التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

وسواء أصحت هذه الرواية ، أم لم تصح فإنها أوضح مثال على ان الله سبحانه قد منح لقمان الحكمة والمعرفة ، ويظهر من أقوال المفسرين وأهل السير انه كان معاصرا للنبي داود. انظر تفسير الآية ٨٠ من الأنبياء.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ). بعد ان ذكر سبحانه انه قد منّ على لقمان بالحكمة ذكر طرفا من مواعظه لابنه رفقا به وشفقة عليه ، وقد أوصى الإمام علي ولده الإمام الحسن (ع) بوصية طويلة جاء في مقدمتها : «وجدتك بعضي بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني ، وكأن الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي». قال لقمان :

١ ـ (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). يرى بعض المفسرين ان هذا القول من لقمان لابنه يشعر بأن ابنه كان مشركا. والحق ان النهي عن الشيء لا يدل على صدوره من المخاطب ، فقد خاطب سبحانه خليله ابراهيم (ع) بقوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) ـ ٢٦ الحج ، وقال لحبيبه محمد (ص) : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) ـ ٥٢ الفرقان. وقال الإمام علي (ع) للإمام الحسن (ع) : اعتصم بالله .. وليكن له تعبدك .. ولو كان لربك شريك لأتتك رسله.

٢ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ). هذه الآية والتي بعدها استطراد في سياق وصية لقمان لابنه .. والوهن الضعف والجهد ، وكلما نما الجنين في بطن أمه زادها ضعفا وجهدا (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ). ترضع الأم ولديها عامين ، ثم تفطمه عن الرضاع ، وتقاسي خلالهما الشدائد بالاضافة إلى ما قاسته أيام الحمل وعند الوضع. وتقدم الكلام مفصلا عن مدة الرضاع عند تفسير الآية ٢٣٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٥٦ وما بعدها (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فأسالك يومئذ : هل كنت من أهل الشكر والطاعة أو العقوق والمعصية لي ولوالديك (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) حيث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) بخفض الصوت وطيب الكلام ولين العريكة ، والحرص على ما يرغبان. وتقدم الكلام عن البر بالوالدين مفصلا عند تفسير الآية ٢٣ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٣٥ وتفسير الآية ٨ من سورة العنكبوت.

١٦١

(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ). بعد أن أمر سبحانه بالشكر له وللوالدين أمر بطاعة الله في كل شيء ، لا في بر الوالدين فقط ، وعبّر عن ذلك بمتابعة الصالحين الذين أطاعوا الله في أوامره ونواهيه. قال الإمام زين العابدين (ع) : اللهم ألحقني بصالح من مضى ، واجعلني من صالح من بقي ، وخذ بي سبيل الصالحين (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). هذا تهديد ووعيد لمن يعصي الله والوالدين.

الصخرة وقرن الثور :

٣ ـ (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ). عاد الكلام الى وصية لقمان لابنه .. وضمير انها يعود على الفعلة من الحسنات والسيئات ، ولفظ الفعلة وان لم يذكر في الكلام ، ولكن السياق يدل عليها و «مثقال حبة من خردل» كناية عن الفعلة الصغيرة ، و (فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) كناية عن السر والخفاء ، والمعنى الجملي ان الله سبحانه يعلم مقاصد الإنسان وأقواله وأفعاله ما خفي منها وما ظهر ، لا يغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وحاسب عليها .. والقصد من سياق هذا الكلام هو إنذار الضالين المضلين الذين يعيشون مع الناس بألسنتهم ، ومع أعداء الله والانسانية بقلوبهم ، وان يعلموا ان مصيرهم الى الخزي والوبال.

وتساءل بعض المفسرين وقال : كيف ذكر الله السموات والأرض بعد أن ذكر الصخرة مع العلم بأن الصخرة لا بد أن تكون في الأرض ، لا في السماء. وأجابه آخر بأن هذه الصخرة ليست في السماء ولا في الأرض ، وانما هي تحت سبع أرضين ، وبالضبط هي نفس الصخرة التي يقف الثور عليها وهو يحمل الأرض على قرنه ، وقال قائل : كلا ، ان هذه الصخرة قائمة في الهواء بمحض خلق الله تعالى. وقال ثالث : هي خضراء اللون. (انظر تفسير الطبري والرازي).

