التّفسير الكاشف - ج ٦

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٦

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٤

اللغة :

الإنشاء الإيجاد. وتقلبون ترجعون.

الإعراب :

بمعجزين الباء زائدة ومعجزين خبر أنتم أي ما أنتم معجزين. ومن ولي (من) زائدة وولي مبتدأ ولكم خبر. والمصدر من ان قالوا خبر كان. وأوثانا مفعول أول لاتخذتم والمفعول الثاني محذوف أي اتخذتم من دون الله أوثانا آلهة. ومودة مفعول من أجله لاتخذتم.

المعنى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أو لم يروا أو لم يعلموا ، ويتلخص معنى الآية بقول الإمام علي (ع) : «عجبت لمن أنكر النشأة الأخرى ، وهو يرى النشأة الأولى». ووجه الملازمة بين النشأتين اتحادهما في العلة ، وهي قدرة الموجد ، فإن من قدر على إيجاد الشيء من لا شيء يقدر على جميع أجزائه بعد تفرقها ، بل الجمع أهون وأيسر من الإيجاد .. نقول هذا مع العلم بأنه لا شيء على الله أهون من شيء ، وأنه يوجد الخطير والحقير بكلمة «كن». وكررنا ذلك بتكرار الآيات. انظر ج ١ ص ٧٧ وج ٢ ص ٣٩٦ وج ٤ ص ٣٧٩.

القرآن والفكر :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). نهى القرآن عن التقليد ، ونعى على المقلدين ، وأمر بالبحث والنظر ، وأثنى على العلماء والمجتهدين في العديد من آياته .. ولا شك ان البحث والنظر علامة من علامات الحياة ، وطريق الى نموها وتقدمها وحلّ

١٠١

مشاكلها إذا كان مع البحث والنظر صبر وتصميم على بلوغ الهدف مهما كانت العقبات .. فبالصبر والايمان تقهر كل القوى ، فلقد صمم انسان هذا العصر أن يصل الى القمر ، فاجتهد وثابر حتى وطئ أرضه بأقدامه ، وغدا أو بعد غد يطأ المريخ وغيره من الكواكب .. اذن ، فليس هناك قوة لا يتغلب عليها الإنسان إلا قوة خالق الإنسان ، ومن هنا قيل : ما فوق الإنسان غير خالقه ، ولو سألني سائل : ما هو حد الإنسان؟ لقلت له : حده ان لا حد لطاقاته واستعداده ، والجهل والتقليد هو الذي يحول بين الإنسان وقابليته ، ويفصله عن نفسه وواقعه ، ومن أجل هذا حرم القرآن التقليد ، وأمر بالنظر واتباع العقل في جميع أحكامه ، وأطلق عليه كلمة النور والهدى والبرهان.

وتسأل : صحيح ان القرآن نهى عن التقليد ، وأمر بالبحث والنظر ، وأثنى على العلماء ، ولكن السياق أو السبب الموجب لنزول الآيات الواردة في هذا الباب يدل على ان العلماء الذين أثنى عليهم هم أهل العلم بالله وحلاله وحرامه ، وانه أمر بالنظر والتفكر في خلق الكائنات لينتهي الإنسان من ذلك الى الايمان بالله واليوم الآخر ، ويفوز بالجنة ونعيمها ، وينجو من النار وجحيمها : وأوضح مثال على ذلك قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) ـ ٦٥ الواقعة أي تعجبون. وأي عاقل يقول : ان هذه الآية تحث على علم الزراعة؟ ومثلها بقية الآيات التي أمرت بالنظر والتفكر.

الجواب أولا : ان هناك آيات باركت وأثنت على كل ما ينفع الناس كقوله تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ـ ١٧ الرعد. ولا شيء ينفع الناس كالعلم ، بل لا حياة بدونه في هذا العصر ، هذا بالاضافة الى عشرات الآيات التي حثت على الأعمال الصالحة ، واعتبرت أهلها خير البرية ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) ـ ٧ البينة ، والعلم في طليعة الأعمال الصالحة.

