التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

خلل .. كل شيء له حدود عند الله ، وعلى الإنسان ان يقف عندها ولا يتعداها. ـ وعلى سبيل المثال ـ حدود الحكم والسلطان العدالة والكفاءة ، وحدود الملكية عدم الإضرار بالأفراد والجماعة ، وحدود الإنفاق عدم التقتير والإسراف ، وهكذا سائر الأفعال والانفعال أيضا.

وعبر سبحانه عن التقتير بغل اليد لأن المقتر يقبض يده عن الإنفاق ، والغل أيضا يمنعها عن التصرف ، وقوله : ولا تبسطها كل البسط أراد به اليد التي لا تمسك شيئا في قبال التي تمسك كل شيء .. ونهاية هذه وتلك واحدة ، وهي الحسرة والملامة ، فالمسرف يعض يد الحسرة والندامة ملوما عند الله والناس ، وعند نفسه أيضا حين يصبح صفر اليدين ، والبخيل مذموم على كل لسان ، وحسرته غدا أشد وأعظم من حسرة المسرف ، وخير الأمور الوسط.

وتسأل : هل معنى هذا ان الإسلام يقر مذهب سقراط في الأخلاق ، ونظريته القائلة: كل فضيلة وسط بين رذيلتين ، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن ، والكرم وسط بين الإسراف والتقتير ، والتواضع وسط بين الخجل وعدم الحياء ، وهلم جرا؟.

الجواب : كلا ، فإن الإسلام يحدد الفضيلة ويشرع الأحكام على أساس مصلحة الفرد والجماعة ، فكل عمل به تقوم الحياة ، وتنمو وتتقدم فهو فرض عين على القادة ، وفرض كفاية على الأفراد ، وكل ما فيه نفع بجهة من الجهات فهو فضيلة ، بل عبادة واجبة على كل قادر أو مستحبة على مقدار ما فيها من النفع ، قال تعالى : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) ١٧ الرعد. وقال الرسول الكريم (ص) : خير الناس من انتفع به الناس ، وأوضح الأدلة على هذه الحقيقة قوله تعالى : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ) ـ ١٥٧ الأعراف.

وهذا المبدأ القرآني ، وهو المصلحة ، قد يلتقي مع نظرية الوسط ، كما في الأشياء التي لها وسط ، مثل الكرم بين التقتير والإسراف ، ويفترق عنها في الأشياء التي لا وسط لها ، كالأمانة فإنها ضد الخيانة ، ولا ثانية لها كي تتوسط الأمانة

٤١

بينهما .. وتكلمنا عن الأخلاق عند تفسير الآية ٥٤ من سورة المائدة ج ٣ ص ٧٩.

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ـ أي يضيق ـ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً). كل شيء بيده تعالى الأرزاق وغير الأرزاق لأنه مالك الملك .. ولكن شاءت حكمته وقضت ارادته أن لا يرزق إلا بالأسباب الكونية التي خلقها ووضعها سبيلا لكسب المال .. أنظر تفسير الآية ٦٦ من سورة المائدة ج ٣ ص ٩٤. والآية ١٠٠ من سورة المائدة أيضا ج ٣ ص ١٣١. وتفسير الآية ٢٦ من سورة الرعد.

٣ ـ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً). تقدم مثله في الآية ١٣٧ و ١٥١ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٧١ و ٢٨٣.

٤ ـ (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً). وما فشا في مجتمع الا كان مصيره الى الانحلال ، بالاضافة الى اختلاط الأنساب ، وكفى بالزنا قبحا انه من أقذر صفات الشتم والذم.

٥ ـ (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ). تقدم مثله في الآية ٣٢ من سورة المائدة ج ٣ ص ٤٧ (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً). كل من قتل دون أن يأتي بجناية تستوجب القتل فقد قتل ظلما ، وأولياء القتيل هم أقرباؤه من أبيه ، وعند عدمهم الحاكم الشرعي ، وعدم الإسراف في القتل ان لا يقتل اثنين بإزاء واحد ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، والمنصور المعان ، والمعنى ان لأولياء المقتول ظلما الحقّ في قتل القاتل أو أخذ الدية منه ، كما في الحديث الشريف : «من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين : ان أحبوا قتلوا ، وان أحبوا أخذوا الدية». وبما ان للأولياء الحق في ذلك فعلى الحاكم وكل مسلم أن يكونوا عونا لهم على استيفاء هذا الحق. وسبق الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ١٧٨ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٧٤.

٦ ـ (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) مرّ بالحرف الواحد في الآية ١٥٢ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٨٣.

٧ ـ (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً). وكل ما أمر الله به ،

٤٢

ونهى عنه فهو عهد بحب الوفاء به ، ومنه عقود البيع والاجارة ونحوها. أنظر تفسير الآية ١ من سورة المائدة ج ٣ ص ٦.