والقرآن الذي وصفه الله بالنور والهدى وفصل الخطاب منزه عن هذه التأويلات التي يتخذ العدو منها وسيلة للطعن والاستهزاء بالدين .. وان دلت هذه التفاسير وما اليها على شيء فإنما تدل على ان أصحابها لا يعرفون حكمة الله في إرسال رسله

١٦٢

وانزال كتبه ، ويجهلون ان الإسلام هو دين الفطرة والحياة ، وان أساس دعوته الايمان والإخلاص ، وضوءها العلم والعدل ، وطريقها الجد والعمل ، وهدفها السعادة والهناء.

٤ ـ (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) لأنها تذكرك بالله وتنزهك عن الكبر (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ). ومن أمر بالمعروف شد أزر المؤمنين ، وأرغم أنوف المنافقين (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) والمراد بعزم الأمور قوة الارادة الخيرة ، والثبات على الحق .. والأمر بالصبر بعد الأمر بالمعروف يومئ الى ان من دعا دعوة الحق لاقى في ذات الله ما يلاقيه كل مجاهد مخلص من سرّ المبطلين والانتهازيين.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تمل بوجهك عنهم تكبرا ، بل أقبل عليهم ، وتواضع لهم .. وفي نهج البلاغة : لا وحدة أوحش من العجب ، ولا حسب كالتواضع (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) .. بعد أن نهى عن مشي المرح بيّن معناه بأنه المشي باختيال وفخر ، والاختيال هو الزهو ، والفخر هو المباهاة ، ولا شيء أدل على الجهل والنقص من هذه الصفات.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) لا تبطئ ، ولا تسرع ، واتخذ بين ذلك سبيلا (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). وأنكرها أوحشها وأقبحها ، وفيه إيماء الى ان رفع الصوت أكثر مما تدعو الحاجة اليه ـ يدل على البلادة ، ومثله الإخفات المخل ، ومن أخذ بالقصد والاعتدال فقد عرف السبيل ، وانما يحسن الكلام مع القصد في الصوت إذا كان في موضعه ، والا فالسكوت أجمل وأكمل ، ومما جاء في وصف لقمان انه كان يسمع كثيرا ويتكلم قليلا ، فإذا تكلم جاءت كلمته كالدرة بين الحصى. وإلى مثلها ينبغي السكوت والإصغاء ، وفي بعض الروايات : ان الصمت باب من أبواب الحكمة. أي من الحكمة السكوت والإصغاء للحكمة ، أما قول من قال : إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب فمعناه السكوت عن الباطل والفضول ، وإلا فان كلمة الحق نور وجهاد بخاصة إذا كانت ضد الظلم والجور ، وفي الحديث : الساكت عن الحق شيطان أخرس.

١٦٣

فقد استمسك بالعروة الوثقى الأة ٢٠ ـ ٢٨ :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

اللغة :

أسبغ أتم. ويسلم وجهه لله كناية عن الإخلاص له. والعروة من الدلو ما

١٦٤

يمسك به القابض ، ومن الثوب مدخل الزر. والوثقى مؤنث الأوثق ، وهو الأشد والأحكم. وذات الصدور القلوب والضمائر.

الإعراب :

ظاهرة وباطنة حال من نعم الله. أولو الهمزة للإنكار والواو للعطف ولو للامتناع ، وجوابها محذوف والتقدير لاتبعوهم ، وضمير الجمع يعود للآباء. وجملة وهو محسن حال ، وجملة فقد استمسك خبر من يسلم. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي تمتعا قليلا.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً). ان نعم الله كما وصفها سبحانه بقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) ـ ٣٤ ابراهيم ج ٤ ص ٤٤٨. ومن يحصي ويحيط بما في السموات والأرض غير خالق السموات والأرض؟ ومثّل المفسرون للنعم الظاهرة بما تدركه الحواس ، وللباطنة بقوى النفس وغرائزها. وقال الملا صدرا في المجلد الثالث من أسفاره :

«ان أفاضل البشر عاجزون عن إدراك الأمور السماوية والأرضية على وجهها ، وعن الاحاطة بما فيها من الحكمة والعناية ، بل الأكثرون لا يعرفون حقيقة النفس التي هي ذات الشخص وتفاصيل أحوالها ، وما خفي على ذوي الاختصاص أكثر مما ظهر لهم ، وإذا كانت احاطة الإنسان بنفسه وبدنه متعذرة فكيف يحيط بالعالم الجسماني والروحاني ، وما لنا مع هذا العجز إلا أن نتأمل ونتفكر في عجائب الخلقة وبدائع الفطرة».

