التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

الإعراب :

كلمة عدو تطلق على الواحد والاثنين والجماعة ، ومثلها كلمة الصديق. ورب العالمين مستثنى منقطع. والذي خلقني مبتدأ أول و (فهو) مبتدأ ثان ويهدين خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول ، كما قال أبو البقاء في كتاب الاملاء. ويوم لا ينفع بدل من يوم يبعثون. ومن أتى الله (من) مفعول لا ينفع المحذوف أي لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا من أتى الله الخ.

المعنى :

ذكر سبحانه قصة ابراهيم موزعة فيما تقدم من السور حسبما اقتضته المناسبة .. وفي هذه الآيات أعاد سبحانه الحوار الذي دار بين ابراهيم (ع) وقومه في سورة الأنبياء ، أعاده بأسلوب آخر.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ). الخطاب لرسول الله (ص) ، وضمير عليهم يعود لقريش الذين زعموا انهم من نسل ابراهيم وعلى دينه.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ)؟. عند تفسير الآية ٧٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١١٢ ذكرنا اختلاف المفسرين في ان ابراهيم هل قال هذا لأبيه الحقيقي أو المجازي أي أخي أبيه.

(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ). نداوم على عبادتها وتقديسها ، واعترافهم بعبادة الأصنام يشعر بأن كلمة صنم لم تكن تعني في مفهومهم الذم كما نفهم منها نحن بل تعني العظمة والجلال.

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)؟. من شأن المعبود

٥٠١

أن يسمع ويرى ، وينفع ويضر ، فهل تتوافر هذه الصفات فيما تعبدون؟. والاستفهام هنا للإنكار.

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ). هذا اعتراف صريح بأنهم مقلدون .. ولا عجب فقد رأينا في القرن العشرين وعصر الفضاء ، رأينا أتباع الأحزاب والمنظمات بشتى أنواعها يقلدون رؤساءهم ، ويستدلون بأقوالهم ، ويأخذونها أخذ البديهيات من غير تحقيق وتمحيص.

(قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ). إذا قلدتم أنتم آباءكم فأنا لا أقلد أحدا ، وأعلن براءتي من آلهتكم وعداوتي لها ، ولا أعبد إلا رب العالمين ، فهو وليي في الدنيا والآخرة ، فان كانت أصنامكم آلهة كما تزعمون فلتنزل كيدها بي وسخطها ، فإني أتحداكم وأتحداها.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ). لقد وهبني الله عقلا أهتدي به الى الحق ، وأنا أتبعه وأحسن استعماله ، ولا أقلد أحدا كما تزعمون (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) بتيسير الأسباب لي ولجميع خلقه ، فلقد خلق سبحانه هذه الأرض ، وأودعها ما يحتاجون اليه ، وقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ـ ١٥ الملك (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) بما خلق من الدواء ، قال رسول الله (ص) : ان لكل داء دواء ، فإذا أصاب الدواء الداء بريء بإذن الله. وفي حديث ثان : ان الله أنزل الداء والدواء ، فتداووا ، ولا تتداووا بحرام (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ). الموت والحياة وغفران الذنوب بيد الله وحده ، ما في ذلك ريب. وابراهيم (ع) معصوم من الخطأ والخطيئة ، ومن عصمة كل معصوم أن يعظم خوفه من الله.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً). ليس المراد بالحكم هنا السلطان ، بل الحكمة وفصل الخطاب : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) ـ ٢٠ ص (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). وفقني لأن أحذو حذوهم ، واعمل عملهم (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ). المراد بالآخرين ما يأتي بعده من الأمم ، والمعنى اجعل ذكري حسنا بين الناس من بعدي ، وقد استجاب الله دعاءه ، حيث اتفقت على تقديسه وتعظيمه أهل الأديان السماوية كلها.

٥٠٢

(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ). ومن أولى بها من ابراهيم؟ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ). انظر ج ٤ ص ١١١ تفسير قوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ). (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ). هذا دعاء ومناجاة يتعبد بها فيما يتعبد الأنبياء والصلحاء (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من آفة الكفر والنفاق ، والحقد ، والرياء ، وغيره من الآفات والأمراض ، ومتى سلم القلب من الرذائل سلمت معه جميع الجوارح ، فيسلم اللسان من الكذب والغيبة ، والسمع من الإصغاء الى اللغو والباطل ، واليد من ممارسة الحرام ، والفرج من الزنا وفجور الخ.