٨ ـ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). أي مآلا من آل يؤول ، وإيفاء الكيل والوزن واجب شرعا وعرفا ، ولا يختص بدين دون دين ، ولا بعرف دون عرف. وقد حث سبحانه على إيفاء الكيل والميزان بأساليب شتى منها (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي العدل ، ومنها (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) ، ومنها (وَلا تَنْقُصُوا) ، ومنها (لا تَطْغَوْا). والسر أن الحياة الاجتماعية لا تنتظم الا بذلك.

القول بغير علم :

٩ ـ (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً). تقول العرب : قفوته إذا اتبعت أثره ، وقافية كل شيء آخره ، ومن أسماء النبي (ص) المقفي لأنه آخر الأنبياء وخاتمهم .. والقول بلا علم قبيح ، حىّ عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وذكر سبحانه السمع والبصر والفؤاد ، وأراد صاحب هذه الأدوات الثلاث ، وانه تعالى يسأله عنها ، ويعاقبه إذا أسند اليها ما لا تعلم ، كما لو قال : سمعت دون أن يسمع ، ورأيت وهو لم ير ، واعتقدت وعزمت ، وهو لم يعتقد ولم يعزم ، أو عزم على الباطل .. ولا فرق بين من يتعمد الكذب ، ومن يسرع الى القول من غير تثبت وروية ، فإن القول بالظن والشبهة قول بغير علم ، قال تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ـ ٣٦ يونس. وقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ـ ١١٧ الأنعام. والخراص الافتراء ، وقد ساوى الله بينه وبين الظن .. ويتفرع عن هذه الآية المسائل التالية :

أـ بطلان التقليد وتحريمه على الكفؤ القادر على استنباط الأحكام من مصادرها حيث ترك علمه ، وعمل بعلم غيره. وعلى هذا الرأي الشيعة الإمامية والزيدية والمعتزلة وابن حزم والشيخ محمد عبده والشيخ شلتوت وغيرهم ، وتكلمنا عن التقليد مفصلا عند تفسير الآية ١٧٠ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٥٩.

٤٣

ب ـ تحريم العمل بالقياس والاستحسان ، واستخراج الأحكام الإلهية منهما .. والقياس هو الحاق أمر ـ في الحكم ـ غير منصوص عليه بآخر منصوص عليه لاتحاد بينهما في العلة المستنبطة ، ومثال ذلك ان ينص الشارع على ان الجدة لأم ترث ، ويسكت عن الجدة لأب ، فنلحق هذه بتلك في الميراث قياسا لأن كلتيهما جدة.

والاستحسان المحكي عن أبي حنيفة هو الحكم بما يستحسنه المجتهد بغير دليل إلا استحسانه هو أي حدسه وهجسه (كتاب اللمع في أصول الفقه لأبي اسحق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي ص ٦٥ طبعة سنة ١٩٣٩). ومثّل له صاحب الكتاب المذكور بمن قال : ان فعلت كذا (فأنا) يهودي ، فيحنث هذا القائل ، وتجب عليه الكفارة استحسانا لأنه بمنزلة من قال : والله ان فعلت كذا فهو يهودي.

ج ـ ان كل من تصدى للافتاء ، وبيان الحلال والحرام ، وهو غير كفؤ فقد كذب وافترى على الله ورسوله ، وكان من المعنيين بقوله تعالى : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) ـ ٥٦ النحل ، وقول الرسول الأعظم (ص) : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار». فان الكذب على الله ورسوله كما يكون بالرواية عنهما يكون أيضا بنسبة الحلال والحرام اليهما .. وقد كثر في زماننا المفتون المفترون على الله ورسوله الذين اتخذوا من سمة الدين وسيلة للارتزاق ، وستارا للخيانة والعمالة .. ومنهم من ألف المنظمات والأحزاب تعمل بوحي من الصهيونية والاستعمار ، وفي الوقت نفسه تحمل اسم الإسلام والمسلمين للخداع والتضليل.

سألني أحد الشيوخ عن زوجتي هابيل وقابيل ابني آدم ، هل هما من حور الجنة ، أو من غيرهن؟ قلت : هذه مسألة تعرف بالنقل ، لا بالعقل ، والنقل في مثلها لا يعمل به إلا إذا كان نصا في القرآن أو السنة المتواترة ، ولا نص فيهما على ذلك فعلينا السكوت عما سكت الله عنه ورسوله. قال : كيف؟ وهل نقف موقف العاجز إذا سئلنا؟ قلت : وهل يطلب منا ان نعلم كل شيء لأنا معممون؟.

