التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

اللغة :

المعوقين المثبطين. والمراد بالبأس هنا القتال والجهاد. وأشحة جمع شحيح ، والمراد به من يبخل بالتضحية بالنفس والمال لنصرة الحق. سلقوكم آذوكم. ألسنة حداد قادرة على الكلام. لو انهم بادون أي لو أنهم من أهل البادية. والأعراب هم أهل البادية من العرب.

الإعراب :

لا تمتعون إلا قليلا أي إلا زمنا قليلا. وهلم اسم فعل بمعنى أقبل وتعال عند أهل الحجاز ، وتقال بلفظ واحد للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. وأشحة حال في الموضعين. كالذي الكاف بمعنى مثل صفة لمصدر محذوف أي تدور أعينهم دورانا مثل عين الذي يغشى عليه. الأحزاب مفعول أول ليحسبون وجملة لم يذهبوا مفعول ثان. وبادون جمع باد.

٢٠١

المعنى :

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ). فروا من الجهاد خوفا من الموت ، وما ينجو من الموت من خافه ، ولا يعطى البقاء من أحبه (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً). وان سلمتم من القتل في ساحة الوغى فستلاقون حتفكم بعد قليل ، ثم الى عذاب السعير ، أما الشهداء فإلى جنات النعيم. قال الإمام علي (ع) : «والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش».

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً). ونفسره بقوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) ـ ١١ الفتح. وتقدم مثله في الآية ١١ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٨٦ (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً). الله سبحانه يعلم المنافقين ، وانهم يثبطون الناس ، ويقول بعضهم لبعض : تعالوا إلى الراحة والدعة ، مالنا وللقتال؟ وان ينكشف أمرهم وتظهر دخيلتهم يمشوا الى القتال كالذي يساق الى الموت ، ويقاتلوا لماما ، وهم مضطربون متثاقلون .. ولهؤلاء أشباه ونظائر في كل عصر.

(أشحة عليكم) بالمال ونصرة الحق .. وكل بخل يعفو الله عنه إلا البخل بحق الجهاد والمال (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ). تعكس هذه الآية جبن المنافقين وخورهم عند القتال ، وجرأتهم على الذنوب والآثام وهم آمنون مطمئنون ترتعش منهم القلوب ، وتدور العيون في رؤوسهم فزعا وهلعا في ساحة الوغى وعند السلم والأمن يطلقون ألسنتهم السلاط تنهش المؤمنين والمجاهدين. وفي نهج البلاغة : «ان المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ما ذا له وما ذا عليه». وقد قال رسول الله (ص) : «لا يستقيم ايمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».

٢٠٢

(أشحة على الخير). المراد بالخير هنا الغنيمة أي انهم عند البأس جبناء ، أما عند توزيع الغنيمة فتعلو أصواتهم بالاحتجاج ، وانهم أحق بها من الجميع (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) بل أظهروا الايمان ، وأضمروا الكفر ، وقاتلوا معكم نفاقا ورياء (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أبطل قتالهم معكم لأنه لغير وجه الله ، وفي الحديث : من كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر اليه (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). ذلك إشارة الى إحباط قتالهم ، وهو يسير على الله تعالى لأنه لا جور فيه ولا ظلم ما داموا منافقين مرائين.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) .. ذهبت الأحزاب إلى غير رجعة ، ومع هذا يأبى المنافقون أن يصدقوا ، لا لشيء إلا لأنهم يتمنون أن تقضي الأحزاب على النبي والصحابة ، وقد صوّرت لهم أمنيتهم هذه ان الأحزاب ما زالت تحاصر المدينة ، وانها ستقضي على المسلمين غدا أو بعد غد (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ). وإذا تأكد المنافقون من هزيمة الأحزاب ، ثم عادت إلى المدينة كرة ثانية تمنى المنافقون لو كانوا بعيدين عنها يقيمون في البادية مع أهلها يسألون كل قادم عما جرى على المسلمين (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً). هذا مثل قوله تعالى في الآية السابقة من هذا المقطع : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً).

في رسول الله اسوة حسنة الآة ٢١ ـ ٢٧ :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى

٢٠٣

نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

اللغة :

أسوة بضم الألف وكسرها قدوة. وقال صاحب مجمع البيان : «قضى نحبه أي مات أو قتل في سبيل الله». وظاهروهم عاونوهم. والصياصي جمع صيصة ، وهي كل ما يمتنع به كالحصن ونحوه ، ويقال لقرون البقر والظباء صياصي.

