التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

أرأيت الى هذا الاعجاز؟ .. مخلوق بلغ من الصغر الى حد لا يرى إلا بمكبر يضاعف الحجم الف مرة أو أكثر ، ويستحيل فتحه وشقه إلا بمشرط ضوئي أي بأشعة الضوء لأن نسبة الشعرة اليه كنسبة الفيل الى الذرة ، ومع ذلك لهذا المخلوق الذي لا تراه العين أعضاء وعروق وأغشية وغيرها تماما كما للإنسان .. ثم تؤلف افراد هذا المخلوق العجيب مجتمعا يستوطن جسم الإنسان ، وهي تعد بالبلايين ، وتعيش بمجموعها اربعة أشهر ، ثم يأتي بعدها مجتمع عدد افراده بمقدار عدد السابق ، لا تزيد واحدا ، ولا تنقص واحدا ، ثم غيره وغيره وهكذا دواليك .. فهل هذا صدفة؟ .. وهل تتكرر الصدفة ملايين المرات؟ .. وهل جاءت الأعضاء والخيوط والأغشية منظمة منسقة صدفة؟ .. وهل عدم زيادة العدد ونقصانه صدفة؟ .. وهل تولدت الأشياء المتباينة من شيء واحد صدفة؟ .. كل هذه الأسئلة وغيرها كثير تطلب أجوبتها.

ابدا ، لا جواب .. لا تفسير إلا بوجود عليم قدير خلق الكون والحياة بكلمة «كن فيكون» .. وبعد ، فكلما خطا العلم خطوة الى الأمام تتابعت الدلائل ، وتضافرت الشواهد على وجود من له الخلق والأمر .. تبارك الله رب العالمين الذي قال : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

ولئن شئنا لنذهبن الآية ٨٦ ـ ٨٩ :

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

٨١

اللغة :

الظهير المعين. والمراد بصرّ فنا هنا بيّنّا أو كررنا. والكفور الجحود.

الاعراب :

لئن اللام للقسم وان شرطية. وإلا رحمة (رحمة) مفعول مطلق لفعل محذوف أي إلا أن يرحمك الله وقيل : مستثنى منقطع. ولا يأتون مرفوع لأنه جواب القسم وساد ايضا مسد جواب الشرط في «لئن».

المعنى :

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ). قال الرازي : لما بين تعالى في الآية السابقة انه ما آتاهم من العلم إلا قليلا بين هنا انه لو شاء ان يأخذ منهم هذا القليل لقدر عليه ، وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب ، وكتابته من الكتب (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) تعتمد عليه في رد ما أخذناه منك (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فهو وحده القادر على رد ما يأخذه منك وارجاعه اليك (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) يا محمد بما أعطاك من العلم والسيادة على الناس أجمعين.

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). تكلمنا عن ذلك مفصلا في ج ١ ص ٦٦ عند تفسير الآية ٢٣ من البقرة.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) فيما يعود الى العقيدة والشريعة والأخلاق ، وأقمنا البراهين القاطعة ، والأدلة الواضحة (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) ونفورا من الحق لأنه مرّ وثقيل لا يصبر عليه إلا المتقون.

٨٢

التكفير من خلال المال الآية ٩٠ ـ ٩٦ :

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦))

اللغة :

الينبوع عين الماء. وكسفا بكسر الكاف جمع كسفة ، وهي القطعة من الشيء. والقبيل المقابل أي تأتي بهم مقابلين لنا وجها لوجه. والزخرف الذهب أو الزينة. وترقى تصعد.

الاعراب :

حتى هنا بمعنى إلا ، وتفجر منصوب بأن مضمرة بعدها. أو تكون عطف على تفجر. وكسفا حال من السماء. وقبيلا حال من الملائكة. والمصدر من

٨٣

أن يؤمنوا مجرور بمن محذوفة. والمصدر من أن قالوا فاعل منع. ومطمئنين حال من الملائكة. ومفعول كفى محذوف ، وبالله الباء زائدة اعرابا وشهيدا تمييز. والتقدير كفاك الله من شهيد.

