التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

اللغة :

لأحتنكنّ أي لأقودنهم مأخوذ من تحنيك الدابة إذا شد على حنكها الأسفل بحبل يقودها به. وموفورا تاما. والاستفزاز الاستخفاف. واجلب من الجلبة وهي الصياح.

الاعراب :

طينا حال ، وقيل : تمييز. وأ رأيتك الكاف حرف خطاب لا محل له من الاعراب مثل الكاف في ذاك ، وجاءت لتأكيد تاء المخاطب ، ومعنى أرأيتك عرّفني. وهذا مفعول لأرأيتك. والذي نعت لهذا أو عطف بيان. وجزاء منصوب على المصدر والعامل فيه جزاؤكم أو تجزون محذوفة. وبربك الباء زائدة اعرابا ، وربك فاعل كفى ، ووكيلا تمييز.

لمعنى :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) تقدم مع التفسير في الآية ٣٤ من البقرة ج ١ ص ٨٢ ، والآية ١١ من الاعراف ج ٣ ص ٣٠٧.

٦١

تقديم الأفضل على المفضول :

(قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) إبليس يحتجّ بصلف ووقاحة ، ويقول للعلي الأعلى : من هو هذا الذي فضلته علي؟. وبأي شيء جعلته أكرم وأكمل؟. بل العكس هو الصحيح (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ـ ١٢ الأعراف .. برر الخبيث منطقه بأمر أرسله إرسال المسلّمات ، وهو أنه أفضل وأكمل ، وإذا كان إبليس أفضل فكيف يسجد للمفضول أي لمن هو دونه .. أليس معنى الأمر بالسجود لآدم ان المفضول مقدم عند الله على الأفضل ، وغير الأكمل على الأكمل؟.

وقد غالط إبليس في منطقه هذا لأنه ليس أفضل من آدم ، بل العكس هو الصحيح ، بل لا فضل له ولا فيه على الإطلاق ، وعليه فان الله لم يقدم المفضول كما زعم إبليس .. وأي عقل يجيز على الله أن يقرب الأبعد ، ويبعد الأقرب؟. وقد خفيت هذه الحقيقة على المعتزلة والأشاعرة ، حيث قالوا : يجوز تقديم المفضول على الأفضل (المواقف ج ٨ ص ٣٧٣).

وقال الأشاعرة : ان العقل يجيز على الله أن يعاقب المطيع ، ويثيب العاصي لأنه لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء (المواقف ج ٨ ص ١٩٥).

أما الشيعة الامامية فقالوا : ان العقل لا يجيز على الله ان يعاقب المحسن ، ويجيز عليه العفو عن المسيء ، تماما كما يجوز لصاحب الحق أن يعفو عنه كلا أو بعضا. وقالوا ايضا : لا يجيز العقل تقديم المفضول لأنه في رتبة ادنى ، والأفضل في رتبة أعلى بحسب الترتيب الطبيعي ، فجعل الأعلى أدنى ، والأدنى أعلى مخالف لمنطق العقل والطبيعة.

(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً). إبليس يهدد بالانتقام لنفسه من ذرية آدم لا لشيء إلا لأن الله كرمه عليه ، ينتقم منهم بأن يقودهم معه الى معصية الله ، كما تقاد الدابة بحنكها إلا القليل منهم ، وهم من آمن وأخلص .. ثم يطلب إبليس من الله أن يمهله ويمد في حياته ليغوي ويفسد ، فاستجاب الله لطلبه و (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً). لما هدد إبليس باغواء الآدميين هدده الله ومن اتبعه من الغاوين ، وقال له : افعل

٦٢

ما شئت وليتبعك في الضلالة والغواية من أراد ، فاني لا أكره أحدا على طاعة ولا معصية .. وأزود الجميع بالقدرة والعقل والارادة ، وأبين لهم طريق الخير وطريق الشر ، أنهي عن هذا وآمر بذاك ، فمن امتثل وأطاع فان الجنة هي المأوى ، ومن تمرد وعصى فان جهنم مثوى للعاصين يجزون فيها جزاء تاما ، لا نقصان فيه عما يستحقون.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ). استفزز استخف واستنهض ، والجلبة الصياح .. ولا جنود حقيقة لإبليس ، بعضهم راكب ، وبعضهم راجل ، وانما هذا كناية عن المفسدين وأرباب الأهواء ، والخائنين والعملاء. وفي نهج البلاغة ، «احذروا ان يستفزكم ـ الشيطان ـ بندائه وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد وأغرق لكم بالنزع الشديد». وقال الشيخ محمد عبده معلقا على ذلك بقوله : «يستفزكم يستنهضكم لما يريد ، فان تباطأتم عليه اجلب عليكم بخيله ورجله ، والمراد بهم أعوان السوء». وتقدم نظير ذلك في سورة الاعراف ، الآية ٨٤ وما بعدها ج ٣ ص ٣٠٨. واجبنا هناك عن ثلاثة تساؤلات ، وهي : هل خاطب الله إبليس مباشرة او بالواسطة؟. وهل الغواية من الله أو من إبليس؟. ولما ذا أمهله الله وهو يعلم أن في إمهاله فسادا وإفسادا؟. فراجع.

(وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ). المشاركة في الأموال كناية عن كل مال يؤخذ من غير حق ، كالسلب والنهب والربا والغش وثمن الخيانة والعمالة ، أو ينفق في غير وجهه ، كالاسراف وفي الخمر والميسر والمظاهر الفارغة ، أما المشاركة في الأولاد فهي كناية عن الزنا وقتل الأولاد خوف الفقر والعار ، وتربيتهم تربية فاسدة (وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً). ووعد الغرور هو إلباس الباطل ثوب الحق ، والخطأ لباس الصواب ، مثل أن يوسوس الشيطان لمن يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويقول له : لا تخف من المعصية فان الله كريم وغفار .. وما زلت في مقتبل العمر ، وغدا تستغفر وتتوب .. وفي بعض الأخبار أن إبليس وسوس لعابد من بني إسرائيل أن يذنب ويتوب ليقوى على العبادة.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً). تقدم مع التفسير في سورة الحجر الآية ٤٢.

٦٣

رجى لكم الفلك الآية ٦٦ ـ ٦٩ :

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

اللغة :

يزجي يجري. قال تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي) ـ ١٦٤ البقرة. وضل هنا بمعنى غاب وذهب. ويخسف يغيّب ، والمراد انه تعالى قادر على ادخالهم في الأرض احياء بحيث يغرقون بها تماما كما يغرقون في الماء. والحاصب من حصبه بالحجارة أي رماه بها. والقاصف الكاسر. والتبيع المطالب بالدم ونحوه.

الاعراب :

ربكم مبتدأ والذي خبر. والمراد باياه الله جل وعلا ، ومحله النصب على الاستثناء المنقطع أي ذهب كل معبود إلا الله. والمصدر من أن يخسف مفعول أمنتم. وجانب مفعول يخسف. وتارة ظرف متعلق بيعيدكم أي وقتا غير الوقت الأول.

٦٤

المعنى :

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً). السفينة تجري على وجه البحر بالأسباب الطبيعية ، ما في ذلك ريب ، ولكن هذه الأسباب تنتهي اليه تعالى لأنه خالق الكون بما فيه ، ومن هنا صح أن يسند جريان السفينة اليه تعالى ، والحكمة في ذلك أن يكون الإنسان دائما على ذكر بأن الله هو الفاعل المتصرف في الكون ، وليس الطبيعة. أما الغرض من الفلك فهو تسهيل المواصلات (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَ ـ أي ذهب ـ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً). تقدم نظيره مع التفسير في سورة يونس ، الآية ٢٢ وما بعدها ج ٤ ص ١٤٧.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً). الناس كلهم في قبضته تعالى أينما كانوا ، حتى ولو تحصنوا في بروج مشيدة ، فان كانوا في البحر اهلكهم بالغرق ان شاء ، أو في البر خسف بهم الأرض أو أمطر عليهم حجارة من السماء ، وان كانوا في قلعة محصنة هدمها على رؤوسهم .. ولا يأمن العواقب إلا جهول.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً). ضمير فيه يعود الى البحر ، والقاصف من الريح هو الهواء الذي يكسر السفينة ويحطمها ، والمراد بالتبيع المطالب بالدم ونحوه ، والمعنى لنفترض انه لا وسيلة للهلاك إلا البحر ، فان الله سبحانه قادر على أن يعيدكم اليه ، ويغرقكم فيه بريح عاصفة قاصفة ، ولا أحد يتبعه ويطالبه بما يفعل بكم.

ويتلخص معنى الآيات أن الجاهل ان خاف دعا الله مضطرا ، وان أمن أعرض عنه مغترا ، مع أن الله سبحانه قادر على نفعه وضره في شتى أحواله ، أما المؤمن العاقل فيتعظ بالضراء والسراء معا : يخافه في هذه ، ويرجو عونه في تلك.

كرمنا بني آدم الآية ٧٠ ـ ٧٢

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ

٦٥

الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

اللغة :

بإمامهم أي بمن اتبعوه وائتموا به. وفتيلا أي لا ينقصون شيئا ، والفتيل ما كان في شق النواة ، والنقير النقطة في ظهر النواة ، والقطمير القشرة عليها. والمراد بالأعمى أعمى البصيرة.

الاعراب :

يوم متعلق بفعل محذوف دل عليه قوله تعالى لا يظلمون اي لا يظلمون يوم ندعو كل الناس ، أو متعلق بأذكر محذوفة. وفتيلا قائم مقام المفعول المطلق أي ظلما مقدار فتيل. وسبيلا تمييز مثل أقبح فعلا.

بماذا كرّم الله بني آدم؟

وقبل أن نجيب عن هذا السؤال نبين معاني ألفاظ الآية :

أ ـ (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ). ان الله سبحانه كرّم ابن آدم بما زوده به من مؤهلات تجعله محترما مكرما. وسنذكر طرفا من هذه المؤهلات بعد تفسير ألفاظ الآية.