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ). جمعت هذه الآية على إيجازها بين أسباب المعرفة الثلاثة : الأول الحس والتجربة ، وإليه الاشارة بالعلم ، والثاني العقل ، وهو المراد من الهدى ، والثالث الوحي الذي

١٦٥

عبر عنه ، جلت عظمته ، بالكتاب المنير. وتقدمت هذه الآية بنصها الحرفي في سورة الحج الآية ٣ و ٨ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). تقدم في الآية ١٧٠ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥٩.

من هو المستمسك بالعروة الوثقى؟

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ). العروة الوثقى الطرف القوي الذي لا ينقطع ، وهو كناية عن القرآن وعن حبل الله ومرضاته ، وما إلى ذلك مما يكون معه الإنسان آمنا من عذاب الله وغضبه .. وكل من اجتمع له وصفان فقد أخذ بهذا الطرف القوي الأمين : الأول أن يؤمن بالله ، ويفعل ما أمره به من العبادة كالصوم والصلاة ، ويترك ما نهاه عنه كالزنا والكذب والخمر. الثاني : أن يكون محسنا ، والمحسن هو الذي يتعدى إحسانه إلى الآخرين ، ولا يقف عند الإحسان لنفسه وذويه ، فيشارك الناس في آلامهم ، ويعمل لخلاص المظلومين والمحرومين ، ومن أجل الحق والعدل أينما كان ويكون ، وبالايجاز ان المحسن تماما كالماء الطهور طاهر بنفسه ، مطهر لغيره.

وبهذا يتبين معنا ان الآمنين من غضب الله وعذابه هم المؤمنون المحسنون ، أما من آمن بالله وتعبد له ولم يحسن الى الآخرين بالتعاون معهم على ما فيه خير الجميع ، أو أحسن ولم يؤمن بالله ، أما هذا وذاك فلا أمان لهما من عذاب الله وغضبه لأنهما لم يستمسكا بالعروة الوثقى .. وفي ذلك كثير من الأحاديث منها : «من لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم .. لا يصدق ايمان العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه .. أحب الناس الى الله أنفعهم للناس». وكفى بقول الرسول الأعظم (ص) : «اني بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وقوله: «أنا رحمة مهداة» كفى بهذا شاهدا على ان رسالة الإسلام هي رسالة الانسانية .. ومن خلالها حدد بعض العارفين المسلم بأنه «انسان ممتد بمنافعه في معناه الاجتماعي حول أمته كلها لا انسان ضيق حول نفسه بهذه المنافع».

١٦٦

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ). علام تحزن وتتألم يا محمد لكفر من كفر ، وقد بلّغت وأنذرت وأديت الرسالة كاملة؟ فدع المجرمين ودنياهم ، فنحن أعلم بهم ، إلينا مصيرهم وعلينا حسابهم (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) ما هي إلا أيام يلعبون بها وتلعب بهم ، ثم يحيط بهم العذاب الشديد من حيث لا يشعرون. وتقدم في مثله أكثر من آية ، منها الآية ١٧٦ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٠٩.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). تقدم مثله في الآية ٨٤ من سورة المؤمنون ج ٥ ص ٣٨٣ والآية ٦١ من سورة العنكبوت (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) له وحده الملك والحمد ، ولا غني إلا من استغنى به.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). سبعة أبحر كناية عن الكثرة ، والمراد بكلمات الله قدرته تعالى على إيجاد الكائنات متى شاء ، والمعنى لو فرض ان البحر مداد ، والأشجار أقلام تكتب قدرة الله على إيجاد ما يشاء لانتهت البحار والأقلام وبقيت قدرة الله الى ما لا نهاية .. وبكلمة ان الحد لقدرة الله ان لا حد لها. وتقدم مثله في الآية ١١٠ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٦٦.

