مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨
صحّة الرواية ؛ « لأنّ النحو ظهر متأخّراً عن عصر عمر بن الخطّاب » (١٤) .
أقول : إنّ تأخّر ظهور النحو لا يكفي بمجرّده للشكّ في صحّة الرواية ، وإن كان يؤدّي إلى تعيين إرادة المعنىٰ اللغوي من كلمة الإِعراب دون المعنىٰ الاصطلاحي .
والصحيح أنّه لا دليل على استعمال كلمة ( الإِعراب ) بالمعنىٰ الاصطلاحي في القرن الأول فضلاً عن شيوع استعمالها فيه .
نعم ، قد استعملت بهذا المعنىٰ في وقت متأخّر وفي حدود ضيّقة ؛ فأقدم مصدر وردت فيه بالمعنىٰ الاصطلاحي يعود إلى القرن الرابع وهو كتاب « سرّ صناعة الإِعراب » لابن جنّي ( ت ٣٩٢ هـ ) ، وهناك أيضاً كتاب « ملحة الإِعراب » للحريري صاحب المقامات ( ت ٥٧٦ هـ ) ، واستعملها ابن معطي ( ت ٦٢٨ هـ ) في كتابه « الفصول الخمسون » إذ قال : « إنّ غرض المبتدئ الراغب في علم الإِعراب حصرتُه في خمسين فصلاً » (١٥) .
وأمّا ما ذكره القوزي من تقدّم استعمال كلمتَي ( المجاز ) و ( اللحن ) بمعنىٰ النحو اصطلاحاً ، فلا دليل عليه أيضاً ؛ فقد قال بشأن ( اللحن ) : « وهذا المصطلح نجده في قول عمر بن الخطّاب : ( تعلّموا الفرائض والسُنّة واللحن كما تتعلّمون القرآن ) . قال أبو بكر الأنباري : وحدّث يزيد بن هارون بهذا الحديث ، فقيل له : ما اللحن ؟ قال : النحو » (١٦) .
لكنّه قال في الصفحة التالية : « واللحن بمعنىٰ اللغة ، ذكره الأصمعي وأبو زيد ، ومنه قول عمر بن الخطّاب : تعلّموا الفرائض والسُنّة واللحن كما تتعلّمون
__________________
(١٤) أبو الأسود الدؤلي ، الدجني ، ص ١١١ .
(١٥) الفصول الخمسون ، ص ١٤٩ .
(١٦) المصطلح النحوي ، ص ٩ .
القرآن » (١٧) .
وهذا هو الصحيح ؛ لتأخّر ظهور علم النحو عن زمان عمر ، فلا يمكن أن يكون قد استعمل كلمة ( لحن ) بما يرادف النحو كما يراه زيد بن هارون .
وأما ( المجاز ) فقد استدلّ القوزي على كونه من الاصطلاحات الْأُولىٰ المرادفة للنحو بما ذكره الدكتور إبراهيم مصطفىٰ إذ قال : « وما كانت كلمة ( مجاز ) إلى ذلك العهد ( عهد أبي عبيدة ، المتوفّىٰ ٢٠٨ هـ ) قد خصّصت بمعناها الاصطلاحي في البلاغة ، وما كان استعمال أبي عبيدة لها إلّا مناظرة لكلمة ( النحو ) في عبارة غيره من علماء العربية » (١٨) .
ولكنّ مراجعة كتاب « مجاز القرآن » لأبي عبيدة تؤكّد ما ذكره محقّقه من كونه كتاباً يُعنىٰ بالناحية اللغوية من القرآن الكريم ، وليس كتاباً في البلاغة أو النحو بمعناهما الخاصّ ؛ « فهو يتكلّم في معاني القرآن ، ويفسّر غريبه ، وفي أثناء ذلك يعرض لإِعرابه ، ويشرح أوجه تعبيره » (١٩) ، وإلى ذلك ذهب محقّق كتاب « تلخيص البيان » أيضاً ؛ إذ قال : « فالمجاز القرآني ـ عند أبي عبيدة ـ لا يعدو أن يكون تفسيراً لألفاظ القرآن ومعجماً لمعانيه » (٢٠) .
هذا ، مع ملاحظة أنّ المراد إثبات تقدّم استعمال ( المجاز ) على مصطلح ( النحو ) ، وهو لا يثبت بالدعوىٰ المذكورة حتىٰ مع فرض التسليم بصحّتها ؛ لتأخّر أبي عبيدة عن زمن ابن أبي إسحاق الحضرمي وأبي النضر سالم بن أبي أُميّة اللذَين سنوضّح استعمالهما لمصطلح النحو .
ويبقىٰ الكلام على مصطلح ( العربية ) . ولا شكّ في استعماله بمعنىٰ
__________________
(١٧) المصطلح النحوي ، ص ١٠ .
(١٨) إحياء النحو ، إبراهيم مصطفىٰ ، ص ١٢ .
(١٩) مجاز القرآن ، أبو عبيدة ، تحقيق محمد فؤاد سزكين ، ١ / ١٨ .
(٢٠) تلخيص البيان في مجازات القرآن ، الشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، ص ٥ ـ ٦ .
النحو ، وإنْ كنّا لا نوافق على ما استُدِلّ له به من قول عمر بن الخطّاب : « تعلّموا العربية ؛ فإنّها تشبّب العقل » (٢١) ؛ لما تقدّم من القطع بتأخّر نشوء علم النحو عن عصر عمر .
وأقدم ما عثرت عليه من النصوص التي يمكن الاستدلال بها على المطلوب :
أوّلاً : ما روي « عن عمرو بن دينار [ ت ١٢٥ هـ ] قال : اجتمعت أنا والزهري [ ت ١٢٤ هـ ] ونصر بن عاصم . فتكلّم نصر ، فقال الزهري : إنّه ليفلّق بالعربية تفليقاً » (٢٢) . ومعلوم أنّ نصر بن عاصم من أوائل المهتمّين بالدراسات النحوية (٢٣) .
