التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

قرأت في جريدة «أخبار اليوم» المصرية عدد ١٣ ـ ١٢ ـ ٦٩ : «ان للدعاية الاسرائيلية ٨٩٠ صحيفة في العالم لنشر الأخبار الكاذبة ، بالاضافة الى سيطرة الصهيونية على كثير من أجهزة الاعلام بطريقة غير مباشرة كالتلفزيون والراديو والاعلانات .. الخ». ولا أدري : هل يدخل في هذا الإحصاء الصحف البيروتية التي لها صلة وثيقة بالاستعمار والصهيونية أم لا؟ ومهما يكن فقد بدأت إسرائيل ـ ولله الحمد ـ تحس بعنف الضربات القاسية من الأيدي العربية .. وانها لكفيلة بالقضاء على الدعايات التي تلفقها أمريكا وربيبتها إسرائيل ، ويذيعها العملاء بعد أن يقبضوا الثمن.

(مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً). ملعونون على كل لسان لأن دينهم الدرهم والدينار ، وعملهم الغش والكذب والخداع .. ولا دواء لهم إلا القتل أينما كانوا لأنهم كالعضو الفاسد يفسد الجسم بكامله إذا لم يقطع منه (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). المراد بسنّة الله هنا حكم الله سبحانه في الضالّ المضل ، وهو القتل الذي شرعه ، جلت حكمته ، منذ الأزل ، وسيبقى هذا الحكم الى الأبد من غير تبديل وتعديل.

يسألك الناس عن الساعة الآية ٦٣ ـ ٦٩ :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩))

٢٤١

اللغة :

الساعة يوم القيامة. وما يدريك أي شيء جعلك داريا وعالما. وضعفين مثلين.

الإعراب :

وما يدريك (ما) استفهام في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها النفي ، وجملة يدريك خبر وفاعل الفعل محذوف أي وما يدريك بها أحد. وقريبا صفة لمحذوف أي زمنا قريبا. وخالدين حال من الكافرين. ويوم متعلق بلا يجدون. يا ليتنا (يا) لمجرد التنبيه وقيل : المنادى محذوف أي يا هؤلاء. والسبيلا مفعول ثان لأضلونا لمكان همزة التعدية ، ويجوز أن يكون السبيل منصوبا بنزع الخافض أي عن السبيل.

المعنى :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً). تقدم مثله في الآية ١٨٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٣١.

(إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا). يساق الكافرون والعصاة غدا الى عذاب الحريق ، ولا ناصر لهم ولا عاذر ، فيعضون يد الندامة على ما فرطوا من معصية الله والرسول .. ولكن «ندم البغاة ولات ساعة مندم». وتقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة الفرقان ج ٥ ص ٤٦٤.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً). المراد بالسادة والكبراء زعماء الدين والدنيا ، وباللعن الخزي .. وقد أحال الضعفاء الذنب على القادة من الطرفين ، وطلبوا من الله ان يضاعف لهم العذاب .. ومن دقق التاريخ رأى ان الأمة الجاهلة يقودها ـ في الغالب ـ الطغاة والعتاة ، أما أهل الوعي والمعرفة فإنهم لا يأتمنون على مصالحهم إلا الأمناء المخلصين. وتقدم مثله في الآية ٣٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٢٦.

٢٤٢

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً). الذين آذوا موسى (ع) هم بنو إسرائيل ، ما في ذلك ريب ، حيث وصفوه بما يتنزه عنه الأنبياء .. وتشير الآية إلى أن بعض الصحابة قد آذى الرسول الأعظم (ص) ونسبه الى ما هو بريء منه ، فنهى سبحانه المسلمين عن ذلك. وفي بعض الروايات : ان رسول الله (ص) قسم ذات يوم قسما ، فقال له رجل من الأنصار : ان هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، فاحمر وجهه ثم قال : رحمة الله على موسى ، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر.