حب الذات

كلنا نحب أنفسنا وذواتنا رجالا ونساء ، شيوخا وأطفالا ، أتقياء وأشقياء .. وأي انسان لا يحرص على حياته ، ويدافع عن وجوده وكيانه؟. ولو لا هذا الحب لما استمر وجود الحياة ، ولا نمت وتقدمت .. ابدا لا فرق في حب الذات بين انسان وانسان ، وانما الفرق في نوع هذا الحب :

فمنه القائم على أساس الفطرة والعقل والوجدان .. ويستدل على وجود هذا الحب المهذب بتعفف الإنسان عن حق غيره ، وقناعته بما كتب له من كد اليمين وعرق الجبين ، وبالتعاون مع كل من يأمل فيه الخير والنفع للناس بجهة من الجهات ، بل وبالإيثار وبالتضحية ايضا لأن من يعطي ويضحي لوجه الله والحق فقد أحب نفسه ، وعمل لها من حيث يريد أو لا يريد ، لأن الله لا يضيع اجر من احسن عملا ، وكذلك المجتمع فانه يمجد ويعظم من يضحي من اجله.

ومن حب الذات ما يطغى على العقل والدين والوجدان .. ويستدل على هذا الحب المفترس بالطمع والجشع الذي لا يري صاحبه هما غير همه ، ولا نفعا غير نفعه ونفع ذويه ، وهذا لا يجدي معه أي منطق حتى الحس والمشاهدة والعيان ، تماما كما قال تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ـ ١٧٨ .. الأعراف وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان ، ومنهم الذين أشار اليهم بقوله :

١ ـ (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً). اقترح المترفون من المشركين على رسول الله ان يفجر لهم لا لغيرهم ـ لنا ـ أنهارا أو عيونا ليزدادوا مكاسبا وأرباحا وتحكما بالمعوزين والمستضعفين ، فقد روي أن عتاة قريش ومترفيها قالوا : يا محمد ان ارض مكة ضيقة فأزح جبالها ، وفجر لنا عيونا لننتفع بالأرض.

٨٤

٢ ـ (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها ـ أي بينها ـ تَفْجِيراً). وإذا لم تفجر الأرض لنا عيونا ففجرها لك ـ على الأقل ـ كي تكون كفؤا للمناصب الشريفة العالية ، أما ويدك فارغة من المال فعليك أن تسمع لأهل المال وتطيع .. وهكذا ذهب بهم التفكير المالي الى أن المال وحده هو الذي يجعل صاحبه كفؤا لتولي القيادة والسيادة .. ولم يدركوا أن رسالة محمد (ص) هي ثروة الانسانية وحياتها وعظمتها ، وان محمدا رحمة مهداة الى أهل الأرض لينقذهم من الفقر والجهل ، والظلم والطغيان .. وانّى لعبدة المال وصرعى المطامع أن يدركوا الرحمة والحق والخير؟.

٣ ـ (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً). اقترحوا عليه أن يفجر الأرض ينبوعا لهم او له ، فان لم يكن هذا أو ذاك فليأتهم بالعذاب من السماء أو بالله والملائكة يشهدون له بالنبوة والرسالة .. وهذا ايضا من وحي تفكيرهم في ان المنصب الشريف حق للأغنياء دون الفقراء ، والدليل على هذا التفكير انهم علقوا ايمانهم بمحمد على امر يرونه محالا .. ومن الواضح ان التعليق على المحال معناه الإصرار وعدم التنازل عن طلبهم لتفجير الأرض ينبوعا ، تماما كما لو قلت : لا افعل هذا حتى يلج الجمل في سم الخياط.

٤ ـ (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) مبني من الذهب ، او مزين ومنقوش به .. وهذا ايضا من التفكير المالي (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) وهو من التعليق على المحال ايضا بزعمهم ، ومعناه الإصرار على ان المال هو المبرر الوحيد لتولي المنصب الشريف كما أشرنا.

(وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ). قال بعض المفسرين الجدد ، معلقا على هذا بقوله : «وتبدو طفولة الإدراك والتصور كما يبدو التعنت في هذه المقترحات الساذجة». كلا ، ليست هذه بطفولة ، ولا هي بسذاجة ، وانما هي من وحي الترف الفاسد ، والامتيازات الجائرة ، والسلب والنهب ، وعبادة المال ، ولا شيء ادل على ذلك من اقتراحهم وشرطهم لاتباع الرسول ان يكون له من بيت من ذهب .. معبودهم الاول ، ومثلهم الأعلى (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) يأتمر بأمر من أرسله ، وينتهي بنهيه : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ـ ٣٨ الرعد.