ثانيا : صحيح ان السبب الموجب لنزول الآيات التي أمرت بالبحث والنظر أو أكثرها هو الرد على من كفر بالله واليوم الآخر ، ولكن سبب النزول لا يخصص عموم اللفظ.

١٠٢

ثالثا : ان العلم النافع حسن بذاته في نظر العقل ، وحكم العقل لا يقبل التخصص والاستثناء ، أجل للعلم منازل ومراتب تقاس بما يترتب عليه من فوائد ومنافع ، والعلم بالله وشريعته أنفع العلوم دنيا وآخرة ، أما دنيا فلأنه يتجه بكل شيء إلى خير الناس ومصالحهم ، وأما في الآخرة فلأنه سبيل النجاة من غضب الله وعذابه ، ومن هنا أطلق المسلمون كلمة عالم بلا قيد على رجل العلم بالدين ، ومع القيد على غيره من أهل العلوم الدنيوية.

رابعا : اتفق فقهاء المسلمين قولا واحدا على ان كل علم لا يستغنى عنه في الحياة فهو فرض كفاية ، وفي الحديث : ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة. وفيه أيضا : اطلبوا العلم من مظانه أي من مصادره الدينية والدنيوية ، اطلبوا العلم ولو في الصين. وبداهة ان علم الدين يطلب من كتاب الله وسنة نبيه ، وليس من الصين ، إلى غير ذلك من الأحاديث.

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن يستحق العذاب (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) ممن يستحق الرحمة ، لأن الله عادل وحكيم يجزي كل نفس بما كسبت (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) ترجعون يوم القيامة للحساب والجزاء (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، أي ولا من في السماء بمعجزين ، وفي نهج البلاغة : لا يعجزه من طلب ، ولا يفوته من هرب (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لا مرد لحكمه ، ولا ملجأ منه إلا اليه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). اليأس من رحمة الله نتيجة حتمية للكفر به وباليوم الآخر ، وجزاء من يئس من رحمة الله وثوابه كفرا وجحودا هو أن يذوق عذاب الحريق.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ). عاد الحديث الى ابراهيم (ع) وسيرته مع قومه الذين حاولوا التخلص منه ومن دعوته بالقتل أو الإحراق .. وهذا هو منطق الجبابرة الطغاة في كل زمان ومكان .. تدمغهم الحجة الواضحة ، فترتعد منها فرائصهم ، ويخافون على مناصبهم ، ولا يملكون إلا الظلم والطغيان ، فيصدرون الأوامر : اسجنوا .. عذبوا .. صادروا

١٠٣

الأملاك .. اهدموا البيوت .. اشنقوا .. احرقوا .. وهنا تتدخل العناية الإلهية ، إما بنجاة المظلوم من أيدي الظالمين ، وإما بأخذهم أخذ عزيز مقتدر بيده أو بيد الأحرار من عبيده ، وتقدم مثله في الآية ٦٨ من سورة الأنبياء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي ينتفعون بالنذر ، ويتعظون بالعبر ، ويبحثون عن الحق لوجه الحق ليؤمنوا به ويعملوا مخلصين.

