التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

لا بشرى يومئذ المجرمين الآة ٢١ ـ ٢٩ :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩))

اللغة :

الرجاء الأمل والتوقع ، وقيل : المراد به هنا الخوف. والعتو التمرد وتجاوز الحد. وحجرا محجورا حراما محرما. وقدمنا قصدنا. والهباء الغبار الدقيق. والمنثور المتفرق. والمستقر مكان القرار كالبيت. والمقيل مكان القيلولة.

الإعراب :

لو لا بمعنى هلا. ويوم يرون الملائكة (يوم) متعلق بفعل محذوف ، تقديره اذكر أو يحزنون يوم يرون الملائكة. وبشرى اسم لا النافية للجنس ، وللمجرمين

٤٦١

خبرها ، ويومئذ تأكيد ليوم يرون. وحجرا محجورا منصوب على المصدر بفعل لا يذكر لفظا مثل معاذ الله. وأصحاب الجنة مبتدأ وخير خبر ويومئذ متعلق به. ومستقرا ومقيلا تمييز. الملك مبتدأ ، والحق صفة ، وللرحمن خبر ، ويومئذ متعلق بما تعلق به للرحمن. وكان يوما عسيرا اسم كان ضمير مستتر يعود الى يوم تشقق السماء. ويا ليتني (يا) للتنبيه اي ليتني. يا ويلتا تقدم في الآية ٣١ من سورة المائدة.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا). ما زال الكلام عن المشركين الذين لا يرجون ثواب الآخرة ، ولا يخافون عقابها ، وقد حكى سبحانه في هذه الآية انهم اقترحوا إنزال الملائكة عليهم لتخبرهم بأن محمدا (ص) نبي ، أو يأتي الله بنفسه ويخبر هو مباشرة. وتقدم نظيره في الآية ٩٢ من سورة الإسراء.

(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً). وأي استكبار وطغيان وجهل وغرور أعظم من هذه الجرأة واقتراحهم أن يروا الله جهرة ، ويكلمهم مشافهة؟ ولا فرق بينهم وبين من قالوا : لا نؤمن بالله لأنّا لا نراه .. ولكنهم في الوقت نفسه يؤمنون بأشياء لا تقع تحت حاسة من الحواس.

لقد زعم الماديون انه لا شيء إلا الطبيعة العمياء ، فهي التي أوجدت نفسها ، أو أوجدتها الصدفة ، وهي نظمت ورتبت هذا الكون العجيب ، وهي التي خلقت العقل والسمع والبصر ، أي ان الطبيعة ـ في منطقهم ـ قادرة على كل شيء ، ولكنها لا تدرك شيئا ، وبهذا ناقضوا أنفسهم ، لأن اعترافهم بوجود النظام هو بذاته اعتراف بوجود قوة قادرة عالمة ، وقولهم : لا شيء إلا الطبيعة العمياء هو انكار ونفي لهذه القوة ، ومعنى هذا ان الطبيعة تدرك ولا تدرك ، وتعلم ولا تعلم.

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) اقترح المشركون أن تنزل عليهم الملائكة ، فأجاب سبحانه بأن لهم يوما يرون فيه الملائكة ، وهو يوم القيامة

٤٦٢

ولكن لا شيء فيه يبشرهم بخير ، بل هو وبال عليهم وعلى أمثالهم من المجرمين : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ـ ٥٥ العنكبوت (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) ضمير يقولون يعود الى الملائكة ، والمعنى ان الملائكة يقولون للمجرمين : حراما محرما عليكم اليوم أن تروا أو تسمعوا ما تحبون ، وقيل : يعود الضمير الى المجرمين لأنه أقرب ، وعليه يكون المعنى ان المجرمين يقولون للملائكة : حراما محرما عليكم ايذاؤنا وتعذيبنا ، وكل من التفسيرين جائز ، ويرجع الى معنى واحد ، وهو خوف المجرمين من شر يوم القيامة وهوله.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) كانوا يظنون أنه ينفعهم في هذا اليوم (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) لأنه أسّس على غير الايمان والإخلاص ، ومثله قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) ـ ١٨ إبراهيم ج ٤ ص ٤٣٥ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً). ذكر سبحانه المؤمنين عند ذكر الكافرين ـ على عادته ـ وقال : لهؤلاء عندنا منازل الشر والجحيم ، ولأولئك منازل الخير والنعيم .. وليس المراد هنا من كلمة خير وأحسن التفضيل ، بل المراد ان كلا من المستقر والمقيل هو خير وحسن في نفسه ، مثل الله أكبر أي كبير في ذاته وصفاته.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ). المراد باليوم يوم القيامة ، وبالغمام ان الكواكب تتحلل الى ذرات صغيرة لا تقع تحت العين والوزن ، وبها يمتلئ الفضاء كما يمتلئ بالغمام والضباب. وقد أشار سبحانه الى خراب الكون وتناثر الكواكب في العديد من الآيات ، منها : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ذهب نورها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) تساقطت : ومنها (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) تفرقت (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) بما يسر المحسنين ، ويسوء المجرمين (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) وحده ولا أحد يملك معه شيئا من الأمر والتصرف (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً). وأيّ يوم أعظم عسرا على المجرم من يوم محاكمته ونقاشه الحساب على جريمته وصدور الحكم عليه بالحق والعدل. ولو كان حكما بالاعدام لأنتهي بذهاب وقته ،