انا عرضنا الأمانة الأة ٧٠ ـ ٧٣ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣))

اللغة :

القول السديد هو قول الحق والصدق. وتقول عرضت الشيء له أي أظهرته له ، وعرضته عليه أريته إياه. وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال كناية عن عظيم شأنها.

٢٤٣

الإعراب :

يصلح مضارع مجزوم بجواب قولوا. وأشفقن منها على حذف مضاف أي من حملها. واللام في ليعذب لام العاقبة مثل : لدوا للموت ، لأن الإنسان لم يحمل الأمانة كي يعذّب ، بل كان نتيجة الحمل المعصية التي هي سبب العذاب.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). القول السديد أن تقول الحق والصدق ، ولا تكتم منه شيئا ولو كان على نفسك ، والمراد به هنا ما ينفع الناس بقرينة قوله تعالى : (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) حيث جعل سبحانه القول السديد سببا لصلاح الأعمال ، ومثال ذلك ان ترشد ضالا إلى طريق الخير والأمان ، أو تنصر مظلوما بكلمة العدل ، أو تقول كلاما تصلح به بين اثنين ، وما إلى ذلك من القول الذي ينفع الناس بجهة من الجهات (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً). يفوز في الدنيا بالنجاح وحسن السيرة ، وفي الآخرة بمرضاة الله وثوابه.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ). اختلف المفسرون في معنى الأمانة ، فمن قائل : انها التكليف والطاعة ، وقائل : انها كلمة «لا إله إلا الله» ، وقال ثالث : هي أعضاء الإنسان كسمعه وبصره ويده ورجله ، وان عليه ان يستعملها فيما خلقت من أجله ، وذهب رابع الى انها الأمانة في الأموال .. والذي نراه نحن انها التضحية بالمصلحة الفردية لصالح الجماعة ، لا لشيء إلا لوجه الله والانسانية ، لأن هذه التضحية قد بلغت من الثقل والضخامة مبلغا لو عرضت على أقوى مخلوق كالسماوات والأرض والجبال لأشفق منها على فرض أنه يحسّ ويشعر.

فالغرض من ذكر السموات والأرض والجبال هو الاشارة الى عظمة هذه التضحية وتبعتها ، وان الإنسان هو المخلوق الوحيد من بين الكائنات الذي يستطيع أن يجاهد نفسه الأمّارة وشهواتها ، ويقاوم أهواءها ونزعاتها ، أما قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ

٢٤٤

ظَلُوماً جَهُولاً) فمعناه ان الإنسان يظلم نفسه وغيره إذا خان هذه الأمانة ، ويجهل العواقب السيئة التي تترتب على خيانته.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) الذين يتظاهرون بأداء الأمانة ، وهم خائنون (وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) يعذبهم الله لأن جريمة الشرك لا يكفّرها شيء حتى البذل والتضحية (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إذا تلافوا ما بدر منهم من تقصير (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي يغفر للتائبين ، ويرحم المستضعفين.

وصلّ اللهم على محمد وآله صلاة تشفع لنا يوم الفاقة اليك.

٢٤٥

سورة سبأ

مكيّة ، وآياتها ٥٤.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمدلله الذي له ما في السموات الأة ١ ـ ٦ :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦))

٢٤٦

اللغة :

الولوج الدخول. والعروج الصعود. ولا يعزب عنه لا يغيب عنه. ومعاجزين من عاجزه أي سابقه ليظهر عجزه. والمراد بالرجز هنا أسوأ العذاب ، ومن بيانية.

الإعراب :

الحمد لله مبتدأ وخبر. والذي عطف بيان من لفظ الجلالة. وعالم الغيب صفة لربي. ولا أصغر ولا أكبر عطف على مثقال ذرة. والمصدر من ليجزي متعلق بلا يعزب عنه. والذين سعوا مبتدأ أول وأولئك مبتدأ ثان ولهم وعذاب خبر والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول. ومعاجزين حال من فاعل سعوا. والذي أنزل اليك مفعول أول ليرى الذين أوتوا العلم ، والحق مفعول ثان ، و «هو» ضمير الفصل ، ويهدي عطف على الحق لأن الفعل هنا

بمعنى الاسم أي والهدى إلى صراط العزيز الحميد.