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا). قال ابراهيم لقومه : عبدتم هذه الأوثان ، وأنتم على يقين بأنها لا تنفع ولا تضر ، ولكن عظمتموها تقليدا لمن تودونهم وتحبونهم في هذه الحياة ، وستنقلب هذه المودة الى عداوة وبغضاء (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). قال الإمام علي (ع) : يتبرأ التابع من المتبوع ، والقائد من المقود ، فيتزايلون بالبغضاء ـ أي يتفارقون ـ ويتلاعنون عند اللقاء (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ). هذه نهاية من كفر بالحق تابعا كان أو متبوعا.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). لوط هو ابن أخي ابراهيم ، وقال جماعة من المفسرين : لم يهتد أحد من قوم ابراهيم ويؤمن إلا لوط ، وليس هذا ببعيد ، لأن هذه الآية تومئ إلى ذلك بالإضافة الى ما جاء في كثير من الكتب ان ابراهيم هاجر هو وزوجته وابن أخيه لوط فقط. وفي الاصحاح التاسع عشر ان ابنتي لوط سقتا أباهما خمرا ، فاضطجع معهما ، وحملتا منه ، فولدت الكبرى ذكرا أسمته موآب ، وأيضا حملت الصغرى ذكرا أسمته بن عمي.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). ضمير له يعود الى ابراهيم (ع) ، وفي هذه الآية دلالة واضحة على ان الله سبحانه لم يبعث نبيا بعده إلا من صلبه ، وإذا عطفنا على هذه الآية حديث «هذا الأمر في قريش .. الناس تبع لقريش .. الأئمة من قريش ..» إذا فعلنا ذلك كانت النتيجة ان جميع الأنبياء والأئمة من سلالة ابراهيم (ع) لأن نسب قريش ينتهي اليه. وتقدم مثله في الآية ٤٩ من سورة مريم و ٧٢ من سورة الأنبياء.

١٠٤

لوط الآة ٢٨ ـ ٣٥ :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

المعنى :

أرسل الله لوطا الى مجتمع ما عرف التاريخ القديم له مثيلا في انحلاله وبشاعته .. يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، ويقطعون الطريق على المارة بالأذى ضربا وسلبا واغتصابا ، أما أنديتهم ومجالسهم فلا تعرف إلا الفحش والمنكر والآثام .. فحذرهم لوط ، وأنذرهم بعذاب الله .. وهذا كل ما يملكه ويقدر

١٠٥

عليه ، فسخروا منه ، وقالوا : أرنا هذا العذاب لنؤمن بك .. فالتجأ الى الله يستنصره على القوم المفسدين.

فاستجاب سبحانه الى تضرعه ، وأمده بملائكة غلاظ شداد ، مروا في طريقهم بإبراهيم ، وبشّروه بغلام عليم من امرأته العجوز العقيم ، وأطلعوه على حكم الله في قوم لوط. قال : كيف وفيهم العبد الصالح لوط؟ قالوا : هو ومن اتبعه في أمان إلا امرأته التي تظاهرت وتآمرت مع القوم الكافرين.

ودخل الملائكة على لوط بوجوه وضاءة ناضرة ، فأوجس في نفسه خيفة عليهم من قومه الأشرار ، فكشفوا له عما قصدوا اليه .. وتمت كلمة العذاب على المفسدين ، وأصبحوا أثرا بعد عين ، وعبرة لأولي الأبصار.

وبعد ألوف السنين يعيد تاريخ اللواط والفساد نفسه في مجلس العموم البريطاني حيث أقرّ واستحلت هذه الفاحشة التي تنفر منها طباع الوحوش والحشرات .. ونحن على يقين بأن نوعا من العذاب سيحل على هذا المجتمع وأمثاله عاجلا أم آجلا تماما كما حل على الذين من قبلهم.

وفي قاموس الكتاب المقدس : «ونعلم من الكشوف الجيولوجية ان المنطقة الواقعة جنوب البحر الميت قد اكتست بالملح ، وربما كان سبب هذا انفجار تحت سطح الأرض حدث بفعل إلهي». وتقدمت هذه الآيات في سورة الأعراف الآية ٨٠ ـ ٨٤ ج ٣ ص ٣٥٢ ، وفي سورة هود الآية ٧٧ ـ ٨٣ ج ٤ ص ٢٤٧ ـ ٢٥٦.

شعيب الآة ٣٦ ـ ٤٠ :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ

١٠٦

وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

اللغة :

الرجفة الحركة والاضطراب. والجثوم البروك على الركبة والمراد به هنا الهلاك. والحاصب من الرمي بالحصباء أي الحجارة الصغيرة.