وثانياً : ما رواه عاصم بن بهدلة القارئ ( ت ١٢٨ هـ ) قال : « أوّل من وضع العربية أبو الأسود الدّيلي » (٢٤) .
وأمّا كلمة ( النحو ) فإنّها وردت في النصوص التي تتحدّث عن بدايات هذا العلم ، لا بوصفها عنواناً اصطلاحيّاً ، بل مستعملةً بمعناها اللغوي . ومن أمثلة هذه النصوص ما ذكره الزجّاجي عن أبي الأسود ( ت ٦٩ هـ ) من أنّه « وضع كتاباً فيه جمل العربية ، ثم قال لهم : أُنحوا هذا النحو . أي : اقصدوه . والنحو : القصد » (٢٥) . وما أورده ابن النديم من أنّ أبا الأسود قال بعد أن ذكر أَنّ عليّاً عليه السلام ألقىٰ إليه شيئاً في أُصول النحو : « واستأذنته في أن أصنع ( نحو ) ما صنع » (٢٦) . فكلمة نحو مستعملة هنا بمعنىٰ المثل .
__________________
(٢١) طبقات النحويّين واللغويّين ، الزبيدي ، ص ١٣ .
(٢٢) أخبار النحويّين البصريّين ، السيرافي ، ص ٢١ .
(٢٣) طبقات النحويّين واللغويّين ، الزبيدي ، ص ٢٧ .
(٢٤) أخبار النحويّين البصريّين ، السيرافي ، ص ١٧ .
(٢٥) الإيضاح في علل النحو ، الزجّاجي ، تحقيق مازن المبارك ، ص ٨٩ .
(٢٦) الفهرست ، ابن النديم ، ص ٥٩ ـ ٦٠ .
وإنّما استعملت كلمة ( نحو ) أوّل مرة بمعناها الاصطلاحي في تعبيرات عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ( ت ١٢٧ هـ ) ، وأبي النضر سالم بن أبي أُميّة ( ت ١٢٩ هـ ) .
قال ابن سلّام ( ت ٢٣١ ) : « قلت ليونس : هل سمعت من ابن أبي إسحاق شيئاً ؟ قال : قلت له : هل يقول أحد الصَّويق ، يعني : السَّويق ؟ قال : نعم ، عمرو بن تميم تقولها . وما تريد إلى هذا ؟ عليك بباب من النحو يطّرد وينقاس » (٢٧) .
وقال أيضاً : « أخبرني يونس أنّ ابن أبي إسحاق الحضرمي قال للفرزدق في مديحه يزيد بن عبد الملك :
مستقبلين شمالَ الشامِ تضربُنا |
|
بحاصبٍ كنديفِ القطنِ منثورِ |
على عمائمنا تُلقىٰ وأَرحُلنا |
|
على زواحفَ تُزجیٰ مُخُّها ريرِ |
قال ابن أبي إسحاق : أسأتَ ، إنّما هي ريرُ ، وكذلك قياس النحو في هذا الموضع » (٢٨) .
وقال أبو النضر : « كان عبد الرحمٰن بن هرمز أوّل من وضع العربية ، وكان من أعلم الناس بالنحو وأنساب قريش » (٢٩) .
وقد شاع مصطلح ( النحو ) بعد ذلك تدريجاً ، لكنّه لم يقضِ على استعمال مصطلح ( العربية ) ، بل بقي هذا مستعملاً مدّة طويلة في تعبيرات العلماء والنحاة وفي عناوين كتبهم . ومن شواهد استعماله في تعبيراتهم :
١ ـ قول أبي عبيدة ( ت ٢٠٨ هـ ) : « أخذ أبو الأسود عن عليّ بن أبي
__________________
(٢٧) طبقات الشعراء ، ابن سلّام ، ص ٧ .
(٢٨) طبقات الشعراء ، ابن سلّام ، ص ٧ .
(٢٩) طبقات النحويّين واللغويّين ، الزبيدي ، ص ٢٦ .
طالب عليه السلام العربية » (٣٠) .
٢ ـ قول ابن سلّام : « أوّل من أسّس العربية . . . أبو الأسود الدؤلي » (٣١) .
٣ ـ قول المبرّد ( ت ٢٨٠ هـ ) : « أوّل من وضع العربية ونقّط المصحف أبو الأسود الدؤلي » (٣٢) .
وأمّا في مجال المصنّفات النحوية ، فنجد الكتب التالية :
١ ـ الواضح في علم العربيّة ، للزبيدي ( ت ٣٧٩ هـ ) .
٢ ـ اللمع في علم العربيّة ، لابن جنّي ( ت ٣٩٢ هـ ) .
٣ ـ المفصّل في علم العربيّة ، للزمخشري ( ت ٥٣٨ هـ ) .
٤ ـ أسرار العربية ، لابن الأنباري ( ت ٥٧٧ هـ ) .
٥ ـ الخلاصة الألفية في علم العربيّة ، لابن مالك ( ت ٦٧٢ هـ ) .
٦ ـ اللمحة البدرية في علم العربيّة ، لأبي حيّان ( ت ٧٤٥ هـ ) .
٧ ـ الأزهرية في علم العربيّة ، لخالد الأزهري ( ت ٩٠٥ هـ ) .
ويتلخّص من جميع ما تقدّم :
أوّلاً : من المتّفق عليه وجود ثلاثة ألفاظ للتعبير عن هذا العلم اصطلاحاً ، وهي : النحو ، والعربية ، والإِعراب .
ثانياً : لا دليل على استعمال ( اللحن ) و ( المجاز ) للتعبير عن هذا العلم . وأمّا
__________________
(٣٠) أخبار النحويّين البصريّين ، السيرافي ص ١٥ ، ١٧ ، ٢٠ ، ٢٢ ، ٢٤ ، ٢٥ .
(٣١) طبقات الشعراء ، ابن سلّام ، ص ٥ .