الجنة المتقين والجحيم اللغاوين الآية ٩٠ ـ ١٠٤ :

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

اللغة :

أزلفت قربت. وبرزت بتشديد الراء من التبريز وهو الاظهار. والغاوين

٥٠٣

جمع غاو وهو من ضل عن طريق الهداية والحق. وكبكبوا تكرار لكب ، ومعناه الطرح والإلقاء. ونسويكم نجعلكم سواء معه. والحميم خالص الود.

الإعراب :

جنود إبليس عطف على (الغاوون). ان كنا (ان) مخففة من الثقيلة ، واللام في لفي ضلال اللام الفارقة. وإذ ظرف متعلق بمبين. فنكون منصوبة بأن مضمرة لوقوعها بعد لو المتضمنة معنى التمني ، والمصدر المنسبك عطف على كرة.

المعنى :

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ). انها قريبة ممن اهتدى واتقى ، بعيدة عمن ضل وغوى (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أظهرها الله للذين جحدوها وكذبوا بها (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وترجونهم لهذا اليوم ، وتقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ)؟. انهم لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون.

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ). ضمير (هم) لآلهتهم ، والغاوون الذين عبدوها ، وجنود إبليس كل ضال ومضل ، يجمع الله بعضهم الى بعض ، ثم يلقي بهم في قعر جهنم ، وبئس المهاد (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ). يقول الغاوون غدا ، وبعد فوات الأوان ، يقولون لآلهتهم وشياطينهم : كان دليلنا العمى والضلال حين عبدناكم وجعلناكم سواء مع الله ، وما صدنا عن سبيل الحق والهداية إلا المجرمون ، وهم الرؤساء والزعماء أرباب المنافع والمصالح أصل الفساد والبلاء.

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ). لا شافع غدا ولا جازع .. ولا يجدي الإنسان نفعا إلا قلب سليم ، وعمل صالح ، والشقي من حرم منهما (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). بعد أن يئسوا من كل شيء تمنوا الرجعة الى الدنيا

٥٠٤

ليؤمنوا ويعملوا .. وتقول الآية ٢٨ من سورة الأنعام : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). أنظر ج ٣ ص ١٧٩ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). تقدم بالنص الحرفي الآية ٦٧ و ٦٨ من هذه السورة.

نوح الآة ١٠٥ ـ ١٢٢ :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢))

الإعراب :

نوح بدل من (أخوهم). وان اجري (ان) نافية ، ومثلها ان حسابهم ، وان

٥٠٥

انا. وما علمي (ما) نافية وعلمي مبتدأ والخبر محذوف أي ما علمي ثابت وبما متعلق بعلمي. وبطارد الباء زائدة إعرابا وطارد خبر أنا.

المعنى :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ). المرسل اليهم واحد ، وهو نوح (ع) ، ولكن من كذّب رسولا واحدا من رسل الله فقد كذّب جميع رسله بالنظر الى ان المرسل واحد ، والرسالة واحدة (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) ومن أخذ بالتقوى كان في أمن وأمان من غضب الله وعذابه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) وصف نفسه بالأمانة التي عرفوه بها صغيرا وكبيرا ، تماما كما عرفت قريش محمدا (ص) بالصدق والأمانة في جميع أدواره وحالاته (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) فإني أدعوكم الى ما فيه خيركم وصلاحكم دنيا وآخرة (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ). كل رسول أجره على المرسل ، لا على المرسل اليه. وهل يستجيب الناس ويثقون بمن يطمع فيهم وفي أموالهم؟ تقدم مثله في الآية ٩٠ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٢١ والآية ٢٩ من سورة هود ج ٤ ص ٢٢٥ (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) لا سبب لتكرار الأمر بالتقوى إلا لأنها العمدة والأصل.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ). طعنوا برسالة نوح لا لشيء إلا لأن الفقراء قد آمنوا بها والفقراء لا قيمة لهم ـ اذن ـ رسالة نوح لا قيمة لها .. وبكلام آخر ان المترفين لا يحيون حياة الفقراء ، فكيف يؤمنون بما آمنوا به؟ .. وهكذا يفعل الترف في النفس المجرمة ، يعميها عن الحق ، ويخلق فيها الطغيان والكبرياء.