المعنى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). الله سبحانه هو المستحق للحمد في الدارين ، ومالك الكون ومدبره بما فيه على مقتضى علمه وحكمته. وفي نهج البلاغة : نحمده على عظيم إحسانه ، ونير برهانه ، ونوامي فضله وامتنانه ، حمدا يكون لحقّه قضاء ، ولشكره أداء ، وإلى ثوابه مقربا ، ولحسن مزيده موجبا.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ). تكرر هذا المعنى في العديد من الآيات ، منها الآية ٥٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٠٠ والآية ٦١ من سورة يونس ج ٤ ص ١٧٤ ، وملخصه ان الله بكل شيء عليم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ). تقدم مثله في

٢٤٧

الآية ٥٣ من سورة يونس ج ٤ ص ١٦٨ (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). الكتاب المبين كناية عن الحفظ ، والمعنى ان علم الساعة عند الله لا يجلّيها لوقتها إلا هو. أنظر تفسير الآية ١٨٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٤٣١.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ). هذا بيان للحكمة من البعث ، وهي أن يجزي الله الذين أحسنوا بالحسنى ، والذين أساءوا بما كانوا يعملون. أنظر ج ٤ ص ١٣٢ فقرة «الحساب والجزاء حتم».

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). المراد بالذين أوتوا العلم كل عالم منصف في كل زمان ومكان ، والمراد بالذي انزل اليك القرآن ، والمعنى ان أي عالم يدرس القرآن دراسة صحيحة لا بد أن ينتهي الى انه حق من عند الله ، لأنه يهدي للتي هي أقوم في عقيدته وشريعته وجميع تعاليمه.

الكافرون باليوم الأخر الأية ٧ ـ ٩ :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩))

٢٤٨

اللغة :

التمزيق التقطيع والتفريق ، يقال : مزقهم الله كل ممزق أي فرقهم وشتتهم ، والمراد بمزقتم في الآية بليتم في القبور. والمراد بالخلق الجديد البعث. والجنة الجنون. وكسفا جمع كسفة وهي القطعة. ومنيب راجع.

الإعراب :

إذا تتعلق بفعل محذوف أي إذا مزقتم بعثتم ، ولا يجوز أن تتعلق بينبئكم لأن النبأ كان قبل التمزيق لا بعده ولا حينه. وكل ممزق مفعول مطلق. وجملة انكم لفي خلق جديد مفعول ينبئكم. وافترى على الله أصلها أافترى فلما دخلت همزة الاستفهام على همزة الوصل أسقطتها.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ). هكذا قال المشركون : محمد كاذب أو مجنون ـ نعوذ بالله ـ ولما ذا نطقوا بكلمة الكفر؟ .. لأن النبي قال : ان الإنسان بعد الموت يبعث حيا .. ولا دليل على انكارهم هذا إلا التعجب والاستغراب تماما كقولهم : «أجعل الآلهة إلها واحدا ان هذا لشيء عجاب». وهو ، كما ترى ، مستمد من ذاتهم وتصورهم ، ومعنى هذا انهم ينفون الواقع بالفكرة والتصور ، مع العلم ان الفكرة لا تكون صادقة إلا إذا كانت انعكاسا عن الواقع ومن صلبه ، وان على من يعتنق نظرية ما أن يبرهن على صدقها بوجود الواقع المعبر عنها ، وليس له أن ينفي الواقع بفكرة مسبقة لا تقوم على أساس .. والى هذا يشير الإمام علي (ع) بقوله : «يعرف الرجال بالحق ، ولا يعرف الحق بالرجال». (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ). هم في الجهل والضلال لأنهم قاسوا الحق والواقع بأفكارهم وأوهامهم ، والعكس

٢٤٩

هو الصحيح أي كان عليهم أن يقيسوا أفكارهم بالحق والواقع.