(٣٢) طبقات النحويّين واللغويّين ، الزبيدي ، ص ٢١ .
استعمال ( الكلام ) فإنّه موضع خلاف وتردّد .
ثالثاً : لا شكّ في تأخّر استعمال لفظ ( الإِعراب ) عن كلّ من ( النحو ) و ( العربية ) ، وإنّما الكلام في تحديد المتقدّم من هذين الأخيرين .
وقد ذهب بعض الباحثين إلى تقدّم اصطلاح ( العربية ) (٣٣) ، إلّا أنّه يصعب القطع بذلك ؛ لأنّ أقدم من نُقل عنه استعمال مصطلح ( العربية ) هو الزهري ( ت ١٢٤ هـ ) وعاصم القارئ ( ت ١٢٨ هـ ) ، وهما معاصران لابن أبي إسحاق الحضرمي ( ت ١٢٧ هـ ) وأبي النضر ( ت ١٢٩ هـ ) اللذَين قدّمنا من النصوص ما يدلّ على استعمالهما مصطلح ( النحو ) . فإنْ لم يكن اقتران كلمة ( نحو ) بمعناها اللغوي ببدايات هذا العلم مرجّحاً للقولِ بتقدّم مصطلح ( النحو ) ، فلا أقلّ من التوقّف ، وعدم ترجيح طرف علىٰ آخر .
بقيت الإِشارة إلى أنّنا قدّمنا نصّين يدلّان على استعمال عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي لمصطلح ( النحو ) ، إلّا أنّ الدكتور الدجني أورد النصّ الأول منهما فقط وشكّك في صحّته مرجّحاً عدم استعمال الحضرمي لكلمة ( النحو ) اصطلاحاً بدليلين ، أوّلهما : انفراد ابن سلّام بتلك الرواية . والثاني : عدم العثور على ما يدلّ على استعمال عيسىٰ بن عمر وأبي عمرو بن العلاء لمصطلح النحو . مع أنّهما كانا من تلاميذ الحضرمي . ثم قال : « وأمّا الرواية التي يمكن الاطمئنان إليها في هذا الشأن فهي الرواية التي ذكرها السيرافي إذ قال : قال محمد بن سلّام : سمعت رجلاً يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعلمه . قال : هو والنحو سواء . أي : هو الغاية » (٣٤) .
__________________
(٣٣) المفصّل في تاريخ النحو العربي ، محمد خير الحلواني ، ص ١٢ . أبو الأسود الدؤلي ، الدجني ، ص ١٣ ـ ١٤ . مصطلح النحو ، القوزي ، ص ٨ .
(٣٤) أبو الأسود الدؤلي ونشأة النحو العربي ، الدجني ، ص ٢٢ ـ ٢٣ .
ويلاحظ على كلامه :
أوّلاً : أنّ الرواية التي اطمأنّ بها إنّما تُثبِت مضمونها فحسب ، ولا تنفي صحّة الرواية التي أوردناها ؛ إذْ لا محذور في كونهما معاً صحيحتين .
ثانياً : أنّ هذه الرواية قد تفرّد بها ابن سلّام أيضاً ، وأوردها في كتابه قبل الرواية المردودة مباشرة (٣٥) ، وقد نقلها السيرافي عنه ، فلماذا حصل الاطمئنان بإحداهما دون الْأُخرىٰ ؟!
ثالثاً : أنّ عدم العثور على ما يدلّ على استعمال تلميذَي الحضرمي لمصطلح النحو لا يدلّ على عدم استعمالهما إيّاه واقعاً ؛ فإنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود ، خاصّة مع ملاحظة أنّ مؤلّفاتهما لم تصل إلينا (٣٦) .
õ õ õ
__________________
(٣٥) طبقات الشعراء ، ابن سلّام ، ص ٦ ـ ٧ .
(٣٦) المفصّل في تاريخ النحو العربي ، الحلواني ، ص ١٤ .
الفقرة الثالثة : مصطلح ( النحو ) مضموناً .
لعلّ أقدم محاولة لتعريف هذا العلم ما ذكره ابن السرّاج ( ت ٣١٦ هـ ) إذ قال : « النحو إنّما أُريد أن ينحو المتكلّم إذا استعمله كلام العرب ، وهو علم استخرجه المتقدّمون من استقراء كلام العرب » (٣٧) .
وليس هذا في الواقع تحديداً لحقيقة النحو ، بقدر ما هو تعريف بمصادره ، وبيان للهدف من تدوينه ودراسته .
يلي ذلك قول ابن جنّي ( ت ٣٩٢ هـ ) : النحو « هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرّفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإِضافة والتركيب والنسب وغير ذلك » (٣٨) .
ويلاحظ عليه : أنّ النحو بوصفه علماً ليس هو انتحاء سمت كلام العرب ، بل انتحاء سمت كلامهم هو الغاية المتوخّاة من تدوين هذا العلم ودراسته .
وواضح من هذا التعريف أنّه يميّز بين نوعين من التناول في دراسة الكلمة ضمن هذا العلم ، أوّلهما ( الإِعراب ) الذي يعني تغيّر آخر الكملة بسبب انضمامها إلى غيرها في تركيب معيّن ، وهو داخل في ما ٱختصّ بعد ذلك بٱسم ( النحو ) ، والثاني هو ما يُعنىٰ بدراسة بُنية الكلمة مفردة ، وهو الذي اختصّ بٱسم الصرف .
وعرّفه ابن عصفور ( ت ٦٦٩ هـ ) بأنّه « علم مستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي يأتلف منها » (٣٩) .
وهذا التعريف يمتاز على ما سبقه في أخذه ( العلم ) جنساً في حدّ النحو .
__________________
(٣٧) الْأُصول في النحو ، ابن السرّاج ، ١ / ٣٧ .
(٣٨) الخصائص ، ابن جنّي ، ١ / ٣٤ .