٤٦٣

ولكنه حكم بخلود العذاب : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ـ ٥٥ النساء.

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً). هذا كناية عن شدة الحسرة والندامة ، وهي نهاية كل مغرور ومفتر كذاب. وفي الدعاء المروي عن النبي (ص) : أعوذ بك من الذنوب التي تورث الندامة (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً). المراد بفلان هنا كل متبوع أضل تابعيه وقادهم الى الهلاك. وفي الحديث : «يحشر المرء على دين خليله». وقال جماعة من المفسرين : ان هذه الآية نزلت في عقبة بن أبي معيط ، وأبيّ ابن خلف ، وان الظالم الذي يعض على يديه هو الأول ، وفلانا هو الثاني .. وعلى افتراض صحة هذا القول ، فإن سبب النزول لا يخصص عموم الآية.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً). المراد بالذكر هنا القرآن لأن الله سبحانه قد أطلق عليه هذه الكلمة في العديد من الآيات ، منها : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ـ ١ ص ، وتدل الآية على ان الذين استمعوا للقرآن قد اقتنعوا به فيما بينهم وبين أنفسهم ، ولكن شياطين الانس قد غرروا بهم ، وصرفوهم عن الحق ، فكان مآلهم الهوان والخذلان .. وهذا مآل كل من فعل وترك بوحي من أرباب الأهواء والأغراض ، لا بوحي من إيمانه وضميره.

اتخذوا هذا القرآن مهجورا الأية ٣٠ ـ ٤٠ :

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ

٤٦٤

وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))

اللغة :

نثبّت نقوي. والترتيل المهل والتأني. والمراد بالمثل هنا كل ما يعترضون به على النبي (ص). ويحشرون على وجوههم يسحبون عليها. والتدمير الإهلاك. ويطلق الرس على البئر ، وأصحابه قوم شعيب ـ على قول ـ وقرونا جماعات. والتتبير الإهلاك. لا يرجون لا يأملون ولا يتوقعون. والنشور البعث.

الإعراب :

مهجورا مفعول ثان لاتخذوا. وهاديا ونصيرا تمييز وقيل : حال. ولو لا بمعنى هلا. وجملة حال من القرآن أي مجتمعا. وكذلك ، الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف أي نزلناه تنزيلا مثل ذلك أي متفرقا. والمصدر من لنثبت متعلق بالفعل المحذوف ، وهو نزلناه. وأحسن غير منصرف للوصف ووزن الفعل ،

٤٦٥

وهو معطوف على الحق ، وتفسيرا تمييز. وعلى وجوههم متعلق بمحذوف حالا من واو يحشرون أي منكبين. ومكانا تمييز وسبيلا مثله. وأخاه مفعول أول لجعلنا ، وهرون بدل منه ، ووزيرا مفعول ثان. وقوم نوح مفعول لفعل محذوف أي وأغرقنا قوم نوح. وعادا وما بعده عطف على (هم) في جعلناهم للناس آية. وكلا ضربنا (كلا) مفعول لفعل محذوف أي ضربنا كلا أو عذبنا كلا. وكلا تبرنا (كلا) مفعول تبرنا المذكورة.

المعنى :

