التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

ليس على الأعمى حرج الآية ٦١ :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

اللغة :

يطلق الحرج على الضيق وعلى الإثم ، وهذا المعنى هو المراد هنا. وأشتاتا متفرقين.

الإعراب :

جميعا حال من واو تأكلوا. وتحية مفعول مطلق لسلّموا.

المعنى :

المخاطب في قوله تعالى : (مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) من كان له السلطة على المال

٤٤١

بالولاية أو الوصاية أو الوكالة. وقوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ليسلم بعضكم على بعض ، والمعنى الظاهر من الآية أن لا بأس على الأعمى والأعرج والمريض ولا على غيرهم أن يأكلوا دون أن يستأذنوا من بيوتهم وبيوت أقاربهم المذكورين مجتمعين مع أصحاب البيوت أو غير مجتمعين. وأيضا لا بأس أن يأكل بالمعروف الوكيل وأمثاله من المال الموكل به ، وكذا للصديق أن يأكل من بيت صديقه ، فكل واحد من هذه الأصناف له أن يأكل من هذه البيوت شريطة أن لا يعلم بعدم الرضا من أصحابها .. وقال كثير من الفقهاء : انه يتناول شيئا من الفاكهة أو الخضار أو الطعام المعتاد الذي أعد للغداء أو العشاء أو الفطور دون الشيء العزيز الذي يدخر لحالات خاصة.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) يدل على ان للإنسان أن يأكل من بيته دون ان يستأذن من نفسه ، وهذا كلام غير مستقيم؟

الجواب : ان المراد من بيوتكم بيوت أزواجكم وأولادكم على حذف مضاف لقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) ـ ١١ الشورى. وفي الحديث : ان أطيب ما يأكل المرء كسبه ، وان ولده من كسبه. وفي حديث آخر : أنت ومالك لأبيك. فصح اطلاق النفس على الزوج والزوجة لأن كلا من الآخر ، وعلى الولد لأنه من والده ولوالده.

سؤال ثان : لما ذا خص سبحانه بالذكر الأعمى والأعرج والمريض مع العلم بأنهم يدخلون في قوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) لأن المخاطب جميع المكلفين ، ولا أحد يتوهم ان السلامة من العمى والعرج والمرض شرط لجواز الأكل كي ينبه الى خطئه وتوهمه؟.

وتعددت الأقوال في الجواب عن هذا السؤال ، وأنهاها بعض المفسرين الى خمسة ، وأقربها ان الصحابة كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى ، لأنه لا يستطيع معرفة الجيد من الطعام ، فيلحقه الحيف ، والأعرج وان أبصر الطيب من الطعام لكنه يعجز عن الجلوس مع الجماعة للأكل حيث كانت تمد الموائد على الأرض. والمريض يعجز عن مشاركة الصحيح في الأكل ، حيث ينتهي هذا قبله ، ويبقى المريض وحده على المائدة فيخجل من الانفراد .. وأيضا امتنع الصحابة

٤٤٢

عن الأكل من البيوت المذكورة دون استئذان بعد ان نزل قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ١٨٧ البقرة. فأباح سبحانه لهم الأكل من هذه البيوت من غير استئذان ، والأكل مع الأعمى والمريض والأعرج.

لم يذهبوا حتى يستأذنوه الآية ٦٢ ـ ٦٤ :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

اللغة :

الأمر الجامع هو الأمر الهام الذي يستدعي أن يجتمع الكل للتعاون عليه. والسلة بفتح السين وتشديد اللام السرقة الخفية ، والتسلل الخروج في خفية ، وهذا المعنى هو المراد من يتسللون. ولو إذا يلوذ بعضهم ببعض ويستتر به مخافة أن يراه الرسول (ص). والمراد بيخالفون يعرضون أو يخرجون ، ولذا جيء بعن.

٤٤٣

الإعراب :

المؤمنون مبتدأ ، والذين آمنوا بالله ورسوله خبر. كدعاء بعضكم بعضا دعاء مصدر مضاف الى فاعله وبعضا مفعول ، والمعنى لا تدعوا الرسول كما يدعو بعضكم بعضا. ولو إذا مصدر في موضع الحال أي ملاوذين. والمصدر من أن تصيبهم مجرور بمن محذوفة ويتعلق بيحذر. ويوم معطوف على ما أنتم أي يعلم ما أنتم عليه ويعلم يوم يرجعون.

المعنى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) كان المنافقون يتهربون ، ويتسلسل من يكون منهم في مجلس الرسول كلما دعا المسلمين الى أمر هام ، فنزلت هذه الآية لتبين ما يجب للنبي على أمته من الطاعة ، وما يجب للإسلام على المسلمين من التعاون لإعلاء شأنه وكلمته ، وان المسلم الحق هو الذي يستجيب لدعوة الرسول ، ويتعاون مع الجماعة بمبلغ جهده على كل ما فيه خيرهم وصلاحهم بجهة من الجهات ، ولا يتهرب من هذا الواجب متعللا بالمعاذير ، وإذا كان صادقا في عذره أبداه للرسول (ص) ، واستأذن منه ، وهذا الانقياد يجب لكل إمام وحاكم يؤدي حق الرعية وينصح لها بإخلاص.