الإعراب :

أخاهم مفعول لفعل محذوف أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم. وشعيبا بدل من أخاهم. وعادا وثمود مفعول لفعل محذوف أي وأهلكنا. وفاعل تبين ضمير مستتر يعود الى هلاكهم المفهوم من سياق الكلام. والمصدر من ليظلمهم متعلق بمحذوف خبرا لكان ، أي ما كان الله مريدا لظلمهم.

المعنى :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). شعيب عربي كهود وصالح ، وأهل مدين عرب ، وهي من أطراف الشام ، ولا وجود لهذا الاسم في قاموس التوراة والأناجيل الأربعة

١٠٧

والذي فيه ان يثرون اسم مدياني ، وهو كاهن مديان حمو موسى أي أبو زوجته ويدعى أيضا رعوئيل. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأعراف الآية ٨٥ ج ٣ ص ٣٥٦.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ). تقدم في الآية ٧٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥١.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي يملكون التبصر والعقل الذي يهتدون به الى سبيل الحق ، ولكنهم اتبعوا الشيطان فكانوا من المهلكين ، وأنتم أيها المشركون عقلاء كعاد وثمود ، وقد رأيتم من الدلائل على هلاكهم ما فيه عظة وعبرة ، أفلا تتعظون وتنتهون عن متابعة الشيطان في خطواته وهمزاته؟

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ). أي ناجين من عذاب الله كما ينجو السابق ، وقارون هو الذي كان له «من الكنوز ما ان مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة». وفرعون هو القائل : أنا ربكم الأعلى ، وهامان وزيره .. هؤلاء جاءهم موسى بالدلائل والبصائر ، فأخذتهم العزة بالإثم ، فأهلكهم من له العزة جميعا (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) كقوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كثمود (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وهامان (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). ولما ذا يظلم الله الناس؟ ألأنه في حاجة الى الظلم وهو غني عن العالمين؟ وكيف يظلم عباده وهو القائل : (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ ٤٤ الأعراف.

ان أوهن البيوت العنكبوت الآة ٤١ ـ ٤٥ :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ

١٠٨

ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

الإعراب :

جواب لو محذوف أي لو كانوا يعلمون ان هذا مثلهم. يعلم ما تدعون (ما) اسم موصول مفعولا ليعلم أي يعلم الذين يدعون ، وقيل (ما) استفهام ومحلها النصب بيدعون ، ويعلم معلقة عن العمل.

المعنى :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). علينا أولا أن نحدد من هم الذين اتخذوا من دون الله أولياء؟ هل هم عبدة الأحجار والأوثان فقط أو انهم أعم وأشمل؟ وقبل أن نجيب عن هذا السؤال نذكر قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ـ ١٠ فاطر. وقوله : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ـ ١٣٩ النساء. ومعنى هذا انه لا عزة ولا قوة لمال أو علم أو سلطان أو لأي شيء إلا إذا قام على أساس من تقوى الله ومرضاته ، وكان مظهرا لطاعته وارادته .. فالعلم قوة وخير وايمان بالله والانسانية إذا كان دعامة للحق والعدل ، ووسيلة لنمو الحياة وازدهارها ، والعلم ضعف وشر وكفر بالله وبالانسانية إذا كان وسيلة للبغي والعدوان ، وللخراب والدمار ، وكذا المال والسلطان وغيرهما.

١٠٩

إذا تمهد هذا عرفنا ان الذين اتخذوا من دون الله أولياءهم عبدة الأوثان ، ومن أعرض عن الله مغترا بمال أو علم وفهم أو سلطان ، ومن بغى وسعى في الأرض فسادا .. وقد شبه سبحانه قوة هؤلاء ببيت العنكبوت الذي يبقى إذا سكنت الرياح ، ولم يعترضه أي عارض ، وإذا هبت الريح أو اعترضه أدنى شيء يصبح هباء لا عين له ولا أثر .. وبكلام آخر ان كل من أعرض عن الله سبحانه معتمدا على وثن أو علم أو مال أو سلطان فهو من الذين اتخذوا من دون الله أولياء ، ومن يتخذ من دون الله وليا فهو من الخاسرين.

