الملهوف على قتلى الطّفوف

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]

الملهوف على قتلى الطّفوف

المؤلف:

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]


المحقق: الشيخ فارس تبريزيان « الحسّون »
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٤

فقال له : اسكت يا ويحك والله (١٤٢) ما هو لي بأمير.

فقال ابن زياد : لا عليك سلمت أم لم تسلم ، فإنك مقتول.

فقال له مسلم : إن قتلتني فلقد قتل من هو شرٌّ منك من هو خيرٌ مني ، وبعد فإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك (١٤٣).

فقال له ابن زياد : يا عاق يا شاق ، خرجت على إمامك وشققت عصى المسلمين ، وألقحت الفتنة بينهم.

فقال له مسلم : كذبت يابن زياد ، إنما شق عصى المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأما الفتنة فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد بني علاج من ثقيف (١٤٤) ، وأنا أرجوا أن يرزقني الله الشهادة على يدي أشر البرية (١٤٥).

فقال ابن زياد : منتك نفسك أمراً ، حال الله دونه ولم يرك له أهلاً وجعله لأهله.

فقال مسلم : ومن أهله يابن مرجانة؟

فقال : أهله يزيد بن معاوية!

فقال مسلم : الحمد الله ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.

____________

(١٤٢) ياويحك والله ، لم يرد في ر.

(١٤٣) وبعد فإنك .... أولى بها منك ، لم يرد في ب.

(١٤٤) قال السيد الخوئي : زياد بن عبيد ... ، هذا هو زياد بن أبيه ، وأمه سيمة المعروفة ، وقصة إلحاقه بأبي سفيان مشهورة ، ونغله عبيدالله قاتل الحسين عليه‌السلام.

وليت شعري كيف عد العلامة وابن داود هذا اللعين ابن اللعين ابا اللعين في القسم الأول من كتابيهما ، وكأنهما لم يلتفتا إلى أن زياد بن عبيد هو زياد المعروف بأمه ، والله العالم.

معجم رجال الحديث ٧ / ٣٠٩.

(١٤٥) ب ، ع : شر بريته.

١٢١

فقال ابن زياد : أتظن أن لك من الأمر شيئاً.

فقال مسلم : والله ما هو الظن ، ولكنه اليقين.

فقال ابن زياد : أخبرني يا مسلم لم أتيت هذا البلد وأمرهم ملتئمٌ فشتت أمرهم (١٤٦) بينهم وفرقت كلمتهم؟

فقال له مسلم : ما لهذا أتيت ، ولكنكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف وتأمرتم على الناس بغير رضىً منهم وحملتموهم على غير ما أمركم به الله ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة ، وكنا أهل ذلك كما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فجعل ابن زياد لعنه الله يشتمه ويشتم علياً والحسن والحسين عليهم‌السلام!

فقال له مسلم : أنت وأبوك أحق بالشتم ، فاقض ما أنت قاض يا عدو الله. فأمر ابن زياد بكير بن حمران (١٤٧) أن يصعد به إلى أعلا القصر فيقتله ، فصعد به ـ وهو يسبح الله تعالى ويستغفره ويصلي على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فضرب عنقه ، ونزل وهو مذعور.

فقال له ابن زياد : ما شأنك؟

فقال : أيها الأمير رأيت ساعة قتله رجلاً أسوداً شنيء (١٤٨) الوجه حذاي عاضاً على إصبعه ـ أو قال شفتيه ـ ففزعت فزعاً لم أفزعه قط.

فقال ابن زياد : لعلك دهشت.

ثم أمر بهاني بن عروة ، فأخرج ليقتل ، فجعل يقول : وامذحجاه وأين مني

____________

(١٤٦) أمرهم ، لم يرد في ر.

(١٤٧) في كتاب مستدركات علم الرجال ٢ / ٥٠ : بكر بن حمران الأحمري ، خبيث ملعون ، قاتل مسلم ابن عقيل.

(١٤٨) ب ، ع : سيء.

١٢٢

مذحج! واعشيرتاه وأين مني عشيرتي!

فقالوا له : يا هاني مد عنقك.

فقال : والله ما أنا بها سخي ، وما كنت لأعينكم على نفسي.

فضربه غلام لعبيد الله بن زياد يقال له رشيد (١٤٩) فقتله.

وفي قتل مسلم وهاني يقول عبدالله بن زبير الأسدي (١٥٠) ، ويقال : إنه للفرزدق (١٥١) :

فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هاني في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشم السيف وجهه

وآخر يهوى من جدار قتيل

أصابهما جور البغى فأصبحا

أحاديث من يسعى (١٥٢) بكل سبيل

ترى جسداً قد غير الموت لونه

ونضح دم قد سال كل مسيل

فتىً كان أحيى من فتاة حييةً

واقطع من ذي شفرتين صقيل

أيركب أسما الهماليج آمناً

وقد طلبته مذحج بذحول

تطوف حواليه مراد وكلهم

على أهبة من سائل ومسول

____________

(١٤٩) لم يذكروه ، وهو خبيث ملعون.

(١٥٠) عبدالله بن الزبير بن الأعشى واسمه قيس بن بجرة بن قيس بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين الأسدي.

أدب الطف ١ / ١٤٦.

(١٥١) ع : ويقال إنها للفرزدق وقال بعضهم إنها لسليمان الحنفي.