١٠ ـ (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ

٤٤

طُولاً). قد يزهو الجاهل ويتعاظم إذا ملك شيئا من حطام هذه الحياة ، كالجاه والمال ، ولكن ان عرض له عارض من المخبئات والمفاجئات وهن وحار لا يدري ما ذا يصنع .. والعاقل من عرف قدره ، وتفكر واعتبر ، ولم يحد عن قصد السبيل .. وقوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) نهي عن التكبر ، وأمر بالتواضع ، وقوله : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) كناية عن عجز الإنسان ، وانه أضعف من أن يبلغ ما يريد بالجاه والمال ، كما انه أضعف من أن يبلغ الجبال بجسمه ، ويخرق الأرض بقدمه.

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً). ذلك اشارة الى ما تقدم ذكره مما أمر الله به ، ونهى عنه ، والمراد بسيئه ما نهى عنه خاصة ، والمعنى ان كل هذه الأشياء التي نهى عنها مكروهة عند الله ، وفاعلها ممقوت يستحق العذاب والعقاب (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ). أيضا ذلك اشارة الى ما تقدم ذكره من الأوامر والنواهي ، والحكمة وضع الشيء في محله ، وليس من شك ان جميع أحكامه تعالى في محلها ، وان من أخذ بها فقد أخذ بالحق والخير والعدل (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً). تقدم تفسيره في الآية ٢٢ من هذه السورة .. وقد ابتدأ سبحانه بالنهي عن الشرك ، وختم به لأن التوحيد هو البداية والغاية للإسلام دين الله الحق ، ولأن جميع الأحكام تناط به وحده ، فلا حلال الا ما حلل ، ولا حرام الا ما حرم.

أفاصفاكم ربكم بالبنين الآية ٤٠ ـ ٤٤ :

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ

٤٥

السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

اللغة :

أصفاكم خصكم. وصرفنا بيّنا. وليذكروا ليتدبروا. ونفورا بعدا. ولابتغوا لطلبوا. لا تفقهون لا تفهمون.

الإعراب :

مفعول صرفنا محذوف أي صرفنا المواعظ. وليذكروا أصلها يتذكروا فأدغمت التاء بالذال لقرب مخرجهما. وعلوا أي تعاليا. وان من شيء (ان) نافية. ومن زائدة وشيء مبتدأ أي ما شيء.

المعنى :

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً). يعتبر القرآن حجة لا تقبل الجدل في كل ما قاله وسجله عن العصر الجاهلي ، وتسجل هذه الآية على المشركين بأنهم كانوا يعتقدون ان لله بناتا من نوع الملائكة .. وأيضا كانوا يعتقدون بأن الذكر أفضل من الأنثى بدليل قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ـ ٥٧ النحل ومع هذا نسبوا الأفضل لأنفسهم ، والأدنى اليه تعالى .. فوبخهم سبحانه على هذا الجهل وقال : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) لأنه تعالى لا شريك له ولا شبيه ، ولو كان له ولد لكان ولده وارثا له وشبيها به ، ولو كان له والد لكان والده شريكا له في العز ، بل أعز لأنه علة وجوده.

وغير بعيد عن منطق الجاهليين أن يكون السر الذي دعاهم الى ان ينسبوا

٤٦

الإناث الى الله والذكور إلى أنفسهم ـ ان الله تعالى لا يخاف الفقر لكثرة العيال ، ولا العار من وجود الإناث.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً). أقام سبحانه الدلائل والبينات على وجوده ووحدانيته ، وأوضحها بضرب الأمثال ، وأساليب متنوعة ليتفهموها ويدركوها ، ولكنهم استمسكوا بالأوهام والتقاليد ، وازدادوا بعدا وعنادا. قال الرازي «وانما أكثر الله سبحانه من ذكر الدلائل في القرآن لأنه تعالى أراد من المشركين فهمها والايمان بها ، وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكيمة ، ويدل على انه تعالى أراد الايمان من الكل ، سواء آمنوا أم كفروا».

وهذا القول من الرازي يناقض ما صرح به مرارا من ان أفعال الله لا تعلل بالأغراض ، وأنه سبحانه أراد الكفر من الكافر ، كما هو مذهب الأشاعرة .. ولكن أبى الله ألا ان ينصر الحق ويظهره ، حتى على لسان جاحديه من حيث لا يشعرون.

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً). ذكر أهل التفاسير لهذه الآية معنيين : الأول انه إذا فرض ان مع الله آلهة فلا تعدو أن تكون هذه الآلهة كوكبا أو إنسانا أو جمادا أو أي شيء آخر ، وهذه كلها مخلوقات لله تعبده وتتقرب اليه ، فعليكم أيها المشركون ، وهذه هي حال معبودكم ، ان تعبدوا الله أنتم كما يعبده من تدعونه من دون الله.

المعنى الثاني أو التفسير الثاني ، وهو الأرجح ، انه لو كان فيهما آلهة غير الله لطلبت هذه الآلهة طريقا الى النزاع والشجار مع الله ليصفو لها الملك .. وما من شك ان نزاع الرؤساء يؤدي الى الفوضى والفساد ، كما قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ـ ٢٢ الأنبياء». وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٤٤ (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) نزه عز وجل نفسه عن قول الظالمين والمشركين من ان له شركاء وأولادا.