وقال ابن عربي في المجلد الرابع من الفتوحات المكية : «البحار والأقلام من جملة الكلمات ، فلو كانت البحار مدادا ما انكتب بها سوى عينها ، وبقيت الأقلام والكلمات الحاصلة في الوجود ما لها ما تكتب به مع تناهيها بدخولها في الوجود ، فكيف بما لم يحصره الوجود من شخصيات الممكنات». يريد لو كانت البحار حبرا ، وأردنا أن نكتب عن العجائب والأسرار التي أودعها الله في البحار فقط لنفدت البحار بنفاد الكتابة عن عجائبها وأسرارها ، وإذا نفد الحبر بنفاد البحار تعطلت الأقلام عن الكتابة ، وعليه تظل بقية الكائنات الموجودة بلا كتابة عنها .. هذا بالنسبة الى ما هو موجود بالفعل ، فكيف بما يدخل تحت قدرة الله من الكائنات التي يوجدها بكلمة «كن» متى يشاء؟

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). كل قادر غير

١٦٧

الله يقدر على شيء ، ويعجز عن أشياء ، والشيء الذي يقدر عليه منه ما لا يحتاج إلى جهد ، ومنه ما يحتاج إلى جهد يسير ، ومنه ما يحتاج إلى جهد كثير ..

والله قادر على كل شيء ، ويتساوى عند قدرته الخطير والحقير ، وعليه يكون خلق الناس جميعا تماما كخلق واحد منهم ، وكذلك بعثهم للحساب والجزاء. قال الإمام علي (ع): «لا شيء إلا الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الأمور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع دام بقاؤها ، لم يتكاءده ـ أي لم يشق عليه ـ صنع شيء منها إذ صنعه ، ولم يؤده ـ أي لم يثقله ـ منها خلق ما خلقه وبرأه».

يولج الليل في النهار الأة ٢٩ ـ ٣٢ :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

اللغة :

الظلل جمع ظلة ، وهي ما يظللك ويعلوك من كل شيء ، والمراد هنا ان الموج ارتفع فوق من في السفينة. والختّار الغدّار مبالغة في الغدر.

١٦٨

الاعراب :

مخلصين حال من فاعل دعوا. ونقل ابن هشام في كتاب المغني عن ابن مالك ان (لمّا) هنا بمعنى إذا ، بدليل دخول الفاء على جوابها.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ). تقدم في الآية ٢٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧ والآية ٦١ من سورة الحج (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). تقدم في الآية ٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). تقدم بالحرف الواحد في الآية ٦٢ من سورة الحج.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ). من نعم الله تيسير المواصلات ، ومن وسائلها الفلك ، وهي تحتاج الى الماء والريح والسماء ، وهذه الأسباب وما اليها تنتهي اليه تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) يصبر على التأمل والنظر إلى عجائب الله في خلقه ، ويشكره على آلائه.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ). قال بعض المفسرين : المراد بالمقتصد هنا من أضمر الكفر. وقال الرازي : هو من اقتصد في الكفر. والصواب ان المراد به المعتدل الذي لم يظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله وغضبه ، ولم يكن من السابقين إلى الخيرات. قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) ـ ٣٢ فاطر. أما الختار فهو شديد الغدر ، والمراد به هنا من نقض عهد الفطرة التي ولد عليها كل مولود. وتقدم مثله في الآية ٢٢ من سورة يونس ج ٢ ص ١٤٧ والآية ٦٥ من سورة العنكبوت.

١٦٩

ان الله عنده علم الساعة الأة ٣٣ ـ ٣٤ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

اللغة :

جاز مغن. وكل ما غرك فهو غرور إنسانا كان أو غير انسان.

الإعراب :

يوما مفعول به لا خشوا. ولا مولود عطف على والد ، ويجوز أن يكون مبتدأ أول «وهو» مبتدأ ثان وجاز خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول. وشيئا مفعول جاز.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ). أمر سبحانه بالتقوى لأنها سبيل النجاة من يوم يفر فيه المرء من بنيه وأمه وأبيه .. وهذا اليوم آت لا محالة ، والمخدوع من اغتر بالأباطيل والأكاذيب.