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي). قال نوح للذين جادلوه في الفقراء : ان قيمة المرء بمقاصده وأعماله ، لا بالجاه والمال ، وما علمت من الذين تزدري أعينكم انهم أساءوا الى أحد في قول أو فعل ، والسرائر الى الله ، فهو وحده يعلمها ويحاسب عليها (لَوْ تَشْعُرُونَ) ان قيمة الإنسان بالأعمال لا بالأموال ، وان الظاهر للناس ، والباطن لله (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ). تقدم في الآية ٢٩ من سورة هود ج ٤ ص ٣٢٦.

٥٠٦

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ). عجزوا عن الجدال بالحق فلجئوا الى التهديد واستعمال القوة .. وهذا دأب أشداء الباطل في كل زمان ومكان (قالَ ـ نوح ـ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) لما هددوه بالقوة استعان عليهم بالله وقوته ، وتضرع اليه ان يحكم بينه وبينهم حكما ينتصر به للمحق ، وينتقم به من المبطل (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حين تنزل العذاب على الكافرين (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) بمن آمن معه من أهله وغيرهم ، وبالكائنات من كل زوجين اثنين (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ). تقدم في سورة الاعراف الآية ٦٤ ج ٣ ص ٣٤٦ والآية ٤٠ من سورة هود ج ٤ ص ٢٣٢ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). تقدم بنصه الحرفي مع التفسير في الآية ٦٧ و ٦٨ من هذه السورة.

هود الآية ١٢٣ ـ ١٤٠ :

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ

٥٠٧

هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠))

اللغة :

الريع بكسر الراء وفتحها المكان المرتفع وأيضا الطريق المنفرج ، ويطلق الريع بالفتح على نمو الزرع. والمراد بالمصانع هنا القصور التي لا خير فيها. والبطش الأخذ باليد. وإذا وصف الإنسان بكلمة الجبار فالمراد بها الذم وانه متكبر متعاظم ، وإذا وصف بها ذو الجلال فالمراد بها المدح وانه عال لا يبلغه شيء.

الإعراب :

ان هذا (ان) نافية. وبمعذبين الباء زائدة ومعذبين خبر نحن.

المعنى :

تقدمت قصة هود في سورة الأعراف الآية ٦٥ ـ ٧٢ ج ٣ ص ٣٤٦ ـ ٣٤٨ وأيضا ذكرت في سورة هود الآية ٥٠ ـ ٦٠ ج ٤ ص ٢٣٧ ـ ٢٤٣.

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ). تقدم مثله بالنص الحرفي في المقطع السابق الآية ١٠٥ ـ ١١٠ من غير تعديل إلا في الاسم ، فهناك قوم نوح ، وهنا هود وعاد ، والسر ان رسالة الأنبياء واحدة تحدها الدعوة الى الايمان بالله الأحد ، وطاعته في أمره ونهيه.

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ). الريع المكان المرتفع ، والمراد بالآية هنا البناء ،

٥٠٨

وكل بناء يسد حاجة من حاجات الحياة فهو خير ، ومن الدين لأن دين الله هو دين الحياة ، أما البناء الذي لا جدوى منه إلا التكاثر والتفاخر فهو شر دينا وعقلا ، وهذا النوع من البناء هو المقصود بالآية بدليل قوله تعالى : (تَعْبَثُونَ) فإن العبث هو الذي لا تدعو الحاجة اليه (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ). ليس المراد بالمصانع هنا ما نفهمه نحن من هذه الكلمة لأن المصانع التي تنتج ما ينفع الناس هي من صميم الدين ، وانما المراد بالمصانع البناء الذي لا نفع فيه من أي نوع كان.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ). بطش الجبار أن يظلم ، ويقسو في ظلمه ، ويتعاظم لأنه قادر على ظلم الضعيف ، والثابت في دين الله ان الظلم من أكبر الكبائر ، بل هو تماما كالكفر بالله ، وأثبتنا ذلك فيما سبق بنص القرآن .. وأفحش أنواع الظلم ظلم الضعيف .. وقد نزلت هذه الآية حيث لا أسلحة جهنمية ، ولا ملايين يخصصها تجار الحروب لقتل الناس بالجملة ... نزلت يوم كان البطش باليد ، وأقصاه بالسيف أو الرمح أو السهم ، وإذا وصف سبحانه بأقبح الصفات وأفحشها من اعتدى على الضعفاء بصفعة كف ، وهدده بأشد العقوبات فبأي شيء يجازي الذين يمطرون الشعوب المستضعفة بالصواريخ وقنابل النابالم ، وبالأسلحة الكيمائية وغيرها من أسباب الفناء والهلاك ، ويملئون الأرض بالقواعد العسكرية ، والسماء بالسفن العدوانية لا لشيء إلا ليتحكموا بأرواح العباد ، ومقدرات البلاد حسب أهوائهم ومصالحهم؟.