والفرزدق هو : همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي ، أبو فراس ، شاعر من النبلاء من أهل البصرة ، عظيم الأثر في اللغة ، كان شريفاً في قومه ، وكان أبوه من الأجواد الأشراف ، وكذلك جده ، توفي في بادية البصرة سنة ١١٠ هـ وقد قارب المائة من عمره.

خزانة الأدب ١ / ١٠٥ ـ ١٠٨ ، جمهرة أشعار العرب : ١٦٣ ، الأعلام ٨ / ٩٣.

(١٥٢) ع : يسري.

١٢٣

فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم

فكونوا بغيا أرضيت بقليل (١٥٣)

قال الراوي (١٥٤) : وكتب عبيدالله بن زياد بخبر مسلم وهاني إلى يزيد بن معاوية. فأعاد عليه الجواب يشكره فيه على فعاله وسطوته ، ويعرفه أن قد بلغه توجه الحسين عليه‌السلامإلى جهته ، ويأمره عند ذلك بالمؤاخذة والإنتقام والحبس على الظنون والأوهام.

وكان قد توجه الحسين عليه‌السلام من مكة يوم الثلاثاء (١٥٥) لثلاث مضين من ذي الحجة ، وقيل : لثمان مضين من ذي الحجة (١٥٦) سنة ستين من الهجرة ، قبل أن يعلم بقتل مسلم ، لأنه عليه‌السلامخرج من مكة في اليوم الذي قتل فيه مسلم رضوان الله عليه.

وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري الإمامي (١٥٧) في كتاب دلائل الإمامة (١٥٨) قال : حدثنا أبو محمد سفيان بن وكيع (١٥٩) ، عن أبيه

____________

(١٥٣) ع : أرغمت ببعول.

(١٥٤) الراوي ، لم يرد في ع.

(١٥٥) يوم الثلاثاء ، لم يرد في ب.

(١٥٦) وقيل لثمان مضين من ذي الحجة ، لم يرد في ب. وفي ع : وقيل يوم الأربعاء لثمان مضين من ذي الحجة.

(١٥٧) قال الشيخ الطهراني في الذريعة ٨ / ٢٤١ : أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي المازندراني ، المتأخر عن محمد بن جرير الطبري الكبير ، والمعاصر للشيخ الطوسي المتوفى سنة ٤٦٠ هـ والنجاشي المتوفى سنة ٤٥٠ هـ ، والشاهد على ذلك أمور : ...

(١٥٨) دلائل الإمامة أو دلائل الأئمة ألفه بعد ٤١١ هـ ، قال الشيخ الطهراني : وأول من نقل عن هذا الكتاب هو السيد علي بن طاووس ... ، وقد ذكرنا أن مكتبة ابن طاووس كانت تشتمل في عام ٦٠٥ هـ على ١٥٠٠ مجلد ، ومنها نسخة تامة من هذا الكتاب ، حيث ينقل من أوائله وأواسطه وأواخره متفرقة في تصانيفه ، وكان قد ذكر فيها اسم المؤلف ، ولم تصل هذه النسخة إلى المتأخرين عنه إلا ناقصاً.

ذريعة ٨ / ٢٤٤.

(١٥٩) في مستدركات علم الرجال ٤ / ٩٥ : سفيان بن وكيع ، أبو محمد ، لم يذكروه ، روى محمد بن الفرات

١٢٤

وكيع (١٦٠) ، عن الأعمش (١٦١) قال : قال لي أبو محمد الواقدي (١٦٢) وزرارة ابن خلج (١٦٣) : لقينا الحسين بن علي عليهما‌السلام قبل أن يخرج (١٦٤) الى العراق (١٦٥) بثلاثة ، فأخبرناه بضعف الناس بالكوفة ، وأن قلوبهم معه وسيوفهم عليه.

____________

الدهان عنه عن أبيه عن الأعمش ، وروى محمد بن جرير الطبري عنه عن أبيه عن الأعمش ، وروى عنه في دلائل الطبري كثيراً في أبواب المعجزات.

(١٦٠) وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي ، أبو سفيان ، حافظ للحديث ، كان محدث العراق في عصره ، ولد بالكوفة ، توفي بفيد راجعاً من الحج سنة ١٩٧ هـ ، وقيل : ١٩٩ هـ ، وقيل : غير ذلك.

تذكرة الحفاظ ١ / ٢٨٢ ، حلية الأولياء ٨ / ٣٦٨ ، ميزان الإعتدال ٣ / ٢٧٠ ، تاريخ بغداد ١٣ / ٤٦٦ ، الأعلام ٨ / ١١٧.

(١٦١) سليمان بن مهران الأسدي بالولاء ، تابعي ، أصله من بلاد الري ، ومنشؤه ووفاته بالكوفة ، يروي نحو ١٣٠٠ حديثاً ، توفي سنة ١٤٨ هـ.

الطبقات ٦ / ٢٣٨ ، الوفيات ١ / ٢١٣ ، تاريخ بغداد ٩ / ٣ ، الأعلام ٣ / ١٣٥.

(١٦٢) ر : الوافدي.

لم يذكروه.

(١٦٣) ب : زرارة بن صالح.