٨٥

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً). نظر المفسرون ، ومنهم الطبرسي والرازي ، نظروا الى هذه الآية على انها مستقلة عما تقدمها من الآيات ، وقالوا في تفسيرها : ان مشركي قريش لم يؤمنوا بمحمد (ص) لأنهم كانوا يعتقدون بان الرسول يجب ان يكون من جنس الملائكة ، لا من جنس البشر .. وهذا تفسير بعيد عن الآية لوجوه :

«منها» : ان مشركي قريش كانوا يعتقدون بنبوة ابراهيم ، وبأنهم من نسله (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) ـ ٧٨ الحج.

و «منها» ان قول المشركين لن نؤمن لك حتى تفجر الخ يدل انهم كانوا يؤمنون برسالة البشر ، ولكنهم يشترطون في النبي ان يكون من الأغنياء : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ـ ٣١ الزخرف. ومرادهم بالرجل العظيم الوليد بن المغيرة من زعماء مكة ، او عروة بن مسعود من زعماء الطائف.

و «منها» : انه لو كان معنى الآية ما قاله المفسرون لكان المشركون معذورين في انكارهم نبوة محمد (ص) لأنهم فعلوا ما يعتقدون ، مع ان الله سبحانه وصفهم في اكثر من آية بأنهم يبدون غير ما يخفون : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) ـ ٢٨ الانعام (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) ـ ١٤ النمل.» ونخلص من هذا الى ان المعنى الصحيح لتفسير الآية ان المشركين لما قامت الحجة عليهم بنبوة محمد (ص) وعجزوا عن ردها لجأوا الى التضليل والتمويه على الجهلاء والبسطاء شأن المبطل العاجز ، وقالوا في مكر وخداع : ان الله لا يبعث للناس رسولا من البشر ، بل من الملائكة ، قالوا هذا ، وهم يعلمون بأنهم لكاذبون ، ولذا قال سبحانه : (إِلَّا أَنْ قالُوا) ولم يقل الا ان ظنوا ونحوه اشعارا بان انكارهم انما هو مجرد عناد وقول من غير اعتقاد.

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ـ أي لو كانوا من اهل الأرض يسعون فيها كالآدميين ـ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً). لقد شاءت حكمته سبحانه وتعالى ان يبعث رسله الى خلقه من جنس المرسل اليهم ، فان كانوا بشرا فرسولهم منهم وإليهم ، وان كانوا ملائكة فكذلك ، لان الجنس الى الجنس أميل : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ـ ١٦٤ آل عمران. والمشركون يعرفون ذلك ؛ ولكنهم يمكرون ويخادعون. وتقدم

٨٦

نظير هذه الآية في سورة الانعام الآية ٩ ج ٣ ص ١٦٤.

وتسأل : ان جبريل ملك ، ومحمد بشر ، ومع هذا كان جبريل رسولا من الله الى محمد؟

الجواب : ان بين الاثنين تجانسا وتشابها من حيث ان كلا منهما رسول من عند الله .. ولا تجانس بين الملك والامة من وجه.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) الله يشهد لمحمد بما اظهر على يده من خوارق العادات ، والتاريخ يشهد له بما اسداه للانسانية من الخيرات ، ورسالته تشهد بانه رحمة للعالمين .. وما جهة من سيرة محمد الا وهي حجة كافية بالدلالة على صدقه وعظمته.

ومن يهدالله الآية ٩٧ ـ ١٠٠ :

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

٨٧

اللغة :

الخبو السكون. والقتر التضييق.

الاعراب :

من يهد ومن يضلل (من) اسم شرط لفظها خاص ومعناها عام ، والضمير في يهد ويضلل يعود الى من على اللفظ ، وضمير لهم ونحشرهم يعود اليها على المعنى. ومن الاولى مفعول يهد ، ومن الثانية مفعول يضلل. وعميا حال. والذي خلق السموات صفة لله. وقادر خبر. وأنتم فاعل محذوف يفسره الفعل الموجود ، والأصل لو تملكون ، فحذف تملك وانفصل الضمير وهو الواو فصار أنتم ، هذا ما قاله بعض المفسرين ، وليس بجيد لأن المعنى يكون على هذا لو تملكون. والأرجح ان يكون (أنتم) اسما لكان ، ثم حذفت وانفصل الضمير ، والتقدير لو كنتم تملكون. وإذا حرف جواب وجزاء. ومفعول أمسكتم محذوف أي لأمسكتم الأموال. وخشية مفعول من اجله.