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). يقول سبحانه للمكذبين : وأي عجب من بعثكم بعد الموت : «أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم» ألا يدل هذا الخلق على وحدانيته وكمال قدرته ، ومنها الاعادة الى الحياة بعد الموت؟ وتكلمنا عن ذلك مرارا. أنظر ج ١ ص ٧٧ وج ٢ ص ٣٩٦ وج ٤ ص ١٣٢.

(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ). ذلك اشارة الى خلق السموات والأرض ، فإنه يدل على عظمة الله وقدرته على إحياء العظاء وهي رميم عند من يرجع الى عقله وضميره ، أما قوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) فهو تهديد ووعيد لمن جحد وكفر بالآخرة أن تبتلعه الأرض ، أو ترميه السماء بقطع من نار فتحرقه.

داود وسليمان الأية ١٠ ـ ١٤ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى

٢٥٠

مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

اللغة :

الأوب الرجوع ، والتأويب الترجيع بالتسبيح ، والمراد بأوّبي هنا سبّحي. وسابغات وسوابغ جمع سابغ ، وهو التام من اللباس ، والمراد بسابغات هنا دروع تامات كاملات. وقدّر عدّل. والسرد التتابع ، وسرد الحديد نظمه. وغدوها سيرها بالغداة ، ورواحها سيرها بالعشي. والقطر بكسر القاف النحاس أو الحديد أو الرصاص. ومن يزغ من يعدل. ومحاريب جمع محراب ، وهو المعبد. وتماثيل جمع تمثال ، وهو صورة الشيء. والجفان جمع جفنة ، وهي القصعة. والجوابي جمع جابية ، وهي الحوض الكبير. وقدور جمع قدر. وراسيات ثابتات. والمنسأة العصا الكبيرة.

الإعراب :

يا جبال أوّبي أي قلنا يا جبال أوبي. والطير بالنصب لأنه معطوف على محل الجبال. والمصدر من أن اعمل مفعول من أجله لألنا أي ألنا له الحديد لأجل عمل الدروع ، وقيل : ان مفسرة بمعنى أي. والريح مفعول لفعل محذوف اي وسخرنا لسليمان الريح. وغدوها شهر مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الريح. ومن الجن من يعمل «من» مفعول لفعل محذوف أي وسخرنا له من الجن من يعمل. وآل داود أي يا آل داود ، ومفعول اعملوا محذوف ، وشكرا مفعول من أجله أي اعملوا الخيرات شكرا لله. وقليل خبر مقدم والشكور مبتدأ مؤخر. وان لو كانوا «ان» مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، أي انهم ، والمصدر المنسبك بدل اشتمال من الجن أي ظهرت الجن جهلهم والمعنى ظهر جهل الجن.

٢٥١

المعنى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ). قال سبحانه في الآية ١٥ من سورة النمل : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً). وفي الآية ١٦٢ من سورة النساء : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً). وفي الآية التي نحن بصددها ذكر سبحانه انه أسبغ على داود نعمة الصوت الرخيم الذي تكاد تتجاوب الجبال والطير مع صفائه. وفي الآية ٧٨ من سورة الأنبياء قلنا يجوز ان يكون تسبيح الجبال والطير على نحو الحقيقة مع داود لأن الله على كل شيء قدير ، وقال قائل : المراد بتسبيح الجبال والطير معه انها كانت توحي اليه بالتسبيح ، فإذا رآها قال مرددا : سبحان من خلق وصوّر .. وايضا أنعم الله على داود بأن جعل الحديد طوع ارادته يعمل منه ما يشاء دون ان يحميه بالنار ، او يضربه بالمطرقة .. ومن الجائز ان الله سبحانه ألهمه الأسباب والوسائل التي تجعل الحديد لينا.

(أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ). يقول تعالى لداود : اعمل من الحديد دروعا ، وأحكم صنعها بحيث تقي المقاتل السيف والسهم والسنان ، ولا تمنعه من الحركة كما يريد (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). الخطاب لداود وآله ، يأمرهم الله فيه بصالح الأعمال ، ويعدهم عليها بالأجر والثواب. وتقدم نظير هاتين الآيتين في سورة الأنبياء الآية ٧٩ و ٨٠ ج ٥ ص ٢٩٢.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ). يدل ظاهر الآية على ان الريح كانت تحمل سليمان بأمر الله الى ما يشاء ، وانها كانت تقطع بالغداة مسيرة شهر كامل على الجمال أو الأقدام ، وكذلك بالمساء (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ).