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً). أي أعرضوا عنه ، وأبوا أن يؤمنوا به ، أو ينظروا اليه نظرة الفاحص والباحث عن الحق ليكون على بصيرة منه ويقين .. كذب صناديد قريش بنبوة محمد (ص) ، وقالوا عنه وعن القرآن ما قالوا حرصا على مناصبهم ، وخوفا على مكاسبهم ، فرفع النبي شكواه منهم الى ربه الذي بيده مقاليد الأمور وتدبيرها ، وهكذا العاقل لا يشكو حاجته إلا لمن بيده قضاؤها .. أجل ، قد يشكو الى صديق يواسيه أو يسليه ، أو يتوجع. قال الإمام جعفر الصادق (ع) : «من شكا الى أخيه فقد شكا الى الله ، ومن شكا الى غير أخيه فقد شكا الله». يريد بأخيه أخاه في الايمان ، وان المؤمن إذا شكا الى مؤمن مثله دعا الله أن يفرج عنه ، وأمره بالصبر والتوكل على الله ، ولا يؤيسه من رحمته تعالى ، أما غير المؤمن فانه يشمت به ، أو يشير عليه بما يصرفه عن الله.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ). مصلح يقول للطاغية : يا مجرم ، ويدمغه بالفساد والضلال ، وبالعدوان على حقوق الناس ومقدساتهم ، ويجرده من سلطانه وكيانه ، يفعل هذا وغير هذا ، ثم يقف الطاغية جامدا لا يحرك ساكنا؟ كلا. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام الآية ١١٢ ج ٣ ص ٢٤٩. وأجبنا هناك عن سؤال من يسأل : إذا كان الله هو الذي جعل لكل نبي عدوا من الأشرار فلما ذا يعاقب من نصب العداء للأنبياء؟.

(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً). الخطاب لرسول الله (ص) ، وفيه وعد

٤٦٦

منه تعالى أن يمد رسوله بالنصر على أعدائه ، كما أمده بالهداية الى الحق ، وان يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً). نزل القرآن على مكث وفقا لحاجات الناس ، وكان مبدأ نزوله والرسول الأعظم (ص) في الأربعين من عمره الشريف ، واستمر الوحي آنا فآنا الى ان انتقل الرسول الى الرفيق الأعلى ، وهو في سن ال ٦٣ ، وحاول المشركون أن يصرفوا الناس عن القرآن بكل سبيل فقالوا : هو أساطير الأولين .. ولكنهم لم يتمسكوا بهذه الفرية ، ويصروا عليها ، لأنها تكذّب نفسها بنفسها ، فابتدعوا دعاية أخرى وقالوا : لو كان القرآن من عند الله لأنزله دفعة واحدة لأن الله لا يحتاج الى تأمل وتفكير كالمؤلفين .. وما من شك لو نزل القرآن دفعة واحدة لقالوا ـ كما هو شأن المعاندين ـ لو لا نزل على مكث لنتفهمه ونتأثر به ونعتاد عليه .. ولكن الحقائق تفرض نفسها على رغم المعاندين والمعارضين (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي نزلنا القرآن على التوالي ليقوى قلبك يا محمد على حفظه ، وفهم معناه ، وضبط أحكامه.

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً). الخطاب لرسول الله (ص) ، والواو في يأتونك ويحشرون لأعدائه المشركين ، والمراد بالمثل كل ما يعترضون به على الرسول الكريم .. في الآية ٥ من هذه السورة حكى سبحانه اعتراضهم على القرآن بأنه أساطير الأولين ، وفي الآية ٧ حكى قولهم عن الرسول انه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وفي الآية ٨ قالوا : هو رجل مسحور ، وفي الآية ٢١ قالوا : لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، وفي الآية ٣٢ قالوا : لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة.

وبعد ان أبطل سبحانه كل ما قالوه خاطب نبيه الكريم : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي ان المشركين يخاصمونك ويجادلونك يا محمد بالباطل ، ونحن نمدك بالحق الواضح ، والحجة التي تدحض أقوالهم ، وتفضحهم. في أباطيلهم .. هذا في الدنيا ، أما جزاؤهم في الآخرة فان الزبانية تسحبهم على وجوههم ، ومن كانت هذه حاله فهو شر خلق الله وأشقاهم في مقره ومكانته ، وعمله وسيرته.

٤٦٧

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً). تقدمت قصة موسى وفرعون في العديد من الآيات ، منها الآية ١٠٣ الى الآية ١٤٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٧١ الى ص ٣٩٢ ، وعند تفسير الآية ٩ من سورة طه ذكرنا سبب التكرار لقصة موسى (ع).

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً). أيضا تقدمت قصة نوح أكثر من مرة. أنظر تفسير الآية ٢٥ الى الآية ٤٩ من سورة هود ج ٤ ص ٢٢٢ الى ٢٣٧.

(وَعاداً) أنظر تفسير الآية ٥٠ الى ٦٠ من سورة هود ج ٤ ص ٢٣٧ الى ٢٤٣ (وَثَمُودَ) أنظر تفسير الآية ٦١ الى ٦٨ من سورة هود ج ٤ ص ٢٤٣ الى ٢٤٧ (وَأَصْحابَ الرَّسِّ) اسم بئر وأصحابه قوم شعيب ، وتقدمت قصته في سورة هود من الآية ٨٤ الى ٩٥ ج ٤ ص ٢٥٦ الى ٢٦٤ (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) وأيضا أهلكنا أمما وجماعات كثيرة بين عاد وأصحاب الرس لأنهم كذبوا الأنبياء والرسل.