المعنى :

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ). هذا تحديد للمهتدي الصالح بأنه من كان كذلك عند الله ، لا من يقول الناس عنه : انه من أهل الهداية والصلاح ، وكذا الضال ، وفي الحديث : الظاهر للناس ، والباطن لله ، وفي نهج البلاغة : «الغنى والفقر بعد العرض على الله» .. وليس لأهل الضلالة والفساد من ناصر ولا شفيع عند الله .. وتقدم نظيره في الآية ١٧٨ من الأعراف ج ٣ ص ٤٢٣. أما عقاب الضالين المضلين فقد أشار اليه سبحانه بقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً). هذا كناية عن أليم العذاب وشدته على من أنكر الحساب والعقاب ، حتى يعرف ما أنكر : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ

٨٨

تُكَذِّبُونَ) ـ ٢٠ السجدة (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) بالرغم من وضوحها على وقوع البعث ، جحدوا وأنكروه لا لشيء إلا لمجرد الاستبعاد :

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً). تقدم بالحرف الواحد مع التفسير في الآية ٤٩ من هذه السورة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً). المراد بأجل هنا اجل البعث والنشر ، وانه كائن لا محالة ، وقد أنكروه ، وهم يرون خلق السموات والأرض ، ويعترفون بان الله هو الذي خلقها وأبدعها وأتقنها بقدرته ، ولكنهم قالوا : لا يعيدها بعد الفناء لان ذلك صعب عسير .. فقال الله لهم : من قدر على إيجاد الشيء من لا شيء فهو على جمع اجزائه بعد تفرقها اقدر .. وتقدم هذا المعنى في العديد من الآيات ، انظر فقرة : الماديون والحياة بعد الموت ج ٤ ص ٣٧٩.

وتعال معي لنقرأ هذا الاحتجاج المفحم ، والإلزام الدامغ لمنكري البعث باروع أسلوب .. ثم قل : ويل للمكذبين :

(قالُوا إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)

قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ).

(فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ).

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ).

(قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي تخدعون. ـ المؤمنون ٨٢ ـ ٨٩».

وهذا شاهد عيان بأن عقيدة الإسلام تقوم على العلم ، وحرية العقل والرأي .. انظر ج ٣ ص ١٦١ فقرة لا دكتاتورية في الأرض ولا في السماء.

٨٩

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ). رحمة الله من حيث هي تعم الإدراك والصحة والأموال وجميع النعم ، ولكن المراد بها هنا المال بالخصوص بدليل قوله تعالى ، (لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) اي النفاد .. ولهذه الآية ٩٠ ، وهي (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً). وبيان الصلة ان الله سبحانه أمر نبيه ان يقول للمحترفين : طلبتم ان يزيد الله في أموالكم وثرائكم بتفجير الأرض أنهارا وعيونا ، وهو يعلم انكم لو ملكتم خزائن السموات والأرض التي لا نفاد لها لبقيتم على الشح والتقتير خوف النفاد .. وهذا يؤكد ما قلناه من ان المترفين لا يفكرون الا من خلال المال (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) من التقتير والتضييق. وعند تفسير الآية ٩ من هود ج ٤ ص ٢١٣ قلنا : ان القرآن لا يريد بمثل هذا الوصف التحديد لحقيقة الإنسان وطبيعته التي تشمل جميع الافراد ، وانما يذكر هذا الوصف تفسيرا لسلوك الإنسان في بعض مواقفه. فراجع.

آتنا موسى تسع آات ١٠١ ـ ١٠٤ :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

٩٠

اللغة :

مسحورا اسم مفعول لفظا واسم فاعل معنى اي ساحرا ، ويجوز ان يكون اسم مفعول لفظا ومعنى أي أعطيت علم السحر. ومثبورا هالكا. وبصائر دلائل يبصر بها الناس. والمراد بيستفزهم من الأرض يخرجهم منها. وجئنا بكم لفيفا اي جمعا من اخلاط شتى ، او ملتفين كما تلتف أغصان الشجر وينضم بعضها الى بعض.

الاعراب :

إذ جاءهم (إذ) ظرف بمعنى حين متعلق بآتينا. وهؤلاء اشارة الى الآيات التسع أي هذه الآيات. وبصائر حال من هؤلاء. والمصدر من ان يستفزهم مفعول أراد. وجميعا ، ولفيفا حال.