(٣٩) المقرّب ، ابن عصفور ، ١ / ٤٥ .
وقد قيل في شرحه : إنّه قيّد هذا العلم بكونه ( مستخرجاً ) لكي يخرج العلم المنصوص في الكتاب والسُنّة ، وأنّ المراد بالمقاييس الواردة فيه : القواعد الكلّيّة (٤٠) .
وقد أخذ الأشموني بهذا التعريف ، وعقّب عليه بقوله : « فعلم أنّ المراد هنا بالنحو ما يرادف قولنا : علم العربية ، لا قسيم الصرف » (٤١) .
ومردّ ذلك إلى أنّ التعريف أطلق ( الأجزاء ) التي يتألّف منها الكلام ، ولم يقيّدها بكونها مفردة أو مركّبة .
ولابن الناظم ( ت ٦٨٦ هـ ) تعريف مشابه مضوناً للتعريف السابق ، قال : النحو هو « العلم بأحكام مستنبطة من استقراء كلام العرب ، أعني : أحكام الكلم في ذواتها ، أو ما يعرض لها بالتركيب لتأدية أصل المعاني من الكيفيّة والتقديم والتأخير » (٤٢) .
وعرّفه ابن حيّان ( ت ٧٤٥ هـ ) بحدٍّ مشابه لِما تقدّم ، لكنّه يمتاز عنه بصياغة لفظية مختصرة ، قال : « النحو علم بأحكام الكلمة إفراداً وتركيباً » (٤٣) .
وإلى هنا نجد أنّ مصطلح النحو ما يزال يطلق على كلٍّ من علمَي الصرف والنحو بمعناه الخاصّ .
وأوّل من عرّف النحو بحدٍّ يجعله مستقلاً عن الصرف ـ في حدود تتبّعي ـ هو الشيخ خالد الأزهري ( ت ٩٠٥ هـ ) ، قال : النحو « علم بأُصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم إعراباً وبناءً » (٤٤) .
__________________
(٤٠) حاشية الصبّان على شرح الأشموني ، ١ / ١٥ .
(٤١) حاشية الصبّان على شرح الأشموني ، ١ / ١٦ .
(٤٢) شرح الألفية ، ابن الناظم ، ص ٣٠٢ .
(٤٣) غاية الإِحسان في علم اللسان ، مخطوط ، ١ / ب .
(٤٤) شرح التصريح على التوضيح ، خالد الأزهري ، ١ / ١٤ .
وقد أعطاه الفاكهي ( ت ٩٧١ هـ ) صورته النهائية بقوله : النحو « علم بأُصول يعرف بها أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناءً » (٤٥) .
وكأنّ الفاكهي لاحظ أنّ ( أبنية الكلم ) شاملة لما قبل الآخر ، فأبدلها بقوله ( أواخر الكلم ) الذي هو أوضح في الدلالة على المراد .
والواقع أن تميّز الدراسة الصرفية عن النحوية كان واضحاً في أذهان الدارسين في مرحلة مبكّرة ؛ فقد أفردها أبو عثمان المازني ( ت ٢٤٩ هـ ) بكتاب مستقلّ بعنوان ( التصريف ) ، ثم تتابعت التصانيف من بعده من قِبل : المبرّد ( ت ٢٨٥ هـ ) ، وابن كيسان ( ت ٢٩٩ هـ ) ، وأبي زيد البلخي ( ت ٣٢٢ هـ ) ، وأبي عليّ الفارسي ( ت ٣٧٧ هـ ) ، والرمّاني ( ت ٣٨٤ هـ ) ، وابن جنّي ( ت ٣٩٢ هـ ) ، حتىٰ استقرّ الصرف على أُصوله وقواعده في القرنين السابع والثامن على أيدي ابن الحاجب وابن مالك وابن هشام (٤٦) .
ومع هذا كلّه فإنّ كتب النحو لم تتمحّض لمادّة النحو فقط ، بل ظلّت تحتوي مزيجاً من النحو والصرف ، ولأجل ذلك حرص النحاة على إعطاء حدٍّ للنحو يجعله شاملاً للصرف ، ليكون منطبقاً على محتوىٰ المصنّفات النحوية .
وهناك ملاحظة مهمّة على الصياغة الأخيرة لتعريف النحو التي طرحت من قبل الأزهري ومن بعده الفاكهي ، فإنّها وإن كانت مانعة من دخول مباحث الصرف ، إلّا أنّها ليست جامعة لمادّة النحو بالمعنىٰ المقابل للصرف ، ذلك لأنّ المدوّن فعلاً من هذه المادّة لا يقتصر على بحث أحكام أواخر الكلم إعراباً وبناءً ، بل إنّه يشتمل إضافة إلى ذلك على مباحث أُخرىٰ في غاية الأهمّيّة ، كالهيئة التركيبيّة للجملة من التقديم والتأخير ، والحذف والإِضمار ، وكسر همزة إنّ أو
__________________
(٤٥) الحدود النحوية ، الفاكهي ، نقلاً عن حاشية الإِيضاح في علل النحو ، ص ٨٩ .
(٤٦) أبو عثمان المازني ومذاهبه في الصرف والنحو ، رشيد العبيدي ، ص ١٠٦ .
فتحها ، وغير ذلك .
فهذه الموضوعات إمّا أن تكون من النحو ، فيقصر التعريف بشكله الأخير عن شمولها ، وإمّا أن لا تكون منه فما وجه دخولها فيه (٤٧) ؟
ويبدو أنّ أفضل صيغة يمكن طرحها لتعريف النحو ( بمعناه الخاصّ ) بشكل ينطبق على جميع مسائله أن نقول : النحو هو العلم الباحث عن أحكام الكلمة المركّبة .
