التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

اللغة :

أقم وجهك للدين أخلص له. وحنيفا مائلا إلى الدين. والقيم المستقيم. والشيع الفرق.

الإعراب :

حنيفا حال من الضمير في أقم. وفطرة الله مفعول لفعل محذوف أي الزموا فطرة الله. ومنيبين حال من الناس. ومن الذين فرقوا بدل من المشركين مع إعادة حرف الجر.

دين الله والفطرة :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). هذه الآية تدور كثيرا على ألسنة الخطباء وأقلام الكاتبين ، ومنهم من يستشهد بها وكفى ، ومنهم من يطلق حولها كلمات رنانة عامة ويقول : هذا هو الدين الصحيح الضخم الهائل الخ.

وليس من شك ان هذه الآية تقرر أصلا هاما يرتكز عليه الإسلام عقيدة وشريعة ، وهو يدل دلالة واضحة ان تعاليم هذا الدين من ألفه إلى يائه تهدي الى الرشد والوفاء بمطالب الحياة ونموها وتقدمها إذا فهم الإسلام على أساس فطرة الله التي فطر الناس عليها. ونبدأ أولا بتفسير المفردات الواردة في الآية ، ثم نذكر المعنى المراد من مجموعها.

وتعني كلمة الفطرة عند تعميمها وإطلاقها غريزة في داخل الإنسان تقبل الخير حين تعلم أنه خير وتلتزمه لا لشيء إلا لأن الخير يجب أن يقبل ويلتزم ، وترفض الشر حين تعلم انه شر أيضا لا لشيء إلا لأن الشر يجب أن يرفض ويجتنب .. هذا إذا خلي الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها ، ولم تدنسها العادات والتقاليد ، وتلوثها الأهواء والأغراض ، وقد ضرب العلامة الحليّ مثالا لهذه الغريزة بقوله :

١٤١

«لو خير العاقل بين ان يصدق ويعطى دينارا ، وبين ان يكذب ويعطى دينارا لتخير الصدق على الكذب» وهذه الغريزة التي تختار الصدق على الكذب هي التي خاطبها الله أو خاطب أربابها بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ـ ١٧٢ الأعراف» وعناها الحديث المشهور عن الرسول الأعظم (ص) : كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصّرانه. أما كلمة حنيف هنا فإنها تعني من استقام على فطرة الله التي فطر الناس عليها مبتعدا عما يدنسها من الأهواء والأغراض. والمراد بقوله تعالى : لا تبديل لخلق الله ، ان الدين عند الله قائم وثابت على أساس هذه الفطرة لا يحول عنها ولا يزول. وذلك اشارة الى ما أوجب الله على العباد أن يلتزموه قولا وعملا لأنه هو الدين المستقيم الذي لا ترى فيه عوجا ولا أمتا.

أما الآية بمجموعها فإنها تدل على ان الدين يرتبط بالفطرة ، ولكن ليس معنى هذا ان الفطرة هي المشرع والآمر الناهي ، وان وظيفة الدين هي الكشف والتعبير عن أحكامها .. كلا ، فان الله الذي خلق الدين والفطرة هو المشرع الأول ، وله وحده الأمر والنهي ، وانما القصد من الآية هو تحديد المقياس الذي نقيس به دين الله ، وانه بما فيه من عقيدة وشريعة وأخلاق ينسجم مع فطرة الناس ومصالحهم ، وانه سبحانه لم يشرع حكما لعباده منافيا لمصلحة الفرد أو الجماعة .. هذا هو الضابط والفاصل بين أحكام الله وأحكام غيره ، بين شريعة الحق وشريعة الباطل ، أما أقوال العلماء من الفقهاء والمفسرين والفلاسفة فما هي بأصل من أصول الإسلام ، ولا يصح الاعتماد عليها كدليل شرعي (١) لأنها تعكس اجتهادهم وفهمهم لدين الله وأحكامه ، ولا تعكس الدين كما هو في حقيقته وواقعه.