الإعراب :

لمن كان يرجو متعلق بحسنة. وكثيرا صفة لمصدر محذوف أي ذكرا كثيرا. وفاعل زادهم ضمير مستتر يعود الى البلاء. وما عاهدوا الله (ما) اسم موصول في محل نصب بنزع الخافض أي صدقوا فيما عاهدوا الله عليه. وكفى هنا تتعدى الى مفعولين مثل كفاك الله شر الأعداء ، والمؤمنين مفعول أول ، والقتال مفعول ثان.

٢٠٤

المسلم على قسمين :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). المراد بالاسوة الحسنة هنا الاقتداء برسول الله (ص). و (يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي يأمل ثواب الله ونعيم الآخرة. و (ذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) كناية عن إقامة الفرائض الخمس. والخطاب في «لكم» للذين انصرفوا عن رسول الله (ص) في وقعة الأحزاب ، والقصد منه التوبيخ والتقريع لأنهم تركوا الرسول (ص) في ساعة العسرة ، وهم يتظاهرون بالإسلام ، فيصلّون مع المسلمين ، ويدّعون الايمان بالله واليوم الآخر ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ـ ١٢٠ التوبة ج ٤ ص ١١٦.

وتومئ الآية الى أن المسلم الحق هو الذي يقتدي بنبيه ولا يعصي له أمرا. وتسأل : لقد اتفق الفقهاء على ان من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، يعامل معاملة المسلم ، سواء أطاع أم عصى؟

الجواب : أجل ، انه يعامل معاملة المسلم في الحياة الدنيا من حيث الزواج والإرث وما اليهما ، ولكن معاملته في هذه الحياة كمسلم شيء ، واعتباره مسلما عند الله وفي يوم الحساب شيء آخر. وبكلمة أوضح ، ان المسلم على قسمين : مسلم عند الناس لا عند الله ، وهو الذي يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ويعصي الله والرسول ، وهذا يعامل معاملة المسلم في الدنيا فقط ، ومسلم يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ويطيع الله والرسول ، وهذا يعامل معاملة المسلم في الدنيا والآخرة. قال الإمام علي (ع) : الفقر والغنى بعد العرض على الله.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً). ذكر المفسرون القدامى لهذه الآية معنيين ، أرجحهما ان النبي (ص) كان قد وعد المسلمين من قبل بأنهم سيلاقون ألوانا من المحن والشدائد ، وان أهل الكفر والشرك سيتظاهرون على حربهم واستئصالهم ، وقد جاء هذا الوعد في الآية ٢١٤ من سورة البقرة : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) ج ١ ص ٣١٩.

٢٠٥

ولما رأى المؤمنون جيش الأحزاب يحاصرهم من كل جانب : «قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله» وازدادوا ايمانا على ايمان ، وطاعة على طاعة لله وللرسول حيث رأوا بالعيان صدق الوعد والنبوءة ، أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فقد ازدادوا نفاقا وعنادا وقالوا : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً).

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) من الجهاد والثبات عند لقاء العدو حتى الموت (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) قبل وقعة الأحزاب كالذين استشهدوا يوم بدر وأحد (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة أو النصر (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). وأيضا المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما بدلوا بل ماتوا على النفاق. وقال المفسرون : ان انس بن النضر غاب عن بدر ، فشق ذلك عليه ، وقال : لقد غبت عن أول مشهد شهده رسول الله (ص) ، ولئن أراني الله تعالى مشهدا مع رسول الله (ص) فيما بعد ليرينّ ما أصنع ، فشهد يوم أحد ، فاستقبله سعد ابن معاذ ، فقال له : يا أبا عمرو إلى أين؟ قال : واها لريح الجنة ، والله اني لأجدها دون أحد .. فقاتل حتى قتل رضوان الله عليه ، وقد وجد في جسده الشريف بضع وثمانون ضربة وطعنة ورمية.