فإنّ هذا الحدّ مانع من دخول مسائل الصرف ؛ لأنّ موضوعها هو الكلمة المفردة . وهو شامل لجميع ما يعرض للكلمة نتيجة لدخولها في التركيب ، سواءٌ أكان التغيّر العارض عليها متعلّقاً بحركات آخرها ، أم حاصلاً في حروفها ، حذفاً كما في جزم المضارع المعتلّ الآخر ، أو تغييراً كما في المثنّىٰ وجمع المذكّر السالم . ويشمل أيضاً وجوب تقديم الكلمة أو تأخيرها أو جواز الأمرين ، ووجوب فتح همزة إنّ في مورد وكسرها في غيره ، أو وجوب الحذف والإِظهار ، إلى غير ذلك من الأحكام التي تطرأ علىٰ الكلمة نتيجة لتأليفها مع غيرها تركيباً معيّناً .
وأمّا بعض المباحث من قبيل تقسيم الكلمة إلى أنواعها الثلاثة ، وتقسيم الاسم إلى نكرة ومعرفة ، والفعل إلى أنواعه ، فإنّها وإن لم تدخل مباشرة في دائرة ما يعرض على الكلمة المركّبة ، لكنّها من المبادئ الضرورية التي لا بُدّ من دراستها ومعرفتها لترتيب الأحكام المختلفة التي تطرأ علىٰ الكلمة بعد التركيب .
ولعلّنا نتلمّس هذه الصياغة الجديدة لتعريف النحو في كلمات المتقدّمين ، كٱبن الناظم الذي فسّر تعريفه لعلم النحو بقوله : « أعني أحكام الكلمِ في ذواتها ، أو ما يعرض لها بالتركيب لتأدية أصل المعاني من الكيفية والتقديم والتأخير » ؛ إذ لَمّا كانت المصنّفات النحوية مزيجاً من النحو والصرف ، فقد أشار
__________________
(٤٧) البحث النحوي عند الْأُصوليّين ، السيد مصطفىٰ جمال الدين ، ص ٢٦ .
إلى الصرف بقوله : ( أحكام الكلم في ذواتها ) ، وإلى النحو بقوله : ( أو ما يعرض لها بالتركيب ) .
وممّا يلفت النظر في كلامه أنّه لم يمثّل لهذا العارض بسبب التركيب بما يطرأ على أواخر الكلم إعراباً وبناءً ، بل مثّل له بالكيفيّة من التقديم والتأخير ، فهو يرىٰ أنّ أمثال هذه العوارض دخيلة في موضوع النحو كدخالة حركات الإِعراب . إلّا أنّ الأزهري ومن تبعه من المتأخّرين بنوا تعريفهم للنحو على أساس أنّ البحث في ( الكلمة المركّبة ) يعني معرفة ما يطرأ على آخرها من الإِعراب والبناء فقط ، الأمر الذي أدّىٰ إلى عدم جامعيّة التعريف .
õ õ õ
من التراث الْأَدبي المنسي في الْأَحساء (١٢) :الشيخ علي الرمضان الشهيد المتوفى حدود ١٢٧٠ هـ السيّد هاشم محمد الشَّخْص |
نسب الشاعر :
هو الشيخ عليّ الشهيد بن الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن ابن الشيخ عليّ بن الشيخ عبد النبيّ آل الشيخ رمضان الخزاعي الْأَحسائيّ .
ينتهي نسبه إلى شاعر أهل البيت الشهير دعبل الخزاعيّ رضوان الله تعالى عليه .
أُسرته :
آل رمضان من الْأُسر العلمية الجليلة في الْأَحساء ، وقد برز منهم عدد من رجال العلم والْأَدب ممّن كان لهم الشأن الرفيع والمقام الشامخ ، أصلهم البعيد من العراق ، من ذرّيّة الشاعر الشهير دعبل بن عليّ الخزاعيّ شاعر أهل البيت عليهم السلام ، والمتوفّى سنة ٢٤٦ هـ .
ومن
العراق ـ في حدود القرن التاسع الهجري ـ هاجر جدّهم الْأَعلى الشيخ رمضان بن سلمان بن عبّاس الخزاعيّ ـ المعروفين بالانتساب إليه ـ واستوطن البحرين حتى توفّي ، وفيها ذرّيّته وأحفاده إلى اليوم ، وفي مطلع القرن الحادي عشر الهجري هاجر بعض الْأَحفاد من البحرين إلى الْأَحساء
واستوطنوها ، وآل رمضان اليوم أُسرة كبيرة معروفة في الْأَحساء .
ومن أبرز علمائهم الفقيه الكبير العلّامة الشيخ محمد بن الشيخ عبد الله الرمضان ـ والد صاحب الترجمة ـ المتوفّى سنة ١٢٤٠ هـ ، وصاحب القصيدة النونية الغرّاء المعروفة بـ (خير الوصيّة) .
مولده ونشأته :
ولد بمدينة (الهُفُّوْف) عاصمة الْأَحساء في أواخر القرن الثاني عشر الهجري ـ ولم يحدّد تاريخ دقيق لولادته ـ وفيها نشأ وترعرع تحت رعاية والده العلّامة الشيخ محمد الرمضان ، كما تلقّى في (الْأَحساء) أوّليّات العلوم على يد والده وغيره من الْأَعلام .
تحصيله العلمي :
بعد دراسته المقدّمات في الْأَحساء هاجر إلى إيران لتحصيل العلوم الدينية ، وكانت جلّ إقامته في مدينة شيراز ، حيث كان بها عدد من علماء الْأَحساء والبحرين ، وأقام هناك ردحاً من الزمن مستفيداً من كبار الْأَساتذة وأعاظم العلماء ، وهذه أسماء أهمّ أساتذته كما ذكرهم هو في ديوانه المخطوط :
١ ـ السيد حسين بن السيد عيسى بن السيد هاشم البحراني ، صاحب تفسير «البرهان» .
٢ ـ السيد صدر الدين العاملي ، ولعلّه السيد صدر الدين بن السيد صالح ابن محمد بن إبراهيم شرف الدين العاملي ، المتوفّى سنة ١٢٦٣ هـ .