ب ـ (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). هذا الحمل بعض ما كرم الله به بني آدم ، ومن الواضح أن تيسير المواصلات من دعائم الحياة الانسانية.

٦٦

ج ـ (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ). وكل ما يجلب للإنسان نفعا بجهة من الجهات ، أو يدفع عنه ضرا كذلك فهو طيب وخير وحسن ، ماديا كان أو معنويا.

د ـ (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً). قال كثير من المفسرين : ان المراد بكثير في الآية الجميع ، ورتبوا على ذلك تفضيل الإنسان على الملائكة ، واستغرقت هذه المسألة الصفحات الطوال من التفاسير ، مع العلم بأنه لا أثر عملي من اثارتها وتحقيقها إلا تكثير الكلام.

والصحيح أن الآية بعيدة كل البعد عن التفضيل بين الملائكة والإنسان ، وان المراد بكلمة (كثير) المعنى الظاهر منها ، إذ لا موجب لتأويلها والتصرف بدلالتها. بل العلم يحتم بقاءها على ظاهرها لأن الكشوف العلمية قد أبطلت النظرية القائلة : ان الأرض هي مركز الكون ، والإنسان هو سيد الكون بكامله ، وأكدت هذه الكشوف ضآلة الإنسان بالنسبة الى الكون من حيث الضخامة وكثير غيرها من الصفات ، وهذه الكشوف يقرها ويعترف بها القرآن ، فلقد جاء في الآية ٥٧ من غافر قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بأن هذا الكوكب الأرضي الذي يعيشون عليه إن هو إلا واحد من ملايين ملايين الكواكب التي لا يعرف العلم الحديث عددها على الرغم من انه اكتشف ابعادا لا نهاية لها .. هذا ، الى أن كثيرا من العلماء يقولون : ان هناك كواكب تسكنها كائنات عاقلة ربما أعقل وأرقى من الإنسان ..

وبالتالي فان الإنسان سيد كريم ، ما في ذلك ريب ، ولكنه ليس سيد المخلوقات كلها ، بل واحدا من السادات .. ولا شيء أدل على ذلك من جهل الإنسان بأكثر الكائنات علاوة عن ضعفه وعجزه عن التصرف فيها ، بل هو جاهل بأكثر الكائنات الأرضية زيادة على جهله بالكائنات العلوية التي تتكون من ملايين المجرات .. وبديهة أن أول شرط للسيد قدرته على التصرف في المسود .. وبعد أن شرحنا ألفاظ الآية الكريمة نشير فيما يلي الى طرف من الخصائص التي كرّم الله بها بني آدم :

١ ـ خلق الله سبحانه الإنسان ، فأحسن خلقه وصورته ، قال تعالى :

٦٧

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ـ ٦٤ غافر. وقال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ـ ٤ التين.

٢ ـ العقل ، ولولاه لم يكن الإنسان شيئا مذكورا ، بل لو لا العقل ما عرف الخالق .. فبه نعرف عظمة الله ، وعظمة الكون ، وعظمة العقل ايضا .. قال أحد العقلاء : «إذا كان في الكون نجوم تلمع فان في العقل نجوما تلمع وتبهر ، وإذا كانت الأكوان المحيطة بنا أجساما مشتعلة مترابطة بقوانين دقيقة فان العقل أعظم وأروع ، وإذا كان علماء الفلك يرون في دقة الكون وعظمته دليلا على عظمة الخالق فان تكوين الإنسان اكبر دليل على عظمة الله ، وإذا كان النظر الى السماء يجعل الإنسان يشعر بضالته فان تأمل الإنسان في نفسه يجعله يشعر بعبقريته ، وبعظمة الذي خلقه ، وخلق الأكوان كلها».

فالكون عظيم ، والعقل عظيم .. والكل لا شيء أمام عظمة الحقيقة الكبرى .. والطريق الوحيد لمعرفة هذه العظمة ، عظمة الله والكون والإنسان هو العقل .. (ولا تنس أن العقل ليس وقفا على الإنسان وحده).

٣ ـ الإنسان مستودع حافل بالغرائز والاسرار : علم وجهل. دين وكفر. حب وبغض. حلم وغضب. خوف وجرأة. بخل وكرم. تواضع وعظمة. أمانة وخيانة. ثبات وتقلب .. الى ما لا نهاية .. ولست أدري هل بالغ من قال : «ليس الإنسان كائنا واحدا ، وانما هو ملايين الكائنات العاقلة والمجنونة ، والمتحضرة والمتوحشة».

٤ ـ يتطلع الإنسان باستمرار الى حياة أفضل ، حتى ولو كان في حياة فاضلة ، وفي الحديث : «لو كان للإنسان جبل من ذهب وجبل من فضة لتمنى لهما ثالثا». وإذا كان هذا مثلا لطمع الإنسان فانه يصلح ايضا مثلا لطموحه الى أعلى.

٥ ـ للإنسان شريعة وقيم ، عليه أن يخضع لها ، ويعمل بها ، وعلى أساسها يسأل ويحاسب ، ويكون شريفا أو وضيعا.