وذكر في مستدركات علم الرجال ٣ / ٤٢٥ زرارة بن خلج وزرارة بن صالح وعدهما شخصين وقال عن ابن خلج : لم يذكروه ، وهو من أصحاب الحسين عليه السلام ، رأى معجزته وإخباره إياه بشهادته وشهادة أصحابه. وقال عن ابن صالح : تشرف بلقاء الحسين قبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيام ، وروى عنه.

والظاهر أنهما اسمان لشخص واحد ، والله العالم.

(١٦٤) ب : خروجه.

(١٦٥) العراقان : الكوفة والبصرة ، ويسمى العراق السواد ، لسواده بالزروع والنخيل والأشجار ، وحد السواد : من حديثة بالموصل طولاً إلى عبادان ، ومن العذيب بالقادسية إلى حلوان عرضاً ، وأما العراق في العرف فطوله يقصر عن طول السواد.

معجم البلدان ٣ / ٢٧٢ ، ٤ / ٩٣ ـ ٩٥.

١٢٥

فأومأ بيده نحو السماء ، ففتحت أبواب السماء ، فنزلت الملائكة عدداً لا يحصيهم الا عز وجل.

فقال عليه‌السلام : « لولا تقارب الأشياء وحضور الأجل لقاتلتهم بهؤلاء ، ولكني أعلم يقيناً أن هناك مصرعي وهناك مصارع أصحابي ، لا ينحو منهم إلا ولدي علي ».

وروي أنه عليه‌السلام لما عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً ، فقال : « الحمد لله ما شاء الله ولا قوة (١٦٦) إلا بالله وصلى الله على رسوله وسلم ، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى اشتياق أسلافي (١٦٧) اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأني بأوصالي تقطعها ذئاب (١٦٨) الفلوات بين النواويس (١٦٩) وكربلاء ، فيملأن مني أكراشاً جوفا (١٧٠) وأجربةً سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ويوفينا اجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته ، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس ، تقر بهم عينه وينجز بهم وعده ، من كان باذلاً فينا مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا ، فإني راحل مصبحاً إن شاء

____________

(١٦٦) ب : الحمد لله وما شاء الله ولا حول ولا قوة.

(١٦٧) ب. ع : وما أولهني إلى أسلافي اشتياق.

(١٦٨) ر : تنقطعها ذباب. ب : يتقطعها عسلان. ع : تقطعها عسلان.

(١٦٩) كانت مقبرة عامة للنصارى قبل الفتح الإسلامي ، وتقع في أراضي ناحية الحسينية قرب نينوى.

تراث كربلاء : ١٩.

(١٧٠) ب : أكرشاً جوافاً. ع : اكرشاً جوفاً.

١٢٦

الله (١٧١) ».

ورويت بالإسناد عن محمد بن داود القمي (١٧٢) ، بالاسناد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : جاء محمد بن الحنفية (١٧٣) إلى الحسين عليه‌السلام في الليلة التي أراد الحسين الخروج في صبيحتها عن مكة.

فقال له : يا أخي ، إن أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك ، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى ، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من بالحرم

____________

(١٧١) من قوله : وروي أنه عليه‌السلام ... إلى هنا ، مقدم على قوله : وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ... ، في نسخة ع.

وجاء في نسخة ع بعد قوله : مصبحاً إن شاء الله.

وروى معمر بن المثنى في مقتل الحسين عليه السلام ، فقال ما هذا لفظه : فلما كان يوم التروية قدم عمر ابن سعد بن أبي وقاص إلى مكة في جندٍ كثيف ، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه أو يقاتله إن قدر عليه ، فخرج الحسين عليه السلام يوم التروية.

ولم ترد هذه العبارة في نسخة ر. ب ، فأوردناها في الهامش لاحتمال كونها من تعليقات المصنف على الكتاب ، وأدرجت بعده في متن الكتاب.

(١٧٢) ع : ورويت من كتاب أصل لأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة ، وعلى الأصل أنه كان لمحمد ابن داود القمي.

ب : أحمد بن داود القمي.

هو محمد بن أحمد بن داود بن علي شيخ الطائفة أبو الحسن القمي ، توفي سنة ٣٦٨ هـ ، صاحب كتاب المزار ، من أجلاء مشايخ المفيد ، ويروي عنه أيضاً الحسين بن عبيدالله بن الغضائري.

الطبقات القرن الرابع : ٢٣٦.

(١٧٣) أبو القاسم محمد الأكبر بن علي بن أبي طالب ، والحنفية لقب أمه خولة بنت جعفر ، كان كثير العلم والورع شديد القوة ، وحديث منازعته في الإمامة مع علي بن الحسين عليه‌السلام وإذعانه بإمامته بعد شهادة الحجر لعلي بن الحسين عليه‌السلام بالإمامة مشهور ، بل في بعضها : وقوعه على قدمي الإمام السجاد عليه‌السلام ، توفي سنة ٨٠ هـ ، وقيل : ٨١ هـ.

تنقيح المقال ٣ / ١١٥ ، وفيات الأعيام ٥ / ٩١ ، الطبقات ٥ / ٩١.

١٢٧

وأمنعه.

فقال : « يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت ».

فقال له ابن الحنفية : فان خفت ذلك فصر إلى اليمن (١٧٤) أو بعض نواحي البر ، فإنك أمنع الناس به ، ولا يقدر عليك أحد.