٣ ـ الميرزا سليمان الحسيني الطباطبائي النائيني .
٤ ـ الشيخ عبد المحسن بن الشيخ محمد بن الشيخ مبارك اللويمي الْأَحسائي ، المتوفّى سنة ١٢٤٥ هـ ، وكان جلّ تلمذته عليه .
* * *
شيء من سيرته :
عاش بداية شبابه في بلده (الْأَحساء) وشبَّ فيها بين أهله وذويه مستفيداً من ألطاف والده الجليل وناهلْاً من علمه الجمّ ، ثم هاجر من الْأَحساء سائحاً في بلاد الله العريضة مستثمراً أسفاره لصالح دينه ودنياه ، فزار كلاً من البحرين وشيراز ويزد وكِرمان وسعيدآباد وأكثر مدن إيران الكبيرة ، كما تشرّف بزيارة الإِمام الرضا عليه السلام ، وفي ديوانه المخطوط أشعار كثيرة في وصف تلك المدن ومدح أعيانها وعلمائها .
ويظهر أنّه قضى معظم حياته في السياحة والْأَسفار متجوّلاً في بلدان عديدة ، كما يصف حاله في ديوانه حيث يقول :
وَذُقْتُ مِنَ الشَّدَائِدِ كُلَّ طَعْمٍ |
|
وَجُبْتُ مِنَ الفَدَافِدِ كُلَّ وَادِيْ |
وعُمْتَ مِنَ السُّرَى وَاللَّيْلُ دَاجٍ |
|
بِسُفْنِ العِيْسِ فِيْ لُجَجِ السَّوَادِ |
يَبِيْتُ عَلَى حَدَائِجِهَا فِرَاشِيْ |
|
وَيُصْبِحُ فَوْقَ أَرْجُلِها مِهادِيْ |
إلى أَنْ أَبْلَتِ الْأَسْفَارُ جِسْمِيْ |
|
وَأَخْفَانِيْ النُّحُوْلُ عَنِ العِبَادِ |
وَصُرْتُ كَأَنَّنِيْ سِرٌّ خَفِيٌّ |
|
بِأَفْئِدَةِ الرَّوَابِيْ وَالوِهَادِ |
واستقرّت به الدار أخيراً في مدينة شيراز وأطرافها ، حيث قضىٰ هناك معظم أيّام غربته الطويلة .
وكان وهو في دار الغربة كثيراً ما يحنّ إلى وطنه ومسقط رأسه ويتذكّر أهله وأحبّته ، وفي ذلك يقول :
وَبِـ (الْأَحْسَاءِ) وَهْيَ مُنَايَ قَوْمٌ |
|
بِعَادُهُمُ نَفَى عَنِّيْ رُقَادِيْ |
لَهُمْ جِفْنِيْ القَرِيْحُ يَفِيْضُ رَيّاً |
|
بِفَيْضِ دُمُوْعِهِ وَالقَلْبُ صَادِيْ |
هِيامِيْ فِيْهُمُ شُغْلِيْ وَدَأْبِيْ |
|
وَوَجْدِيْ مِنْهُمُ شُرْبِيْ وَزَادِيْ |
أُحِبُّ لِأجْلِهِمْ خَفَقَانَ قَلْبِيْ |
|
وَأَهْوَى فِيْ مَحَبَّتِهِمْ سُهَادِيْ |
وَهُمْ حُصْنِيْ المَنِيْعُ وَهُمْ سِنَادِيْ |
|
وَهُمْ رُكْنِيْ الوَثِيْقُ وَهُمْ عِمادِيْ |
سَقَى (الْأَحْسَاءَ) بَارِيْهَا بِغَيْثٍ |
|
يَمُدُّ الخَصْبَ مِنْ صَوْبِ العِهَادِ |
فَلِـ (ـلْأَحْسَاءِ) مَا دَامَتْ وِدَادِيْ |
|
وَفيْ أَرْجَاءِ سَاحَتِهَا مُرَادِيْ |
ويقول أيضاً :
أَسْتَوْدعُ الرَّحْمٰنَ بِـ (الهُفُّوْفِ) مِنْ |
|
(هَجَرٍ) أُهَيْلَ مَوَدَّةٍ وَوَفَاءِ |
قَوْمٌ هَجَرْتُ لَهُمْ وِسَادِيْ وَالكَرَىٰ |
|
وَوَصَلْتُ فِيْهِمْ لَوْعَتِيْ وَبُكَائِيْ |
يَا جِيْرَةَ الْأَحْسَاءِ هَلْ مِنْ زَوْرَةٍ |
|
أَحْيَا بِها يَا جِيْرَةَ الْأَحْسَاءِ |
يَا جِيْرَةَ الْأَحْسَاءِ هَلْ مِنْ زَوْرَةٍ |
|
تَمْحُوْ ظَلامَ البَيْنِ بِالْأَضْوَاءِ |
أَنَا فِيْكُمُ صَادِيْ الحَشَاشَةِ فَٱسْمَحُوْا |
|
لِيْ مِنْ وِصَالِكُمُ بِعَذْبِ المَاءِ |
أَنْتُمْ مُنَايَ مِنَ الزَّمَانِ وُبُعْدُكُمْ |
|
كدَرِيْ وَقُرْبُكُمْ الشَّهِيُّ صَفَائِيْ |
وكانت (الْأَحساء) وعموم البلدان العربية في الخليج في ذلك الحين تعيش اضطرابات وفتن طائفية شديدة ، وقاسى شيعة المنطقة حينها أبشع ألوان الظلم والاضطهاد ، ممّا أدّى إلى هجرة العديد من العلماء والْأَعيان من منطقة الخليج وتفرّقهم في بلدان مختلفة .