١٧٠

لماذا خلق الله الإنسان؟

قرأت لكاتب يقول : «من الأسئلة التي لا جواب لها هذا السؤال : لما ذا خلق الله الإنسان؟». وما من شك ان كل واحد يتمنى لو عرف الجواب عن هذا السؤال لأنه يرتبط ارتباطا طبيعيا ومباشرا بوجوده وحقيقته ، ولا أخفي سرا كان في نفسي ، وهو اني قرأت أجوبة كثيرة عن هذا السؤال للفلاسفة وعلماء الكلام وغيرهم من القدامى والجدد ، ولكني لم اقتنع بشيء منها بيني وبين نفسي .. مع ان هذا السؤال قد وجه إليّ أكثر من مرة ، وأجبت عنه بما أجابوا لا لشيء إلا لأني لا أملك غير ما قالوا ، والا لأني أريد أن أجيب.

وحين باشرت بتفسير آي الذكر الحكيم نسيت السؤال وما كنت أحفظ من جوابهم لأن «التفسير الكاشف» أفقدني كل شيء حتى ذاكرتي ، ولم يدع لي إلا البصيرة التي أهتدي بها إلى معاني كتاب الله وأهدافه وربطها بواقع الحياة .. وما مضيت في التفسير إلا قليلا حتى وجدت الجواب في آيات الله واضحا لا يقبل الشك والتأويل .. ولا بدع فان خالق الشيء هو أعلم بما أراد من خلقه .. وجدت في كتاب الله آيات تدل دلالة واضحة على ان الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا ، لحياة طيبة لا مشاكل فيها ولا تعقيد.

ولكن شاءت حكمة الخالق ان يربط بين الحياة الطيبة في الآخرة التي خلق الإنسان من أجلها ؛ وبين صدق الايمان بالحق والإخلاص له والعمل لحمايته ، كما قضت حكمته تعالى ان من لا يؤمن بهذا الارتباط ، أو يؤمن به نظريا ولا يعمل له ـ أن يحاسبه حسابا عسيرا ، ويعذبه عذابا أليما لأنه جهل أو تجاهل الغاية التي من أجلها وجد ، وتنكب عن الطريق السوي بسوء اختياره بعد أن أرشده الله اليه ، وأمره بسلوكه .. وبكلام آخر ان حياة الإنسان في واقعها باقية ببقاء خالقها ، وإنما وضعه تعالى في دار الدنيا مؤقتا والى حين ، ثم ينتقل به إلى دار القرار ، وأمره أن يعمل للدارين معا ، ويحتاط لما يمكن أن يقع له في الدار الأولى ، ولما هو واقع لا محالة في الدار الثانية ، فإن امتثل وأطاع فقد اختار لنفسه الأمن والفلاح تماما كمن سافر ، وهو مزوّد بما يحتاج اليه في سفره ، ومن أعرض

١٧١

وتولى فقد اختار لها شر العواقب كمن سافر إلى بلد بعيد وغريب على غير زاد ، وشيء من الاستعداد (١).

والآن نذكر طرفا من الآيات التي دلت على ان الغاية من خلق الإنسان هي الحياة الثانية ، وهذه الآيات على أنواع :

«منها» ما تصف الدنيا باللهو واللعب ومتاع الغرور ، وبالزوال والفناء ، وبالهشيم والتفاخر والتكاثر ، وتصف الآخرة بدار الله والخير والحيوان والرضوان ، فكيف يخلق سبحانه الإنسان ، ويودع فيه من الأسرار والطاقات ما يخلق الحضارات ، ويغير تاريخ الإنسان والأرض والسماء ، كيف يخلق هذا الكائن العجيب للهو ومتاع الغرور ولحياة أشبه بالأحلام ، وهو القائل : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ـ ٧٠ الإسراء. ولا شيء يناسب الكرامة الانسانية ، والحكمة الإلهية إلا الحياة الباقية ببقاء خالقها.

و «منها» الآيات الدالة على ان الله سبحانه يبتلي الإنسان ويمتحنه ـ وهو أعلم به ـ ليكشف الستار عن دخيلته وحقيقته ، وتظهر أفعاله التي يستحق بها الثواب والعقاب في الآخرة ، ومن هذه الآيات قوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ ـ أي لإبليس ـ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) ـ ٢١ سبأ وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ـ ٧ الكهف. وليس القصد مجرد الإعلان والاظهار .. كلا ، بل (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) ـ ٣١ النجم. وبما ان هذا الجزاء لم يتحقق في الدنيا فتعين أن يكون في اليوم الآخر ، وإلا كان وعد الله تهويلا .. تعالى الله عما يقول الجاهلون.