وفي كتاب الحيوان للجاحظ «ان ولد العنكبوت يقوم على النسج ساعة يولد ، ومادة نسيجه من الخارج لا من جسده ، وانه لما عرف عجزه عما يقوى عليه الليث احتال بخيوطة على صيد الذباب من أجل قوته». وعلى كل عاقل أن يسأل نفسه وعقله : من الذي ألهم العنكبوت فن النسج ودله ساعة يولد على المادة التي تصلح لنسجه؟ وأي مهندس وضع له تصميم هذا البيت على شكل مصيدة للذباب؟ وهل جاء هذا بالصدفة؟ وإذا تكررت الصدفة مرتين أو ثلاثا فهل تتكرر في كل عنكبوت ولد ويولد إلى ما لا يبلغه عد ، ولا حصر؟ تعالى الله عما يقول المفترون .. كلا ، انه خلق فسوّى ، وقدّر فهدى.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من الأوثان وغيرها مما يعتمدون عليه من دون الله كالمال والسلطان ، والمعنى انه تعالى يعلم حقيقة هذه الأشياء التي يعتزون بها وانها لا تغني عن الله شيئا (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). عزيز بقدرته ، حكيم بتدبيره.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). تلك إشارة الى مثل العنكبوت ونظائره ، وأنه تعالى ينبه الناس بها الى وحدانيته وعظمته ، ولكن لا يفهم هذه الأمثال وغيرها من آيات الله إلا أهل العقول والبصائر.

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي على وجه الحكمة والمصلحة ، ولم يخلقها عبثا ولهوا ، والحكمة من خلقها أن تسكنها الخلائق ، وينتفعوا بها ، ويستدلوا بصنعها وعجائبها على وحدانية الله وعظمته (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ).

ذلك إشارة الى الإتقان والنظام في خلق السموات والأرض .. وهذا الإتقان دليل قاطع على وحدانية الله وعظمته عند المنصفين الذين يبتغون الحق ، ويؤمنون به لوجه الحق.

١١٠

الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر :

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ). اقرأ يا محمد هذه الأمثال التي ضربناها للناس في القرآن لعلهم يفقهون ويتقون (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). وتسأل : ظاهر الآية يدل على ان المصلين ينتهون عن الفحشاء والمنكر ، ولا يفعلون منهما شيئا مع ان أكثرهم فاسقون ، بل ان البعض منهم أسوأ سيرة من بعض الملحدين والمشركين؟

الجواب : كلا ، ان ظاهر الآية يدل بوضوح على ان الصلاة تنهى المصلي عن الفحشاء والمنكر ، تنهاه بالقول والإرشاد ، ولا دلالة فيها على ان المصلي ينتهي بسببها عن الفحشاء والمنكر ، والفرق بين النهي والانتهاء كبير وواضح .. وليس من شك ان كل كلمة من كلمات الصلاة وحركة من حركاتها تنهى عن معصية الله ، وتأمر بطاعته ، وبكلمة ان الصلاة كالقرآن تأمر وتنهى تشريعا لا تكوينا. انظر ج ١ ص ٧٢ فقرة : «التشريع والتكوين».