فقال : « أنظر فيما قلت ».

فلما كان السحر ارتحل الحسين عليه‌السلام ، فبلغ ذلك ابن الحنفية ، فأتاه ، فأخذ زمام ناقته وقد ركبها فقال : ياأخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

فقال : « بلى ».

قال : فما حداك على الخروج عاجلاً؟

فقال : « أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدما فارقتك ، فقال : يا حسين ، أخرج ، فإن الله قد شاء أن يراك قتيلاً ».

فقال محمد بن الحنفية : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟

قال : فقال له : « قد قال لي : إن (١٧٥) الله قد شاء أن يراهن سبايا » ، وسلم عليه ومضى (١٧٦).

__________________

(١٧٤) بالتحريك ، وهي بين عمان إلى نجران ثم يلتوي على بحر العرب إلى عدن.

معجم البلدان ٥ / ٤٤٧.

(١٧٥) ب : قال فقال إن.

(١٧٦) من قوله : ورويت بالإسناد عن محمد بن داود ... إلى هنا لم يرد في نسخة ر ، وورد في نسخة ب.ع.

وجاء في نسخة ع بعد قوله : وسلم عليه ومضى :

١٢٨

..............................

__________________

وذكر محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الرسائل ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن أيوب بن نوح ، عن صفوان ، عن مروان بن إسماعيل ، عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : ذكرنا خروج الحسين عليه السلام وتخلف ابن الحنفية عنه ، فقال أبو عبدالله عليه السلام : يا حمزة إني سأحدثك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا :

إن الحسين عليه السلام لما فصل متوجهاً ، أمر بقرطاس وكتب :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى بني هاشم ، أما بعد ، فإنه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح ، والسلام.

وذكر المفيد محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه في كتاب مولد النبي صلى الله عليه وآله ومولد الأوصياء صلوات الله عليهم ، بأسناده إلى أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال : لما سار أبو عبدالله الحسين بن علي صلوات الله عليهما من مكة ليدخل المدينة ، لقيه أفواج من الملائكة المسومين والمردفين في أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنة ، فسلموا عليه وقالوا : يا حجة الله على خلقه بعد جده وأبيه وأخيه ، إن الله عز وجل أمد جدك رسول الله صلى الله عليه وآله بنا في مواطن كثيرة ، وأن الله أمدك بنا.

فقال لهم : الموعد حفرتي وبقعتي التي أستشهد فيها ، وهي كربلاء ، فإذا وردتها فأتوني.

فقالوا : يا حجة الله ، إن الله أمرنا أن نسمع لك ونطيع ، فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك؟

فقال : لا سبيل لهم علي ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.

وأتته أفواج من مؤمني الجن ، فقالوا له : يا مولانا ، نحن شيعتك وأنصارك فمرنا بما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك.

فجزاهم خيراً وقال لهم : أما قرءتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله صلى الله عليه وآله في قوله ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) ، فإذا أقمت في مكاني فبم يمتحن هذا الخلق المتعوس ، وبماذا يختبرون ، ومن ذا يكون ساكن حفرتي وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحا الأرض ، وجعلها معقلاً لشيعتنا ومحبينا ، تقبل أعمالهم وصلواتهم ، ويجاب دعاؤهم ، وتسكن شيعتنا ، فتكون لهم أماناً في الدنيا والآخرة؟ ولكن تحضرون يوم السبت ، وهو يوم عاشوراء ـ في غير هذه الرواية يوم الجمعة ـ الذي في آخره أقتل ، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي وإخواني وأهل بيتي ، ويسار رأسي إلى يزيد بن معاوية لعنهما الله.

١٢٩

ثم سار الحسين عليه‌السلامحتى مر بالتنعيم (١٧٧) ، فلقي هناك عيراً تحمل هدية قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري (١٧٨) عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية فأخذ عليه‌السلامالهدية ، لأن (١٧٩) حكم أمور المسلمين إليه.

ثم قال لأصحاب الجمال : « من أحب أن (١٨٠) ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كراه وأحسنا صحبته ، ومن أحب أن يفارقنا أعطيناه كراه (١٨١) بقدر ما قطع من الطريق ».

فمضى معه قوم وامتنع آخرون.

____________

فقالت الجن : نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه لولا أن أمرك طاعة وأنه لا يجوز لنا مخالفتك لخالفناك وقتلنا جميع أعداءك قبل أن يصلوا إليك.

فقال لهم عليه السلام : ونحن والله أقدر عليهم منكم ، ولكن ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. انتهى بنصه من نسخة ع.

ولم يرد هذا في نسخة ر ، ب ، وإنما أوردناه في الهامش لاحتمال كونه من حواشي المصنف على الكتاب ، وأدخل بعده في المتن.

(١٧٧) بالفتح ثم السكون وكسر العين وياء ساكنة وميم : موضع بمكة في الحل ، وهو بين مكة وسرف ، على فرسخين من مكة ، وقيل : على أربعة ، وسمي بذلك لأن جبلاً عن يمينه يقال له نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان ، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكيون بالعمرة.

معجم البلدان ٢ / ٤٩.

(١٧٨) الحميري ، لم يرد في ر.

لم أهتد إلى ترجمته.