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). دعاهم هود الى طاعة الله ، وذكرهم بنعمه عليهم ، وإمهاله لهم ، وحذرهم من عاقبة التمادي في البغي ، فما زادهم ذلك إلا فرارا واستكبارا (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فما نحن لك بمؤمنين ، ولا يزيدنا وعظك إلا إدبارا عنك ، فلا تتعب نفسك في غير جدوى (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ). هذا إشارة إلى دينهم ، وما يعبدون من الأصنام ، وانهم ليسوا بتار كيها لأنهم ورثوا عبادتها أبا عن جد .. هذه هي حجتهم ، ولا شيء غيرها : انا وجدنا آباءنا على أمة ، وأنا على آثارهم

٥٠٩

مهتدون (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ). أنذر هود قومه بالأدلة والبراهين فلم يكترثوا فكانوا من الهالكين.

صالح الآية ١٤١ ـ ١٥٩ :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))

اللغة :

طلع النخل عنقود التمر في أول تكوينه وقبل ان يخرج من كمّه. والهضيم

٥١٠

اليانع الناضج. وفارهين من الفره وهو النشاط والفرح. ومسحّرين مبالغة في المسحورين. والشرب بكسر الشين النصيب.

الإعراب :

آمنين حال من واو تتركون. وفي جنات بدل من فيما هاهنا بإعادة حرف الجر. وفارهين حال من واو تنحتون.

المعنى :

تقدمت قصة صالح (ع) في سورة الاعراف الآية ٧٣ ـ ٧٩ ج ٣ ص ٣٤٩ ـ ٣٥٢ وفي سورة هود الآية ٦١ ـ ٦٨ ج ٤ ص ٢٤٣ ـ ٢٤٦.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ). تقدمت هذه الآيات بألفاظها في المقطع السابق الخاص بهود ، والذي قبله الخاص بنوح ، وقلنا : ان السر في ذلك وحدة الرسالة.

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ). كانت ثمود غارقة في الترف والرخاء .. أثمار وأنهار ، وقصور وأنعام غافلين عن كل شيء إلا عن شهواتهم وملذاتهم ، فحذرهم أخوهم صالح من سوء العاقبة وقال لهم : أتغفلون عن الله ، وهو غير غافل عنكم؟ وهل أمنتم المفاجئات والمخبآت؟. (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ). المراد بالمسرفين المفسدين الرؤساء والزعماء لأنهم أصل الداء والبلاء إلا من ندر ، فلا دين ولا قيم في مفهومهم إلا مصلحتهم ومصلحة ذويهم .. وكان في قوم صالح تسعة من هؤلاء المسرفين المفسدين كما في صريح الآية ٤٨ من سورة النمل : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ).

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ). لقد سحرك ساحر ، وأفسد عقلك حتى

٥١١

صرت تهرف بما لا تعرف .. وهكذا يقول أكثر شباب اليوم أو الكثير منهم لمن يقول لهم : صلوا وصوموا (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فكيف ينزل عليك الوحي من دوننا؟. (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). قالوا هذا ، وهم على عزم سابق أن يصروا على الكفر والعناد حتى ولو أتاهم بألف دليل ودليل ، ولو لا ذلك لكان طلبهم حقا وعدلا.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ). سألوه أن يأتي بمعجزة تدل على نبوته ، فأتاهم بناقة من الطريق غير المألوف ، واشترط عليهم أن يكون الماء بينها وبينهم مناصفة ، ترده يوما ، ويردونه يوما ، وحذرهم أن يمسوها بأذى وإلا أخذهم الله بعذابه (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ). تقدم في الآية ٧٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥١.

لوط الآة ١٦٠ ـ ١٧٥ :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا

٥١٢

عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

اللغة :

الذكران جمع ذكر. وعادون جمع عاد وهو المعتدي. والقالون جمع القالي وهو المبغض. والغابرين جمع الغابر وهو الباقي.