ولابن عربي في الفتوحات المكية كلمة غامضة ومعقدة حول هذه الآية ، ولكنها دقيقة المعنى ، وتوضيحها ان المصلي يحرم عليه حين الصلاة أن يتفوه بكلمة أو يتحرك بحركة تناقض طبيعة الصلاة وتبطلها ، ولا يحرم عليه ان يقول ويفعل شيئا يتلاءم مع الصلاة وصحتها ، كما لو زاد في التسبيح والتحميد حين الركوع والسجود ، أو تصدق لوجه الله في أثناء الصلاة دون أن يخل بشيء منها ، كما فعل علي أمير المؤمنين (ع) حين تصدق بخامته ، وهو راكع. وعلى هذا يكون المراد بالفحشاء والمنكر كل قول أو فعل يبطل الصلاة ، أن اي الصلاة تقول للمصلي : حافظ عليّ ولا تأت بشيء يبطلني ويخرجني عن هويتي وحقيقتي.

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ). ليس المراد ان ذكر الله أكبر من الصلاة ، لأن الصلاة ذكر الله ، والشيء لا يكون أكبر من نفسه ، وانما المراد ان الله أكبر ذاكر لعباده باللطف والرحمة ، وبكلام أوضح ان الله ذاكر ومذكور ، هو ذاكر لأنه يذكر عباده بلطفه ورحمته ، وهو مذكور لأن عباده يذكرونه بقلوبهم ايمانا وإخلاصا وبألسنتهم تهليلا وتسبيحا ، وبأفعالهم ركوعا وسجودا ، وهو أكبر الذاكرين والمذكورين لأنه رب العالمين (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) من خير وشر ، ويجزي كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

١١١
١١٢

الجزء الحادي والعشرون

١١٣
١١٤

الجدال بالتي هي أحسن الآة ٤٦ ـ ٤٩ :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

اللغة :

الجدل الحجاج والمناظرة مأخوذ من جدل الحبل أي فتله ، والمناظر يفتل خصمه عن رأيه ، ومسلمون مستسلمون ومطيعون. والارتياب الشك.

الإعراب :

الذين ظلموا في محل نصب على الاستثناء المتصل ، إذا حرف جواب لكلام محذوف أي لو خططته بيمينك إذا لارتاب المبطلون ، واللام في ارتاب لام القسم.

المنهج الجدلي في القرآن :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). المراد بأهل الكتاب اليهود

١١٥

والنصارى. والجدال بالحسنى أن يكون بالحجة والدليل في أسلوب مبشّر غير منفر ، وواضح لا تعقيد فيه ولا تكلف مع إنصاف المناظر في الاستماع الى ما يريد ، والاعتراف له بما هو محق فيه ، سواء أكان من أهل الكتاب ، أم من غيرهم ، وأوضح مثال على ذلك قوله تعالى للمشركين الذين قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ) ـ ٢٤ الزخرف. فهذا الرفق والتلطف في قوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى) يدعم الحجة ويشفع لها عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. وانما خص سبحانه أهل الكتاب بالذكر لأن المفروض فيهم أن يتقبلوا الحق أكثر من المشركين لايمانهم بالله وملائكته ، وكتبه وأنبيائه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهم الذين عاندوا الحق ، وأصروا على الضلال لا يرتدعون بحال ، فعليكم أن تدعوا هذا النوع من أهل الكتاب ، ولا تجادلوهم في الدين على الإطلاق.

ومن تتبع آي الذكر الحكيم التي جادلت المنكرين والمبطلين يرى ان المنهج الجدلي في القرآن يقوم على حرية العقل وإطلاقه في جميع الآفاق والميادين .. وتتجلى هذه الحرية حين يقدم القرآن الدليل القاطع على صحة دعوته ووجوب الايمان بها : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) ـ ٥٣ فصلت. وأيضا تظهر هذه الحرية حين يطالب القرآن المنكرين ان يبرروا موقفهم بالدليل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ١١١ البقرة. (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ٤ الأحقاف. (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ـ ٣٣ الفرقان.