(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً). أهلكناهم بعد البيان والانذار والمواعظ بالقصص وضرب الأمثال ، ولكنهم أصروا على الكفر والضلال ، فكان جزاؤهم الخراب والدمار (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً). المراد بالقرية هنا قرى قوم لوط لقوله تعالى : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) ـ ٧٤ الأنبياء». وقوله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) ـ ٨٢ هود. والمعنى ان المشركين كانوا يمرون في أسفارهم بقرى لوط ، ويرون آثار الهلاك والدمار ، وكان عليهم أن يتعظوا بها ويؤمنوا بنبوتّك يا محمد ، ولكنهم جحدوا وعاندوا لأنهم لا يوقنون بالبعث والحساب والجزاء.

٤٦٨

أهذا الذي بعث الله رسولا الآة ٤١ ـ ٤٤ :

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

الإعراب :

هزوا مصدر بمعنى اسم المفعول أي مهزوا به. ومفعول بعث ضمير محذوف أي بعثه ، رسولا حال منه. وان مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي انه ، واللام في ليضلنا للتأكيد ، وجملة يضلنا خبر ان. وفي كاد ضمير مستتر يعود الى الرسول. لو لا تدل على امتناع شيء لوجود شيء آخر. والمصدر من صبرنا مبتدأ ، وخبره محذوف أي لو لا صبرنا موجود لأضلّنا الرسول.

بين موقفين لعيسى ومحمد :

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً). أقام النبي (ص) ثلاث عشرة سنة بمكة يدعو قومه الى الإيمان بإله واحد يأمر بالعدل ، وينهى عن الجور ، ويستوي عنده الأسود والأبيض ، والغني والفقير ، ولا فضل إلا بالتقوى .. فلا غرابة بعد هذا ان يضيق بمحمد (ص) عتاة قريش ، ويؤذوه ويسخروا منه ومن دعوته .. وقد كان مبدأ المساواة مادة خصبة لهزئهم وسخريتهم .. بلال العبد الذليل الفقير مثل أبي جهل صاحب الجاه والمال ، بل أفضل عند

٤٦٩

الله لأنه أبر وأتقى .. ان هذا لشيء عجاب! .. ولكن النبي (ص) صبر على الأذى ، ومضى في دعوته وأدى مهمته لأن ما يدعو اليه يهون كل شيء من أجله .. وهكذا يصمد العظيم للسفهاء وقوى الشر والضلال ، وهو واثق ان الله معه ، وان الغد له لأن الباطل الى زوال وان طال أمده.

وقارن مصطفى صادق الرافعي بين عيسى (ع) حين سخر منه بنو إسرائيل ، وبين محمد (ص) حين سخرت منه قريش ، وقال فيما قال :

«لقد هزءوا بالسيد المسيح من قبل ، فقال للساخرين منه : ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته ، وبهذا رد عليهم رد من انسلخ منهم .. أما نبينا (ص) فلم يجب المستهزئين ، إذ كانت القوة الكامنة في بلاد العرب كلها كامنه فيه. انه سكت سكوت المشترع الذي لا يريد من الكلمة إلا عملها حين يتكلم ، وكان في سكوته كلام كثير في فلسفة الارادة والحرية والتطور ، وان لا بد أن يتحول القوم ، وان لا بد أن ينفطر هذا الشجر الأجرد عن ورق جديد أخضر ينمو بالحياة .. انه لم يتسخط ولم يقل شيئا ، وكان كالصانع الذي لا يرد على خطأ الآلة بسخط ويأس ، بل بإرسال يده في إصلاحها».

وعلينا نحن المسلمين أن نتعلم من هذا الدرس النبوي الثبات والصمود على الحق والتضحية في سبيله بكل عزيز ، وان لا نيأس من انتصار الحق على الباطل ، وان كثر أنصاره ، فان منهم من خدعته الكواذب التي تتكشف وتتبخر مع الأيام ، ومنهم من غلبت عليه شقوته في ساعة ذهل فيها عن ربه وضميره ، ثم يعود اليه ، ويتوب من ذنبه. وأيضا لا ينبغي أن نثق ونطمع في كل من طلب الحق وأقبل عليه ، فما أكثر الناكثين والمارقين ، ومن يتاجرون بالقيم والدين.

(إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها). هذا من كلام المشركين الذين سخروا من الرسول الأعظم (ص) وقالوا : «أهذا الذي بعث الله رسولا» قالوا هذا منكرين جاحدين ، ثم اعترفوا من حيث لا يشعرون بأن محمدا كاد يشكّكهم في أصنامهم ، ويصرفهم عن عبادتها بما ظهر على يده من المعجزات ، وأقام من الدلائل والبينات ، واعترفوا أيضا بأنهم قاوموا عقولهم وتغلبوا عليها بشهواتهم وأهوائهم «إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا ان صبرنا عليها». انها لوقاحة

٤٧٠

مفضوحة ، وتناقض ظاهر بينها وبين السخرية من محمد .. سخروا منه ، واعترفوا له بقوة الحجة في آن واحد .. وهكذا كل مبطل : تتضارب أقواله من حيث لا يشعر .. والسر ان الحق يفرض نفسه ، ويبرزها جلية واضحة في أقوال المعاندين والجاحدين رغم أنوفهم.

(وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً). قالوا : كاد محمد يضلنا. فأجابهم سبحانه : ستعلمون غدا يوم تواجهون الهول الأكبر انكم الضالون الخاسرون ، لا محمد ومن آمن به (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ). كل من تغلب هواه على دينه فقد اتخذ إلهه هواه ، أراد ذلك أم لم يرد ، ومن كان كذلك فلا أمل في هدايته ، لأن كل آية لا تعكس رغبته وهواه فهي عنده سخف وهراء (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) تحفظه من الضلال والفساد؟ دعه فلا خير فيه ، وقد أنذرت وأعذرت ، وعلينا حسابه وعقابه.

أضل من الأنعام :

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً). قال سبحانه : أكثرهم ، لأن البعض منهم عاندوا في البداية ، ثم رجعوا عن ضلالهم ، وآبوا الى رشدهم ، وانقادوا الى الحق ، وأبلوا البلاء الحسن في سبيل الله ، ونفى جل وعز السمع والعقل عن الذين أصروا على الجحود والضلال لأنهم لم ينتفعوا بأسماعهم وعقولهم ، وكل ما لا جدوى من وجوده فهو بحكم العدم ، وشبههم ، جلت حكمته ، بالأنعام لأنهم لم يتدبروا الأدلة والبراهين ولم يتعظوا بالحكمة والعبر ، بل هم أضل من الأنعام لأن الأنعام تؤدي ما عليها كاملا بحسب تكوينها وخصائصها ، وتنقاد الى صاحبها أمرا وزجرا ، وتعرف ما يضرها فتتقيه ، وما ينفعها فتبتغيه ، وهم لا يؤدّون ما عليهم ، ولا ينقادون لخالقهم ، ولا يتقون عذابه ، ولا يعملون لثوابه .. وفوق هذا كله فان الأنعام والبهائم لا تضر أحدا من جنسها وغير جنسها ، بل ينتفع الناس بظهورها وألبانها وأصوافها ، أما أهل الفساد والضلال فإنهم شر ووبال على مجتمعهم ، وسبب لأدوائه وبلائه ، ومصدر لتأخره وانحطاطه.

٤٧١

وتجدر الاشارة الى ان هذا الوصف لا يختص بمن كفر بالله أو أشرك به ، فكل من جحد الحق مع قيام الدليل عليه فهو أضل سبيلا من الأنعام ، سواء أجحده مكابرة وعنادا ، أم عن إهمال وتقصير في البحث عن أدلة الحق ومصادره.

وراؤ الظواهر الطبيعية الآة ٤٥ ـ ٥٤ :

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤))

اللغة :

لباسا أي ساترا كاللباس. وسباتا سكونا ضد النشور أي جعل سبحانه الليل

٤٧٢

لسكون الناس ، والنهار لحركتهم. وأناسي جمع انسي ككرسي وكراسي. وكفورا من كفران النعم. ومرج خلط. والفرات العذب جدا. والأجاج المالح أو المرّ جدا. والبرزخ الحاجز ، وحجرا محجورا أي حراما محرما أن يفسد الأجاج الفرات. والنسب والصهر يعمان كل قربى بين الذكور والإناث.

الإعراب :

كيف ، حال من الضمير المستتر بمد. وبشرا حال من الرياح. وانعاما وأناسي مفعول ثان لنسقيه.