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وعادلا وحكيما ، لا لغو ولا عبث في مشيئته وأفعاله ، فهو يثيب من يستحق الثواب كأهل الصدق والايمان ، ان استمروا على صدقهم وايمانهم ، ويعذب أهل الكفر والنفاق ان أصروا على الكفر والضلال ؛ وان تابوا شملهم برحمته ، وغفر لهم ما سلف ، فقوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) معناه انه يشاء تعذيبهم ان لم يتوبوا ، والدليل على ذلك قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي ان تابوا تاب عليهم وغفر لهم وشملهم برحمته.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) وهم الأحزاب الذين تجمعوا لقتل النبي (ص) بقيادة أبي سفيان (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي ما زعمته الأحزاب انه خير ، وهو الظفر بالنبي ومن آمن معه (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً).

٢٠٦

قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط : «كفاهم القتال بإرسال الرياح والجنود ، وهم الملائكة ، وقيل : المراد علي بن أبي طالب ومن معه ، برزوا للقتال ، وقتل علي عمرو بن ود». وفي الحديث : «لضربة علي يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين». وفي رواية ثانية : «لمبارزة علي لعمرو أفضل من عمل أمتي الى يوم القيامة». نقل هذه الرواية الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ٣٢. (السيد محسن الأمين ، أعيان الشيعة ج ٢ والشيخ المظفر ، دلائل الصدق ج ٢).

ملخص قصة بني قريظة :

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً). المراد بأهل الكتاب هنا بنو قريظة خاصة. وضمير «هم» في قوله تعالى «ظاهروهم» يعود الى الأحزاب ، وصياصيهم حصون بني قريظة. أما قوله تعالى : (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) فهو بشارة بالفتوح الاسلامية.

قلنا فيما تقدم : ان بني قريظة ، وهم قبيلة من اليهود ، كانوا يساكنون النبي (ص) بالمدينة أو بضواحيها ، وانه كان بينه وبينهم عهد أن لا يعينوا عليه عدوا ، ولما حاصرت الأحزاب المدينة نقضوا العهد وأعلنوا الحرب ، كما هو شأن اليهود قديما وحديثا .. وهاتان الآيتان اللتان نحن بصددهما تشيران الى ما حدث لبني قريظة بعد نقضهم العهد وهزيمة الأحزاب ، وخلاصته :

لما كفى الله المؤمنين قتال الأحزاب نادى منادي رسول الله بالخروج الى بني قريظة ، ولما وصل اليهم جيش المسلمين أغلقوا عليهم الحصن ، فعرض النبي (ص) عليهم الإسلام على أن يكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم ، وإلا حاصروهم حتى يستسلموا أو يحاربوا ، فأشار عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يسلموا ويؤمنوا بمحمد (ص) ، وقال : فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وانه الذي تجدونه في التوراة ، فأبوا وقالوا : لا نفارق ديننا.

٢٠٧

وامتد الحصار خمسا وعشرين ليلة حتى أوشكوا على الهلاك من الجهد والخوف ، وعندئذ طلبوا من النبي (ص) باختيارهم وملء إرادتهم أن ينزلوا على حكم سعد ابن معاذ ، وهو رئيس الأوس ، وكان بنو قريظة حلفاء لهم ، فاستجاب النبي لطلبهم ، واستدعى سعدا ، وقال له : ان هؤلاء قد نزلوا على حكمك مختارين ، فاحكم بما شئت. قال سعد : وحكمي نافذ عليهم؟ قال النبي (ص) : نعم. فحكم سعد أن تقتل رجالهم المقاتلون ، وان تقسم أموالهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، وان تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار ، لأن للأنصار ديارا ، ولا ديار للمهاجرين.

فأمر النبي (ص) بقتل الرجال الذين كانوا يحملون السلاح ، ومن حث بني قريظة على نقض العهد ودبر المعركة ضد المسلمين كحيي بن أخطب زعيم بني النضير ، ثم قسمت الأموال ، وسبيت الذراري والنساء كما حكم سعد الذي اختاره بنو قريظة حكما. والى هذا يشير قوله تعالى : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً). وقدمنا ان سهما من أسهم الأحزاب أصاب أكحل سعد ، وانه طلب من الله ان لا يميته حتى يقر عينيه من بني قريظة .. وبعد أن نفّذ فيهم حكمه انفجر الجرح وانتقل إلى رحمة الله ورضوانه ، وهو قرير العين بالشهادة واستجابة الدعاء.