(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) وهم صادقون في أقوالهم ، ومضطرون لقضاء مصالحهم (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) حقا وواقعا ، أما الذين يتعللون بالاعذار الكاذبة فأولئك هم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .. ان المؤمن كالجندي يلازم قائده منتظرا منه الاشارة ، ولا يفارقه بحال لأنه لا يدري متى تدعو اليه الحاجة ، فإذا عرض له ما يضطره الى البعد عن قائده طلب منه الاذن (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). فوض سبحانه أمر الإذن للرسول (ص) ، ان شاء أذن ، وان شاء منع ، وأمره

٤٤٤

بالدعاء لمن استأذنه صدقا وإخلاصا ، لا كذبا ونفاقا.

وتسأل : قال تعالى لنبيه الكريم في الآية ٤٣ من سورة التوبة : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) وفي آية النور فوض أمر الاذن اليه ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.

الجواب : أمر الله نبيه في آية التوبة بالتثبت حتى يميز الكاذب من الصادق ، وفي آية النور ترك له حرية التقدير بعد ان يعرف حقيقة طالب الإذن وأهدافه والنتائج المترتبة على الاذن مؤمنا كان الطالب أو منافقا ، وعلى هذا الأساس يأذن أو يمنع ، فقد تستدعي المصلحة الاذن للمنافق لأن في وجوده مع الجماعة المسلمة مضرة ، وقد تستدعي المصلحة ان لا يأذن للمؤمن لأن المصلحة تستدعي بقاءه مع المسلمين.

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً). الخطاب لمعاصري النبي (ص) ، يؤدبهم به تعالى مع نبيه الكريم بأحسن الآداب حيث أمرهم أن لا يدعوه عند الاستئذان وغير الاستئذان باسمه أو كنيته ، مثل يا محمد ويا أبا القاسم كما يدعو بعضهم بعضا بل ان يدعوه بأكرم صفاته وأجلها ، وهي النبوة والرسالة ، مثل يا نبي الله ويا رسول الله .. فان توقيره من توقيره تعالى ، فلقد قرن طاعته بطاعته في العديد من الآيات ، وقال في الآية ١٥٦ من سورة الاعراف : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ـ أي وقروه ـ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) ـ ٢ الحجرات.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً). قد هنا للتحقيق ، والمعنى ان الله لا يخفى عليه تسلل المنافقين من مجلس الرسول خفية حين يذكر الجهاد ونحوه من الأمور العامة التي تهم المسلمين. وفي بعض الروايات انهم كانوا ينصرفون من مجلس الرسول (ص) متسترا بعضهم ببعض ، والى هذا تشير كلمة (لوذا) .. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). الضمير في أمره يعود الى الله تعالى ، والمراد بالفتنة هنا البلاء في الدنيا .. وهذا تهديد

٤٤٥

ووعيد بعذاب الدنيا والآخرة لمن يعصي الله ورسوله.

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). ان الله غني عن العالمين لا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا تضره معصية من عصى ، وهو عليم بما تكنّ الصدور ، وباليوم الذي يجمع الناس فيه ، ويقفون بين يديه للحساب ، فيخبرهم بأعمالهم ومقاصدهم ويعاملهم بما يستحقون ، ولا يظلم ربك أحدا.

٤٤٦

سورة الفرقان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نزل الفرقان على عبده الآة ١ ـ ٦ :

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

اللغة :

تبارك عظمت بركته. والفرقان ما يفرق بين الحق والباطل ، والمراد به هنا القرآن. والإفك الكذب. وأساطير خرافات سطرها الأولون. واكتتبها كتبها. وبكرة صباحا ، وأصيلا مساء.

٤٤٧

الإعراب :

اسم ليكون ضمير مستتر يعود الى عبده لأنه أقرب من الفرقان ، والمصدر من ليكون مجرور باللام ويتعلق بنزل. والذي له ملك السموات بدل من الذي نزل. وظلما مفعول جاءوا لأنها بمعنى أتوا. وأساطير خبر لمبتدأ محذوف أي هذه أساطير. وجملة اكتتبها حال من أساطير على حذف قد ، أي قد اكتتبها. وبكرة وأصيلا مفعول فيه لتملى ، أي تملى عليه في الصباح والمساء.

المعنى :

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً). ان بركات الله عظيمة ، ونعمه كثيرة ، وفي طليعتها هذا القرآن الذي نزله على عبده محمد (ص) ، فإنه يهدي للتي هي أقوم ، وينذر من خالفه بعذاب أليم .. وقد وصف سبحانه محمدا بالعبودية مضافا الى الله تعظيما له وإجلالا ، لأن أعظم الناس من لا يذل ولا يخضع إلا لمن يستحيل في حقه الذل والخضوع .. وأحقر الناس وأذلهم من خضع لغير الله أو اعتز بغير الله. وتقدم نظير هذه الآية في أول سورة الكهف.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ). هذا رد على عرب الجاهلية الذين أشركوا بالله ، وعلى النصارى الذين قالوا : المسيح ابن الله ، ووجه الرد ان الكون بما فيه ومن فيه مملوك لله ، والمملوك لا يكون شريكا للمالك ، ولا ولدا له (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) بأسبابه وإتقانه ونظامه بحيث يؤدي وظيفته على أكمل وجه .. وبداهة انه لا مكان للصدفة في الإتقان والأحكام ، وانه ما لجأ اليها إلا جاهل أو مكابر.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً). ان البديهيات يشترك في معرفتها العالم والجاهل ، لأن الإنسان يدركها بفطرته ، ولا يحتاج في معرفتها الى دليل ، بل هي دليل على غيرها ، ومن أوضح البديهيات ان الإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والنفع والضر والإحياء والاماتة والبعث والنشر بعد الموت ..