المعنى

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ). تقدم الكلام في العديد من الآيات عن موسى (ع) وقومه ومعجزاته ، وعن فرعون وملئه وطغيانه .. وقد تكون المناسبة هنا في الاشارة الى معجزات موسى ان الله سبحانه لما ذكر مقترحات المشركين على محمد (ص) عقب بالاشارة الى ما اقترحه فرعون على موسى ، وان مجيئها كان وبالا عليه .. ونفس الشيء كان يحصل لو استجاب الله الى مقترحات المشركين على رسول الله (ص) لأنهم يكفرون بها لو جاءتهم ، تماما كما كفر فرعون ، ويهلكون كما هلك .. فعدم الاستجابة ـ اذن ـ خير لهم وأصلح ، والله اعلم بما يصلح العباد ويفسدهم.

ولموسى (ص) آيات ومعجزات كثيرة ، منها ما كان لتيسير رسالته كحل العقدة من لسانه ، ومنها للإنعام والتفضيل على بني إسرائيل كإخراج الماء من الحجر ، وانزال المنّ والسلوى ، او تخويفهم كاظلال الجبل ، ومنها ليعتبر

٩١

فرعون وقومه ويؤمنوا ، او جزاء على عنادهم وعتوهم ، وهي الآيات التسع المشار اليها في الآية ، وأظهرها انقلاب العصا حية ، واليد البيضاء ، ثم إغراق الكافرين بالبحر ، أما الست الباقية فقد اشارت الى خمس منها هذه الآية : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ) ـ ١٣٣ الأعراف ج ٣ ص ١٨٥. والسادسة الطمس على الأموال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) الى قوله (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) ـ ٨٨ يونس ج ٤ ص ١٨٦».

(فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) الخطاب لمحمد (ص) ، والمراد ببني إسرائيل من آمن به منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، والغرض من السؤال والجواب ان يظهر اليهود وغير اليهود صدق الرسول الكريم في كل ما جاء به من عند الله (إِذْ جاءَهُمْ) الضمير في جاء يعود الى موسى ، وضمير (هم) يعود الى بني إسرائيل لان الله أرسل موسى (ع) لأمور ، منها ان يحرر بني إسرائيل من ظلم فرعون الذي كان يسومهم سوء العذاب .. وطلب موسى من فرعون ان يؤمن بالله ، ويرسل معه بني إسرائيل (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) اي ساحرا بدليل الآية ١٠٩ من الاعراف : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ). قالوا هذا بعد أن شاهدوا العصا تتحول الى ثعبان مبين ، واليد السمراء الى بيضاء من غير سوء.

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً). هؤلاء اشارة الى الآيات التسع ، ومعنى بصائر دلائل تبصّرك وتعرف بصدقي ونبوتي .. لما قال فرعون لموسى : أظنك ساحرا أجابه موسى انت تعلم علم اليقين صحة الآيات والمعجزات التي أتيت بها ، وانها دلائل من الله واضحة ، وبراهين ظاهرة تبصّرك انت وجميع الناس باني رسول من عند الله ، ولكنك تعاند وتكابر حرصا على عرشك ومنصبك .. وإذا ظننتني ساحرا يا فرعون فاني أظنك هالكا جزاء تكذيبك للحق الصريح ، ومن يعش ير .. وكل من عاند الحق واستثقل ان يقال له فهو من حزب فرعون وعلى ملته.

(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ). الضمير المستتر في أراد يعود الى فرعون ، وضمير الجمع في يستفزهم يعود الى موسى وقومه ، والمعنى ان فرعون أراد ان يخلي ارض مصر من بني إسرائيل بالقتل والأسر والتشريد ، فدارت عليه دائرة

٩٢

السوء كما تدور على كل طاغية (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً). أغرقهم الله بعد ان اعذر اليهم بحجج واضحة ، ودلائل ظاهرة ، فأبوا الا تماديا في الكفر والطغيان.