هل ظلم محمد (ص) بني قريظة :

وتسأل : كيف أقر النبي (ص) حكم سعد ، وفيه ما فيه من العنف والقسوة حتى اتخذ منه أعداء الإسلام وسيلة للطعن والتشهير؟

الجواب : ان محمدا لم يظلم بني قريظة ، وانما أنفسهم كانوا يظلمون لأنهم اختاروا لها هذا المصير بملء ارادتهم ، ويشهد لذلك :

أولا : انهم عاهدوا النبي ونكثوا العهد في أحرج الأوقات ، كما هو دأب اليهود منذ القديم قال تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ـ أي الرؤساء ـ ١٠٠ البقرة.

ثانيا : ان النبي (ص) عرض عليهم أن يدعهم وشأنهم شريطة أن يقولوا :

٢٠٨

لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ونصحهم رئيسهم كعب بن أسد أن يستجيبوا وينطقوا بكلمة الشهادة فرفضوا.

ثالثا : ان بني قريظة أبوا النزول على حكم رسول الله (ص) ، وقبلوا حكم سعد من تلقاء أنفسهم.

رابعا : ان سعدا حكم بشريعتهم التي يدينون بها ، ويحكمون على الناس بموجبها. قال العقاد : «انما دانهم سعد بنص التوراة الذي يؤمنون به كما جاء في التثنية : «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح ، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك ، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمة تغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك إلهك .. اصحاح ١٠ إلى ١٥ تثنية». (كتاب العبقريات الاسلامية ص ٢١٩ طبعة دار الفتوح بالقاهرة).

وهذا النص موجود في التوراة اصحاح ٢٠ من التثنية ، لا اصحاح ١٠ إلى ١٥ كما جاء في العبقريات الاسلامية ، وهو يدل بوضوح على أكثر مما حكم به سعد ابن معاذ على بني قريظة ، لأنه يقول صراحة : ان استجابت المدينة إلى الصلح فجميع أهلها عبيد مسخرون ، وان أبت وجب ذبح جميع الذكور بحد السيف المقاتلين منهم وغير المقاتلين ، ونهب الأموال وسبي النساء والأطفال.

وهناك نص آخر في التوراة لم يذكره العقاد ، وهو أعظم جورا من النص الذي ذكره ، لأنه يأمر بقتل جميع السكان ، ولا يستثني النساء والأطفال ، ثم إحراق المدينة بجميع ما فيها بحيث لا يمكن بناؤها وتجديدها إلى الأبد .. فقد جاء في الاصحاح الثالث عشر من التثنية ما نصه بالحرف الواحد : «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف ، وتحرّمها بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف ، وتجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها ، وتحرق بالنار المدينة ، وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك ، فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعد».

فهل بعد هذا يقال : ان محمدا (ص) ظلم يهود بني قريظة ، وان سعدا جار في حكمه عليهم؟ .. فمن القضاء العدل أن تلزم كل انسان بما ألزم به نفسه ،

٢٠٩

وتحكم عليه بما يدين ويعتقد ، واليهود يعتقدون دينا ، ويطبقون عملا ذبح الذكور ، ونهب الأموال ، وسبي النساء والأطفال ، وهدم البيوت وإحراق القرى والمدن من كل شعب من الشعوب دون أن يعلن عليهم حربا أو ينكث لهم عهدا أو يسيء اليهم بحرف تماما كما تفعل الآن إسرائيل مع شعب فلسطين .. فهل يعد ظالما من يحكم عليهم بتوراتهم ، ويعاملهم بما عاملوا به الناس؟ مع العلم بأن النبي (ص) قتل المقاتلين منهم بعد أن نكثوا عهده وأعلنوا عليه الحرب ، وهم يقتلون ويحرقون لا لشيء إلا لأن القتل والحرق والفساد دين لهم وطبيعة .. ولو حكم عليهم بالقتل والنهب والسبي دون أن ينكثوا العهد ويعلنوا الحرب لكان الحكم حقا وعدلا ، لأنه حكم بما يدينون ويفعلون .. واتفقت جميع الشرائع السماوية والوضعية على ان من دان بدين لزمته أحكامه ، وهنا يكمن السر في قول الرسول الأعظم (ص) لسعد : «حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». جمع رقيع وهو اسم السماء.