هذا هو الجدل القرآني في حقيقته وواقعه : اقامة الحجة على الدعوى بما تستدعيه طبيعتها في نظر العقل ، وطلب الحجة ممن جحد وعاند ، ورده بحجة أبلغ وأقوى ان كان لديه اثارة من شبهه أو دليل ، وقد ظهر هذا المنهج القرآني في أساليب شتى :

«منها» : الاكتفاء ببيان حقيقة الشيء وتحليل معناه ، وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب للرد على عبدة الأصنام ونفي الربوبية عنها ، حيث أوضح انها عاجزة عن أتفه الأشياء : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا

١١٦

لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ـ ٧٣ الحج». كيف يعبد الإنسان من قعد به الضعف والعجز حتى عن الذباب! وأيضا استعمل القرآن هذا الأسلوب في الرد على من ألّه السيد المسيح (ع) : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ـ ٧٥ المائدة. ومن يأكل الطعام فهو مفتقر اليه ، والإله يفتقر اليه كل شيء ، ولا يفتقر هو إلى شيء. انظر ج ٣ ص ١٠٥.

و «منها» : الاستدلال بوجود حادث على وجود علته بحيث يستلزم العلم بوجوده العلم بوجودها ، وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب للدلالة على وجود الله في العديد من الآيات ، منها ـ على سبيل المثال ـ (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) ـ ٥ ق». ومحال أن يكون هذا البناء المحكم وتزيينه بالكواكب من باب الصدفة ، فتعين وجود القدير الحكيم. وأيضا استعمل القرآن هذا الأسلوب للدلالة على الوحدانية : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ـ ٢٢ الأنبياء لأن تعدد الآلهة يستدعي فساد الكون ، وحيث لا فساد فلا تعدد. وبتعبير أهل المنطق أن نفي اللازم وهو فساد الكون يدل على نفي الملزوم وهو تعدد الآلهة.

و «منها» الاستدلال بالأولية ، وقد استعمل سبحانه هذا الأسلوب للدلالة على إمكان المعاد لأن العلم بوقوعه تابع للعلم بامكانه : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ـ ٢٧ الروم أي ان من قدر على إيجاد الشيء من لا شيء فبالأولى أن يقدر على جمع أجزائه بعد تفرقها.

وهذه الأمثلة برهان قاطع على ان الجدل القرآني يقوم على أساس العقل وحريته ، وان الهدف منه اظهار الحق للايمان والعمل به ، أو لإفحام من جحد وعاند بأسلوب يقنع من طلب الحق لوجه الحق.

(وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). الخطاب للمسلمين ، والمعنى : كما يجب عليكم أيها المسلمون ان تجادلوا من ترجون هدايته من أهل الكتاب فعليكم أن تدعوا جدال المعاندين منهم بالحسنى أيضا أي لا تظهروا لهم العداء ، بل خالطوهم وقولوا لهم : ان معبودنا ومعبودكم

١١٧

واحد ، ونحن مؤمنون به ، وبالتوراة التي أنزلت على موسى ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى ، تماما كما نؤمن بالقرآن الذي نزل على محمد. وبكلمة ، كونوا للإسلام زينا ، ولا تكونوا عليه شينا.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ). الخطاب لرسول الله (ص) ، والمراد بالكتاب القرآن ، والمعنى كما أنزلنا التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى من قبلك أنزلنا عليك القرآن (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) هذا إشارة الى الذين أسلموا من اليهود والنصارى (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) إشارة الى الذين أسلموا من مشركي العرب آنذاك.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ). وتسأل : الجحود هو الكفر ، وعليه يكون المعنى لا يكفر إلا الكافرون ، تماما مثل لا يقعد إلا القاعدون ، والقرآن منزه عن هذا؟