(١٧٩) ب : وكان عامله على اليمن وعليها الورس والحلل ، فأخذها عليه‌السلام لأن حكم.

(١٨٠) ب : وقال لأصحاب الإبل : من أحب منكم أن.

(١٨١) ب : أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكرى.

١٣٠

ثم سار عليه‌السلامحتى بلغ ذات عرق (١٨٢) ، فلقى بشر بن غالب (١٨٣) وارداً من العراق ، فسأله عن أهلها.

فقال : خلفت القلوب معك والسيوف مع بني أمية.

فقال عليه‌السلام : « صدق أخو بني أسد ، إن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ».

قال الراوي (١٨٤) : ثم سار عليه‌السلامحتى أتى الثعلبية (١٨٥) وقت الظهيرة ، فوضع رأسه ، فرقد ثم استيقظ ، فقال : « قد رأيت هاتفاً يقول : أنتم تسيرون والمنايا تسير (١٨٦) بكم إلى الجنة ».

فقال له ابنه علي : يا أبة أفلسنا على الحق؟

فقال : « بلى يا بني والذي اليه مرجع العباد ».

____________

(١٨٢) ذات عرق مهل أهل العراق ، وهو الحد بين نجد وتهامة. وقيل : عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق. وقال الأصمعي : ما ارتفع من بطن الرمة فهو نجد إلى ثنايا ذات عرق. وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق.

معجم البلدان ٤ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(١٨٣) في مستدركات علم الرجال ٢ / ٣٣ : بشر بن غالب الأسدي الكوفي ، من أصحاب الحسين والسجاد ، قاله الشيخ في رجاله ، والبرقي عده من أصحاب أمير المؤمنين والحسنين والسجاد ، وأخوه بشير ، رويا عن الحسين دعاءه المعروف يوم عرفة بعرفات ...

وله روايات عن الحسين ذكرت في عدة الداعي ، ويروي عنه عبدالله بن شريك.

(١٨٤) الراوي ، لم يرد في ر. ب.

(١٨٥) ر : التغلبية.

والثعلبية بفتح أوله من منازل طريق مكة من الكوفة بعد الشقوق وقبل الخزيمية ، وهي ثلثا الطريق ، وأسفل منها ماء يقال له الضويجعة على ميل منها مشرف ، وإنما سميت بالثعلبية لإقامة ثعلبة ابن عمرو بها ، وقيل : سميت بن دودان بن اسد وهو أول من حفرها ونزلها.

معجم البلدان ٢ / ٧٨.

(١٨٦) ب. ع : أنتم تسرعون والمنايا تسرع.

١٣١

فقال له : يا أبة إذن لا نبالي بالموت.

فقال له الحسين عليه‌السلام : « فجزاك الله يابني خير ما جزا ولداً عن والده (١٨٧) ».

ثم بات عليه‌السلام في الموضع ، فلما أصبح ، فإذا هو برجلٍ من أهل الكوفة يكنى أبا هرة الأزدي (١٨٨) ، فلما أتاه سلم عليه.

ثم قال : يابن رسول الله ما الذي أخرجك من حرم الله وحرم جدك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فقال الحسين عليه‌السلام : « ويحك يا أبا هرة ، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً ، وليسلطن الله عليهم من يذلهم ، حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم حتى أذلتهم ».

ثم سار عليه‌السلام ، وحدث جماعة من بني (١٨٩) فزارة وبجيلة قالوا : كنا مع زهير بن القين (١٩٠) لما أقبلنا من مكة ، فكنا نساير الحسين عليه‌السلام ، وما شيء أكره إلينا من مسايرته ، لأن معه نسوانه ، فكان إذا أراد النزول اعتزلناه ، فنزلنا ناحية.

____________

(١٨٧) ب : جزاك الله يا بني خير ما جزا ولداً عن والدٍ.

(١٨٨) لم أعثر على من ترجم له.

(١٨٩) بني ، لم يرد في ر.

(١٩٠) زهير بن القين البجلي ، وبجيلة هم بنو أنمار بن أراش بن كهلان من القحطانية ، شخصية بارزة في المجتمع الكوفي ، ويبدو أنه كان كبير السن عند لحوقه بالحسين عليه‌السلام ، ذكر في الزيارة بتكريم خاص ، انضم إلى الحسين عليه‌السلام في الطريق من مكة إلى العراق بعد أن كان كارهاً للقائه ، خطب في جيش ابن زياد قبيل المعركة ، جعله الحسين عليه‌السلام على ميمنة أصحابه.

تاريخ الطبري ٥ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧ و ٦ / ٤٢ و ٤٢٢ ، رجال الشيخ : ٧٣ ، أنصار الحسين : ٨٨.

١٣٢

فلما كان في بعض الأيام نزل في مكان ، فلم نجد بداً من أن ننازله فيه ، فبينما نحن نتغدى بطعام لنا إذا أقبل رسول الحسين عليه‌السلامحتى سلم علينا.

ثم قال : يا زهير بن القين إن أبا عبدالله عليه‌السلام بعثني إليك لتأتيه ، فطرح كل إنسان منا ما في يده حتى كأنما على رؤوسنا الطير.

فقالت له زوجته ـ وهي ديلم بنت عمرو (١٩١) ـ : سبحان الله ، أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ، فلو أتيته فسمعت من كلامه.