والمترجَم ـ رغم الظروف الصعبة ـ عاد في أواخر عمره إلى وطنه الْأَحساء ، واستقرّ بها ، وكان يقوم فيها بواجباته الدينية من التدريس والوعظ والإِرشاد ، ومن أبرز تلاميذه في تلك الفترة العلّامة الشيخ أحمد بن محمد مال الله الصفّار ، المتوفّى بعد ١٢٧٠ هـ ، وفي الْأَحساء كتب بعض مؤلّفاته ، كما جمع ديوان شعره الكائن في مجلّدين .
وفي
سنة ١٢٤٠ هـ توفّي في قرية (سلما باد) بالبحرين والد المترجَم له
العلّامة الشيخ محمد الرمضان ، وكان بصحبته نجله صاحب الترجمة ، فأثّر فيه ذلك الحدث أثره البالغ ، وشعر بعد والده بالحزن العميق والمصاب الفادح ، وفي ذلك كتب رسالة حزينة بليغة إلى أُستاذه في إيران السيد حسين بن السيد عيسى البحراني ، وممّا جاء في الرسالة :
«أمّا بعد ، فإنّ أخاك قد أُصيب بفقد الشيبة الطاهرة ، والنعمة الظاهرة ، والدي الْأَسعد ، وسيّدي الْأَمجد ، فأصبحت بفقده مجذوذ الْأَصل ، مقطوع الوصل ، مكسور الصلب ، موتور القلب ـ إلى أن قال : ـ فلم يكن بأسرع من أن دعاه ربّه إلى جواره ، ليريحه من الدهر وأكداره ، فأجاب غريباً سعيداً كريماً شهيداً (١) ، فانقلبت عند ذلك القرية بأهلها على فقد إمامها ، واضطربت بنسائها ورجالها على انجذاذ سنامها . . .
مُصَابٌ لَمْ يَدَعْ قَلْباً ضَنِيناً |
|
بِغَلَّتِهِ وَلا عَيْناً جَمادا |
فإنّا لله وإنّا إليه راجعون . . .» (٢) .
ويظهر أنّ المترجَم كان يعيش بعد سنة ١٢٤٠ هـ بين البحرين والْأَحساء إلى أن قُتل شهيداً في الْأَحساء حدود سنة ١٢٧٠ هـ .
زملاؤه ومعاصروه :
كانت للمترجَم صداقات وعلاقات واسعة مع كثير من علماء وشعراء عصره البارزين ، وجرت بينه وبينهم مراسلات شعرية ونثرية ، سجّل هو الكثير منها في ديوانه المخطوط .
وفيما يلي أهمّ من ذكرهم في ديوانه من قرنائه ومعاصريه :
__________________
(١) جاء في الذريعة ٧ / ٢٨٦ : أنّ الشيخ محمد بن عبد الله الرمضان ـ صاحب «خير الوصيّة» ـ قتل شهيداً في البحرين بسبب الضرب الموجع من قبل الوهّابيّين ، ويبدو أنّ الْأَب كالابن قتل على أيدي الوهّابيّين ، ولم يسلم من ظلمهم رغم فراره بجلده إلى خارج وطنه .
(٢) ديوان الشيخ علي الشهيد الرمضان ، مخطوط .
١ ـ أُستاذه الشيخ عبد المحسن بن الشيخ محمد اللويمي الْأَحسائي ، المتوفّى ١٢٤٥ هـ ، وابنه الشيخ علي اللويمي ، وكانت له بهما علاقة خاصة وصداقة حميمة مدّة إقامته في إيران ، حيث كان هذان العلمان يقيمان في شيراز وأطرافِها ، وفيهما يقول :
وَلَوْلا مُلاذِيْ بالدِّيَارِ الَّتيْ بهَا |
|
إمامِيَ (عَبْدُ المُحْسِنِ) العَالِمُ الحِبْرُ |
وَفِيْها ٱبْنُهُ ذُخْرِيْ (عَلِيٌّ) أخُوْ العُلا |
|
وَطُوْبَى لإِنْسَانٍ (عَلِيٌّ) لَهُ ذُخْرُ |
لَأصْبَحْتُ مِمّا قَدْ لَقِيْتُ مِنَ البَلا |
|
رَمِيْماً وَشَخْصِيْ فيْ المَلا ما لَهُ ذِكْرُ |
فَلا أبَ عِنْدِيْ مِثْلُ شَيْخِيَ وَٱبْنِهِ |
|
إذاَ عُدَّ زَيْدٌ فِيْ المَكارِمِ أوْ عَمْرُو |
فَأبْقاهُما الرَّحْمٰنُ لِلْجُوْدِ كَعْبَةً |
|
تَطُوْفُ بِها الوُفّادُ ما طَلَعَ البَدْرُ |
٢ ـ أُستاذه السيد حسين بن السيد عيسى بن السيد هاشم البحراني .
٣ ـ الشيخ أحمد بن محمد بن مال الله الصفّار الْأَحسائي ، المتوفّى بعد ١٢٧٠ هـ ، وهو ممّن استفاد من المترجَم وتتلمذ على يديه ، وممّا كتب إليه المترجَم في إحدى رسائله :
إلى حَبِيْبِيْ دُوْنَ كُلِّ المَلَا |
|
سَلَامَ صَبٍّ بالنَّوىٰ مُبْتَلَى |
يَغْشاكَ ما يَشْتاقُ قَلْبِيْ إلى |
|
مَرْءاكَ أوْ أَوْلاكَ مَحْضَ الْوِلَا |
٤ ـ الشيخ حسن بن محمد بن خلف بن ضيف الدمستاني البحراني ، المتوفّى سنة ١٢٨١ هـ .
٥ ـ الشيخ سليمان بن الشيخ أحمد آل عبد الجبّار البحراني القطيفي ، المتوفّى سنة ١٢٦٦ هـ .
٦ ـ الشيخ عبد علي بن الشيخ خلف العصفور البحراني ، المتوفّى ١٣٠٣ هجري .
٧ ـ الشيخ أحمد بن الشيخ عبد الله آل دندن الْأَحسائي .