ونخلص من هذا إلى ان الإسلام لا يرفض بقية الأديان والمذاهب بكل ما فيها ، بل ينظر اليها نظرة المدقق المنصف ، فيقر منها ما يتفق مع فطرة الله ، ويرفض ما عدا ذلك.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) ارجعوا إلى هذا الدين ، وأطيعوا جميع أحكامه (وَأَقِيمُوا

__________________

(١). لا يعتمد على الإجماع في العقائد ، ولا في المسائل الفقهية مع الاحتمال أنه لم يكشف عن رأي المعصوم.

١٤٢

الصَّلاةَ) فإنها تذكركم بالله (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أخلصوا له وحده في جميع أقوالكم وأفعالكم (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ). تقدم مثله في الآية ١٥٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٩٠ والآية ٥٣ من سورة المؤمنون.

واذا مس الناس ضر الأة ٣٣ ـ ٤٠ :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

١٤٣

اللغة :

منيبين اليه أي راجعين اليه. والمراد بالسلطان هنا الحجة أو الكتاب. ويقدر يضيق. وابن السبيل هو الذي سافر في غير معصية ، وانقطع عن ماله وأهله. والربا الزيادة. والمضعفون الذين يضاعف لهم الأجر والثواب.

الإعراب :

منيبين حال من واو دعوا. إذا فريق (إذا) للمفاجأة. وما آتيتم (ما) في محل نصب بآتيتم.

المعنى :

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). تقدم مثله في الآية ١٢ من سورة يونس ج ٤ ص ١٣٩ والآية ٦٧ من سورة الإسراء (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). تقدم مثله في الآية ٦٦ من سورة العنكبوت.

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ). أم هنا بمعنى بل وهمزة الاستفهام. والمراد بالسلطان البرهان ، والمعنى هل يشهد لكم شيء من الوحي أو العقل بأن الذي أنتم عليه من الشرك حق وصواب ، والقصد من ذلك الاستنكار والتهديد.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ). هذا هو الإنسان ، ان مسه الخير فهو فرح فخور ، وان مسه الشر فيئوس كفور. وتقدم مثله في الآية ٩ من سورة هود ج ٤ ص ٢١٢ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). تقدم في الآية ٢٦ من سورة الرعد ج ٤ ص ٤٠١ والآية ٣٠ من سورة الإسراء ج ٥ ص ٤٢.

١٤٤

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ). للقريب الفقير حق على قريبه الغني ، وهو الإنفاق عليه بما يسد الخلة. وقال الشافعية والإمامية : تجب نفقة الأقارب إذا كانوا من الآباء وان علوا ، والأبناء وان نزلوا. وقال المالكية : لا تجب إلا نفقة الأبوين والأبناء الأدنين دون آباء الآباء وأبناء الأبناء. وقال الحنابلة : تجب نفقة القريب بشرط أن يكون المنفق وارثا للمنفق عليه. أما الحنفية فيرون الشرط الأساسي أن تكون القرابة موجبة لحرمة الزواج. والتوضيح في كتابنا : «الأحوال الشخصية على المذاهب الخمسة».

أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم الكلام عنهما عند تفسير الآية ٦٠ من سورة التوبة ج ٤ ص ٥٩ (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ذلك إشارة إلى الإعطاء ، وانه يجب أن يكون لوجه الله ، كما هو شأن أهل الصلاح والفلاح (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ). قال جماعة من المفسرين : المراد بالربا هنا الربا المحرم. وقال آخرون : بل المراد به الربا الحلال ، ومثاله أن يهدي الرجل غنيا من الأغنياء ليرد الهدية أضعافا. والأولى حمل الآية على الاثنين ، وان كلا من آكل الربا المحرم والمهدي بقصد الربح لا ثواب له عند الله ، سوى ان الأول عليه عقاب ، والثاني لا ثواب له ، ولا عقاب عليه.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) أي يضاعف لهم الثواب والجزاء ، والمعنى الجملي أن من ينفق لوجه الله تعالى يزيد الله في ماله بالدنيا ، وفي ثوابه بالآخرة. قال الإمام علي (ع) : إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقات. وهذا مأخوذ من قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) ـ ٢٤٥ البقرة ج ١ ص ٣٧٥.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أتبخلون بما آتاكم الله ، وتبتغون الرزق من غيره ، وهو الذي أوجدكم بعد العدم ، وأفاض عليكم من بركاته الواسعة ، وهو الذي يميتكم ثم يحييكم ، ثم يبعثكم للحساب والجزاء؟ فهل من أحد ممن ترجون فضله وتأملون نفعه يحيي ويميت؟ وإذا قدر على إعطاء بعض الفتات في هذه الحياة فهل يقدر