كل شيء يسبح بحمده :

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).

٤٧

أجل ، كل شيء يسبح بحمد الله تعالى ، ما في ذلك ريب ، وتسبيح الشيء يختلف باختلاف صفاته وخصائصه ، فالعاقل يسبح الله بلسان المقال ، وغيره يسبحه بلسان الحال ، وبكلام آخر يسبحه بدلالة وجوده وصورته وأحكامه على وجود المصور الحكيم ، تماما كما يدل الرسم الجميل على وجود الرسام ومهارته ، ولسان الحال أقوى وأبلغ في الدلالة من لسان المقال ، لأن هذا يحتاج الى دليل ، أما الحال فهي بذاتها دليل يؤدي حتما الى العلم واليقين ، وتقدم الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ١٤ من سورة الرعد.

(وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) لا يفقه الملحدون والمشركون تسبيحهم للانصراف عن الله وعظمته في خلقه ، أو لقصر النظر عن ادراك ما في الكون من عجائب وأسرار ، قال ابن عربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية ما تلخيصه وتوضيحه : ان لله آيات متنوعة ، منها ما يدرك بالعقل ، ومنها ما يدرك بالسمع ، ومنها ما يدرك بالبصر ، وعلى الإنسان أن يستعمل هذه الأدوات لمعرفه آيات الله التي ذكرها في كتابه ، ومتى علم وآمن بها وعمل بموجبها كان من أهل القرآن ، وأهل الله وخاصته .. ثم قال ابن عربي : خذ الوجود كله على انه كتاب ناطق بالحق عن الحق .. وهذا كقول أحد العارفين : ان لله كتابين : أحدهما ينطق بلسان المقال ، وهو القرآن ، والآخر ينطق بلسان الحال ، وهو الكون.

واذا قرأت القرآن الآة ٤٥ ـ ٤٨ :

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ

٤٨

الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))

اللغة :

الوقر بفتح الواو الصمم ، وبكسرها الثقل. والأكنان جمع كنان ، وهو الغطاء. ونفورا بعدا. مسحورا مخبول العقل.

الاعراب :

مستورا اسم فاعل بصيغة اسم المفعول أي ساترا ، وقد تأتي ايضا صيغة اسم الفاعل بمعنى المفعول مثل ماء دافق أي مدفوق. والمصدر من ان يفقهوه مفعول من اجله لجعلنا أي كراهة ان يفقهوه. وفي آذانهم وقرا عطف على جعلنا أي وجعلنا في آذانهم وقرا. ووحده حال أي منفردا غير مقرون بذكر آلهتهم. ونفورا مصدر في مكان الحال اي نافرين ، ويجوز ان يكون مفعولا مطلقا لأن ولوا بمعنى نفروا فيكون مثل جلست قعودا. وإذ الأولى ظرف ليستمعون ، وإذ الثانية بدل من الأولى. ونجوى خبر لهم بمعنى «متناجون» ويجوز أن يكون الخبر محذوفا اي اصحاب نجوى. وكيف مفعول ضربوا.

المعنى :

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) أي ساترا .. وفي تفسير هذه الآية اقوال ، أرجحها ان جماعة من المشتركين كانوا ـ إذا قرأ محمد (ص) القرآن ـ يتصدون له بالأذى ، ويحاولون منعه عن تلاوته ، فقال سبحانه لنبيه الكريم : امض في قراءة القرآن

٤٩

والدعوة الى الله ، ولا تكترث بهم ، فنحن نحرسك منهم ، ونمنعهم عنك.

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً). هذا كناية عن تمرد المشركين على الحق وعنادهم له ، اما نسبة الاكنة والوقر الى الله فقد تكلمنا عنها مفصلا عند تفسير الآية ٢٥ من الأنعام ج ٣ ص ١٧٦ ، وهي نظير هذه الآية نصا ومعنى.

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً). كان المشركون إذا سمعوا رسول الله يقول : لا إله إلا الله ، ونحو ذلك ، يعرضون عنه مدبرين ، ويقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) ـ ٥ ص. ولا سر لهذا النفور والاعراض إلا لأن كلمة التوحيد تنطوي على المبدأ القائل : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ). لا طبقات ولا امتيازات.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً). ضمير به يعود الى (ما) وهي هنا اسم موصول بمعنى الشيء .. وتفسير الآية ان الله سبحانه بعد ان قال : (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) قال : نحن اعلم يا محمد انك حين تتلو القرآن لا يستمع اليك المشركون بقلوب واعية وآذان صاغية ، بل يستمعون اليك بروح الحقد والكراهية ، والعناد والمكابرة ، ثم يقول بعضهم لبعض وللناس ايضا : ان محمدا ساحر ومسحور تلبسته الجن ، ونطقت على لسانه بهذه الحكمة والبلاغة ، وإلا فمن اين لمثله ، وهو الأمي أن يأتي بهذا الاعجاز؟. وفوق هذا لا كنز له من ذهب أو فضة ، ولا جنة من نخيل وأعناب ..