٦ ـ يتأثر الإنسان بمن مضى ، ويؤثر فيمن يأتي ، ويتفاعل مع أهل عصره ، يؤثر بهم ، ويتأثرون به .. ومن هنا كان له تاريخ وتراث وآثار ، دون كثير من الكائنات.

٦٨

٧ ـ للإنسان حياة اخرى هي ساحة الحكم والجزاء على ما قدمه في حياته الأولى .. الى غير ذلك من النعم التي أشار اليها سبحانه بقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) ـ ٣٤ ابراهيم.

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ). الامام من يؤتم به ، ويؤتمر بأمره وحيا كان أو انسان أو عقلا أو هوى ، وفي الحديث : «يدعى الناس يوم القيامة بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيّهم». والمراد بالكتاب في الآية كتاب الأعمال ، وأصحاب اليمين هم أهل الطاعات والحسنات ، وأصحاب الشمال هم أهل المعاصي والسيئات ، والمعنى أن المنادي ينادي يوم القيامة : اين اتباع الأنبياء والمصلحين؟ أين العاملون بوحي العقل والدين؟. فيأتون ويأخذون كتاب الحسنات وثوابها بأيمانهم فرحين مستبشرين ، ينادي المنادي وايضا : أين أتباع الظلمة الطغاة وأعوانهم؟ أين الخائنون والمفسدون؟. فيأتون ويأخذون كتاب السيئات وعقابها بشمائلهم أذلاء خاسئين (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً). الفتيل تعبير عن الشيء الحقير التافه ، والمعنى أن الله يجزي كلا بعمله ، لا ينقص من ثواب من أحسن ، ولا يزيد في عقاب من أساء.

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) هذه اشارة الى الدنيا ، والأعمى فيها عند الله سبحانه هو الذي يتخبط في الجهالة والضلالة ، وأبلغ وصف له ما قاله الامام علي (ع) : «جائر عن القصد مشغوف بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، وضال عن هدى من كان قبله ، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته». ويتلخص معنى الآية بأن من ساء عمله في هذه الحياة ساء مصيره في الآخرة. وتدل هذه الآية دلالة واضحة على أن كل ثواب أو عقاب في الآخرة يرتبط ارتباطا كليا ووثيقا بالعمل في الحياة الدنيا ، ومن هنا قيل : الدنيا مزرعة الآخرة ، وكفى دليلا على ذلك قول الرسول الأعظم : «يحشر الناس على نياتهم». انظر تفسير الآية ١٤٢ من آل عمران ج ٢ ص ١٦٥.

٦٩

هل خدع النب عن دنه الآية ٧٣ ـ ٧٧ :

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

اللغة :

كادوا قربوا. ليفتنونك ليصرفونك. لتفتري لتخدع. لا يلبثون لا يبقون. وتحويلا تبديلا.

الاعراب :

ان مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف أي انه ، وجملة كادوا خبر ان ، وجملة يفتنونك خبر كاد ، واللام في ليفتنونك هي اللام الفارقة بين ان المخففة وان النافية. وإذا حرف جواب وجزاء. واللام في لاتخذوك واقعة في جواب قسم محذوف أي والله إذا لاتخذوك. والمصدر من أن ثبتناك مبتدأ وخبره محذوف أي لو لا تثبيتنا إياك كائن أو حاصل. وجواب لو لا لقد كدت. وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الركون. ولأذقناك متضمن معنى عذبناك ، وضعف مفعول مطلق لأنه مضاف الى كلمة عذاب محذوفة ، أي لعذبناك ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات. وليخرجوك منصوب بأن بعد اللام ، ولم

٧٠

ينصب لا يلبثون بالعطف على ليخرجوك لوجود إذا. وخلافك ظرف منصوب بلا يلبثون لأنها بمعنى بعدك أو بعد إخراجك. وقليلا صفة لمحذوف أي إلا زمنا قليلا. وسنة مفعول مطلق لفعل محذوف أي سنّ الله سنة.

المعنى :

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً). ضمير كادوا ويفتنونك يعود الى المشركين ، فلقد حاولوا أن يساوموا رسول الله (ص) في أن يستجيبوا له ، ويتخذوه وليا وصدّيقا لبعض ما يريدون ... من ذلك أن يتمسح بآلهتهم ، كما في بعض الروايات ، أو يترك التنديد بها ـ على الأقل ـ ولكن النبي لم يستجب لطلب المشركين لأنه معصوم ، والمعصوم لا يساوم على دينه ورسالته.

وتسأل : ان قوله تعالى : (كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) يدل على انه همّ وأوشك أن يستجيب لمساومتهم؟.