١٤٥

غدا على النفع والضر (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). وفي الحديث : الشرك أخفى من دبيب النمل ، وفيه إيماء إلى ان الشرك على أنواع ، ومنها الثقة بالمخلوق دون الخالق.

ظهر الفساد في البر والبحر الأة ٤١ ـ ٤٥ :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

اللغة :

يصدّعون أصلها يتصدعون من التصدع ، والمراد هنا التفرقة ، يقال تصدع القوم أي تفرقوا. ويمهدون من مهد بمعنى وطّأ وهيأ.

الإعراب :

ليذيقهم اللام بمعنى كي ، وان مضمرة بعدها ، والمصدر المجرور متعلق بظهر. والمصدر من ليجزي متعلق بيصدعون.

١٤٦

المعنى :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). قال جماعة من المفسرين : المراد بالبحر هنا البلاد القريبة من البحر ، وبالبر البلاد البعيدة عنه ، وقال آخرون : المراد بالبحر المدينة لكثرة سكانها ، وبالبر القرية لقلتهم .. والذي نفهمه نحن ان البر والبحر كناية عن كثرة الفساد وانتشاره .. وكل ما حرمه الله ونهى عنه فارتكابه جريمة وفساد في الأرض ، كالحرب والبغي والإسراف والخلاعة والفجور والخمر والميسر والاستخفاف بفرائض الله وعبادته ، وما إلى ذلك.

وإذا وصف سبحانه عصر الجاهلية بظهور الفساد برا وبحرا حيث لا أسلحة كيماوية ولا قنابل نووية ، ولا شركات للاستغلال والاحتكار ، ولا كازينوهات وخلاعات فبأي شيء نصف عالم اليوم الذي يهدده الفناء والدمار الشامل في كل لحظة ، يهدده الفناء والهلاك لا بفعل الله ، ولا بكوارث الطبيعة ، بل بفعل الناس الذين يملكون أبشع أسلحة الافناء والإهلاك .. ولا سبيل لأمن البشرية وصيانتها من هذا الخطر إلا أن تدمر هذه الأسلحة تدميرا كاملا ، أما هيئة الأمم ومعاهدة التجارب الذرية الجزئية فإنها لم تحقّق للبشرية ما تثق به وتطمئن اليه.

(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). الفساد في الأرض نتيجة طبيعية للإعراض عن الله ، وعدم الالتزام بأمره ونهيه ، وكلمة «بعض» في الآية تشير إلى عذاب الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشق وأخزى. وفي الدعاء المأثور : اللهم اني أعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم وتنزل النقم ، وقال سيد المرسلين (ص) : «اتقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات» ، وكفى شاهدا على ذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) ـ ٦٠ الكهف ، وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ). تقدم مثله في الآية ١٣٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٥٩ والآية ١١ من سورة الأنعام و ٦٩ من سورة النمل.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) وهو يوم الحساب والجزاء الذي لا مفر منه ، والسعيد من أخلص لله في أعماله

١٤٧

ومقاصده وحاسب نفسه قبل أن تحاسب (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يتفرقون إلى فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ومر مثله في الآية ١٤ من هذه السورة.