القطر النحاس او الحديد ، والاسالة الاذابة ، والمعنى انه تعالى أذاب الصلب لسليمان تماما كما ألانه لأبيه داود .. ويجوز ان الله أرشده الى سبب الاسالة والاذابة.

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ). تقدم مع التفسير في الآية ٨٢ من سورة الأنبياء ج ٥ ص ٢٩٣

٢٥٢

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ). ذكر ابن عريي هذه الآية الكريمة في الجزء الرابع من الفتوحات ، وقال : الشكر ان ترى النعمة من الله ، لا من سواه ، فقد أوحى سبحانه الى موسى : اشكرني حق الشكر.

فقال موسى : ومن يقدر على ذلك يا رب؟ فقال له : إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ). ضمير عليه يعود الى سليمان ، ودابة الأرض هي الأرضة التي تأكل الخشب ، والمنسأة العصا ، والمعنى ان سليمان وافاه الأجل ، وهو متكئ على عصاه ، وانه بقي بعد الموت كذلك الى ما شاء الله ، وان الانس والجن كانوا ينظرون اليه ، ويحسبونه حيا ، الى ان دبت الأرضة في عصاه ، وأكلت جوفها ، فانكسرت وسقط سليمان ، وعلم الجميع بموته ، وظهر للانس ان الجن لا يعلمون الغيب ، لأنهم لو علموه ما لبثوا في أسر سليمان وخدمته ، وهو ميت.

وإذا كان بعض ما في هذه الآيات ممتنع الوقوع عادة فإنه جائز في نظر العقل ، ومن أجل هذا نصدقه ونسلم به كمؤمنين بمبدإ الوحي من الله الى نبيه الكريم. انظر ج ٢ ص ٦١ فقرة «الممتنع عقلا والممتنع عادة».

نقد الفكر الديني :

ولمناسبة ما جاء في هذه الآيات من ذكر الجن وخوارق العادات نشير الى كتاب صدر في هذه الأيام ، اسمه «نقد الفكر الديني» ـ نحن الآن في تشرين الثاني سنة ١٩٦٩ ـ وقد كثر الكلام حوله وحول صاحبه. ومن قرأ الكتاب يحكم ـ من النظرة الأولى ـ على مؤلفه بأنه يقف موقف الشك والريب من جميع الأديان ، وقد اعترف المؤلف بذلك صراحة في الصفحة ٢٩ و ٧٧ وغيرهما.

ولكن من يستقرئ الكتاب ويأخذ بالظاهر دون الباطن يرى ان الباعث الأول على هذا الشك والريب أمور :

٢٥٣

الأول : محاولة بعض المؤمنين ان يلائم بين نصوص القرآن الكريم ومستكشفات العلم الحديث ، وغلوهم في التأويل الى أبعد مما يحتمله اللفظ ، وأورد المؤلف على ذلك العديد من الشواهد ، منها ما نقله عن البعض في صفحة ٣٧ : من ان اكتشاف نواميس الضوء يدل دلالة قاطعة على وجود الملائكة والجن .. وعلق المؤلف على هذا بقوله : لا أدري ما هي طبيعة العلاقة بين نظرية الضوء من ناحية ، ووجود الجن والملائكة من ناحية اخرى.

الأمر الثاني : الطقوس والشعائر الجامدة التي لا تناسب حضارة القرن العشرين على حد تعبيره.

الأمر الثالث : مساندة بعض رجال الدين للاقطاع والاستعمار باسم الإسلام والمسيحية .. والكتاب متخم بالشواهد على ذلك ، منها قوله في صفحة ٢٣ : «كان الدين في اوروبا حليف التنظيم الاقطاعي ولا يزال على هذه الحال في معظم البلاد المتخلفة ، وخاصة في الوطن العربي .. فقد أصبح الدين الايديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه .. والمرتبطة صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد الذي تقوده أميركا».