الجواب : ان هذه الآية تتصل اتصالا وثيقا بالآية التي تليها بلا فاصل ، وهي قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) ولو لا حرف امتناع تدخل على جملتين ، وتربط امتناع الجملة الثانية بوجود الأولى ، والجملة الممتنعة هي لقد كدت ، والجملة المانعة هي ثبتناك أي عصمناك ، وعليه يكون المعنى انك يا محمد لو لا عنايتنا بك بالعصمة عن الذنب لأوشكت أن تركن الى المشركين ، وتستجيب لهم ، فالعصمة هي التي منعتك عن الاستجابة .. وهذا تماما كقول القائل : لو لا فلان لهلكت. وتقدم نظيره في ج ٤ ص ٣٠٣ عند تفسير الآية ٢٤ من سورة يوسف : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) .. هذا الى ان التفكير بالفعل شيء ، ومباشرته شيء آخر ، وقد تواتر عن النبي انه قال : «وضع عن امتي ما حدثت به نفسها ما لم تفعل أو تتكلم» أي ان مجرد حديث النفس لا اثر له ، وفي رواية ان المشركين حين عرضوا على النبي ما عرضوا سكت عن جوابهم.

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ). ضعف الشيء ما زاد عليه

٧١

بمقداره ، والمعنى لو ركنت الى المشركين يا محمد لعذبناك بمثلي عذاب غيرك في الدنيا والآخرة لو فعل ذلك ، لأن عقوبة العظماء تكون على مقدار عظمتهم ومكانتهم ... هذا مجرد فرض ، وفرض المحال ليس بمحال (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) يدفع عنك العذاب. وفي نهج البلاغة : «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، يدور فيها كما تدور الرحى ، ثم يربط في قعرها».

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً). لما عجز المشركون عن استدراج النبي (ص) الى المساومة حاولوا أن يستخفوه ويزعجوه بكل وسيلة لكي يخرج من مكة ، ولو أخرجوه لأهلكهم الله بعد خروجه بزمن قليل.

وتسأل : من المعلوم ان المشركين اتفقوا على قتل النبي حتى اضطر الى الخروج من مكة خائفا يترقب ... ذكرنا ذلك في ج ٣ ص ٤٧٢.

الجواب : المراد ان المشركين لو اخرجوا النبي عنوة وقسرا بحيث يصبح شريدا طريدا لا يدري أين يتجه لعجل الله في هلاكهم .. ولكن النبي حسين خرج من مكة انما خرج منها بأمر الله الى قوم يفدونه بالأنفس والمال والعيال.

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً). لقد سبق في حكم الله وقضائه ان أي قوم يخرجون نبيهم من دياره قسرا وعنوة أن يعجل في هلاكهم ... وهذي هي سنته في خلقه لا تتغير ولا تتبدل ، بل تطرّد في كل زمان ومكان.

أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية ٧٨ ـ ٨١ :

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي

٧٢

مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

اللغة :

دلوك الشمس زوالها. وغسق الليل ظلمته. وقرآن الفجر صلاة الصبح. والهجود النوم ، والتهجد ترك النوم والسهر للصلاة لأن صيغة التفعّل تأتي للترك مثل التأثم ترك الإثم. والنافلة الزيادة. والزهوق المضمحل.

الاعراب :

اللام في لدلوك لام التعليل أي بسبب زوال الشمس. أو بمعنى عند مثل كتبته لخمس خلون منه.

وقرآن الفجر معطوف على أقم الصلاة اي وأقم قرآن الفجر. وتهجد به نافلة الضمير في به ، يعود الى القرآن ، ويجوز ان تكون تهجد بمعنى صلّ ، وعليه تكون نافلة مفعولا به ، ويجوز ان تكون بمعنى تنفل ، وعليه تكون نافلة مفعولا مطلقا ، ويجوز أن تكون نافلة حالا بمعنى «متنفلا». وعسى تامة ، والمصدر من ان يبعثك فاعل عسى. ومقاما حال على حذف مضاف اي ذا مقام ، وقال صاحب البحر المحيط : «الظاهر انه معمول ليبعثك لأنه مصدر من غير لفظ الفعل لأن يبعثك بمعنى يقيمك». ومدخل مصدر بمعنى الإدخال ، وكذا مخرج بمعنى الإخراج ، وكل منهما مفعول مطلق.

المعنى :

الآية الأولى والثانية هما من آيات الأحكام ، حيث نزلتا لبيان أوقات الصلاة ، وللفقهاء في ذلك اقوال نشير الى مجملها فيما يلي :

٧٣

١ ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ). اللام للتعليل أي بسبب دلوك الشمس ، او بمعنى عند ، مثل كتبته لخمس خلون من شهر كذا.

واختلفوا في المراد من الدلوك ، قيل : هو غروب الشمس ، وقيل : بل زوالها عن كبد السماء ، وهو قول الأكثر ، أما غسق الليل فهو سواده وظلمته ، وعن الامام جعفر الصادق (ع) انه انتصاف الليل ، وفي تفاسير السنة والشيعة ان هذه الآية تشمل الصلوات الخمس : الظهر والعصر ، ويدخلان في دلوك الشمس ، والمغرب والعشاء ، ويدخلان في غسق الليل ، اما صلاة الصبح فهي قرآن الفجر كما يأتي. قال الطبرسي ـ من الشيعة ـ في مجمع البيان : «هذه الآية جامعة للصلوات الخمس فصلاتا دلوك الشمس هما الظهر والعصر ، وصلاتا غسق الليل هما المغرب والعشاء الآخرة ، والمراد بقرآن الفجر ، صلاة الفجر فهذه خمس صلوات». وقال الرازي ـ من السنة ـ (أَقِمِ الصَّلاةَ) أي أدمها من وقت زوال الشمس الى غسق الليل ، فتدخل الظهر والعصر والمغرب والعشاء ـ ثم قال ـ اجمعوا على ان المراد من قرآن الفجر صلاة الصبح».