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ ـ اي بعد فرعون ـ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ). لقد اتسعت الأرض لبني إسرائيل بعد ان اتسع لهم الا من بهلاك فرعون .. وخيّرهم الله في ان يقيموا اين شاءوا من الأرض .. وكان المفروض ان يشكروا الله على هذه النعمة .. ولكنهم طغوا وبغوا ، فعبدوا العجل من دون الله ، وقالوا : يد الله مغلولة ، وهو الفقير ، وهم الأغنياء ، وقتلوا الأنبياء ، وأكلوا السحت والربا ، وحرفوا التوراة ، وحاولوا قتل السيد المسيح (ع) ، ورموا امه بالفجور .. الى غير ذلك من المفاسد التي سجلها الله في التوراة والإنجيل والقرآن ، وسجلها الناس في كتب التاريخ القديم والحديث .. وكفى بالصهيونية شاهدا على حقيقة هذه الفئة الباغية ؛ وانها شر ووبال على الانسانية كلها.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً). الخطاب لبني إسرائيل ، والآخرة يوم القيامة ، ولفيفا مجتمعين مختلفين ، والقصد هو الانذار والوعيد على ما سيكون من بني إسرائيل من اثارة الفتن والإفساد في الأرض .. هذا هو الظاهر من لفظ الآية. ولو جاز تفسير القرآن بالرأي لقلنا : ان كلمة لفيف تشير في الآية الى تجمع اليهود والصهاينة في ارض فلسطين من هنا وهناك ، وان الله سبحانه سيسلط عليهم اولي بأس شديد يسوءوا وجوههم ، وكان وعدا مفعولا .. والحق ما قلناه عند تفسير الآية ٤ وما بعدها من هذه السورة فراجع.

وبالحق انزلنا الآية ١٠٥ ـ ١١١ :

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ

٩٣

رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

اللغة :

فرقناه أي ما أنزلناه دفعة واحدة ، بل آية آية وسورة سورة ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي تمهل وتأن. ويخرون يسقطون ، والأذقان جمع ذقن.

الاعراب :

قرآنا مفعول لفعل محذوف أي وفرقناه قرآنا فرقناه ، وعليه تكون جملة فرقناه مفسرة لا محل لها من الاعراب. وعلى مكث متعلق بمحذوف حال أي لتقرأه على الناس متمهلا شيئا بعد شيء. واللام في للأذقان بمعنى على. وسجدا مصدر في موضع الحال ساجدين. وان كان (ان) مخففة ، واسمها ضمير الشأن محذوف أي انه. وأياما مؤلفة من كلمتين أولاهما أي وهي مفعول تدعوا وتدعوا مجزوم بها ، و (ما) الزائدة اعرابا.

المعنى :

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ). للمفسرين اقوال في بيان الفرق بين هاتين

٩٤

الجملتين ، وأرجحها ما قاله الطبرسي والرازي ، ويتلخص ـ مع شيء من التصرف بقصد التوضيح ـ بان المراد من قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) ان القرآن متضمن للحق ، والمراد من (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ان الله أراد من نزول القرآن أن يؤمن ويعمل به الناس ، وقد حصل ذلك ووقع ، حيث آمن به المسلمون ، وعمل به المخلصون منهم.

ونحن مع الرازي والطبرسي في تفسير الجملة الأولى ، أما الجملة الثانية فالذي نراه في تفسيرها ان كل ما كان عليه الناس قبل انزال القرآن ، وما يكونون عليه بعد انزاله فان القرآن يقرهم عليه إذا كان حقا وخيرا وصلاحا ، وبكلام آخر : ان الله سبحانه بعد ان قال في الجملة الأولى : نزل القرآن بالحق والخير والصلاح قال في الجملة الثانية : ويقر القرآن ايضا كل ما هو حق وخير وصلاح من أي كان ويكون تقدم على نزول القرآن أو تأخر عنه. وفي هذا المعنى قوله تعالى : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ـ ١٧ الرعد. وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ـ ١٨٥ البقرة. وقال الامام جعفر الصادق (ع) : كل ما فيه صلاح للناس بجهة من الجهات فهو جائز.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً). تبشر بالجنة من أطاع ، وتنذر بالنار من عصى ، ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ، ومن شاء فليكفر : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ـ ١١٧ الأنعام.

هل نزل القرآن نجوما؟.