وقد أفاض المؤلف في نقد كتاب «المسيحية والإسلام في لبنان» وهو مجموعة محاضرات الندوة اللبنانية لسنة ١٩٦٥ ، ألقاها أربعة من رجال الدين : سني وشيعي واثنان من المسيحيين ، وأربعة علمانيون ، ولكنهم تكلموا باسم الدين ، وعاهدوا الله جميعا على السعي الدائب لازالة الحواجز المفتعلة بين الإسلام والمسيحية.

وقال المؤلف فيما قال ردا على هؤلاء المحاضرين المتعاهدين في صفحة ٦٤ : ان الهدف الأول لهذه المحاضرات والمعاهدة هو حرص المسيحيين على النظام القائم بلبنان باعتبارهم المنتفعين منه اكثر من المسلمين الذين ينتمون بغزارة الى الفئة الفقيرة الكادحة ، وتجاوب مع المسيحيين فئة من المسلمين ، وروجت باسم الدين للنظام القائم بلبنان بكل مضامينه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، فعلت ذلك لا لشيء إلا لأن هذا النظام يدر عليها وعلى المسيحيين الأرباح والمنافع .. وحتى تحوّل الأنظار عن ويلات النظام القائم وسيئاته ـ حملت هذه الفئة المسلمة مع المسيحيين شعارات التفاهم والاخوة والمحبة ومصلحة لبنان العليا.

٢٥٤

أما الدليل القاطع على ان هذا هو هدف المحاضرين المتعاهدين في الندوة اللبنانية سنة ١٩٦٥ فيقدمه المؤلف في صفحة ٦٠ بقوله : ان الإسلام لا يعترف بالإنجيل ولا بالتثليث ، ولا بالخطيئة والفداء ، ولا بصلب السيد المسيح ودفنه وخروجه من القبر ، وما إلى ذلك مما يؤمن به المسيحيون ، كما انهم ينكرون القرآن ونبوة محمد (ص) .. فبأي شيء يزيل المحاضرون المتعاهدون هذه الحواجز؟. فالأصلح والأنسب ـ ما زال الكلام للمؤلف ـ ان يتم التفاهم والحوار بين اللبنانيين على صعيد وطني ، وأساس المصلحة المشتركة ، أما الدين فليترك لاختيار الفرد وفقا لمزاجه وقناعته.

ومن أقوال المؤلف هذه وغيرها كثير في كتاب «نقد الفكر الديني» يتبين معنا ان السر لنقده فيما يظهر يكمن ـ كما أشرنا ـ في تعسف الذين حاولوا التوفيق بين النصوص الدينية والعلم الحديث ، وفي الطقوس الجامدة ، وانحراف الذين وهبوا أنفسهم للاقطاع والاستعمار ، وبرروا الظلم والاستغلال باسم الدين .. ولو ان جميع رجال الدين أخلصوا له ، وفهموه فهما صحيحا ، وبينوه للناس كما نزل على عيسى ومحمد ، ولم يشتروا به ثمنا قليلا ـ لما وجد ناقد أو مأجور منفذا للطعن والريب بالإسلام ولا بالمسيحية .. ولكن مما يدمي القلب أسفا ان قوما انتحلوا اسم الدين زورا وتطفلا ، وآخرين وقفوا أنفسهم لتخريبه وتشويه حقائقه بعد ان قبضوا الثمن من أعداء الله والانسانية .. فكانت ردة الفعل من مؤلف «نقد الفكر الديني» وغيره وقيل : ان هذا المؤلف أيضا مأجور.