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). مهّد الفراش بسطه وسهّله ، وأصحاب الأعمال الصالحات يفرشون قبورهم ويجهزونها بما يحتاجونه لأمنهم وراحتهم قبل أن ينقلوا اليها تماما كما يجهز البيت في الحياة الدنيا قبل سكناه ، وعن الإمام جعفر الصادق (ع) : ان العمل الصالح يسبق صاحبه ليمهد له كما يمهد الخادم لسيده. وتقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة الآية ٢٨٦ ج ١ ص ٢٥٥.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ). ليجزي متعلق بيصدعون ، والمعنى ان الله يجعل الناس يوم القيامة فريقين ليكافئ المؤمنين على أعمالهم بالجنة لأنه يحبهم ويحب ما عملوا من الصالحات ، أما الكافرون فإن الله يكرههم ويجزيهم بما يستحقون. وفي نهج البلاغة : «ان الله يحب العبد ، ويبغض عمله ، ويحب العمل ، ويبغض بدنه» أي يحب المؤمن لإيمانه ، ويبغض ما يأتيه من السيئات ، ويبغض الكافر لكفره ، ويحب ما يفعله من حسنات.

من الأات الکوفة الأة ٤٦ ـ ٥١ :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨)

١٤٨

وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١))

اللغة :

كسفا جمع كسفة ، وهي القطعة من الشيء. والودق المطر. ومبلسين جمع مبلس ، وهو المتحسر الآيس.

الإعراب :

مبشرات حال من الرياح. وليذيقكم عطف على معنى مبشرات أي ليبشركم وليذيقكم. وحقا خبر كان ، ونصر اسمها. وكيف مفعول مطلق وتقديره أيّ مشيئة يشاء ، ومثله كيف يحيي الأرض. وان كانوا (ان) مخففة واسمها محذوف أي انهم كانوا. واللام في مبلسين اللام الفارقة ومبلسين خبر كانوا وجملة كانوا مع خبرها خبر ان. واللام في لئن لام التوطئة للقسم. واللام في لظلوا واقعة في جواب القسم ، وظلوا فعل سد مسد جواب القسم والشرط معا.

المعنى :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ). كل شيء يترتب على وجوده حكمة لا غنى عنها فهو دليل قاطع على نفي الصدفة ووجود القصد والارادة ، وهذا الدليل هو المراد بآية

١٤٩

الله الدالة على وجوده. وللرياح فوائد كثيرة ، فهي ـ اذن ـ آية دالة على وحدانية الله وقدرته ، ومن فوائدها اثارة السحاب الذي يبشر الناس بالخير ، وجريان السفن على متن الماء تحمل الأقوات من بلد إلى بلد ، وغير ذلك مما أشار اليه الامام جعفر الصادق بقوله : «لو كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن ، لأن الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه فهي بمنزلة الروح إذا خرجت من البدن نتن وتغير .. فتبارك الله أحسن الخالقين». (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تتقون معاصي الله في السر والعلانية. وأشرنا فيما تقدم أكثر من مرة ان الله يجري الأشياء على أسبابها ، ويسندها اليه لأنه السبب الأول الذي تنتهي اليه جميع الأسباب.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). أرسل الله محمدا (ص) بالحجة الوافية ، كما أرسل من قبله بالحجج الواضحة ابراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ، فكذّب بهم كثير ، وآمن بهم قليل ، فأخذ الله المكذبين بعذاب يوم عظيم ، ونصر الله الأنبياء ومن معهم ، وهذا النصر واجب على الله ، وهو الذي أوجبه وكتبه على نفسه تماما كما كتب عليها الرحمة .. ومحال ان تضيع عند الله ظلامة مظلوم وإلا كان الظالم أحسن حالا من المظلوم عند الله. انظر ج ٤ ص ١٣٢ فقرة : «الحساب والجزاء حتم». والغرض من هذه الآية تهديد الذين كذبوا محمدا (ص) ان يصيبهم مثل ما أصاب الذين كذبوا أنبياءهم من قبل.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ). هذا توضيح للآية السابقة ، وهي : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) ويتلخص المعنى بأن الله سبحانه يرسل الرياح ، فتحرك السحاب ، وتنشره في السماء ، ثم تقسمه بأمره إلى قطع ، وتدفع بكل قطعة إلى البلد الذي أراده الله ، فإذا وصلت اليه خرج الماء من السحابة وتساقط على البلد المقصود ، فيفرح أهله ، ويبشر بعضهم بعضا بالخير ، ومن قبل كانوا قانطين يائسين. وتقدم مثله في الآية ٥٧ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٢.