و «منها» الآيات الدالة على خلود من آمن وأحسن في الجنة ، وخلود من كفر وأساء في النار.

وتسأل : وما ذا تصنع بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ـ ٥٦ الذاريات حيث دل بصراحة على ان الغاية من خلق الإنسان ان يعبد الله

__________________

(١). انظر تفسير الآية ٧٧ من سورة القصص : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا).

١٧٢

في الحياة الدنيا ، لا أن يحيا حياة طيبة دائمة في الآخرة؟

الجواب : المراد بالعبادة هنا كل عمل يرضي الله تعالى ، ويتقرب به اليه ، وليس من شك ان مرضاة الله هي السبيل الوحيد للحياة الطيبة الدائمة ، وعليه يكون المعنى ما خلقت الجن والانس إلا ليعملوا عملا صالحا يحيون بسببه حياة طيبة دائمة في الآخرة ، وبكلام آخر ان قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) يرادف قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ـ ٢٣ الإسراء وقوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ـ ٥ البينة. ونتيجة الإخلاص في الدين حياة دائمة ، وجنة قائمة.

أما الآيات التي أناطت نعيم الآخرة بعمل الخير والصلاح في الحياة الدنيا ، وأناطت عذاب الآخرة بعمل الشر والفساد في الأرض فهي تعد بالعشرات ، منها الآية ٧٢ من سورة الإسراء : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ومنها الآية ١٤٢ من سورة آل عمران : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). والمراد بالجهاد هنا الجهاد لحماية الحق وأهله ، والاستشهاد في سبيل الله ، والمراد بالصبر الثبات ضد المبطلين والمعتدين .. لا صبر الذين يستسلمون لقوى الشر والبغي ، وعلى الذل والفقر.

ومتى تبين معنا ان الغاية من خلق الإنسان هي الحياة الباقية ، وان نعيمها منوط بعمل الخير والصلاح في الحياة الدنيا ، وجحيمها منوط بعمل الشر والفساد في الأرض ، إذا تبين معنا هذا أدركنا ان أي تفسير للغاية من خلق الإنسان لا يعكس هذه الحقيقة فهو بعيد عن الصواب والواقع ، وكفى دليلا على ذلك قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ـ ١١٥ المؤمنون أي لو لم يخلق الله الإنسان للآخرة لكان الله عابثا جلت حكمته.

علم الساعة والغيث وما في الأرحام :

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). وتسأل : ان معلومات الله سبحانه لا يبلغها الإحصاء ، كما قال في الآية ٣ من سورة سبأ :

١٧٣

(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) والآية : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ـ ٥٩ الانعام وقال الإمام علي (ع) : ان الله يعلم مسقط القطرة ومقرها ومسحب الذرة ومجرّها ، وما يكفي البعوضة من قوتها. فلما ذا خص سبحانه هذه الأشياء بالذكر؟

وقيل في الجواب : ان سائلا سأل النبي (ص) عن هذه الأشياء فنزلت الآية. وقال الرازي : لما ذكر سبحانه يوم القيامة ناسب أن يذكر هذه الأشياء. وقلنا نحن أكثر من مرة : ان القرآن كتاب دين وهداية ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن. قال الإمام جعفر الصادق (ع) : ان الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء آخر ، وهو كلام متصل ينصرف بعضه إلى وجوه .. ومهما يكن فقد تضمنت الآية خمسة أشياء ، وهي :

١ ـ (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) ـ ١٨٦ الأعراف ، والحكمة في ذلك أن يكون الناس على حذر وتوقع دائم فيحتاطوا لمواجهة الاحتمالات.

٢ ـ (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) قال كثير من المفسرين : ان المراد ب «ينزل الغيث» ان العلم بنزوله مختص بالله وحده .. والصواب ان تؤخذ كلمة «ينزل» على ظاهرها أي ان القدرة على انزال الغيث تختص بالله لأن أسبابه الكونية تنتهي اليه تعالى .. وهذا لا يمنع أبدا ان يعلم الإنسان وقت نزول المطر عند ظهور دلائله .. ولو سلمنا ـ جدلا ـ بأن المراد من «ينزل» العلم فنقول : ان الإنسان يعلم وقت نزول المطر حين تظهر دلائله وعلاماته ، ولكن لا يعلم متى تظهر هذه الدلائل والعلامات إلا الله وحده.