يا أيها النبي قل لأزواجك الأة ٢٨ ـ ٣٠ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

اللغة :

أسرحكن سراحا جميلا أطلقكن طلاقا بلا ضرر وخصومة. والمراد

٢١٠

بالفاحشة هنا المعصية. وضعف الشيء مثله في المقدار ، أو مثله وزيادة غير محصورة.

المعنى :

شكا أزواج النبي (ص) له من قلة النفقة والزينة ، وطلبن ان يوسع عليهن مما أفاء الله عليه من الأنفال والغنائم ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً). أمر الله نبيه الكريم أن يقول لهن : اخترن واحدا من اثنين : إما الطلاق مع المتعة ان أردتن ما تريده النساء من الدنيا ، والمتعة هي عبارة عن منحة يقدمها المطلّق لمطلقته ، ويراعى فيها حال الرجل يسرا وعسرا. انظر ج ١ ص ٣٦٦. وإما الحياة مع رسول الله (ص) على ان تصبرن على مكابدة الفقر والعوز في الدنيا ، وجزاؤكن عند الله في الآخرة الأجر العظيم. فاختارت نساء النبي (ص) الله والرسول والدار الآخرة على الدنيا وزينتها ، وتسمى هذه الآية آية التخيير.

النبي وكثرة الأزواج :

وآية التخيير دليل قاطع على تكذيب ما زعمه المتقولون من ان النبي (ص) استكثر من النساء لأهواء نفسية ، لأن الحريص على الاستمتاع بالمرأة ـ كما قال مصطفى صادق الرافعي ـ لا يخيرها بين الحياة معه على ان تكابد الفقر والعوز الى آخر يوم ، وبين الابتعاد عنه ان أرادت الحياة وزينتها ، بل يخاطب عاطفتها ويقرب لها كل بعيد يشبع رغبتها من الزينة والمظاهر .. وفي الأمثال : «فرشة العرس عالية».

وقال العقاد في كتاب العبقريات الاسلامية : «لو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه الملذات ان يجمع اليه تسعا من الفتيات اللاتي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة

٢١١

العربية ، فيسرعن اليه راضيات فخورات ، وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تعلوها مصاهرة».

ثم ذكر العقاد زوجات النبي (ص) واحدة فواحدة ، وبيّن السبب الموجب لزواجه بها ، وقال : «الا ان المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق هذه الحياة الزوجية ، ونسوا أن محمدا اتسم بالطهر والعفة في شبابه ، وانه بقي إلى نحو الخامسة والعشرين لم يتعسف في طلب الحلال ، وهو ميسر له تيسره لكل فتى وسيم حسيب ، ونسوا أنه لما تزوج في تلك السن كان زواجه بسيدة في نحو الأربعين ، وانه اختار أحسابا في حاجة الى التآلف أو الرعاية ، ولم يختر جمالا مطلوبا للمتاع ، ونسوا ان الرجل الذي وصفوه بلذات الحس لم يكن يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير ، نسوا كل هذا ، وهو ثابت في التاريخ ، نسوه لأنهم أرادوا أن يعيبوا ويقولوا وينحرفوا عن الحقيقة».

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً). المراد بالفاحشة هنا المعصية من أي نوع تكون ، ومبينة واضحة .. ولنساء النبي منزلة كريمة عند الله والناس لصلتهن بالرسول الأعظم (ص) ، فمن أقدمت منهن على المعصية فقد خاطرت بمكانتها ، واستحقت من العذاب مثلي ما تستحقه غيرها ، لأن الله سبحانه يحاسب الناس على قدر منازلهم ، كما يحاسبهم على قدر عقولهم ، وقد عاتب الأنبياء بما لا يعاتب به أحدا غيرهم.

٢١٢

الجزء الثّاني والعشرون

٢١٣
٢١٤

طهارة أهل البيت الآة ٣١ ـ ٣٤ :

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

اللغة :

القنوت الطاعة. وفي قلبه مرض أي ريبة. وقولا معروفا بعيدا عن الريبة. وقرن من الاستقرار. والتبرج اظهار الزينة. والمراد بالرجس هنا الذنب والمعصية.