١٥٠

العقل وفكرة البعث :

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). المراد برحمة الله هنا المطر ، وبآثاره إحياء الأرض بعد موتها ، وهذا الإحياء ثابت بالعيان ، وهو دليل قاطع ومحسوس على ان فكرة البعث والإحياء بعد الموت من حيث هي صحيحة لا تقبل الشك ، لأن العاقل إذا تنبه وتدبر إحياء الأرض بعد موتها لا بد أن يسلم ويؤمن بفكرة البعث كفكرة ، وإلا كان من الذين يجمعون بين الايمان بوجود الشيء والايمان بعدمه في آن واحد .. وبداهة ان هذا الجمع ممتنع بذاته وطبعه .. وهنا يكمن السر في تكرار الآيات التي تنبه العقول إلى إحياء الأرض بعد موتها كدليل على إمكان البعث ، ومن هذه الآية قوله تعالى : (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) ـ ٩ فاطر ، وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) ـ ٣٩ فصلت. وغيرها كثير.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ). الهاء في رأوه تعود إلى الزرع المفهوم من سياق الكلام ، ومصفرا صفة له ، لا للريح ، والمعنى إذا أرسل الله ريحا يصفر منها زرعهم بعد خضرته يئسوا من رحمة الله ، واعترضوا على حكمته ، وكفروا به وبنعمته ، وان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان إيمانهم بالله وهم وخيال ، ولو كان مستقرا في القلوب لثبتوا عليه في السراء والضراء. قال الإمام علي (ع) : «من الايمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب ، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم» .. ان المؤمن يتألم ويحزن كإنسان إذا أصيب في نفسه أو ولده أو ماله ، ولكنه لا يخرج عن دينه. قال الرسول الأعظم (ص) عند وفاة ولده ابراهيم : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب.

خلقكم من ضعف الأية ٥٢ ـ ٦٠ :

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢)

١٥١

وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

الإعراب :

الله الذي خلقكم مبتدأ وخبر. وما لبثوا جواب القسم. ولئن اللام للتوطئة. وليقولن اللام في جواب القسم ، ويقولن يسد مسد جواب الشرط والقسم.

المعنى :

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ). تقدم بالنص

١٥٢

الحرفي في سورة النمل الآية ٨٠ و ٨١.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ). لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ثم كان ، وانتقل في العديد من الأطوار ، فمن التراب إلى النطفة والجنين ، ومنه إلى الرضيع والفطيم ، ومن الصبي والشاب إلى الكهل والشيخ الفاني ، والضعف الأول الذي أشارت اليه الآية هو ضعف البنية والإدراك في الطفل ، وقيل : بل ضعف النطفة ، والمراد بالقوة قوة الشباب ، أما الضعف الثاني فهو ضعف الهرم والكبر باتفاق المفسرين ، ومن أجل هذا قلنا : ان المراد بالضعف الأول الطفولة لأنها أنسب إلى الهرم من النطفة. وعلى أية حال فان القصد من الاشارة إلى تغيير الإنسان من حال الى حال هو أن يدرك انه في قبضة الله يتصرف به كيف يشاء إحياء وإماتة وإضعافا وتقوية ، ثم اليه المنقلب والمصير. وتقدم مثله في الآية ٧٠ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٣٠.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ). المراد بالساعة يوم القيامة ، وبقوله : ما لبثوا غير ساعة الجزء من الزمن في الحياة الدنيا ، والمعنى ان المجرمين حين ينسلون الى ربهم من الأجداث يحلفون بالله من الدهشة ما لبثوا في قبورهم إلا قليلا. وتقدم ذلك مفصلا في الآية ١٠٢ من سورة طه ج ٥ ص ٢٤٤ ، وجمعنا هناك بين ثلاث آيات : الأولى : يتخافتون بينهم ان لبثتم إلا عشرا. والثانية : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. والثالثة الآية التي نحن بصددها. (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا حيث كانوا يحلفون : لا بعث ولا حساب. وفي الآخرة أيضا حيث حلفوا ما لبثوا غير ساعة.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ). قال المجرمون ما قالوا عن أمد مكثهم ، فقال لهم أهل الايمان بالله وحسابه وثوابه : لقد لبثتم ما شاء الله أن تلبثوا ، والأمد الذي قضيتموه في قبوركم الى هذا اليوم ثابت في علمه تعالى ، ولا يعلمه أحد سواه .. وأية جدوى من قسمكم وحديثكم عن أمد المكث في القبور وقد أنكرتم من قبل هذا اليوم الذي