وهكذا ذهب بهم التفكير الطبقي الى ان صاحب المال وحده هو صاحب المناصب الشريفة ، دينية كانت او زمنية : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ـ ٣١ الزخرف .. اما العقل والصدق والامانة فكلام فارغ.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) استكثروا على محمد (ص) أن يكون رسولا لله ، وان ينطق بلسان الله فضربوا له الأمثال بجعله مجنونا تارة ، وساحرا تارة ، ومرة كاهنا ، وحينا شاعرا .. محمد الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق ساحر مجنون ... فكيف بغيره من الطيبين الأخيار؟ .. ولما ذا محمد ساحر

٥٠

ومجنون؟ .. لأنه نطق بالحق ودعا اليه ، ولم يستجب لأهواء المبطلين ، وشهوات المفسدين .. وفوق ذلك لا خيل لديه ولا مال .. ونخلص من هذا الى ان ارباب الأغراض والشهوات تنحصر مشاعرهم واحاسيسهم في جانب واحد تحده الاهواء والمصالح الخاصة .. فلا يعقلون ولا يسمعون ولا يبصرون إلا من خلالها حتى استحالوا بجميع ما فيهم الى الاهواء والشهوات .. وبهذا وحده نجد تفسير عنادهم للحس والعيان ، وموقفهم من اهل الصدق والإخلاص في كل زمان ومكان ، وبالتالي نجد فيه تفسير قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) وتفسير كل ما جاء بهذا المعنى في كلامه جل وعلا (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) الى تكذيب المحقين إلا الافتراء والبهتان ، والتضليل والعدوان ، والدس والمؤامرات ، وشراء الذمم والرشاوى.

اذا كنا عظاما ورفاتا الآية ٤٩ ـ ٥٢ :

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

اللغة :

الرفات هو الذي بلي حتى صار فتاتا. وفسينغضون اليك رؤوسهم أي يحركونها استهزاء.

٥١

الاعراب :

أئذا كلمتان : همزة الاستفهام ، وإذا ، وهي ظرف متعلق بمحذوف أي أنبعث في ذلك الوقت. والذي فاعل لفعل محذوف أي قل يعيدكم الذي فطركم. واسم عسى ضمير مستتر يعود الى الوقت الذي دل عليه سياق الكلام. وبحمده في موضع الحال أي فتستجيبون حامدين. وجملة تظنون خبر لمبتدأ محذوف أي وأنتم تظنون ، والجملة من المبتدأ وخبره حال من فاعل فتستجيبون. وان نافية بمعنى ما.

المعنى :

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً). هذه هي حجة من ارتاب بالبعث قديما وحديثا : كيف يعود الإنسان الى الحياة بعد ان يصبح هباء منثورا؟. والجواب هو : من قدر على خلق الشيء وإيجاده فبالأولى ان يقدر على جمعه بعد تفرقه. وقد ذكر سبحانه شبهة المنكرين هذه ، وجوابها هذا في العديد من الآيات ، بعبارات شتى ، منها الآية ٧٨ من يس : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ). وتكلمنا عن ذلك مفصلا في ج ١ ص ٧٧ وج ٢ ص ٣٩٦ وج ٤ عند تفسير الآية ٥ من الرعد ، فقرة «الماديون والحياة بعد الموت».

(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ). يقول سبحانه لمنكري البعث : لو كنتم حجارة او حديدا ، او ما هو اكبر عندكم من ذلك ـ لخلقنا منكم إنسانا حيا مثلكم ، ومن يخلق من الحجارة والحديد ومما هو أصلب وأصعب إنسانا حيا فبالأولى ان يعيد الحي بعد موته الى ما كان عليه من قبل ، لأن جمع الشيء بعد تفرق اجزائه أيسر من ان يخلق منه طبيعة جديدة مباينة لطبيعته الأولى .. واختصارا ان احياء الإنسان بعد موته أيسر من جعل الحديد إنسانا ، فمن قدر على هذا فبالأولى ان يقدر على ذاك.

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) الى الحياة بعد ان نصبح هباء منثورا؟. وهذا السؤال يحمل جوابه معه وهو (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). فالمعيد هو المبدئ ،

٥٢

ونسبة البدء والاعادة اليه واحدة ، بل الاعادة بطبعها أيسر لأنها إرجاع ما كان الى ما كان ، اما البدء فخلق وإيجاد .. نقول هذا مع علمنا بأن الله يخلق القليل والكثير ، والعظيم والحقير بكلمة «كن فيكون».

(فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) يحركونها استهزاء وتكذيبا (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) هذا البعث؟. ومرادهم من السؤال الاستبعاد والاستنكار (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) والمراد بالقرب هنا التحقق والوقوع لأن كل آت قريب.

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ). المراد باليوم يوم البعث ، وبالدعاء النفخ في الصور والاستجابة هنا كناية عن خروجهم من القبور ، وبحمده أي طائعين منقادين : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) ـ ٥١ يس (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) حين يخرج الناس من القبور يظنون انهم ما أقاموا في دار الدنيا إلا يوما أو بعض يوم : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ـ ١١٣ المؤمنون.

وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن الآة ٥٣ ـ ٥٧

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى

٥٣

رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧))

اللغة :

ينزغ يفسد. والزبور الكتاب على وزن فعول اسم مفعول أي مكتوب ، وغلّب على الكتاب الذي انزل على داود (ع). والمراد بالوسيلة هنا القربة الى الله. ومحذورا من الحذر ، وهو الخوف اي يحذره العاقل ويحترس منه.

الاعراب :

يقولوا مجزوم بلام الامر المحذوفة أي ليقولوا. والتي هي احسن اي الكلمة التي هي احسن. وأولئك مبتدأ ، والذين يدعون صفة او عطف بيان ، ويبتغون خبر. وأيهم مبتدأ واقرب خبر.

المعنى :

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). امر سبحانه نبيه الكريم بأن يأمر المؤمنين او الناس أجمعين بأن ينطقوا بالحسنى ، ويقولوا كلمة الحق والعدل أيا كان الثمن. انظر تفسير الآيتين ٢٤ و ٢٦ من ابراهيم : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ... وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ). (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) يتلمس عثرات اللسان ليتخذ منها وقودا لنار العداوة والبغضاء بين الناس .. ولا تنحصر عثرات اللسان بالسب والهجاء ، بل تكون ايضا بالمدح والثناء في غير موضعه ، وفي ألفاظ الفسق والفجور (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً). وقد صرح هو بهذه العداوة حيث قال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَ

٥٤

لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ـ ١٧ الاعراف.

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ). الله عالم وعادل وحكيم ، يعلم احوال عباده : ما يصلحهم وما يفسدهم ، ويعاملهم بعدله وحكمته ، فيرحم من يستحق الرحمة ، وهو من يمتثل ويطيع ، ويعذب من يستحق العذاب ، وهو من يعصي ويتمرد ، هذا بعد ان يلقي عليه الحجة بتبليغ الحلال والحرام بلسان النبي الكريم (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) بل مبلغا وكفى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ـ ٤٠ الرعد.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الله يعلم اهل السماء والأرض ، ويعلم مؤهلات كل واحد منهم ، وعلى أساسها يصطفي من الملائكة رسولا الى أنبيائه كجبريل (ع) ، ويبعث من البشر رسلا مبشرين ومنذرين ، وكما فضل بعض الملائكة على بعض فقد فضل ايضا بعض الأنبياء على بعض.

وتسأل : ان الإسلام يقوم على مبدأ المساواة ، فما معنى هذا التفضيل؟. ثم كيف يتحقق التفضيل ويتصور بين الملائكة ، وبين الأنبياء ، مع العلم بأن الجميع عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون؟.

الجواب : اجل ، لا تفضيل على أساس الطاعة والعصمة والولاية من حيث هي ، بل من حيث وصفها تماما كالذهب .. فانه ثمين بشتى افراده ، ولكن بعضها اثمن من بعض ، وهكذا سائر الأشياء الحسنة الجميلة فإنها تتفاوت في مقدار الجمال ودرجاته ، لا في كنهه وحقيقته ، ومن هنا قيل : نور على نور .. وخير على خير.

سؤال ثان : لما ذا أفرد الله داود بالذكر ، وقال : وآتينا داود زبورا. مع انه آتى موسى التوراة وعيسى الإنجيل ومحمدا القرآن؟.

الجواب : أفرد داود بالذكر للرد على المشركين الذين قالوا : كيف يكون محمد نبيا ، وقد عاش يتيما فقيرا؟. ووجه الردّ أن المعنى انه سبحانه يجعل رسالته عند من يستحقها سواء أكان المستحق يتيما عفيرا كمحمد ، ام كان غنيا كداود .. وفي كثير من كتب السير والتاريخ يعبر عن داود النبي بداود الملك.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً).