فمضى إليه زهير ، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه فقوض وبثقله ومتاعه فحول إلى الحسين عليه‌السلام.

وقال لامرأته : أنت طالق ، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير ، وقد عزمت على صحبة الحسين عليه‌السلام لأفديه بروحي وأقيه بنفسي (١٩٢) ، ثم أعطاها مالها وسلمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها.

فقامت إليه وودعته وبكت ، وقالت : خار (١٩٣) الله لك ، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين عليه‌السلام.

ثم قال لأصحابه : من أحب منكم أن يصحبني ، وإلا فهو آخر العهد مني (١٩٤) به.

__________________

(١٩١) أو ديلم بنت عمر.

وهي التي قالت لغلام لزهير بعد شهادته : انطلق فكفن مولاك ، قال : فجئت فرأيت حسيناً ملقى ، فقلت : اكفن مولاي وأدع حسيناً! فكفنت حسيناً ، ثم رجعت فقلت ذلك لها ، فقالت : أحسنت ، وأعطتني كفناً آخر ، وقالت فكفن مولاك ، ففعلت.

ترجمة الإمام الحسين من كتاب الطبقات ، المطبوع في مجلة تراثنا ، العدد ١٠ ص ١٩٠ ، وراجع أيضاً أعلام النساء المؤمنات : ٣٤١.

(١٩٢) ع : لأفديه بنفسي وأقيه بروحي. والمثبت من ب.

(١٩٣) ع : وقالت : كان الله عوناً ومعيناً خار.

(١٩٤) مني ، لم يرد في ر.

١٣٣

ثم سار الحسين عليه‌السلامحتى بلغ زبالة (١٩٥) ، فأتاه فيها خبر مسلم (١٩٦) بن عقيل ، فعرف بذلك جماعة ممن تبعه ، فتفرق عنه أهل الأطماع والإرتياب ، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب.

قال الراوي (١٩٧) : وارتج الموضع بالبكاء والعويل (١٩٨) لقتل مسلم بن عقيل ، وسالت الدموع عليه كل مسيل.

ثم أن الحسين عليه‌السلامسار قاصداً لما دعاه الله إليه ، فلقيه (١٩٩) الفرزدق ، فسلم عليه وقال : يابن رسول الله كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته؟

قال : فاستعبر الحسين عليه‌السلام باكياً ، ثم قال : « رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى روح الله وريحانه وتحيته ورضوانه ، أما أنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا »، ثم أنشأ يقول:

« فإن تكن الدنيا تعد نفيسة

فإن ثواب الله أعلا وأنبل

وإن تكن الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرءٍ بالسيف في الله أفضل

وإن تكن الأرزاق قسماً مقدراً

فقلّة حرص المرء في السعي (٢٠٠) أجملُ

____________

(١٩٥) بضم أوله : منزل معروف بطريق مكة من الكوفة ، وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية. وقال أبو عبيدة السكوني : زبالة بعد القاع من الكوفة وقبل الشقوق فيها حصن وجامع لبني غاضرة من بني أسد.

معجم البلدان ٣ / ١٢٩.

(١٩٦) ب : حتى أتاه خبر مسلم في زبالة.

(١٩٧) الراوي ، لم يرد في ر.

(١٩٨) والعويل ، لم يرد في ر.

(١٩٩) ب : ثم أنه سار فلقيه.

(٢٠٠) ب : في الرزق.

١٣٤

وإن تكن الأموال للترك جمعها

فما بال متروك به المرء (٢٠١) يبخل

قال الراوي (٢٠٢) : وكتب الحسين عليه‌السلام كتاباً إلى سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة (٢٠٣) ورفاعة بن شداد وجماعة من الشيعة بالكوفة ، وبعث به مع قيس بن مسهر الصيداوي (٢٠٤).

فلما قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير (٢٠٥) صاحب عبيدالله بن زياد ليفتشه ، فأخرج الكتاب ومزقه ، فحمله الحصين إلى ابن زياد.

فلما مثل بين يديه قال له : من أنت؟

قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه عليهما‌السلام.

قال : فلماذا مزقت الكتاب؟

قال : لئلا تعلم ما فيه.

____________

(٢٠١) ب : الحر.

(٢٠٢) الراوي ، لم يرد في ر.

(٢٠٣) ر : نجية.

(٢٠٤) ع : قيس بن مصهر الصيداوي.

وقيس بن مسهر أسدي من عدنان ، شاب كوفي من أشراف بني أسد ، أحد حملة الرسائل من قبل الكوفيين إلى الحسين عليه السلام بعد إعلان الحسين رفضه لبيعة يزيد وخروجه إلى مكة ، صحب مسلم بن عقيل حين قدم من مكة مبعوثاً من قبل الحسين إلى الكوفة ، حمل رسالة من مسلم إلى الحسين عليه السلام يخبره فيها بيعة من بايع ويدعوه إلى القدوم.

تاريخ الطبري ٥ / ٣٩٤ ـ ٣٩٥ ، رجال الشيخ : ٧٩ ، تسمية من قتل مع الحسين : ١٥٢ ، أنصار الحسين : ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٢٠٥) الحصين بن نمير بن نائل أبو عبدالرحمن الكندي ثم السكوني ، قائد من القساة الأشداء المقدمين في العصر الأموي ، من أهل حمص ، رمى الكعبة بالمنجنيق ، وكان في آخر أمره على ميمنية عبيدالله بن زياد في حربه مع إبراهيم الأشتر ، فقتل مع ابن زياد على مقربة من الموصل سنة ٦٧ هـ.