٨ ـ الشيخ محمد بن علي البغلي الْأَحسائي ، المتوفّى بعد ١٢٤٥ هـ ، وهو من شعراء الْأَحساء وأجلّائها اللامعين (٣) ، وتربطه بالمترجَم علاقة ودّيّة وأدبيّة متميّزة ، وممّا قاله المترجَم في رسالة بعث بها إليه :
سَلامٌ جَلا مَحْضَ الوِدادِ وَأغْرَبا |
|
وَبَيَّنَ صِدْقَ الاتِّحادِ وَأَعْرَبا |
وَفاحَ بِساحاتِ الصَّداقَةِ عَنْبَراً |
|
وَلاحَ بآفاقِ العَلاقَةِ كَوْكَبا |
يُخَصُّ بِهِ مِنِّيْ حَبِيْبٌ مُهَذَّبٌ |
|
أَلا بِأَبِيْ ذاكَ الحَبِيْبَ المُهَذَّبا |
(مُحَمَّدٌ الْبَغْلِيُّ) مَنْ شاعَ ذِكْرُهُ |
|
بِأَقْطارِ أَرْضِ اللهِ شَرْقاً وَمَغْرِبا |
وقال في شأنه أيضاً :
يا مَنْ أَتَى مِنْ شِعْرِهِ بَعَزائِمٍ |
|
سَجَدَتْ لَهُنَّ مَفالِقُ الشُّعَراءِ |
وَتَيَقَّنُوْا أَنْ لَا سِوَاكَ فَوَحَّدَوا |
|
لَكَ مُخْلِصِيْنَ بِغَيْرِ شَوْبِ رِيَاءِ |
قَسَماً بِنَظْمِكَ ذٰلِكَ النَّظْمِ الَّذِيْ |
|
ضَاعَتْ لَدَيْهِ كَوَاكِبُ الجَوْزَاءِ |
مَا ٱخْتَارَ شِعْرَ سِوَاكَ في إنْشَادِهِ |
|
إلّا قَرِيْنُ بَصِيْرَةٍ عَمْياءِ |
شهادته
كان عمره حين استشهاده أكثر من ثمانين عاماً ، وبدأت قصّة استشهاده ـ بنقل أحفاده ـ كما يلي :
اطّلع أحد علماء الوهّابية المتعصّبين ـ وهو قاضي الْأَحساء الرسمي ذلك الحين ـ على بعض الكتب العقائدية من تأليف صاحب الترجمة فأثارت غضبه وحنقه لمخالفتها لعقائد الوهّابية ، كما حصلت بينه وبين المترجَم مناظرات في مجالس مختلفة أدّت إلى هزيمة العالم الوهّابي وعجزه عن الردّ العلمي ، عندها وشى
__________________
(٣) له ترجمة مفصّلة في «تراثنا» العدد ٧ ـ ٨ ، ص ٢٢٠ ـ ٢٣١ .
العالم الوهّابي بشيخنا المترجَم إلى السلطة الحاكمة آنذاك وحرَّضها على النيل منه ، فما كان من السلطة إلّا أن أودعته السجن ، حيث لاقى فيه ـ على شيخوخته ـ ألوان العذاب والإِهانة .
وبعد مدّة أُطلق سراح المترجَم وسُمح له بالعودة إلى منزله ، وقبل وصوله إلى دار سكناه علم القاضي الوهّابي بالإِفراج عنه فاستشاط غضباً وحقداً ، وأصدر حكماً ظالماً بقتل الشيخ المترجَم أينما وجد ، وأمر مناديه أن ينادي في السوق : «من أراد قصراً في الجنّة فليضرب شيخ الرافضة علي بن رمضان» !!
وكان المترجم له في طريقه من سجنه إلى منزله مارّاً بسوق البلدة ، فانهال عليه الْأَوباش وسفلة السوق والقصّابون من أتباع الوهّابية ، ورشقوه بالحجارة وضربوه بالحديد والْأَخشاب والسكاكين حتى سقط إلى الْأَرض مضرّجاً بدمائه ، وبينما هو يجود بنفسه إذ قصده أحد القصّابين ـ وٱسمه علي أبو مِجْداد ـ وبيده عظم فخذ بعير ، فضرب شيخنا الشهيد على رأسه وفلق هامته ، ففاضت روحه الطاهرة ومضى إلى ربّه مظلوماً شهيداً صابراً محتسباً .
وكانت شهادته في مدينة (الهُفّوف) بالْأَحساء حدود سنة ١٢٧٠ هـ (٤) ، وقد رثاه تلميذه العلّامة الجليل الشيخ أحمد بن محمد بن مال الله الصفّار الْأَحسائي بقصيدة رائعة ، وصف فيها الحادث المؤلم وما جرى لِأُستاذه من المظالم والقتل بصورة وحشية ، فقال :
أَصابَنا حادِثُ الْأَقْدَارِ بِالخُطُبِ |
|
وَشَبَّ نَارَ لَظَى الْأَحْزَانِ فِيْ اللُّبُبِ |
مِنْ حِيْنِ أَخْبَرَنَا النَّاعِيْ المَشُوْمُ ضُحىً |
|
عَنْ مَقْتَلِ المَاجِدِ المَوْصُوْفِ بِالْأَدَبِ |
العَالِمُ الفَاضِلُ الشَّيْخُ المُهَذَّبُ ذُو |
|
الفَضْلِ الجَلِيِّ عَلِيٌّ عَالِيَ الرُّتَبِ |
العَابِدُ السَّاجِدُ البَاكِيْ بِجُنْحِ دُجىً |
|
كَهْفُ الْأَنَامِ وَغَوْثُ اللهِ فِيْ الكُرَبِ |
__________________
(٤) في شهداء الفضيلة ، ص ٣٦١ : أنّ المترجم استشهد في الثلث الْأَول من القرن الرابع عشر الهجري ، وهو خطأ حتماً ، والصحيح ما ذكرناه .