وتجدر الاشارة الى أن الفقهاء يبدءون في كتبهم بالكلام عن صلاة الظهر تبعا لقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) حيث بدأ سبحانه بوقتها .. بالاضافة الى ما جاء في الروايات من ان الظهر أول ما فرض من الصلاة في الإسلام ثم غيرها على الترتيب ، وكان ذلك بمكة ليلة الاسراء قبل الهجرة بسنة.

واتفقت المذاهب الاسلامية على ان الصلاة لا تجوز قبل دخول وقتها ، وعلى ان الشمس إذا زالت دخل وقت الظهر ، ولكن اصحاب المذاهب اختلفوا في مقدار هذا الوقت ، والى متى يمتد؟.

قال الامامية : تختص صلاة الظهر من عقب الزوال بمقدار أدائها ، وتختص صلاة العصر من آخر النهار بمقدار أدائها ، وما بين الأول والأخير مشترك بين الصلاتين. وظاهر الآية معهم لأن الله قال : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ولم يفصّل كما في المذاهب الاخرى.

وقال غيرهم : يبتدئ وقت الظهر من الزوال الى أن يصير ظل كل شيء مثله ، فإذا زاد عن ذلك ذهب وقت الظهر ، ودخل وقت العصر .. والتفصيل في كتابنا : الفقه على المذاهب الخمسة.

٢ ـ (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً). اتفقوا على أن المراد

٧٤

بقرآن الفجر ما يقرأ في صلاة الفجر أي الصبح ، وايضا اتفقوا على أن وقتها يبتدئ من طلوع الفجر الصادق الى طلوع الشمس إلا المالكية فإنهم قالوا : للصبح وقتان : اختياري ، وهو من طلوع الفجر الى تعارف الوجوه ، واضطراري ، وهو من تعارف الوجوه الى طلوع الشمس .. ومن الطريف قول بعض الصوفية : ان المراد بالفجر انفجار القلب.

واجمع المفسرون بشهادة الطبرسي والرازي على أن المراد بقوله تعالى : (مشهودا) ان ملائكة الليل والنهار يجتمعون ليشهدوا صلاة الصبح استنادا الى رواية رواها البخاري عن أبي هريرة في ج ٦ ، فصل سورة بني إسرائيل .. ونحن في شك من هذه الرواية ، ونفسر (مشهودا) بحضور الحواس لأن الإنسان عند الصباح يكون حاضر الحواس بعد أن أخذت قسطا من الراحة بالنوم ، وبقيت أمدا بلا عمل ، ولذا قيل : ما انقض النوم لعزائم اليوم.

٣ ـ (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ). تهجد اسهر ، والخطاب خاص بمحمد (ص) وحده ، وضمير به للقرآن ، والنافلة الزيادة ، ولك اللام للاختصاص ، والمعنى أن الله قد فرض عليك يا محمد صلاة اخرى تصليها في الليل زيادة على الصلوات الخمس المفروضة عليك وعلى غيرك. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ـ أول المزمل. وقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) ـ ٢٦ الدهر .. وتسمى هذه الصلاة صلاة الليل ، ووقتها من نصف الليل الى الفجر ، وهي واجبة على النبي (ص) كما قلنا ، ومستحبة لغيره. (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً). عسى تدل على الرجاء في كلام المخلوق ، وعلى الوجوب والحتم في كلام الخالق ، والخطاب في يبعثك لمحمد (ص) .. ولا شيء فوق محمد ، ومقام محمد ، وآل محمد إلا الذي ليس كمثله شيء ، وفي بعض الأحاديث ان النبي (ص) فسر المقام المحمود في هذه الآية بالمقام الذي يشفع فيه غدا لأمته.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ). امر الله نبيه الكريم أن يدعو بهذا الدعاء .. وصدق المدخل والمخرج كناية عن الحق والإخلاص في العقيدة والقصد والأفعال وجميع الحركات والسكنات ، وما من شك أن من تسلح بالحق ، وأخلص لله وحده ثبته الله بالقول الثابت ، وأمده بالحجة الدامغة ،

٧٥

ومكن له في القلوب البريئة الطاهرة (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) وأي نصر وسلطان أعظم من ذكر النبي العظيم مقرونا باسم الله خمس مرات في الأذان وفي كل صلاة واجبة ومستحبة؟. وآية قوة وقداسة أعظم من هذه القوة والقداسة التي منحها الله لكلام محمد ، حيث قال عز من قائل : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ـ ٧ الحشر».