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) لم ينزل القرآن على محمد (ص) جملة واحدة ، بل نزل نجوما يتابع أحيانا ، ويبطئ أحيانا اخرى حسب المصالح والوقائع التي تحدث آنا بعد آن ، أما قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فمعناه ان ابتداء النزول كان في هذه الليلة ، ثم استمر الى وفاة الرسول الأعظم (ص) .. وكان بين أول نزوله وآخره ثلاثة وعشرون عاما ، وقد بين سبحانه الغاية من ذلك بقوله : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ)

٩٥

أي على تمهل آية آية ، ليسهل فهمه وحفظه .. وهذه الآية دليل واضح على خطأ من قال: نزل القرآن على محمد جملة واحدة ، وبلغه هو على دفعات ، وقد رد سبحانه على من قال هذا بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) ـ ٣٢ الفرقان أي لنقوي قلبك على ادراك معاني القرآن واسراره .. هذا بالاضافة الى كثير من الآيات التي حكت قصة الحوادث المتجددة أو بينت أحكامها كقصة بدر وأحد والأحزاب وحنين ، وقصة نصارى نجران ، ويهود المدينة ، وكحادثة ازواج النبي ، والمرأة التي جادلته في زوجها الى غير ذلك.

وقال الشيخ المفيد : نزل القرآن على الأسباب الحادثة حالا بعد حال ، ويدل على ذلك ظاهر القرآن ، والتواتر من الأخبار ، واجماع العلماء.

(وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً). في كتب اللغة تنزل أي نزل على مهل ، وعليه تكون هذه الجملة تفسيرا وبيانا لما قبلها.

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً). الضمير في (به) للقرآن ، والخطاب في آمنوا او لا تؤمنوا للمشركين الذين قالوا لمحمد (ص) : لن نؤمن لك حتى تفجر الخ .. اقرأ الآية ٩٠ وما بعدها من هذه السورة ، والضمير في قبله للقرآن ، ويخرون للأذقان أي يسجدون على وجوههم ، وذكر السجود مرتين لأن الأول كان تعظيما لله ، والثاني لتأثير القرآن في نفوسهم ، أما الذين أوتوا العلم من قبل القرآن فالمراد بهم المنصفون من اهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد (ص) ، واصحاب الفطرة الصافية من غيرهم كالحنفاء الذين نشير الى بعضهم في الفقرة التالية :

الحنفاء

الحنفاء جمع الحنيف ، وهو الذي ترك الباطل ، واتبع الحق ، والحنيفية

٩٦

الطريقة المستقيمة ، وكان في الجاهلية افراد تمردوا على عصرهم وبيئتهم ، وأدركوا بفطرتهم الصافية أن لهذا الكون خالقا قديرا واحدا ، وان بعد الموت بعثا وحسابا وثوابا وعقابا ، وان عبادة الأصنام جهالة وضلالة ، ومن اشعار بعضهم كما في الجزء الثالث من الأغاني ، والأول من سيرة ابن هشام طبعة سنة ١٩٣٦.

أربا واحدا أم الف رب

أدين إذا تقسمت الأمور

ولكن اعبد الرحمن ربي

ليغفر ذنبي الرب الغفور

ترى الأبرار دارهم جنان

وللكفار حامية سعير

قال ابن هشام في الجزء الأول من السيرة النبوية : اجتمعت قريش في عيد لهم عند صنم كانوا يعظمونه ، فاعتزل منهم اربعة ، وهم ورقة بن نوفل ، وعبد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث ، وزيد بن عمرو ، وقال بعضهم لبعض : والله ما قومكم على شيء ، لقد أخطئوا دين أبيهم ابراهيم؟. ما حجر نطيف به ، لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع؟.

أما زيد بن عمرو فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية ، فارق دين قومه معتزلا الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ، ونهى عن قتل الموءودة ، وكان يقول لأبيها : لا تقتلها ، انا أكفيك مئونتها ، وكان يجاهر قومه بعيب ما هم عليه ، ويقول : انا اعبد رب ابراهيم .. يا قوم ما أصبح منكم احد على دين ابراهيم غيري .. اللهم لو اني اعلم اي الوجوه أحب اليك لعبدتك به ، ولكني لا اعلمه ، ثم يسجد على راحته.