٥٥

قال كثير من المفسرين : ان هذه الآية والتي بعدها نزلتا في الذين عبدوا الملائكة وعيسى وعزيرا ، وان عبدة الأصنام غير مقصودين لأنه تعالى وصف المعبودين بأنهم (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) وابتغاء الوسيلة اي القربة اليه لا يليق بالأصنام ، وعليه يكون المعنى قل يا محمد لمن عبد الملائكة وعيسى وعزيرا : إذا أصابك الضر كالفقر او المرض فاسأل معبودك ان يكشفه عنك ، ثم انظر : هل يقدر على دفعه او تحويله الى غيرك؟ .. وما من شك في عجزه لأنه لا يملك ذلك لنفسه فكيف يملكه لغيره.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ). أولئك اشارة الى الذين اتخذهم المشركون أربابا ، والمعنى ان الذين تعبدونهم ايها المشركون يتوسلون الى الله بالطاعة لا يستكبرون عن عبادته ويسبحون له ويسجدون ، فكيف تعبدونهم؟. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) اي ان كلا من الملائكة وعيسى وعزير يجد ويجتهد في عبادة الله والإخلاص له ليكون قريبا من عفوه ورحمته ، بعيدا من سخطه وعذابه. ذلك (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) تحذره الأنبياء والأولياء ، فكيف بغيرهم ، وكل عاقل يحذر ويخاف من العواقب ، ويعد لها العدة مهما كانت منزلته ومقدرته ، وبخاصة إذا كان الطالب والمحاسب يعلم السر وأخفى.

وان من قرية الآية ٥٨ ـ ٦٠

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ

٥٦

الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

اللغة :

الناقة مبصرة اي دلالة واضحة عند من يبصرها ، فالابصار وصف لمن يراها حقيقة ، ولها مجازا. فظلموا بها اي فكفروا بها ، والقرآن يطلق الظلم على الكفر في كثير من الآيات.

الاعراب :

ان من قرية (ان) نافية ، ومن زائدة اعرابا ، وقرية مبتدأ أول ، ونحن مبتدأ ثان ، ومهلكوها خبر المبتدأ الثاني ، والجملة منه ومن خبره خبر الأول. والمصدر من ان نرسل مجرور بمن محذوفة ، والمصدر من ان كذّب فاعل منعنا. ومبصرة حال من الناقة. وتخويفا مفعول من اجله لنرسل. وإذ قلنا (إذ) متعلقة بفعل محذوف اي واذكر إذ قلنا. وفتنة مفعول ثان لجعلنا. وفاعل يزيدهم ضمير مستتر يعود الى التخويف المفهوم من نخوفهم. وطغيانا مفعول ثان ليزيدهم كما في مجمع البيان.

المهدي المنتظر :

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً). ظاهر الآية يدل على ان الناس كلهم يفنون قبل يوم القيامة ، بحيث يأتي ذلك اليوم ، ولا انسان على وجه الأرض إطلاقا .. وان هذا أمر قد خط بالقلم في كتاب القضاء والقدر الذي لا مفر منه ولا محيص عنه ، ولكن بعض المجتمعات يفنيهم الله بالموت الطبيعي ، وبعضهم بالعذاب الشديد ، ولم يبين سبحانه وصف هؤلاء ، ولا أولئك .. هذا هو ظاهر الآية ،

٥٧

ولكن المفسرين قالوا : ان المجتمع الصالح يفنى بالموت الطبيعي ، والفاسد بالعذاب ، وقولهم هذا لا يتفق مع قولهم في تفسير قوله تعالى في أول سورة الحج : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى).

والذي نراه أن المراد بالقرية في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) الخ. المراد خصوص القرية الظالم أهلها أي المجتمع الفاسد فقط ، وانه يهلك هذا المجتمع او يعذبه قبل ان تقوم الساعة ، اما المجتمع الصالح فيستمر في الوجود والبقاء الى يوم القيامة حيث تذهل كل مرضعة عما أرضعت ... وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، وبهذا يتحقق الجمع بين ما جاء في أول الحج ، وبين الآية التي نحن بصددها ، ويكون معناها ان الله سيمحو المفسدين والظالمين من وجه الأرض قبل القيامة ، ولا يبقى إلا الصالحون الطيبون ، يعيشون جميعا في طاعة الله مؤمنين آمنين على أنفسهم وجميع اشيائهم ، وفي ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله (ص).

منها ما جاء في سنن أبي داود السجستاني ، وهو احد الصحاح الستة عند السنة ج ٢ طبعة سنة ١٩٥٢ ص ٤٢٢ وما بعدها : «قال رسول الله (ص) : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من اهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا». ومحل الشاهد يملأ الأرض قسطا وعدلا.

ومنها ما جاء في كتاب السنن لابن ماجة ، وهو احد الصحاح الستة ايضا ج ٢ طبعة ١٩٥٣ الحديث رقم ٤٠٨٣ : «قال رسول الله يكون في امتي المهدي تنعم فيه امتي نعمة لم تنعم مثلها قط».

والثورات والانتفاضات في كل مكان للتحرر من الظلم والفساد ، والجهل والفقر تدل بصراحة ووضوح على ان هذا كائن لا محالة في المستقبل القريب أو البعيد.