المعنى :

ذكر سبحانه في هذه الآيات طرفا من النعم التي أسبغها على عباده ، ودلت على وجوده وعظمته ، نبهنا اليها جل وعلا لنؤمن به ونعبده مخلصين له الدين ، وفيما يلي التفصيل :

١ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) وهو الفيء وجمعه ظلال ، قال تعالى : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) ـ ٤٨ النحل. وقيل الظل أعم من الفيء حيث يقال : ظل الجنة ، ولا يقال : فيؤها ، ومهما يكن فإن القصد التذكير بنعمة الظل الذي يجد الإنسان فيه الراحة والمتعة ، وبأن الله هو الذي يبسطه ويقبضه (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي جعل الأرض ساكنة ، وبسكونها يسكن الظل ويثبت على حال واحدة ، لأن الظل لا استقلال له في ذاته واسمه يدل عليه ، وانما هو تبع لصاحبه إن تحرك تحرك ، وان سكن سكن.

(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) لو لا وجود الشمس لم يكن للأرض ظل ، فوجودها يدل على وجوده ، تماما كما يدل وجود العلة على وجود المعلول (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) بسط سبحانه الظل رويدا رويدا ، وأزاله أيضا رويدا رويدا بحسب حركة الأرض.

٤٧٣

ونسب اليه تعالى الظل ومده وقبضه مع ان ذلك يستند الى الأرض مباشرة كما ذكرنا لأنه جل وعز هو المؤثر الأول في الوجود ، وان الفيض كله من عنده ، وليست الظواهر الكونية إلا وسائط.

٢ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً). وصف سبحانه هنا الليل باللباس ، وفي الآية ٩٦ من سورة الأنعام وصفه بالسكن : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) والمعنيان متقاربان لأن اللباس يحجب الأبصار ، ولا صوت للسكون يصل الى الأسماع.

٣ ـ (وَالنَّوْمَ سُباتاً) سكونا وانقطاعا عن العمل ، يقال : سبت القوم إذا استراحوا وانقطعوا عن العمل.

٤ ـ (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) حركة وعملا ، وأوضح تفسير لهذه الآية قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ـ ٧٣ القصص أي لتسكنوا في الليل ، وتعملوا في النهار طلبا للعيش.

٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً). المراد برحمته هنا المطر ، والمعنى ان الرياح تبشر بنزول الماء من السماء وهو طاهر في نفسه مطهر لغيره على حد تعبير الفقهاء (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً). قال سبحانه هنا بلدة ، وفي الآية ٥٦ من سورة الأعراف قال : (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ). ويدل هذا على ان البلدة والبلد بمعنى واحد ، ولذا قال : بلدة ميتا ولم يقل ميتة. أنظر تفسير الآية ٥٦ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٢ ، وأيضا تفسير الآية ٣٠ من سورة الأنبياء (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً). ضمير صرفناه يجوز أن يعود الى القرآن ، وعليه تكون الآية بمعنى قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) ـ ٤١ الاسراء. ويجوز أن يعود ضمير صرفناه الى المطر ، ويكون المعنى ان الله سبحانه أرسل المطر من مكان الى مكان لأنه لو دام واستمر في مكان واحد لهلك أهله غرقا ، ولو انقطع عنهم كلية لماتوا عطشا ، وعلى كل عاقل أن يتدبر هذه الحكمة والنعمة ويشكر الله عليها ، ولكن أبى أكثر الناس إلا الجحود بالله ، والكفران بأنعمه.

٤٧٤

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً). قبل ان يبعث الله محمدا (ص) جعل لكل أمة رسولا : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) ـ ٤٧ يونس ، ومنذ عهد محمد (ص) الى آخر يوم أقفل سبحانه باب إرسال الرسل الى الخلائق ، واكتفى برسول واحد لجميع الأمم في جميع الأجيال ، وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله ، فدينه هو الدين الأخير للانسانية كلها ، ومن أجل هذا أخذ الله عهدا على كل نبي أن يبشر به وبصفاته : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ـ ٨١ آل عمران ج ٢ ص ٩٨. وليس فوق هذه المنزلة إلا الله وحده ، وقد ذكر الله صاحبها بهذه النعمة العظمى حيث قال له : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) ولكنا لم نفعل ، وأوكلنا إنذار الأمم كلها اليك وحدك تعظيما لشأنك لأن العظمة على مقدار التكليف وثقله.

القرآن والاذاعة :

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً). الخطاب في لا تطع لرسول الله (ص) ، ويجوز النهي عن الشيء حتى مع العلم بأن المكلف لا يفعله إطلاقا ، وبالخصوص إذا كان الناهي هو الله تعالى ، وضمير به يعود الى القرآن ، والمعنى لا تستجب يا محمد لشيء مما يدعوك اليه الكافرون ، ولا تدع فرصة إلا وبلّغت القرآن ، وتلوته على مسامعهم ، أحبوا ذلك أم كرهوا ، وإذا لاقيت منهم الأذى في هذه السبيل فاصبر ، ولا يصدنك أذاهم عن إعلانه واذاعته ، فإن إذاعة آيات الله هي الجهاد الأكبر في سبيل الحق والانسانية.