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). الحق هو رسالة محمد عقيدة وشريعة ، وكل ما عداها باطل وهباء في الواقع وعند الله ، حتى ولو آمن به اهل الأرض جميعا. وقال المفسرون : المراد بالحق هنا الإسلام ، وبالباطل الشرك ، وان النبي (ص) لما فتح مكة دخل الكعبة ، وكان فيها ٣٦٠ صنما ، فجعل يطعنها ويقول : جاء الحق ، وزهق الباطل ، ان الباطل كان زهوقا.

قوة الحق وقوة الباطل

وتسأل : ان ما نراه ونشاهده في أحيان كثيرة أن اهل الباطل هم الغالبون ، واهل الحق مغلوبون ، ويتنافى هذا مع ظاهر قوله تعالى : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)؟.

الجواب : ان للحق قوة ذاتية لا تنفك عنه بحال ، وهي تفعل فعلها ، وتؤثر أثرها في القلوب النقية الزاكية .. وكثيرا ما يبلغ هذا الأثر من النفوس الطيبة حدا لا تقوى على مقاومته سيوف الجلادين ، ومشانق الطغاة الجائرين .. وقد حدثنا التاريخ عن شهداء العقيدة : كيف اقدموا على الاستشهاد بوجوه باسمة ، ونفوس راضية ، بل حصل ذلك في عصرنا بفيتنام وكوريا وفلسطين وغيرها ، اجل ان هؤلاء قليلون شأن كل كريم وثمين ، ولو كانوا الأكثر عددا أو كثيرين ـ نسبيا ـ لامتلأت الأرض قسطا وعدلا ، وما كان للظلم والجور فيها عين ولا اثر ، ولسنا نشك ان الانسانية تسير في هذا الطريق وان طال ، ما دام الصراع قائما بين المحقين والمعتدين.

أما الباطل فلا حول له ولا طول ، وانما يستمد قوته وبقاءه من الرشاوات

٧٦

وشراء الذمم ، ومن الظلم والطغيان بالتقتيل والتشريد ، ومن المؤامرات والدسائس ، وهذه تزول مع الأيام ، وتتبدل مع الظروف ، أما قوة الحق فهي هي في شتى الأحوال لأنها تستمد من ذات الحق ، من طبيعته وهويته .. ومن أجل هذا نقول مرة ثانية : انّا نؤمن ايمانا لا يشوبه ريب بأن العقبى والكلمة العليا للحق وحده.

القرآن شفاء ورحمة الآية ٨٢ ـ ٨٥ :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

اللغة :

نأى بعد ، وجانب الإنسان احد شقيه اليمين أو اليسار ، ونأى بجانبه كناية عن استكباره وتعاظمه. وشاكلة الإنسان طريقته ومذهبه ، ولكن المراد بها هنا النية ، ويأتي البيان.

المعنى :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). القرآن رحمة لمن طلب

٧٧

الرحمة ، وأرادها لنفسه ، وشفاء من الكفر والإلحاد ، ومن الجهل والفساد ، ومن كل رذيلة لمن أخلص لله والحق. قال الامام علي (ع) في وصف القرآن : «انه الحبل المتين ، والنور المبين ، والشفاء النافع ، والري الناقع ، والعصمة للمتمسك ، والنجاة للمتعلق. ومن خالف حكما من احكام القرآن فما هو منه في شيء بل هو من الظالمين الخاسرين (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً). القرآن رحمة للمؤمنين ، ونقمة على الظالمين والمفسدين لأنهم كلما عصوا حكما من أحكامه ازدادوا اثما وعذابا.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً). ويتلخص معنى هذه الآية بقول الامام علي (ع) في وصف الإنسان : «ان استغنى بطر وفتن ، وان افتقر قنط ووهن». وتقدم نظيره في سورة يونس الآية ١٢ ج ٤ ص ١٣٩ والآية ٩ من هود ج ٤ ص ٢١٢.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً). قال المفسرون : «الشاكلة الطريقة والمذهب ، ومعنى الآية أن كلا من المؤمن والكافر يعمل على طريقته وخليقته». أما نحن فنشرح الآية ـ كما فهمناها ـ بما يلي :

١ ـ ان كلمة كل تدل على استغراق الأفراد ، فأية قضية تعلق الحكم فيها بكلمة «كل» فإنها تنحل الى قضايا بعدد ما شملت من الأفراد ـ مثلا ـ إذا قلت : كل انسان يفهم هذا فكأنك قلت : زيد يفهمه وبكر وهند الخ. أما إذا قلت : جميع الناس يفهمونه فالقضية واحدة ، والحكم واحد تعلق بالمجموع ، لا بكل فرد فرد ، وعليه يكون المعنى أن لكل فرد من افراد الإنسان شاكلة تخصه وحده تماما كبصمة إبهامه.

٢ ـ روي عن جعفر الصادق (ع) انه فسر الشاكلة بالنية ، ويدل على صحة هذا التفسير قوله تعالى بلا فاصل : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي ان الله اعلم بمن يبتغي الهداية ، ويسلك سبيلها مجردا عن كل قصد إلا وجهه الكريم. وعليه يكون المعنى ان كل انسان يعمل على نيته ، وان الله سبحانه يعامله بحسبها ان خيرا فخيرا ، وان شرا فشرا ، فمن تظاهر بالخير ليخدع الناس ، ويبتغي بعمله مآرب شريرة فهو عند الله من المجرمين الأشرار ، ومن سرق رغيفا ليقيم

٧٨

به الأود بعد ان انسدت عليه المسالك والمذاهب فهو عند الله بريء لا يستحق العذاب والعقاب.