الجواب : المراد ان دلائل الصدق على القرآن قد بلغت من الوضوح مبلغا لا ينكره إلا من اتخذ الباطل دينا ، والكفر عقيدة لا يحيد عنها حتى ولو ظهر بطلانها ظهور الشمس في رائعة النهار ، كما هو شأن اليهود الذين قال بعضهم لبعض : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ـ ٧٣ آل عمران.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ). اتفق المؤرخون على أن محمدا (ص) لم يختلف إلى معلم صغيرا ولا كبيرا ، ومع هذا جاء بالقرآن معجزة المعجزات في عقيدته وشريعته وجميع مبادئه وتعاليمه وفي إخباره عن الأنبياء السابقين وغير ذلك ، وهذا دليل كاف واف على أنه وحي من الله ، لا من صنع البشر ، ولو كان النبي (ص) يحسن القراءة والكتابة ، أو اختلف إلى معلم لقال المفترون : القرآن من صنع محمد ، لا من وحي الله .. وقال من قال : أخذ محمد القرآن من راهب نصراني بالشام ، ولا نعرف مصدرا لهذا الزعم .. اللهم إلا قول القرآن : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ـ ٧٣ المائدة وقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ـ ٣١ التوبة. انظر ج ٢ ص ٥٠٠ فقرة : القرآن والمبشرون بالتثليث.

١١٨

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ). كلا ، ليس القرآن من صنع محمد (ص) بل هو وحي من الله يؤمن به ويركن اليه الذين يطلبون العلم للإيمان بالحق وبه يعملون ، أما الذين يتخذون العلم متجرا وحانوتا فيكفرون به ، لأنه حرب على النفاق والاستغلال.

انما الأات عندالله الآة ٥٠ ـ ٥٥ :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

الإعراب :

لولا أنزل هلا انزل. والمصدر من أنا أنزلنا فاعل يكفهم. وجملة يتلى حال من الكتاب أي متلوا عليهم. وبالله الباء زائدة والله فاعل كفى. وشهيدا تمييز. وليأتينهم اللام جواب قسم محذوف أي والله ليأتينهم. وبغتة مصدر في موضع الحال من العذاب. ويوم متعلق بمحيطة.

١١٩

المعنى :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ). تقدم مثله في الآية ١١٩ من سورة البقرة ج ١ ص ١٨٩ والآية ٣٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٨٤ والآية ٢٠ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٢ وغيرها.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) وكل ما فيه يشهد بأنه من عند الله ، وقد تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا ، وكشف لهم عن الكثير مما أضمروا وخبأوا ، وقص عليهم قصص الماضين ، وشهد بصدقه المنصفون من أهل الكتاب ، وفي ذلك حجة كافية شافية لمن يطلب الحق من معدنه ، والمشركون الذين كابروا وعاندوا رسالة محمد (ص) على يقين من ذلك ، وما منعهم من اتباع الحق إلا المطامع والمنافع (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). ذلك اشارة الى القرآن ، وهو رحمة ونعمة لمن يعمل به ، وتذكير وموعظة لمن يصدقه ويؤمن بشريعته وآياته.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) يشهد ويعلم اني قد بلّغت رسالته ، وانكم كذبتم وأعرضتم ، وأيضا (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولا تخفى عليه خافية ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) كل ما نهى الله عنه فهو باطل ، وكل من عصى الله فهو كافر أو فاسق ، وكل منهما باء بغضب الله ومأواه جهنم وبئس المصير.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ). دعا رسول الله (ص) قريشا إلى التوحيد والعدل ، وحذرهم عاقبة الشرك والظلم ، فقالوا تعصبا لباطلهم : ائتنا بعذاب أليم .. وكان في قريش من يفضل الهلاك على الخضوع لمحمد (ص) كرها له وحقدا عليه ، وقد شاهدنا كثيرا من الناس ينكصون عن دعوة الحق كرها بالداعي لا بالحق .. فأجاب سبحانه المستعجلين بأن الله قضى وقدر أمدا معينا لعذابهم ، ولولاه لأتاهم العذاب في الحال (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). العذاب يأتيهم لا محالة ، ولكن فجأة ومن غير إشعار ليزدادوا ألما على ألم ، ألم الدهشة ، وألم الحريق.

١٢٠