ومضى زيد يسفه قريشا وما يعبدون ، ولما أيقنوا بخطره طلبوا من عمه الخطاب أبي عمر بن الخطاب ان يمنعه ويردعه ففعل ، ولكن زيدا ظل على دعوته ، فآذاه عمه واغرى به سفهاء قريش وشبابها ، من بينهم ابنه عمر ، وقال لهم : اطردوه ، ولا تتركوه يدخل مكة ، فخرج منها هائما في الأرض يطلب دين ابراهيم (ع) ، وما برح طريدا شريدا ينتقل من بلد الى بلد ، حتى اعترضته جماعة من لخم فقتلوه .. فابتهجت قريش لقتله ، اما صديقه ورقة ابن نوفل فذرف عليه الدموع ، ورثاه بأبيات ، منها :

٩٧

رشدت وأنعمت ابن عمرو وانما

تجنبت تنورا من النار حاميا

بدينك ربا ليس رب كمثله

وتركك أوثان الطواغي كما هيا

وقد تدرك الإنسان رحمة ربه

ولو كان تحت الأرض سبعين واديا

قتل زيد قبل ان يبعث رسول الله (ص) ، ولكن ابنه آمن بالرسول الأعظم (ص) ، وسأل هو وابن عمه عمر بن الخطاب الذي كان يؤذي عمه من قبل ، سألا رسول الله : أنستغفر لزيد؟. قال : نعم ، انه يبعث أمة واحدة.

وأما عبد الله بن جحش فبقي حتى بعثة الرسول (ص) ، واسلم وهاجر هو وزوجته ام حبيبة بنت أبي سفيان الى الحبشة ، ومات فيها بعد ان ارتد الى النصرانية .. وتزوج النبي (ص) بعده ام حبيبة.

وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم وتنصر ، وكان يقال له البطريق ، ومات بالشام ، سمه احد ملوك الغساسنة ، ولا عقب له.

أما ورقة فعاش في مكة كالرهبان ينهى قومه عن عبادة الأوثان ، وهو ابن عم خديجة زوجة الرسول (ص) ، وحين نزل الوحي على زوجها انطلقت به الى ابن عمها ورقة ، فقال له : يا ابن اخي ما ذا ترى؟. ولما أخبره رسول الله قال له ورقة : هذا هو الناموس الذي نزل على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ـ شاب ـ ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال الرسول (ص) : او مخرجي هم؟. قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وان يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

لقد نطق ورقة بوحي من فطرته الصافية ، فطرة الله التي فطر الناس عليها .. وكل انسان يرجع الى فطرته هذه يؤمن بمحمد (ص) وينصره نصرا مؤزرا إذ (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ٣٠ الروم لأن الأهواء تختم على فطرتهم وتنحرف بها عن طريقها القويم.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). كان للمشركين أصنام شتى ، سموها بأسماء ما انزل الله بها من سلطان ، وما كانت كلمة الرحمن من هذه الأسماء ، ولذا لما دعاهم الرسول الأعظم (ص) الى عبادة الرحمن قالوا : وما الرحمن : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ

٩٨

٦٠ الفرقان. اي ما هذا الوصف الذي لا اثر له عند آلهتنا؟. وقوله تعالى : (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) يصلح جوابا لاستنكارهم ، لان معناه ان الأسماء والألفاظ إن هي الا وسيلة للتعبير ، والعبرة بالمسمى ، فادعوا الله بما شئتم من أسمائه ، فكلها حسنة ، لأنها تعبر عن احسن المعاني ، وهي على مستوى واحد في الحسن (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ـ ١٨٠ الأعراف وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير هذه الآية ، فقرة هل اسماء الله توقيفية او قياسية ج ٣ ص ٤٢٥».

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً). لا تجهر بصلاتك اي بالقراءة في صلاتك ، والجهر رفع الصوت ، والمخافتة الإسرار ، وعن الامام جعفر الصادق (ع) انه قال في تفسير الآية : الجهر بها رفع الصوت ، والمخافتة ما لم تسمع أذنيك ، واقرأ قراءة بينهما.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) نحمد الله على عظيم إحسانه ، ونير برهانه ، وننزهه عن الولد لأنه غني عن كل شيء ، ولان الولد يشبه أباه ويرثه ، ولا شبيه لله ولا وارث ، وننزهه عن الشريك لأنه دليل العجز : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ـ ٤٤ فاطر. وكل قوي عنده ضعيف ، وكل عزيز لديه ذليل. وبالتالي فان الله اكبر شأنا ، وعلى مكانا من ان يصف عظمته الواصفون ، ويؤدي حقه الشاكرون.

٩٩

سورة الكهف

مكية الا آية واحدة كما في مجمع البيان ، وعدد آياتها ١١١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

انزل على عبده الكتاب الآية ١ ـ ٨ :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

اللغة :

العوج بفتح العين يختص بالأعيان ، وبكسرها بالمعاني ، تقول : في ساقه عوج

١٠٠