الروح من أمر ربي

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) للروح معان ، والمراد بها هنا الحياة ، وقد سئل النبي (ص) عن حقيقتها ، فأمره الله ان يقول للسائلين : ان الروح من الأشياء التي يوجدها الله بأمره ، وهو قوله للشيء «كن فيكون» وبتعبير أوضح ان الأشياء على نوعين : النوع الاول يوجده الله عن طريق أسبابه الطبيعية كجسم الإنسان وغيره من الماديات. النوع الثاني يوجده الله بمجرد الأمر ، وهو كلمة «كن» والروح من هذا النوع ، والآية صريحة في ذلك ، لان كلمة الامر في قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) اشارة الى الامر الذي في قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ـ ٨٢ يس.

وقد أثبتت التجارب هذه الحقيقة ، وآمن بها الذين تخصصوا وتفرغوا السنوات الطوال للبحث عن اصل الحياة ، آمنوا بهذه الحقيقة بعد ان تبين لهم ان السبب المباشر للحياة لا يمت الى المادة بصلة ، ولو كان من نوع المادة لاستطاعوا ان يصنعوا الحياة في مصانعهم ومختبراتهم وقد حاولوا فاخفقوا. (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أي مهما أخرجت مصانعكم من عجائب المخترعات فإنها ليست بشيء إذا نسبت الى خلية من خلايا الذبابة فضلا عن الذبابة نفسها (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ـ ٧٢ الحج. وتكلمنا عن ذلك عند تفسير الآية ٩٥ من الانعام ج ٣ ص ٢٣٢.

الله وعلم الخلايا

وتشاء الصدف ان اقرأ ـ وانا أفسر هذه الآية ـ مقالا في مجلة روز اليوسف

٧٩

المصرية (١) عدد ٧ نيسان «ابريل» ١٩٦٩ جاء فيه :

«يتألف جسم الإنسان من ملايين الخلايا ، ولا ترى الخلية لشدة صغرها الا بالميكرسكوب ، ومنذ أعوام قليلة كان محالا ان ينشأ علم الخلايا لان العلماء لا يستطيعون ان يفتحوا الخلية ، او يحقنوها بمادة معينة ، لان هذه العملية تحتاج الى جراح ، له إصبع تبلغ من الدقة بمقدار جزء من ألف من المليمتر ، وايضا تحتاج حقنة هذه الخلية الى ابرة تبلغ من الدقة بمقدار جزء من مليون من المليمتر .. وأخيرا اهتدى العلماء الى فتح الخلية عن طريق الضوء تماما كما نفعل عند ما نشعل سيجارة من ضوء الشمس بواسطة زجاجة تجمع الاشعة في نقطة صغيرة تحرق طرف السيجارة ، وبهذه الطريقة وحدها أمكن فتح الخلية ، وتبين للعلماء انها مجتمع مشحون بعشرات من المخلوقات المختلفة لكل مخلوق منها سمات خاصة ؛ وأدوار يقوم بها وعلاقات تربطه بغيرها من سكان الخلية ، ويحتاج فهم هذه الأدوار والعلاقات الى سنوات من البحث ، وربما الى اجيال .. وهكذا نشأ علم الخلايا ، وأصبحنا الآن نعرف ان الخلية لها أعضاء وجسيمات واغشية وخيوط وغير ذلك مما يحير العقول»

«وقد ظهر من خلال الأبحاث أن كرات الدم مجتمع من الخلايا السابحة يبلغ عددها عشرة أضعاف عدد البشر ، وهي تؤلف اجيالا تتجدد كل اربعة أشهر ، ومع ذلك تحافظ الأجيال على العدد ذاته ، بحيث يكون عدد الجيل الآتي بمقدار عدد الجيل الذاهب لا يزيد ولا ينقص ، ولا يعاني مجتمع الخلايا ما تعانيه المجتمعات الانسانية من انفجار السكان .. وهنا العجب ، ولا عجب أن يتولد من خلايا النخاع العظمي أنواع من كرات الدم مختلفة متفاوتة شكلا ونوعا ووظيفة .. حمراء وبيضاء .. مقاتلة ومسالمة .. فكيف تنشأ أجناس متعددة من جنس واحد؟. كيف يمكن أن تنجب الزرافة جيلا بعضه ثعالب ، وبعضه أفيال ، وبعضه تماسيح؟. وباختصار شديد أصبحت الخلية الآن نجم البحث العلمي وطريقه الجديد ، وربما الوحيد لفهم اسرار الحياة».

__________________

(١). نظمت اوقاتي على هذا النحو : ساعة ونصف قبل الظهر لقراءة الصحف وشراء لوازم البيت ، وساعة نصف من الليل لقراءة الجديد من البحوث العلمية والاجتماعية ، وما عدا ذلك للتأليف.

٨٠