وتسأل : ان العلماء ينزلون المطر الصناعي ، وعليه فلا يختص إنزاله بالله وحده؟ الجواب : ان العلماء يحولون السحاب الموجود إلى مطر ، والله يكوّن السحاب ويوجده ، ثم يسوقه من بلد الى البلد الذي يشاء ، والفرق بعيد بين إيجاد الشيء وبين تحويل الشيء الموجود الى شيء آخر.

٣ ـ (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ). وتسأل : ان العلم الحديث يعلم أيضا بواسطة الأشعة ما في الأرحام من ذكر أو أنثى؟

الجواب : ان الأشعة تعكس المادة الموجودة بالفعل ، أما غيرها من الصفات

١٧٤

والغرائز التي سيكون عليها الحمل في المستقبل كالحسن أو القبح ، والذكاء أو البلادة ، وما إلى ذلك ، أما هذه فعلمها عند الله وحده ، قال الإمام علي (ع) : «يعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو حسن ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومن يكون في النار حطبا ، أو في الجنان للنبيين مرافقا».

٤ ـ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) لأن كل يوم هو في شأن ، وقد أثبتت الأيام نظرية الفيلسوف اليوناني هرقليطس الذي قال : «انك لا تنزل النهر الواحد مرتين» يشير الى ان جميع المظاهر الكونية والاجتماعية تتغير بين لحظة ولحظة من حال إلى حال ، وعليه يتعذر العلم بما يحدث للإنسان في مستقبله.

٥ ـ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ولا بأي زمن أيضا لأن الموت لا ضابط له ، فقد يأخذ الطفل الصغير والشاب المعافى ، ويترك العليل والشيخ الكبير.

١٧٥

سورة السّجدة

عدد آياتها ٣٠ ، قال صاحب مجمع البيان : هي مكيّة ما خلا ثلاث آيات فإنها مدينية ، ابتداء من قوله تعالى : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون : إلى تمام الآيات الثلاث.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الذي أحسن كل شيء خلقه الأة ١ ـ ٩ :

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

١٧٦

اللغة :

يعرج يصعد. ومهين ضعيف والمراد به المني.

الإعراب :

تنزيل خبر لمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل ، وقال أبو حيان الأندلسي : تنزيل مبتدأ ، ومن رب العالمين خبر ، ولا ريب فيه جملة معترضة. أم يقولون (أم) منقطعة بمعنى بل والهمزة. ومن ربك والمصدر من لتنذر يتعلقان بمحذوف حالا من الحق. من ولي (من) زائدة اعرابا وولي مبتدأ ومن دونه حال من ولي ولكم خبر لولي. والذي أحسن خبر بعد خبر لذلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي أحسن. وخلقه الجملة صفة لكل شيء. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف وما زائدة أي شكرا قليلا تشكرون.

المعنى :

(الم) أنظر أول سورة البقرة (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ). لا شك في صدق القرآن وانه من وحي السماء لا من صنع الإنسان .. وقدمنا على ذلك العديد من الشواهد. أنظر ج ١ ص ٦٥ وج ٢ ص ٣٨٩ وج ٥ تفسير الآية ٥٥ من سورة النور.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ). قال المترفون المستغلون من عتاة قريش : القرآن من نسج محمد (ص) .. فقال سبحانه ردا عليهم : كلا ، انه من وحي الله ، وقد أتاكم بما لم يأتكم به أحد من قبل ولا يأتكم به أحد من بعد ، جاءكم بخير الدنيا والآخرة ، ونهاكم عما أنتم فيه من البغي والفساد لتتعظوا وتنتهوا قبل أن تدور على رؤوسكم دائرة السوء ، وكان المفروض أن تشكروا محمدا (ص) على هذا الفضل بدل أن تضمروا له العداء ، وتنسبوه إلى الكذب والافتراء.

