٣ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). صاحوا واستغاثوا ولا مغيث ، وتضرعوا وتابوا ولكن بعد فوات الأوان. وتقدم مثله في الآية ١٠٠ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٨٨ والآية ١٠٧ ص ٣٩٠ من نفس السورة والمجلد. وقال سبحانه في الآية

٢٩٣

٢٨ من سورة الأنعام : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ج ٣ ص ١٧٩.

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ). طلبوا من الله ان يعيدهم الى الدنيا ثانية ليستدركوا ما فات من الايمان وصالح الأعمال ، فأجابهم سبحانه : لقد كنتم في الدنيا من قبل ، ومكثتم فيها أمدا غير قصير ، وجاءكم البشير والنذير ، ودللتم الى سبيل الرشد والهداية ، فأبيتم إلا البغي والضلال (فذوقوا) العذاب الآن بما كنتم تكفرون (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) لأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم ، لأن الله أعذر اليهم بالحجج والبينات.

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). يعلم السرائر والضمائر ، وما يغيب في الأرض والسماء عن الأبصار والبصائر ، ولا يخفى عليه من شيء كان ويكون (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً). خلق سبحانه الأرض في تكوينها وإمكانياتها معاشا وحياة للناس ، يرثونها جيلا بعد جيل ، ومنحهم العقل والقدرة على التحكم بها وبخيراتها كما يشاءون ، وأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحدد لهم حدودا ، ونهاهم أن يعتدوها .. فمن سمع واتقى فله أجر كريم ، ومن أعرض ونأى فله عذاب الجحيم يتضاعف ويزداد كلما ازدادوا عتوا وطغيانا : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) ـ ١٧٨ آل عمران ج ٢ ص ٢١٠.

يمسك السموات والأرض الأة ٤٠ ـ ٤٣ :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ

٢٩٤

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣))

اللغة :

أرأيتم أخبروني. جهد أيمانهم بالغوا فيها واجتهدوا.

الإعراب :

شركاءكم مفعول أول لأرأيتم. والذين بدل من شركائكم. وأروني تأكيد لأرأيتم لأن كلا منهما بمعنى أخبروني. ومضمون الاستفهام من «ما ذا خلقوا» مفعول ثان. وبعضهم بدل بعض من الظالمين. والمصدر من ان تزولا مفعول من أجله ليمسك. وجهد مفعول مطلق لأقسموا لأنه مضاف إلى الايمان. واستكبارا مفعول من أجله ، ومكر السيء معطوف عليه.

المعنى :

احتج سبحانه في الآية الأولى على المشركين بأمور ثلاثة :

١ ـ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ).

٢٩٥

أخبروني أيها المشركون : ما الذي دعاكم ان تجعلوا لله أندادا وأضدادا؟ فهل من شيء في الأرض يدل صنعه على تعدد الصانع والأنداد؟ .. كلا ، فإن جميع الكائنات ينطق وجودها بوحدانية الله ، ويشهد إحكامها بعظمته وحكمته.

٢ ـ (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ). المراد بالشرك هنا النصيب ، والمعنى أم لمعبود المشركين أثر في السماء يدل على انهم شركاء لله في خلقه؟

٣ ـ (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ). ضمير «هم» يعود الى المشركين لا الى الشركاء ، وضمير «منه» يعود الى الكتاب ، والمعنى أم جعلتم شركاء لله في العبادة وغيرها اعتمادا على كتاب منزل أو نبي مرسل؟ وبالإجمال لا عذر للمشركين من العقل أو النقل فيما يشركون ، بل هم في سكرتهم يعمهون.

(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً). المراد بالغرور هنا الباطل ، وقد كان رؤساء الشرك والضلال يقولون للضعفاء والأتباع : ان الأصنام يشفعون لكم غدا .. وليس من شك ان هذا الوعد والقول كذب وافتراء ، وإغراء بالباطل (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً). أمسك سبحانه الكواكب بنظام الجاذبية ، تماما كما أمسك الطير في السماء بجناحيه ، وأسند تعالى الإمساك اليه لأنه خالق الكون ومسبب الأسباب. وتقدم مثله في الآية ٦٥ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٤٦.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ). ضمير أقسموا يعود إلى مشركي قريش ، واحدى الأمم أي أية أمة من الأمم ، وفي البحر المحيط يقال : إحدى الأمم ، تفضيلا لها على غيرها أي لا نظير لها .. وقد كانت قريش تنكر على اليهود انحرافهم عن دينهم وقتلهم أنبياءهم ، وتحلف الأيمان المغلظة لئن جاءها رسول من الله لتكونن أطوع اليه من بنانه (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ). وأخيرا جاءهم رسول من عند الله بالهدى والبينات .. ولكنهم كذبوه ونفروا منه وتعالوا عليه وعلى دعوته ، ومكروا به وبأتباعه ، وصدوا الناس عن الايمان بنبوته .. ولكن في النهاية نصره الله عليهم واستسلموا لأمره أذلاء صاغرين.