الإعراب :

مرتين نائب مناب المفعول المطلق لأنه بمعنى مثلين. وقال كأحد ولم يقل كواحدة لأن (أحد) هنا بمعنى غير ، أي لستن كغيركن من النساء. والمصدر من ، ليذهب متعلق بيريد. وأهل البيت منادى أي يا أهل البيت.

المعنى :

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها

٢١٥

رِزْقاً كَرِيماً). كما ان العذاب يضاعف لمن تتجرأ على معاصي الله من نساء النبي فإن الثواب يضاعف لمن تخافه وتتقيه (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ). يقول سبحانه لنساء النبي : أنتن فوق النساء كرامة وشرفا برسول الله ان اتقيتن معصية الله في القول والفعل ، وإلا انقطعت كل صلة بينكن وبين الرسول .. وقال الحافظ محمد بن أحمد الكلبي في التسهيل : «حصل لهن التفضيل بالتقوى على النساء إلا فاطمة بنت محمد (ص) ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم».

(فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى). كان عصر النبي (ص) خير العصور ، ومع هذا حذر سبحانه نساء النبي من لين الكلام مع الرجال ، والخروج من البيوت حاسرات متبرجات ، كيلا يثرن الطمع في القلوب الفاسقة الفاجرة .. هذا ، وهن من العفة والصون فوق كل ريبة وشبهة ، فكيف بعصرنا الذي قفزت فيه الأنثى من البيت الى المسابح والمسارح ، وكشفت عن أنوثتها بأسلوب جنسي محموم؟ (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) لأنها تنهى عن التبرج والتخنث وغيرهما من المحرمات (وَآتِينَ الزَّكاةَ) فهي تطهر الأموال كما تطهر الصلاة النفوس (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في كل شيء ، لا في خصوص الصلاة والزكاة ، ولا في ترك التبرج والخضوع بالقول فحسب.

أهل البيت :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). المراد بالرجس هنا الذنوب. وقد استدل الشيعة بهذه الآية على عصمة أهل البيت ، وقالوا : انما أداة حصر تدل على ثبوت الطهارة من الذنوب لأهل البيت دون غيرهم ، ولا معنى للعصمة إلا الطهارة من الذنوب.

وفي صحيح مسلم القسم الثاني من الجزء الثاني ص ١١٦ طبعة ١٣٤٨ ه‍ ما نصه بالحرف : «قالت عائشة خرج النبي (ص) غداة وعليه مرط مرحل ـ برد من

٢١٦

برود اليمن ـ من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). ومثله سندا ودلالة ما رواه الترمذي في صحيحه والإمام أحمد في مسنده وغيرهما من أئمة الحديث من أهل السنة.

وفي تفسير الطبري عن أبي سعيد الخدري الصحابي الجليل وأم سلمة زوجة الرسول (ص) : «قالت : لما نزلت آية إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت دعا رسول الله (ص) عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، ووضع عليهم كساء وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة : ألست منهم؟ قال : أنت إلى خير». ومثله في تفسير البحر المحيط للأندلسي والتسهيل للحافظ والدر المنثور للسيوطي وغيرها من التفاسير.

وفي ج ١ ص ٨٨ نقلنا ما قاله محيي الدين بن عربي حول هذه الآية في الجزء الأول والثاني من الفتوحات المكية ، وننقل الآن ما قاله عن أهل البيت في الجزء الرابع ص ١٣٩ طبعة دار الكتب العربية الكبرى بمصر ، قال : «ان النبي (ص) وأهل بيته على السواء في مودتنا فيهم ، فمن كره أهل بيته فقد كره النبي (ص) ، فإنه واحد من أهل بيته ، فمن خانهم فقد خان رسول الله (ص).

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً). المراد بالحكمة هنا السنة النبوية لاقترانها بكتاب الله وآياته ، والمعنى اشكرن يا نساء النبي إنعام الله عليكن حيث جعلكن في بيوت تسمعن فيها تلاوة كتاب الله وسنة نبيه ، وهي نور للعقول ، وربيع للقلوب.

وتسأل : ان سياق الآيات يدل على ان المراد بآية التطهير نساء النبي (ص) ، فكيف أخرجهن عنها من نقلت عنهم من المفسرين والمحدثين؟

الجواب أولا : ان صاحب تفسير المنار نقل عن أستاذه الشيخ محمد عبده في ج ٢ ص ٤٥١ طبعة ثانية : «ان من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن آخر ، ثم يعود الى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة». وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : ان الآية من القرآن يكون أولها في شيء ، وآخرها في شيء آخر .. وعلى هذا فلا يصح الاعتماد على دلالة السياق لآي الذكر الحكيم كقاعدة كلية.