وليس الغرض من هذا التأكيد والترغيب هو تحدي العتاة والطغاة ببلاغة القرآن وكفى ، وانما الغرض توعية المستضعفين والجاهلين ، وإرشادهم الى حريتهم التي اعتدى عليها الأقوياء ، وان العدالة والمساواة حق إلهي وطبيعي لكل فرد ، وانه لا قوي ولا غني ولا شريف إلا بالتقوى والعمل الصالح ، وان القرآن هو الذي يضمن هذا الحق ، ولا يؤدي تأديته في ذلك دين ولا شريعة إلا إذا قامت على

٤٧٥

ما قام عليه من العدل والمساواة ، وبهذا نعرف السر في قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ـ ٢٠٣ الاعراف.

لقد أمر الله نبيه الكريم أن يجاهد الجهاد الأكبر بقراءة القرآن واذاعته لأن بها يرتفع صوت الحق والعدل ، وينشر العلم والوعي بين الناس ، ويحس كل انسان بكرامته ، فيحرص عليها ، ويدافع عنها ، وبهذا يتبين ان تلاوة القرآن من الاذاعات العالمية هي لخير الانسانية كلها ، لا للمسلمين وحدهم ، وان الدافع على هذه الاذاعات ليس البلاغة البيانية ـ كما يظن ـ وانما الدافع الأول دعوة القرآن التي ترسي قواعد العدل والمساواة بين الناس أجمعين.

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً). ليس المراد بالبحرين في الآية بحران معينان ، وانما المراد بهما نوعان من الماء : أحدهما عذب ، وثانيهما مالح ، فإن كلمة بحر تطلق في اللغة على الماء الكثير عذبا كان أم مالحا ، والمعنى ان الله سبحانه جعل الماء المالح في أرض منخفضة يركد فيها الماء ، وجعل مجاري الماء العذب كالأنهار والجداول في أرض مرتفعة عن سطح البحر ، بحيث يصب الماء العذب في الماء المالح ، فيبقى العذب على عذوبته ، والمالح على ملوحته ، ولو انعكس الأمر ، وجعل سبحانه الماء الحلو في أرض منخفضة ، والماء المالح في أرض مرتفعة ، وصب المالح في العذب لأفسد المالح العذب ، وأصبح الماء كله مرا ، ووقع الناس في العسر والحرج .. وليس هذا من باب الصدفة ، بل هو بتقدير حكيم عليم ، وقوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) معناه ان الماءين وان التقيا عند مصب الأنهر فإن أحدهما لا يطغى على الآخر ، بل تبقى لكل منهما خصائصه وآثاره .. فسبحان الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا.

٦ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً). المراد بالنسب القرابة بالتوالد ، وبالصهر القرابة بالمصاهرة ، والمعنى ان الله سبحانه خلق من النطفة إنسانا هو أعجب الكائنات ، وجعل بين أفراده القرابة والتعاطف. انظر تفسير الآية ١٤ من سورة المؤمنون. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) ومن مظاهر قدرته ان جعل من خلية ذكرا ، ومن خلية أنثى مع ان حقيقة الخليتين واحدة ، ومصدرهما واحد.

٤٧٦

وكان الكافر على ربه ظهيرا الآية ٥٥ ـ ٦٢ :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

اللغة :

الظهير المعين. والمراد بالبروج منازل الشمس والقمر ، وقيل : المراد بها الكواكب السيارة المعروفة عند العرب. والمراد بخلفة ان أحدهما يخلف الآخر.

الإعراب :

مبشرا ونذيرا حال من كاف أرسلناك. إلا من شاء استثناء منقطع أي لكن من شاء. وكفى به الباء زائدة اعرابا والهاء فاعل ، وخبيرا حال ، وبذنوب عباده متعلق بخبير. الذي خلق السموات بدل من الحي الذي لا يموت. والرحمن

٤٧٧

خبر لمبتدأ محذوف أي هو الرحمن. ونفورا تمييز محول عن فاعل ، والأصل زاد نفورهم. وخلفة مفعول ثان لجعل ، وقال أبو حيان الأندلسي : هي حال.