١٥٣

ترون شدائده وأهواله؟ (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنكم في عمى وضلال مبين.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). المراد بالاستعتاب هنا الاقالة أي ان المجرمين يستقيلون ربهم فلا يقيلهم ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ـ ٢٤ فصلت وعليه يكون المعنى لا عذر ولا إقالة لمجرم في ذلك اليوم بعد أن حذّر وأنذر فأبى إلا كفورا.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ). تقدم في الآية ٥٤ من سورة الكهف ج ٥ ص ١٣٩.

(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ). يقولون عن الأنبياء والمصلحين وعن الأحرار والمجاهدين : انهم مبطلون .. وعن الخونة المنافقين والعملاء المأجورين : انهم محقون .. ولا بدع فان الطغاة المجرمين يقيسون الحق والباطل بمنافعهم وأهوائهم ، فما وافقها فهو حق وان كان شرا وفسادا ، وما خالفها فهو باطل وان كان خيرا وصلاحا.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). طبع الله على قلوبهم لأنهم سلكوا باختيارهم السبيل المؤدية إلى ذلك حتما .. فالعمى عن الحق نتيجة الجهل ، والبغي والطغيان نتيجة الانحراف عن طريق الهداية ، أما نسبة ذلك اليه تعالى فمعناها ان هذه النتيجة تلزم مقدماتها وأسبابها ولا تنفك عنها بحال (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ). اصبر يا محمد وامض في دعوتك ، وتحمل الأذى في سبيلها ، فما هي الا أيام حتى تنتشر رسالتك في شرق الأرض وغربها ، ويقترن اسمك باسم الله تعالى وبالصلوات والتحيات .. والحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلى الله عليه واله نبي الرحمة وقائد الانسانية الى الخير ، فارزقنا شفاعته يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات.

١٥٤

سورة لقمان

مكية إلا بعض آيات ، وآيها ٣٤.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هذا خلق الله الأة ١ ـ ١١ :

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

١٥٥

اللغة :

المراد بلهو الحديث هنا كل ما يصد عن الحق الذي عبّر عنه سبحانه في نفس الآية بسبيل الله. والوقر الصمم. والرواسي الجبال. وبث فرق. وزوج كريم صنف حسن.

الإعراب :

تلك آيات الكتاب مبتدأ وخبر. وهدى ورحمة حال من الآيات والعامل معنى الاشارة في تلك. ومن الناس خبر مقدم ، ومن يشتري مبتدأ مؤخر. ويتخذها عطف على ليضل. وبغير علم متعلق بمحذوف حالا من فاعل يضل أي جاهلا. ومستكبرا حال. وكأن ، أصله كأنه. وخالدين حال من الضمير في لهم. وعد الله منصوب على المصدرية أي وعد الله وعدا حقا ، وحقا صفة للوعد المحذوف. وما ذا بمنزلة الكلمة الواحدة ومحلها النصب بخلق والتقدير أيّ شيء خلق.