التهذيب لابن عساكر ٤ / ٣٧١ ، الأعلام ٢ / ٢٦٢.

١٣٥

قال : ممن الكتاب وإلى من؟

قال من الحسين بن علي عليهما‌السلام إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.

فغضب ابن زياد وقال : والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم ، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين وأباه وأخاه ، وإلا قطعتك إرباً إرباً.

فقال قيس : أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأما لعن الحسين وأبيه وأخيه فأفعل.

فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأكثر من الترحم على علي وولده صلوات الله عليهم ، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه ، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم.

ثم قال : أيها الناس ، أنا رسول الحسين بن علي عليهما‌السلام إليكم ، وقد خلفته بموضع كذا وكذا ، فأجيبوه.

فأخبر ابن زياد بذلك (٢٠٦) ، فأمر بإلقائه من أعلا القصر ، فألقي من هناك ، فمات رحمة الله.

فبلغ الحسين عليه‌السلام موته ، فاستعبر باكياً ثم قال : « اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً واجمع بيننا وبينهم في مستقر رحمتك إنك على كل شيءٍ قدير ».

وروي أن هذا الكتاب كتبه الحسين عليه‌السلام من الحاجز (٢٠٧) ، وقيل : غير ذلك.

____________

(٢٠٦) بذلك ، لم يرد في ر.

(٢٠٧) في إرشاد المفيد ٢ / ٧٠ : من الحاجز من بطن الرمة.

وفي مراصد الاطلاع ٢ / ٦٣٤ : بطن الرمة منزل يجمع طريق البصرة والكوفة إلى المدينة.

وفي معجم البلدان ١ / ٦٦٦ : بطن الرمة واد معروف بعالية نجد ، وقال ابن دريد : الرمة قاع عظيم بنجد تنصب إليه أوديه.

١٣٦

قال الراوي (٢٠٨) : وسار الحسين عليه‌السلامحتى صار على مرحلتين من الكوفة ، فاذا (٢٠٩) بالحر بن يزيد (٢١٠) في ألف فارس.

فقال له الحسين عليه‌السلام : « ألنا أم علينا؟ »

فقال : بل عليك يا أبا عبدالله.

فقال : « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ».

ثم تراد القول بينهما ، حتى قال له الحسين عليه‌السلام : « فإذا كنتم على خلاف ما أتتني به كتبكم وقدمت به علي رسلكم ، فإني أرجع إلى الموضع الذي أتيت منه ».

فمنعه الحر وأصحابه من ذلك ، وقال : لا ، بل خذ يا بن رسول الله طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يوصلك إلى المدينة لأعتذر إلى ابن زياد بأنك خالفتني الطريق.

فتياسر الحسين عليه‌السلام ، حتى وصل إلى عذيب الهجانات (٢١١).

____________

(٢٠٨) الراوي ، لم يرد في ر.

(٢٠٩) ر : وإذاً.

(٢١٠) الحر بن يزيد بن ناجيه بن سعيد من بني رياح بن يربوع ، من الشخصيات البارزة في الكوفة ، قائد من أشراف تميم ، أحد أمراء الجيش الأموي في كربلاء ، وكان يقود ربع تميم وهمدان ، التقى مع الحسين عليه‌السلام عند جبل ذي حسم ، تاب قبل نشوب المعركة لما أقبلت خيل الكوفة تريد قتل الحسين وأصحابه وأبى أن يكون منهم ، فانصرف إلى الحسين ، فقاتل بين يديه قتالاً عجيباً حتى قتل.

تاريخ الطبري ٥ / ٤٢٢ و ٤٠٠ و ٤٢٧ ، تسمية من قتل مع الحسين : ١٥٣ ، رجال الشيخ : ٧٣ ، البداية والنهاية ٨ / ١٧٢ ، الكامل في التاريخ ٤ / ١٩ ، أنصار الحسين : ٨٤ ـ ٨٥ ، الأعلام ٢ / ١٧٢.

(٢١١) عذيب الهجانات قريب من عذيب القوادس ، وعذيب القوادس ماء بين القادسية والمغيثه ، بينه وبين القادسية أربعة أميال ، وقيل : غير ذلك.

معجم البلدان ٤ / ٩٢.

١٣٧

قال : فورد كتاب عبيدالله بن زياد إلى الحر يلومه في أمر الحسين عليه‌السلام ، ويأمره بالتضييق عليه.

فعرض له الحر وأصحابه ومنعوه من المسير.

فقال له الحسين عليه‌السلام : « ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟ »

فقال الحر : بلى ، ولكن كتاب الأمير عبيدالله بن زياد قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك ، وقد جعل علي عيناً يطالبني بذلك.

قال الراوي (٢١٢) : فقام الحسين عليه‌السلامخطيباً في أصحابه ، فحمدالله وأثنى عليه وذكر جده فصلى عليه ، ثم قال : « إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا قد تنكرت وتغيرت وأدبر معروفها واستمرت جذاء ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الضالمين إلا برما ».