ولكن أي ذنب للدين إذا استغله الانتهازيون ، واتسم به المتطفلون؟. وكان الأولى بالمؤلف أن ينظر الى الدين كقوة تتجه بالإنسان الى حياة أفضل ، وانه منزه عن كل ما يأباه العقل ، ويتصادم مع حقيقة من حقائق الحياة ، ولو شاء هذا لوجد الكثير من الشواهد في كتاب الله وسنة نبيه ، وتاريخ الإسلام والمسلمين ، وقد اعترف بهذه الحقيقة العشرات من علماء الشرق والغرب غير المسلمين.

أنظر ج ١ ص ٣٨ فقرة «القرآن والعلم الحديث» وج ٣ ص ٤٦٥ فقرة «الدين والدعوة إلى الحياة» وج ٥ ص ٢٣ فقرة «الإسلام دين الفطرة».

٢٥٥

سبا الأية ١٥ ـ ٢١ :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

اللغة :

سبأ قبيلة من العرب سميت باسم الأب الذي تناسلت منه. والعرم بكسر الراء قيل : هو السد يمسك الماء فيرتفع ويسقي الزرع. الأكل الثمر المأكول. والخمط شجر الأراك. والأثل الطرفاء.

٢٥٦

الإعراب :

آية اسم كان ، ولسبأ خبرها وفي مسكنهم متعلق بما تعلق به لسبأ. وجنتان بدل من آية. وعن يمين وشمال صفة لجنتين. وكلوا أي يقال لهم كلوا. وبلدة طيبة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه بلدة طيبة. وجنتين مفعول ثان لبدلناهم. وذواتي صفة لجنتين. وخمط بدل من أكل. وأثل عطف على أكل. وذلك قائم مقام المفعول المطلق لجزيناهم أي ذلك الجزاء جزيناهم. وسيروا أي يقال لهم : سيروا. وكل ممزق مفعول مطلق. وظنه مفعول صدق. ومن سلطان «من» زائدة اعرابا وسلطان اسم كان ، وله عليهم خبرها.

ملخص القصة :

جاء في تاريخ المسعودي ما يتلخص بأن أول ملوك اليمن هو سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان ، وكان اسمه عبد شمس ، وسمي سبأ لسبيه السبايا ، وكانت أرض سبأ أخصب أرض اليمن وأثراها وأغدقها ، وقبل ذلك كان يركبها السيل ويهلك الزرع ويهدم البناء ، فجمع ملك القوم أهل العلم في ذلك الزمان ، وشاورهم في أمر السيل ، فأجمع رأيهم على ان يقيموا سدا بين جبلين ، وأخذ الملك بقولهم ، وجعلوا للسد أبوابا تفتح وتغلق ليتحكموا بالماء وفق حاجتهم ، وقد عرف هذا السد باسم مدينة مأرب القريبة من السد ، ثم عمل الماء بالسد ، وأضعفه مرّ السنين عليه ، فخرب وتدافع الماء منه وأغرق الديار والجنان ، فهاجر السكان وتفرقوا في العديد من أنحاء الأرض ، ومن هنا قيل في الأمثال : تفرقوا أيدي سبأ.

وفي تفسير الطبري ومجمع البيان : ان سائلا سأل رسول الله (ص) عن سبأ؟ فقال : كان رجلا من العرب ، له عشرة أولاد : فتيمن منهم ستة ، وتشاءم أربعة ، فأما الذين تيمنوا فكندة وحمير والأزد والأشعريون ومذحج وأنمار الذين منهم خثعم وبجيلة ، واما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان.

وفي تفسير المراغي : كان الباحثون في العصر الحديث يشكون في أمر هذا السد حتى تمكن المستشرق الفرنسي «ارنو» من الوصول الى مأرب سنة ١٨٤٣

٢٥٧

وشاهد آثاره ، ورسم له صورا نشرها في المجلة الفرنسية سنة ١٨٧٤ ، ثم زار مأرب بعده «هاليفي» و «غلازر» ووافقاه فيما قال ووصف.