٢١٧

ثانيا : لو سلمنا ـ جدلا ـ بصحة الاعتماد على دلالة السياق للآيات فإن قوله تعالى : «ليذهب عنكم .. ويطهركم» بضمير المذكر دون ضمير المؤنث هو نص صريح على اخراجهن من الآية. وليس من شك ان دلالة النص مقدمة على دلالة السياق لأنها أقوى وأظهر.

ثالثا : ان المفسرين والمحدثين الذين ذكرناهم قد اعتمدوا في اخراجهن على الحديث الصحيح عن الرسول الأعظم (ص) ، وقد اتفقت كلمة المسلمين على ان السنة النبوية تفسير وبيان لكتاب الله.

والحافظون لحدود الله والحافظات الآة ٣٥ :

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

المعنى :

الإسلام اقرار لله بالوحدانية ، ولمحمد بالرسالة ، والايمان اقرار باللسان وعقد في الجنان وعمل بالأركان ، وتدل الآية ١٤ من سورة الحجرات على الفرق بين الإسلام والايمان : «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم». والمراد بالقنوت هنا القيام بالطاعة والدوام عليها ، وبالصدق الإخلاص ، وبالصبر تحمّل الصعاب والشدائد من أجل الحق ونصرته ،

٢١٨

وبالخشوع التواضع ، وبالتصدق الإنفاق في سبيل الله ، والصيام معلوم ، وكذلك حفظ الفرج عن الحرام ، أما ذكر الله كثيرا فهو كناية عن المواظبة على الصلوات الخمس .. ومن جمع هذه الصفات فله عند الله مقام كريم ، وأجر عظيم ذكرا كان أم أنثى. أنظر ج ١ ص ٣٤٣ وج ٢ ص ٤٤٦ فقرة «بين الرجل والمرأة».

قصة زينب بنت جحش الأة ٢٦ ـ ٤٠ :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

٢١٩

اللغة :

قال أبو حيان الأندلسي : الخيرة مصدر من تخير على غير قياس كالطيرة من تطير. والوطر الحاجة. والمراد بالحرج هنا البأس. وقدرا مقدورا أي قضاء مقضيا.

الإعراب :

قال سبحانه : «لهم الخيرة من أمرهم» ولم يقل لهما لأن كلا من مؤمن ومؤمنة وقع نكرة في سياق النفي ، وهي تفيد العموم. والمصدر من أن تخشاه مجرور بباء محذوفة أي أحق بالخشية. وسنة منصوب على المصدرية أي سن الله سنة. والذين يبلغون صفة للذين خلوا ، والمراد بهم الأنبياء السابقون ، وجملة وكان أمر الله معترضة. وحسيبا تمييز. ورسول الله خبر كان محذوفة أي ولكن كان محمد رسول الله.

هل اشتهى النبي زينب بنت جحش؟

كثر الكلام حول هذه الآيات من أنصار الإسلام وأعدائه .. طعن هؤلاء بعفة الرسول ونزاهته ، وقالوا : اشتهى زينب بنت جحش الأسدية ابنة عمته أميمة ، ومال اليها ، وهي زوجة مولاه زيد بن حارثة ، وأخفى ذلك خوفا من الناس لا خوفا من الله ، وتشبثوا بقوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ). ورد عليهم أنصار الإسلام بالحق والمنطق السليم ، وان كان البعض منهم سلك في التأويل مسلكا يضعه موضع التهمة بالدفاع عن دينه وعقيدته .. ونحن كأي مسلم يؤمن بعصمة نبيه ، ويذهب عنها بدافع من دينه وعقيدته .. ولكن مع ذلك سنقف من هذه الآيات وتفسيرها موقفا محايدا ، نلتزم فيه بظاهر اللفظ ، لا نؤوّل ولا نخرج عن دلالة الآيات ، وندع الحكم للقارئ المنصف .. وقبل أن نشرع بالتفسير نمهد بما يلي :

كان زيد بن حارثة عبدا مملوكا لرسول الله (ص) .. وفي ذات يوم جاء أبوه

٢٢٠