المعنى :

تقدمت قصة لوط في سورة الاعراف الآية ٨٠ ـ ٨٤ ج ٣ ص ٣٥٢ ـ ٣٥٤ وفي سورة هود الآية ٧٧ ـ ٨٠ ج ٤ ص ٢٥٢ ـ ٢٥٤.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) أخوهم في المعاشرة والسكنى ، لا في الدين ولا في النسب ، حيث جاء وعمه ابراهيم الخليل (ع) من بابل الى مصر ثم الى فلسطين حوالى القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، وأقام لوط في وادي الأردن ، وابراهيم في المرتفعات التي في الشمال (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ). بدأ لوط بما بدأ به نوح وهود وصالح (ع) ، لأن رسالة الجميع واحدة .. اقرأ في هذه السورة الآيات التي تحدثت عن كل واحد منهم.

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ). أترتكبون هذا الفعل الشنيع بالذكور من أولاد آدم (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ). انكم بهذا تخالفون حكم الفطرة ، وقانون الطبيعة ، والغرض المقصود من خلق الذكر والأنثى .. ولذا تأبى عملكم الحيوانات والوحوش وتنفر منه .. ولكن مجلس العموم البريطاني شرع اللواط ، وأعطى الدليل بذلك على ان بريطانيا أخس من الحيوانات في أخلاقها وقيمها .. وغير بعيد أن يكون هذا نتيجة لتاريخها الاستعماري الطويل البغيض ، فإن للطغيان

٥١٣

والعدوان أسوأ العواقب والآثار (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) تجاوزتم كل حد في أهوائكم وسفاهتكم ، وعصيانكم وتمردكم.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ). تقدم في الآية ١١٦ من هذه السورة (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) وفي معناه : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ـ ٢١٦ الشعراء (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ). تقدم مثله في الآية ٨٣ وما بعدها من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٣ والآية ٦٠ من سورة الحجر ج ٤ ص ٤٨٢.

شعيب الآية ١٧٦ ـ ١٩١ :

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي

٥١٤

ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))

اللغة :

الايكة الشجر الملتف الكثيف. والمخسرين بكسر السين والراء جمع المخسر وهو الذي إذا عامله أحد الناس خسر لأنه يأخذ منه أكثر من حقه. والقسطاس الميزان. والبخس النقص. والجبلة الخلقة والطبيعة. وكسفا جمع كسفة وهي القطعة. والظلة بضم الظاء هي السحابة التي استظلوا بها من العذاب فأحرقتهم.

المعنى :

تقدمت قصة شعيب في سورة الاعراف الآية ٨٥ ـ ٩٣ ج ٣ ص ٣٥٥ ـ ٣٦٤ وفي سورة هود الآية ٨٤ ـ ٩٥ ج ٤ ص ٢٥٦ ـ ٢٦٤.

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ). قال المفسرون : أصحاب الايكة طائفة من الناس كانوا يسكنون في مكان قريب من مدين ، فيه شجر كثير (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ). لم يقل سبحانه أخوهم شعيب كما قال : أخوهم هود ، وأخوهم صالح لأن شعيبا ليس من مدين نسبا ، ولا صلة له بأصحاب الايكة الا صلة الجوار ، وقد بعثه الله اليهم كما بعثه الى قومه أهل مدين (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ). تقدم هذا بالحرف في الآيات السابقة على لسان نوح وهود وصالح ولوط ، وهو كلام كل نبي دون استثناء.

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ). تقدم مثله في الآية ٨٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٦ والآية ٨٤ من سورة هود ج ٤ ص ٢٥٧ (وَاتَّقُوا

٥١٥

الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) والجبلة عطف على الضمير في خلقكم ، والمعنى خافوا عذاب الله الذي أوجدكم وأوجد الذين من قبلكم.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ). تقدم بالحرف في الآية ١٥٣ من هذه السورة. (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ). أنت تتعمد الكذب في دعوى الرسالة بدليل انك بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، ولو نزل الوحي على البشر لكان جميع الناس أنبياء .. قال ابن هشام في كتاب المغني ـ إذا لم تخني الذاكرة ـ ان رجلا قال لآخر : ما ذا فعل أبوك بحماره؟ فقال له : باعه بكسر العين. فقال السائل منكرا : لما ذا كسرت العين؟ قال : لأنك كسرت الراء .. أتجر باؤك ، وبائي لا تجر؟ والى هذا وأمثاله يؤدي القياس بأهله.