المعنى :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ). آية أي دلالة وعلامة على نعم الله الوافرة في تلك الأرض. وجنتان عن يمين وشمال كناية عن الخصب والازدهار في كل جزء من أجزاء البلاد ، وان المار بأرض سبأ كان انّى اتجه يرى الخيرات عن يمينه وشماله .. وقد أمر سبحانه قوم سبأ أهل تلك الأرض الطيبة ، أمرهم بلسان أنبيائه ورسله أن يتنعموا في خيراته ويشكروه ويوحدوه (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ). استعانوا بنعمة الله على معصيته ، واستغنوا بفضله عن عبادته ، فحذرهم وأنذرهم على لسان رسله ، فلم ينتفعوا بالنذر ، ويتعظوا بالعبر ، فأرسل عليهم سيلا عظيما خرّب السد وأهلك الزرع والضرع ، وأبدلهم الله بالحدائق الغناء والبساتين الفيحاء أشجارا لا تسمن ولا تغني من جوع كالطرفاء والسدر وما إليه مما ينبت في الصحراء ، ولا يستسيغه إلا حيوان جائع أو إنسان أضناه الفقر والعوز.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ). جزاهم بالفقر ، وهو أفظع الجزاء .. وفي رواية : الفقر الموت الأحمر. وفي ثانية : كاد الفقر يكون كفرا. وفي ثالثة : الفقر سواد الوجه في الدارين. وقال الإمام علي (ع) لولده محمد بن الحنفية : ان الفقر منقصة للدّين ـ أي يحمل الإنسان على معصية الله ـ مدهشة للعقل ، داعية للمقت.

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ). ضمير بينهم يعود الى قوم سبأ ، والمراد بالقرى قرى الشام ـ كما قال المفسرون ـ وبارك الله فيها بالماء والأشجار ، والخصب والثمار ، وظاهرة أي ان القرى كانت قريبة يظهر بعضها لبعض ، وقدّرنا في السير

٢٥٨

قسّمنا مراحل السفر بين القرية والقرية بحيث يصبح المسافر في واحدة منها ، ويمسي في أخرى .. والآية تصف قوم سبأ قبل خراب السد ، ومعناها ان من نعم الله وفضله عليهم ان أحدهم كان إذا قصد سفرا يسافر وهو في أمن وأمان من كل شيء ، لا يخشى أحدا على نفسه وماله ، ولا يحمل زادا ، ولا يخاف جوعا ولا عطشا.

ولكن غلبت عليهم شقوتهم ، وبطروا النعمة ، وملوا العافية (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) اجعل بيننا وبين القرى فلوات ومفاوز لنركب الرواحل ونحمل الزاد في الأسفار ، تماما كما فعل بنو إسرائيل حيث ملوا نعمة المن والسلوى ، وقالوا لموسى : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) ـ ٦١ البقرة. (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالطغيان وكفران النعم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). شتتهم سبحانه ووزعهم في أقطار الأرض حتى صاروا أحدوثة للأجيال ، وعبرة لمن صبر على الضراء ، وشكر عند السراء.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ). أغراهم الشيطان بمعصية الله ، فسمع له وأطاع من كفر وبغى ، وعصاه من آمن واتقى. وتشير هذه الآية الى قول إبليس في الآية ٣٩ من سورة الحجر : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ج ٤ ص ٤٧٨.

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) ان الله سبحانه أعلم بعباده من أنفسهم ، ولكنه يبتليهم بالسراء والضراء ، وبالشهوات والأهواء لتظهر إلى عالم الوجود والعيان مقاصدهم وأفعالهم التي يستحقون عليها الثواب والعقاب.

وتكرر هذا المعنى مرات ومرات ، منها في الآية ١٤٠ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٦٤ (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ). لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وفي الحديث : اتق الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

٢٥٩

قل ادعوا الذين زعمتم الأية ٢٢ ـ ٣٠ :

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠))

اللغة :

المراد بالشرك هنا النصيب. وظهير معين. وفزّع عن قلوبهم بتشديد الزاي ذهب الفزع عن قلوبهم. وأجرمنا أذنبنا. ويفتح يحكم. والفتاح الحاكم.

الإعراب :

زعمتم تتعدى الى مفعولين ، وهما هنا ضميران محذوفان أي زعمتموهم آلهة من

٢٦٠