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ). المكر السيء أن تضمر الشر لأخيك ،

٢٩٦

وتدبره له في الخفاء ليقع فيه من حيث لا يشعر .. وإذا جهل المسكين ما أضمرت ودبرت فإن الله به عليم ، وهو مجازيك عليه لا محالة جزاء الكاذب المخادع ، ويعود عليك وبال كيدك ومكرك (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً). سنة الأولين أي سنة الله في الأولين ، وهي هلاك من كذّب أنبياء الله ورسله ، والمعنى ألا يعلم الذين كذّبوا رسولنا محمدا ان الله قد أهلك قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم ممن كذّبوا الرسل ، وان هذه هي عادته في كل مكذّب بأنبياء الله ورسله ، وانها لا تتبدل ولا تتحول؟ أفلا يعتبرون بالغير ، ويتعظون بالعبر؟

ما ترك على ظهرها من دابة الأة ٤٤ ـ ٤٥ :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

اللغة :

المراد بالدابة هنا كل ما دب ويدب على الأرض حتى بني آدم.

الإعراب :

قوة تمييز. واللام في ليعجزه لمجرد تأكيد النفي. ومن زائدة إعرابا وشيء فاعل يعجزه. والضمير في ظهرها يعود الى الأرض التي دل عليها سياق الكلام. ومن زائدة ودابة مفعول ترك.

٢٩٧

المعنى :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً). هذه الآية ترتبط بالتي قبلها ، فتلك تقول : ان سنّة الله فيمن مضى من مكذبي الرسل هي الإهلاك والاستئصال ، وتقول هذه لمن كذّب محمدا (ص) : تلك آثار المكذبين قبلكم وديارهم ظاهرة للعيان ، وما هي منكم ببعيد ، فاضربوا في الأرض قليلا وشاهدوها لعلكم تذكّرون وتتعظون. وتقدم في الآية ٤٦ من سورة الحج ج ٥ ص ٣٣٧.

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب ، فكل شيء خاضع لقدرته ، وخاشع لعظمته. وفي بعض التفاسير : ان جميع المخلوقات خصماء المذنبين حتى الدواب والوحوش والذر والطيور ، لأن الله ينزل العذاب عليهم ، وإذا نزل العذاب عمّ كما قال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ـ ٢٥ الأنفال ج ٣ ص ٤٦٨.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً). وأدل شيء على عقوق الإنسان لخالقه انه يأكل رزقه ، ويعبد غيره .. وهذا وحده كاف واف للعقاب والمؤاخذة ، ولكن لكل شيء عند الله مدة وأجلا مسمى.

٢٩٨

سورة يس

مكية إلا آية واحدة ، وعدد الآيات ٨٣.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

انك لمن المرسلين الأة ١ ـ ١٢ :

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

اللغة :

المقمح الذي يغض بصره بعد أن يرفع رأسه ، يقال : قمح البعير رأسه إذا رفعه بعد شرب الماء. فأغشيناهم جعلنا على أبصارهم غشاوة.

٢٩٩

الإعراب :

على صراط متعلق بالمرسلين. تنزيل نصب على المصدرية. والمصدر لتنذر متعلق بتنزيل. وما نافية وجملة ما انذر صفة لقوم. وسواء مبتدأ وجملة أنذرتهم خبر ، والهمزة هنا للتسوية لا للاستفهام.

المعنى :

(يس) أكثر المفسرين على ان هذه الكلمة مثل (الم) وتقدم الكلام عنها في أول سورة البقرة ، أما قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) فإن المراد بيس هنا الياس (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). أقسم سبحانه بالقرآن الحكيم ان محمدا (ص) على الدين القويم ، وقسم الله بالقرآن مع وصفه بالحكمة يومئ إلى شرف القرآن وعظمته ، وانه من أقوى الأدلة على صدق محمد (ص) في دعوته ، أما وصفه سبحانه لنفسه بالعزة والرحمة في قوله : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) فهو اشارة إلى ان الله يأخذ العصاة المتمردين أخذ عزيز مقتدر ، ويرحم المؤمنين والمنيبين ، قال الإمام علي (ع) : لا يشغله غضب عن رحمة ، ولا تلهه رحمة عن عقاب.

الموسيقى الباطنية في القرآن :

في سنة ١٩٥٩ ألّف الأديب المصري المعروف مصطفى محمود كتاب «الله والإنسان» ، وأنكر فيه وجود الخالق ، وألفت في الرد عليه كتاب «الله والعقل» ، ثم تتبعته في مقالاته ومؤلفاته .. فقرأت له في مجلة «روز اليوسف» تاريخ ١٠ ـ ٤ ـ ١٩٦٧ مقالا أقر فيه بالبعث والحياة بعد الموت ، وأشرت الى ذلك في بعض حواشي المجلد الأول من هذا التفسير ص ٧٧.

ومصطفى محمود أديب بطبعه ، غني بذكائه الفطري الذي يكشف الدقيق الغامض من أسرار اللغة ، وخير شاهد على هذه الحقيقة ما كتبه عن القرآن الكريم بمجلة

٣٠٠