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). حذرهم من العذاب ، فسخروا منه ، وقالوا : أين هو هذا العذاب الذي تهددنا به؟ أنزله علينا قطعا من السماء ان كنت صادقا في دعواك (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) والأمر اليه وحده ، ان شاء عجل ، وان شاء أجل (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). لم يبين سبحانه ما هي هذه الظلة ، وقال المفسرون : انها سحابة استظلوا بها من حر أصابهم ، فأمطرتهم نارا أحرقتهم عن آخرهم.

انزل به الروح الأمين الآية ١٩٢ ـ ٢١٧ :

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي

٥١٦

قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢))

اللغة :

الروح الأمين جبريل (ع). والزبر الكتب. والأعجمين بياء الجمع جمع الأعجم ، وهو الذي لا يتكلم العربية ، وقيل : هو الذي لا يتكلم إطلاقا إنسانا كان أم بهيمة ، والاعجميين بياء النسبة وياء الجمع جمع الأعجمي. وقال الطبرسي : العجمي ضد العربي ، والاعجمي ضد الفصيح. ومعزولون ممنوعون ومصروفون.

الإعراب :

ضمير انه وبه للقرآن بدلالة سياق الكلام. وضمير لهم لقريش متعلق بمحذوف حالا من آية ، وآية خبر يكن ، والمصدر من أن يعلمه اسم يكن. فيأتيهم بالنصب عطفا على يروا. وبغتة مصدر في موضع الحال من الضمير المستتر في يأتيهم أي مباغتا. سنين ظرف زمان منصوب بمتعناهم. ذكرى مفعول من أجله ل (مُنْذِرُونَ). وفي ينبغي ضمير مستتر يعود الى المصدر المتصيد من تنزلت.

٥١٧

المعنى :

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ). ضمير انه للقرآن ، والمراد بالروح الأمين جبريل (ع) ، والخطاب في قلبك لمحمد (ص) .. بعد أن ذكر سبحانه قصص من تقدم من الأنبياء ذكر محمدا والقرآن ، وان جبريل نزل به على الرسول الأعظم ليجاهد الكافرين والمعاندين بآياته وبيناته .. وسمي جبريل بالروح لأنه نزل بالقرآن ، وهو هدى وشفاء للأرواح : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) ـ ٤٤ فصلت ، وسمي أيضا بالأمين لأنه مطيع لله ، حريص على تأدية رسالاته كما هي الى أنبيائه تعالى ، وهو أيضا عليم بها وبمقاصدها (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ). أنظر تفسير الآية ٢ من سورة يوسف ج ٤ ص ٢٨٦. وبينا هناك السبب لنزول القرآن باللغة العربية.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي ان بعض الكتب السابقة على محمد (ص) بشرت به وبالقرآن .. وفيما تقدم أثبتنا بالأدلة العقلية والنقلية ان القرآن وحي من عند الله ، فمن الأدلة العقلية ان القرآن تحدى الجاحدين أن يأتوا بسورة من مثله ، فحاولوا وعجزوا ، وانه أخبر عن المغيبات ، فجاءت كما هي ، وانه يتحمل الكثير من وجوه التفسير ، ولا سر لهذا إلا لأنه ممن أحاط بكل شيء علما .. أنظر تفسير الآية ٢٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٦٥ وما بعدها ، وتفسير الآية ٥٣ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٥٠ وما بعدها ، وتفسير الآية ٨٢ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٨٩ ، وتفسير الآية ٥٥ من سورة النور ، فقرة «وجه آخر لاعجاز القرآن».

أما الأدلة النقلية فمنها ان التوراة والإنجيل الأصليين قد بشرا بمحمد (ص) كما صرحت الآية ١٥٧ من سورة الأعراف ، وأيضا بشرت به بعض الكتب الدينية الموغلة بالقدم ـ غير التوراة والإنجيل ـ أنظر تفسير الآية ٤٦ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٣٣ ، وفقرة «هل الأنبياء كلهم شرقيون» ج ٢ ص ٤٩٢.