فقام زهير بن القين ، فقال : لقد سمعنا هدانا الله بك يابن رسول الله مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين لآثر النهوض معك على الاقامة فيها.

قال : ووثب هلال بن نافع البجلي (٢١٣) ، فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا ، وإنا

____________

(٢١٢) قال الرواي ، لم يرد في ر.

(٢١٣) ظاهراً هو نفسه نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مذحج المذحجي الجملي ، ويخطئ من يعبر عنه : البجلي ، كان سيداً شريفاً شجاعاً قارءاً من حملة الحديث ومن أصحاب أمير المؤمنين ، وحضر معه حروبه الثلاثة في العراق ، وخرج إلى الحسين فلقيه في الطريق ، وأخباره في واقعة الطف كثيرة ، ذكرت في المقاتل.

إبصار العين : ٨٦ ـ ٨٩ ، الطبري ٦ / ٢٥٣ ، ابن الأثير ٤ / ٢٩ ، البداية ٨ / ١٨٤.

١٣٨

على نياتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

قال : وقام برير بن حصين (٢١٤) ، فقال : والله يابن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك فتقطع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.

قال : ثم أن الحسين عليه‌السلام قام (٢١٥) وركب ، وصار كلما أراد المسير يمنعونه تارةً ويسايرونه أخرى ، حتى بلغ كربلاء ، وكان ذلك في اليوم الثاني (٢١٦) من المحرم.

فلما وصلها قال : « ما اسم هذه الأرض؟ »

فقيل : كربلا.

فقال : « انزلوا ، هاهنا والله محط ركابنا وسفك دمائنا ، هاهنا والله مخط قبورنا ، وهاهنا والله سبي حريمنا ، بهذا حدثني جدي (٢١٧) ».

فنزلوا جميعاً ، ونزل الحر وأصحابه ناحية ، وجلس الحسين عليه‌السلام يصلح سيفه ويقول :

__________________

(٢١٤) ع : خضير.

وفي بعض المصادر : بدير بن حفير ، والظاهر أن خضير هو الأولى.

هو سيد القراء ، كان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القراءة في جامع الكوفة ، وله في الهمدانيين شرف وقدر ، وكان مشهوراً ومحترماً في مجتمع الكوفة ، وهو همداني من شعب كهلان موطنه الكوفة ، بذل محاولة لصرف عمر بن سعد عن ولائه للسلطة الأموية.

تاريخ للطبري ٥ / ٤٢١ و ٤٢٣ و ٤٣٢ ، معجم رجال الحديث ٣ / ٢٨٩ ، المناقب ٤ / ١٠٠ ، البحار ٤٥ / ١٥.

(٢١٥) ر : نزل.

(٢١٦) ب : الثامن.

(٢١٧) ع : فقيل كربلا ، فقال عليه‌السلام : اللهم إني أعوذبك من الكرب والبلاء ، ثم قال : هذا موضع كرب وبلاء.

انزلوا ، هاهنا محط رحالنا ومسفك دمائنا وهنا محل قبورنا ، بهذا حدثني جدي رسول الله صلى الله عليه وآله.

١٣٩

« يا دهر أفٍّ لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من طالبٍ وصاحبٍ قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وإنما الأمر إلى الجليل

وكل حيٍّ فإلى سبيل

ما أقرب الوعد إلى الرحيل

إلى جنان وإلى مقيل (٢١٨) »

قال الراوي (٢١٩) فسمعت زينب ابنت فاطمة عليهما‌السلام (٢٢٠) ذلك ، فقالت : يا أخي هذا كلام من قد أيقن بالقتل.

فقال : « نعم يا أختاه ».

فقالت زينب : واثكلاه ، ينعى إلي الحسين نفسه.

قال : وبكى النسوة ، ولطمن الخدود ، وشققن الجيوب.

وجعلت أم كلثوم (٢٢١) تنادي : وامحمداه واعلياه واأماه وافاطمتاه واحسناه

____________

(٢١٨) ع :

وكل حي سالك سبيل

ما أقرب الوعد من الرحيل

وإنما الأمر إلى الجليل

(٢١٩) الراوي ، لم يرد في ر.

(٢٢٠) زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما‌السلام ، عقيلة بني هاشم ، شقيقة الحسن والحسين ، زوجها ابن عمها عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ، حضرت مع أخيها الحسين وقعة كربلاء ، حملت مع السبايا إلى الكوفة ، ثم إلى الشام ، كانت صابرة ثابتة الجنان رفيعة القدر فصيحة خطيبة ، توفيت سنة ٦٢ هـ ، وقيل غير ذلك ، دفنت في مصر على أشهر الأقوال.

الإصابة ٨ / ١٠٠ ، نسب قريش : ٤١ ، الطبقات ٨ / ٣٤١ ، الأعلام ٣ / ٦٧.

ولزيادة الإطلاع راجع كتاب زينب الكبرى للشيخ جعفر النقدي ، فانه أحسن وأجاد في دراسته عن هذه الشخصية البارزة سيدة النساء بعد أمها الزهراء عليها السلام.

(٢٢١) أم كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأمها فاطمة عليها‌السلام ، وهي أخت الحسن والحسين وزينب عقيلة بني هاشم ، ومسألة زواجها من عمر من أشد المسائل اختلافاً بين المسلمين ، وكثيراً ما يقع الخلط

١٤٠