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها). اقترح مشركو قريش على رسول الله (ص) أن يأتيهم بالخوارق التي يريدون ، وقالوا له فيما قالوا : فجر لنا من الأرض ينبوعا ، وائتنا بالله

٥٨

والملائكة ، وأنزل علينا من السماء كتابا نقرأه .. وأجابهم سبحانه في هذه الآية بأنه قد سبق في قضائه وقدره ان يستأصل بالعذاب كل قوم كذبوا بآية جاءت وفق ما طلبوا واقترحوا ، فلقد اقترحت ثمود من قبل على نبيها صالح ناقة خارقة ، ولما جاءتهم على الوصف الذي اقترحوه كفروا بها وعقروها ، فاخذتهم الرجفة وكانوا من الهالكين. وسبق التفصيل في سورة الاعراف الآية ٧٣ و ٧٩ ج ٣ ص ٣٥٠.

وقد سبق في قضاء الله وقدره أن لا يستأصل قريشا التي اقترحت ما اقترحت على رسول الله ، لأن رجالا منها سيتوبون ويؤمنون ، وآخرين يولد لهم من يجاهد في الله حق جهاده ، وفوق هذا فان الله سبحانه قضى وقدر أن تبقى أمة محمد (ص) وشريعته الى يوم يبعثون ، ولهذا وغيره من الأسباب لم يستجب سبحانه الى مقترحات قريش (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً). فما من آية ظهرت أو تظهر على يد نبي من الأنبياء إلا والغاية منها العظة والزجر والتخويف من عذاب ليس له دافع ولا رافع .. فما بالهم يقترحون الخوارق ويستعجلونها ، وهي نقمة عليهم وعذاب.

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ). سبق أن المشركين اقترحوا الخوارق على رسول الله (ص) وأن الله أوحى اليه انه لو استجاب لهم وعصوا لهلكوا .. ولكن هذا الجواب لم يقنع المشركين ، وقالوا لرسول الله لو كنت نبيا لجئتنا بما اقترحنا .. ولما بلغ الأمر بهم الى هذا الحد خاطب سبحانه نبيه الكريم بقوله : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي امض في دعوتك ، ولا تكترث بمن يعاند ويكابر ، فنحن اعلم بالناس وما يقولون ويفعلون ، وهم جميعا في قبضتنا نصدهم عنك وعن ايذائك ، وفي هذا المعنى قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ). ذكر سبحانه أنه قد أرى نبيه رؤيا في منامه ، وانها فتنة للناس ، ولكنه لم يبين ما هي هذه الرؤيا ، ولا المراد من الفتنة ، ومن هنا اختلف المفسرون في معناهما ، وذكر الرازي في تفسيره الكبير ، وابو حيان الاندلسي في البحر المحيط ، ومحمد بن احمد الكلبي في كتاب التسهيل ، ذكروا وغيرهم ايضا أقوالا في تفسير الرؤيا والفتنة ، منها أن النبي (ص)

٥٩

رأى أنه سيدخل مكة مع الصحابة ، ولكنه لما قصدها عام الحديبية صده المشركون ، فشك من شك من المسلمين في رؤيا النبي وقال له : ألم تخبر بأننا ندخل المسجد الحرام آمنين؟. قال : أجل ، ولكن هل قلت : ندخله هذا العام؟. قال : لا. قال النبي (ص) : لندخله ان شاء الله. فدخلوه في العام المقبل.

ومن الأقوال في تفسير الرؤيا كما جاء في التفاسير التي أشرنا اليها : ان النبي (ص) رأى بني امية ينزون على منبره نزو القرود ، فساءه ذلك ، واغتمّ به ، ولم ير ضاحكا. وذهب الى هذا التفسير جماعة من الصحابة ، منهم سعيد ابن المسيب وابن عباس كما في تفسير الرازي ، وسهل بن سعد كما في تفسير البحر المحيط. وفي صحيح البخاري ج ٩ كتاب الفتن ـ أن النبي (ص) قال : «هلاك امتي على يدي اغلمة سفهاء من قريش. وهذه الرواية تدعم تفسير الرؤيا ببني امية ، وعليه يكون المراد بقوله تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) هم بنو امية بالذات. وفي تفسير الرازي ان من المفسرين جماعة يقولون : «ان الشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود». وقد أثبتت حوادث التاريخ قديما وحديثا أن اليهود مصدر الفتن وأصل الفساد.

(وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ ـ التخويف ـ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً). انذر الله المشركين وخوفهم بشتى الأساليب ... ولكن لا حياة لمن تنادي ، بل زادهم الانذار والتخويف تماديا في الغي والضلال ، لأنهم لا يتحركون إلا بوحي المصالح والمنافع ، أما الحجج الدامغة والأخلاق والقيم فكلام وأحلام.

فسجدوا الإ ابليس الآية ٦١ ـ ٦٥ :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ

٦٠