١٧٧

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ). ستة أيام كناية عن الدفعات أو الأطوار ، والمراد بالعرش الاستيلاء. وتقدم مثله في الآية ٥٤ من سورة الأعراف و ٣ من سورة يونس و ٥٩ من سورة الفرقان. وفي ج ٣ ص ٣٣٨ ذكرنا الأقوال حول الأيام الستة ورأينا فيها.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). المراد ب «يدبر الأمر» ان الله سبحانه خلق الكون ، ومنح كل مخلوق من الصفات ما تستدعيه الحكمة والعناية الإلهية ، وأوجب على من منحه القدرة والإدراك ان يلتزم الطريق الذي أرشده اليه. والمراد ب (يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ) ان أعمال الخلائق ترفع اليه يوم القيامة. وألف سنة كناية عن تطاول الزمن ، والمعنى ان الخلائق مشمولة بتدبير الله وعنايته ، فهو سبحانه أوجدها وأتقنها (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ـ ٥٠ طه وهو يفنيها ويعيدها ، واليه ترفع الأعمال في يوم هو أطول وأثقل يوم على العصاة والمجرمين.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). ان خالق كل شيء ، والقائم على كل شيء هو العالم بما كان ويكون كبيرا أو صغيرا ، ظاهرا للعيان أو خفيا عنها ، والعزيز بقدرته وسلطانه ، والرحيم بخلقه وعباده (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ). كل مخلوق وجد على النظام الأتم فهو حسن ومتقن يدل على قدرة الصانع وعظمته ، وما من شيء في الوجود إلا وترى فيه النظام والتناسق الذي يدل على العليم الحكيم : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) ـ ٤ الملك.

(وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ). المراد بالإنسان هنا أبو البشر آدم (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ). نسله ذريته ، وسلالة لانسلاله من صلبه ، والماء المهين المنيّ (ثم سواه) في أحسن تقويم (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) هذا كناية عن الحياة. وتقدم مثله في الآية ٢ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٥٨ والآية ١٢ من سورة «المؤمنون». (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ). تقدم في الآية ٧٨ من سورة «المؤمنون». ولا تقلّ نعمة البيان عن نعمة السمع

١٧٨

والبصر والإدراك ، أما شهوة الغذاء فهي لحفظ الحياة ، وشهوة الجنس لبقاء النوع ، وما من غريزة في الإنسان إلا ولها فائدة وحكمة.

المجرمون ناكسو رؤوسهم الأة ١٠ ـ ١٤ :

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

اللغة :

للضلال معان ، منها ضد الهداية ، والموت ، والغياب ، وهو المراد بضللنا في الأرض أي غبنا فيها. والنكس قلب الشيء على رأسه وجعل أعلاه أسفله. ونسيناكم أهملناكم.

الإعراب :

نقل أبو حيان الأندلسي عن سيبويه ان (لو) في قوله تعالى (وَلَوْ تَرى)

١٧٩

هي لوقوع شيء في المستقبل عند وقوع شيء آخر. وأجمعين توكيد للناس. وجملة فذوقوا مفعول لقول محذوف أي يقال لهم : فذوقوا. وهذا عطف بيان من يومكم.

المعنى :

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). هذا مثل قولهم : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ـ ٥ الرعد ج ٤ ص ٣٧٨ (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ).

وتسأل : لقد أعلن المشركون كفرهم بلقاء الله صراحة ، فما هو وجه الاضراب في قوله تعالى : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ)؟ وهل هو إلا كقولنا : أنت كافر لمن أعلن الكفر؟

الجواب : المراد انهم لم يكفروا باليوم الآخر عن علم ، بل عن جهل وتقليد ، فهو تماما كقولنا لمن أعلن الكفر : أنت جاهل.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). قل يا محمد للذين كفروا باليوم الآخر : أنتم ميتون ما في ذلك ريب ، وبعد الموت تنكشف لكم الحقيقة ، وتعلمون ان الساعة آتية لا ريب ، وان الله يبعث من في القبور.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). أنكروا البعث ، وسخروا ممن آمن به ودعاهم إلى العمل له ، وحذرهم من عواقبه .. ولما بعثوا ووقفوا بين يدي الله للحساب طأطئوا رؤوسهم حياء وندما وقالوا : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ). تقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٧٨ والآية ١٠٠ من سورة «المؤمنون».

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها). قال الرازي : «هذا صريح في ان مذهبنا صحيح حيث نقول : ان الله ما أراد الايمان من الكافر ، وما شاء منه إلا الكفر».

١٨٠