المعنى :

(الم) تقدم مثله في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ). تلك إشارة إلى آيات هذه السورة ، وانها من كتاب الله ، ووصفه سبحانه بالحكيم لأن فيه الحكمة البالغة (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) وهم الذين يطلبون الحق ويعملون به لأنه حق ، ولا ريب ان القرآن هدى ورحمة لكل من أخلص لله وللحق ، أما الذين أعمت المطامع قلوبهم فهم الداء الذي لا دواء له إلا الاستئصال (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) يداومون عليها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) لمن يستحقها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ولا يشكون انهم مسؤولون أمام الله عن أقوالهم وأفعالهم (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). فميزان الهداية والفلاح عند الله أن تخلص للحق قولا وعملا ، ولا تعبد إلا الله ، ولا تبخل بما آتاك من فضله. وتقدمت هذه الآيات في أول سورة البقرة.

١٥٦

الاتجار بالدين والضمير :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً). قال صاحب مجمع البيان : «أكثر المفسرين على ان المراد بلهو الحديث الغناء .. وعن الإمام جعفر الصادق (ع) انه الطعن بالحق والاستهزاء به».

وهذا التفسير أقرب الى الواقع ، وأليق بالسياق ، فإن الله سبحانه بعد أن ذكر المؤمنين المفلحين ذكر المجرمين الذين يشترون الذمم من الذين يتاجرون بالدين والضمير ليضللوا الناس عن الحق ، ويصرفوهم عنه بالأوهام والأباطيل .. وأوضح مثال على ذلك ما تلجأ اليه قوى الشر والاستغلال في هذا العصر لتدعيم مكانتها وبث دعايتها ، حيث تنفق الملايين على الصحف المأجورة لتنشر الأكاذيب والافتراءات ، وتروّج للخونة والعملاء ، وتشكك بالمخلصين الأحرار ، وفوق هذا ان تلك الأجهزة الشريرة ألبست عملاءها ثياب أهل الدين ليلصقوا به البدع ويفسروه بما شاء لها البغي والاستغلال ، ويبثوا الفتن والشقاق بين الطوائف وأهل الأديان .. وبعد حرب الشرق الأوسط سنة ١٩٦٧ شاهدنا ألوانا من الاشاعات الكاذبة والحرب النفسية في الصحف المأجورة ، أما نشاط الدخلاء فقد بلغ الغاية في الجرأة على الله ورسوله .. ولكن الأيام كشفت الحقائق ، وفضحت الدخلاء والعملاء ، وأوان التصفية آت لا محالة (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لأنهم باعوا دينهم للشيطان ، وتآمروا معه على الحق وأهله.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ). المؤمن المخلص يستمع للحق ، ويتصامم عن الباطل ، والخبيث المجرم صاحب الغايات والأهداف يصغي للباطل ، ويتصامم عن الحق .. ولا جزاء له إلا عذاب أليم ، قال الرازي : «العاقل يطلب الحكمة بأي ثمن ، وهم ما كانوا يطلبونها ، وإذا جاءتهم مجانا ما كانوا يسمعونها» (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ). لمّا بيّن سبحانه جزاء من أعرض عن آياته وانه عذاب أليم بيّن جزاء من آمن وعمل بها وانه جنات النعيم (خالِدِينَ فِيها) ولهم ما يشتهون (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) لأنه واقع لا محالة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) عزيز بقدرته التي لا تغلب ، حكيم بتدبيره الذي لا ينكره إلا جاهل أو مكابر.

١٥٧

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). تقدم في الآية ٢ وما بعدها من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٧٣ (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ). كل ما في الكون يشهد لله على قدرته ووحدانيته ، فأين الدليل أيها المشركون على ان معبودكم شريك لله في صفة من صفاته؟ (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). وكل من جحد الحق ، أي حق ، بعد أن تظهر دلائله فهو ظالم آثم.