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ). كان علماء اليهود قبل البعثة يبشرون بمحمد (ص) ، ويحدثون العرب عنه ، ويذكرونه بصفاته لقريش وغيرهم

٥١٨

من العرب ، ولما بعث أسلم البعض من اليهود الذين كانوا يتحدثون عنه كعبد الله ابن سلام وأصحابه ، وأسلم أيضا جماعة من العرب ، وتنكر له سائر اليهود وعتاة قريش .. وهذه الآية تقول للذين كذبوا بمحمد (ص) بعد أن سمعوا حديث اليهود عنه ، تقول لهم : كيف كذبتم به ، وقد سمعتم علماء اليهود من قبل يبشرون به ، ويعترفون بأنه مذكور بصفاته في التوراة؟ أليس في شهادتهم هذه دليل قاطع على صدق محمد (ص)؟ وليس من شك ان هذا دليل كاف واف لمن طلب الحق لوجه الحق ، ولكن العتاة الذين أنكروا نبوة محمد (ص) أنكروها خوفا على مصالحهم ، وحرصا على مكانتهم ، ولم ينكروها لضعف الدليل وقصور الحجة : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) ـ ١٠١ يونس.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ). انهم لا يؤمنون بالحق وبيناته ، سواء أجاءهم بها عربي أم أعجمي ، لأن الحق والعلم عندهم هو المصلحة ، وما عداها ليس بشيء .. وقد كررنا ذلك فيما تقدم على الرغم من وضوحه وبداهته.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي ان المجرمين إذا سمعوا الحق أو القرآن جحدوه وكذبوا به ، وبكلام أوضح ان البذر الصالح إنما يحيا وينمو ويأتي ثمره إذا صادف أرضا طيبة صالحة ، أما إذا صادف أرضا سبخة خبيثة فإن صلاحه لا يجدي نفعا : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) ـ ٥٨ الاعراف. وكذلك الحق يأتي بأطيب الثمار والآثار إذا صادف نفسا زكية نقية ، ولا يثمر شيئا إذا كانت النفس خبيثة مجرمة ، وعلى هذا فمعنى (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) ان القرآن لا أثر له في نفوسهم إلا الجحود والتكذيب.

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). ضمير لا يؤمنون يعود الى المجرمين ، وضمير به الى القرآن ، والمعنى ان المجرمين لا يؤمنون بالحق مهما كانت دلائله إلا إذا رأوا العذاب فجأة ، أما إذا أنذروا به من قبل فيعرضون ويسخرون .. وبداهة ان الخضوع بين يدي العذاب نفاق لا ايمان ، وإكراه لا اختيار (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ)؟. استعجلوا العذاب قبل أن

٥١٩

يروه ، وقالوا لنبيهم ساخرين : فأتنا به ان كنت من الصادقين ، ولما رأوه عيانا ندموا ، وتمنوا لو أمهلهم الله قليلا كي يؤمنوا ويطيعوا .. وهكذا المضيع يتمنى الرجعة أو الامهال بعد فوات الأوان.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ). هذا من كلامه تعالى يرد به على الذين قالوا لنبيهم : فائتنا بما تعدنا .. فأسقط علينا كسفا من السماء. ومعناه كيف تستعجلون العذاب ، وإذا نزل لا تستطيعون له صرفا ، ولا منه مفرا (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ). تمنى المجرمون الامهال حين رأوا العذاب ، فأجاب سبحانه بأن الامهال والاملاء وان طال أمده فانه لا يجدي نفعا عند نزول العذاب ، بل كلما طال أمد المجرمين في الدنيا ، وازدادوا من نعيمها ازدادوا إثما وجرما ، وتضاعف عقابهم وعذابهم.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) هذا بمعنى قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ـ ١٥ الاسراء (ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) في إهلاك القرى ، حيث أرسلنا الى أهلها رسلا منذرين بالعذاب ، مذكرين بطاعة الله ، ومزودين بالأدلة والبراهين ، فكذبوا الرسل فحق عقاب الله.

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ). كان أهل الجاهلية يعتقدون بالكهانة ، وان لكل كاهن شيطانا يأتيه بأخبار الغيب ، ولما نزل القرآن قالوا هذا من وحي الشيطان الى الكهنة ، وهؤلاء بدورهم يوحون به الى محمد (ص) أو هو كاهن تنزل عليه الشياطين ، فرد سبحانه هذا الزعم بأن القرآن هدى ونور ، وبينات قاطعة ساطعة ، وأين الشياطين والكهنة من الهدى والبينات؟ .. انهم أضعف وأحقر .. هذا ، الى (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) ممنوعون من سماع القرآن حين يوحي الله به الى جبريل لينقله الى محمد (ص). وإذا عجز الشياطين عن إنشاء آية من مثله ، وعن سماع كلمة واحدة منه فكيف ينقلونه الى الكهنة ، ويخبرونهم به؟.

وأنذر عشيرتك الأقربين الآية ٢١٣ ـ ٢٢٠ :

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ

٥٢٠