المعنى :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) تقدم بالحرف الواحد في الآية ١٨ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٣ (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي يعين أهل الباطل على أهل الحق ، وكل من أعان الباطل فقد أعان على الله ونصب له العداء ، وان سبحه وقدسه بلسانه ، قال الرسول الأعظم (ص) : «من أعان ظالما ، وهو يعلم انه ظالم فقد بريء من الإسلام». ومهما شككت فاني لا أشك في أن من يتعمد الظلم كافر ، بل الكافر «العادل» خير منه ، والآيات القرآنية كثيرة وصريحة في ذلك ، أما الأحاديث النبوية فقد تجاوزت حد التواتر .. أجل ، علينا أن نعامله في الظاهر معاملة المسلم ، لا لشيء إلا لقوله : لا إله إلا الله محمد رسول الله.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) تقدم بالحرف في الآية ١٠٥ من سورة الاسراء (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً). لا مطمع لي فيكم ولا في أموالكم ، ولا أريد أن أبيعكم أذرعا في الجنة ، إن أريد إلا الإصلاح ، فمن شاء منكم أن يتخذ السبيل الى الهداية فأجره على الله. وتقدم مثله في الآية ٩٠ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٢١ والآية ٨٨ من سورة هود ج ٤ ص ٢٦١.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً). بشّر وأنذر يا محمد متوكلا على الله ، مخلصا له في أقوالك وأفعالك ، ومنزها مقامه عن المثيل ، وعن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته ، وهو أعلم بمن ضل عن سبيله فيحاسبه ويجازيه (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ). المراد بالاستواء الاستيلاء ، والأرجح ان المراد بالأيام الدفعات أو الأطوار ، إذ لا أيام قبل وجود الكون والشمس ، وتقدمت هذه

٤٧٨

الآية في سورة الاعراف الآية ٥٤ ج ٣ ص ٣٣٨ ، وفي سورة يونس الآية ٣ وفي سورة هود الآية ٧. (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) به متعلق بخبير ، والهاء تعود الى خلق السموات والأرض المفهوم من السياق ، وفي الكلام حذف وتقديم وتأخير أي هو الرحمن فاسأل عن خلق السموات والأرض خبيرا به ، وهو الله.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً). إذا قال النبي (ص) للمشركين : اعبدوا الرحمن ولا تعبدوا الأصنام قالوا متجاهلين ساخرين : ما هو الذي تدعونا لعبادته ، وتسميه بالرحمن؟. أتريدنا ان نطيعك ، ونعصي آباءنا فيما كانوا يعبدون؟. وتذكرنا هذه الجهالة والسفاهة بجهالة الشباب الذين إذا قيل لهم : صلوا وصوموا قالوا : أصلاة في القرن العشرين؟ والغريب ان هؤلاء الشباب يتغنون بالحرية والانسانية .. وكأن الحرية هي الزندقة والتهتك ، والانسانية هي التحرر من قيمها ومثلها .. وما دروا ان الحر هو الذي يعبد الله ولا يخضع لسواه ، وان الانسانية هي دين الله الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً). المراد بالبروج منازل الشمس والقمر. انظر تفسير الآية ١٦ من سورة الحجر ج ٤ ص ٤٧٠ ، والمراد بالسراج هنا الشمس لقوله تعالى : (وَقَمَراً مُنِيراً). وقال سبحانه في الآية ٥ من سورة يونس : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً). وفرق البعض بين الضوء والنور بأن الضوء يستند الى الكواكب مباشرة وبلا واسطة كضوء الشمس ، والنور يستند الى الكواكب بالواسطة كنور القمر فإنه مكتسب من الشمس ، واستدل على هذه التفرقة بآية جعل الشمس ضياء والقمر نورا.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً). خلفة أي ان الليل والنهار يتعاقبان ويخلف أحدهما الآخر ، يذهب الليل ويأتي النهار ، ثم يذهب هذا ويأتي ذاك ، وهكذا دواليك ، ولا يمكث أحدهما الى ما لا نهاية أو طويلا أكثر من حاجة الخلائق .. والتعاقب على هذه الصورة يدل دلالة قاطعة على وجود مدبر حكيم ، وتعاقب الليل والنهار يستند مباشرة الى حركة الأرض ، وحركة الأرض تستند الى سببها ، ولكن سلسلة الأسباب تنتهي بجميع حلقاتها الى المبدأ الأول ، أما الحكمة من هذا التعاقب فلأنه لو استمر وجود

٤٧٩

الظلمة أو الضياء لتعذرت الحياة على وجه الأرض .. وقوله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) معناه ان من طلب الدليل على وجود الله وجده في جميع الأشياء ، ومنها تعاقب الليل والنهار ، وقوله : (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) معناه ان من أراد أن يشكر الله على نعمه فليشكره أيضا على تعاقب الليل والنهار فانه من النعم الكبرى.

عباد الرحمن الآية ٦٣ ـ ٧٧ :

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا

٤٨٠