وتسأل : من يتتبع الآيات الكريمة يرى ان الله سبحانه كثيرا ما يؤكد البديهات والواضحات فيما يعود إلى أبطال الشرك مثل قوله للمشركين : فأروني ما ذا خلق الذين من دونه. وقوله : لن يخلقوا ذبابا ، فما هو السر؟

الجواب : السر أن يكشف سبحانه ان الفئة الباغية لا تؤمن إلا بمصلحتها ، وانها تنكر من أجل مصلحتها الشخصية كل حقيقة حتى ولو كانت من الوضوح على مثل ضوء الشمس. وهذه الصفة من أقبح الصفات وأخطرها ، ولا دواء لها إلا القوة الرادعة.

لقمان الأة ١٢ ـ ١٩ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ

١٥٨

إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

اللغة :

الوهن الضعف. والفصال الفطام. وجاهداك بذلا الجهد. وأناب رجع. ولا تصعر خدك لا تمل بوجهك وهو كناية عن التكبر. ومختال من الخيلاء ، وهي العجب والتكبر. واقصد في مشيك من القصد ، وهو وسط بين الافراط والتفريط.

الإعراب :

ان اشكر (ان) مفسرة بمعنى أي. وجملة حملته حال على تقدير قد حملته. وهنا مصدر في موضع الحال من أمه أي موهونة. ومعروفا صفة لمحذوف أي مصاحبا معروفا بمعنى مصاحبة معروفة كما في مجمع البيان. والضمير في انها يعود إلى فعلة الإنسان من خير وشر. وتك ، أصلها تكون فحذفت الواو لالتقاء الساكنين والنون للتخفيف ، واسم تك ضمير مستتر يعود إلى الفعلة ومثقال خبرها.

١٥٩

ومن خردل متعلق بمحذوف صفة لحبة. فتكن عطف على تك. ويأت جواب ان الشرطية. ومرحا مصدر في موضع الحال أي متكبرا.

المعنى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ). تطلق الحكمة على معان ، منها العلم بالله وصفاته ، ومنها وضع الشيء في محله ، ومنها الكلمة الواعظة ، ومنها طاعة الله ، وفي الحديث : «رأس الحكمة مخافة الله». وكان لقمان من أهل العلم بالله وطاعته والدعاة اليه تعالى بأسلوب هادئ ورزين ، وواضح ومقنع (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). تقدم في الآية ٤٠ من سورة النمل.

واختلفوا : هل كان لقمان نبيا أو عبدا صالحا وكفى. ولا يمت هذا الاختلاف بسبب الى العقيدة والحياة ، والذي يجب الايمان به هو ما نص عليه القرآن الكريم من ان الله سبحانه منّ على لقمان بالحكمة التي هي العلم بالله وطاعته والدعوة الى سبيله بالموعظة الحسنة. وذكر المفسرون وأهل السير الكثير من حكم لقمان وفطنته ، من ذلك انه كان عبدا مملوكا ، وكان أهون مملوك على سيده ، وفي ذات يوم بعثه مع غيره من مماليكه الى بستان له ليأتوه بشيء من ثمره ، ولما وصلوا إلى البستان أكلوا ثمره ما عدا لقمان .. فتآمروا عليه لأنه لم يشاركهم في الجريمة ، وكادوا له عند سيدهم حيث قالوا له : ان لقمان أكل الثمر ولم يبق منه شيئا .. ولما سأل لقمان قال له : اسقنا جميعا دواء نتقيأ به ما في بطوننا وعندئذ تظهر لك الحقيقة ، وهكذا كان .. تقيأوا الفاكهة دون لقمان ، وحاق المكر السيئ بمن أساء.

ومن ذلك أيضا ان سيده سكر يوما ، وراهن قوما على مال كثير ان يشرب بحيرة هناك ، ولما أفاق ندم وعلم انهم اصطادوه من حيث لا يشعر ، فالتجأ إلى لقمان وقال له : هذا يومك. فقال لقمان للقوم : ان للبحيرة أنهرا تصب فيها ، فاحبسوها عن البحيرة كي يشرب ماءها. قالوا لا نستطيع ذلك. فقال لهم لقمان : انه راهن على شربها ، ولم يراهن على مواردها ومصادرها.

١٦٠