٤٤٨

والأصنام التي تعبدونها أيها المشركون لا تقدر على شيء من ذلك فكيف تكون آلهة؟.

ولما كان هذا الرد حجة واضحة تدمغ المشركين ، ولا تدع لهم مجالا للإنكار والجدال فقد لجأوا الى المناورات والافتراءات (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ). هذا اشارة الى القرآن ، وفاعل افتراه ضمير مستتر يعود الى محمد (ص) ، والهاء تعود الى القرآن .. لما ضاق أعداء الحق بالقرآن ومن أنزل على قلبه قالوا : ألفاظ القرآن وصياغتها من صنع محمد ، أما محتواه من أحكام ومواعظ وقصص وغيرها فهو من أهل الكتاب ، فلقد كانوا يمدون بها محمدا ، وهو بدوره يصوغها ببلاغته ، وينسبها الى الله .. ولا هدف له من وراء ذلك إلا شهوة الرياسة ، وحب التفوق والامتياز على الناس .. والذين ابتدعوا هذه الفرية هم بالذات أصحاب المناصب والامتيازات الذين غلبت عليهم شقوتهم وشهوتهم للسيادة والسيطرة على الفقراء والمستضعفين ، ابتدعوا هذه الفرية وهم على يقين من ان محمدا هو الصادق الأمين ، وان القرآن لا يشبه كلام الآدميين ، فلقد تحداهم به محمد من قبل ، وحاولوا فعجزوا .. ولو صح ان رسول الله (ص) استعان على القرآن بأهل الكتاب لكان الأولى أن يستعين المشركون باليهود ويأتوا بسورة من مثله ، لأن المشركين واليهود قد تحالفوا وتكاتفوا ضد محمد والمسلمين ، ولكن ما ذا يصنعون ، وقد عجزوا عن مقابلة الحجة بالحجة؟ هل ينقادون ويسلمون؟ كيف ، والإسلام يساوي بين السيد القرشي والعبد الحبشي ، ولا يرى فضلا لمخلوق على مثله إلا بالتقوى ، ويحرم الظلم والاستغلال الذي تقوم عليه حياة المفترين والمعاندين؟ .. اذن ، لا وسيلة للاحتفاظ بحياتهم هذه إلا الاشاعات والافتراءات ، والا ان يقال عن محمد (ص) : انه ساحر .. كذاب .. مجنون .. وعن القرآن : انه أساطير الأولين ، جمعها محمد من هذا وذاك.

(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً). أتوا ظلما عظيما لله ولرسوله ولأنفسهم التي ساقوها الى موارد التهلكة ، وأتوا زورا واضحا بنسبة الإفك الى القرآن .. وكلمة الظلم والزور تشعر بأنهم نسبوا الافتراء الى الرسول الأعظم (ص) وهم يعلمون انهم لكاذبون .. وتجدر الاشارة الى ما يجتره اليوم أعداء الإسلام ، ورددوه قبل اليوم ـ من ان محتوى القرآن مصدره التوراة والإنجيل ـ فهذا امتداد لما قاله الظالمون

٤٤٩

والمزورون في عهد رسول الله (ص) ، وان الدافع على هذا الظلم والتزوير واحد ، وهو الخوف من الحق الذي يفضح هؤلاء وأولئك ، ويظهر للملإ مساوءهم ومقاصدهم.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). احتار المفترون ما ذا يقولون؟ هل يشيعون ان محمدا درس علوم القرآن على غيره؟ ومن يصدق ، وكل الناس يعلمون ان محمدا أمي لا يقرأ ولا يكتب؟ وأخيرا خيل اليهم أنهم وجدوا المخرج ، وهو ان يقولوا ويكذبوا ان القرآن لا شيء فيه سوى أساطير كتبت لمحمد ، وتليت عليه مرارا وتكرارا حتى حفظها ، ثم صاغها بأسلوبه وأذاعها على الناس على أنها من عند الله لا من عنده .. وهكذا يفعل أرباب الأهداف والأغراض في كل زمان ومكان ، يشيعون ويفترون على الطيبين الأحرار لا لشيء إلا حرصا على عدوانهم وطغيانهم ، وإلا خوفا على مكاسبهم الظالمة من الحق وأهله .. ولكن أين المفر؟ وهل تطفأ أنوار الشمس بالنفخ من الأفواه؟. وهل الكواذب تغير الحقائق؟ ان الكاذب مفضوح وملعون على كل لسان ، وان تستر بألف حجاب وحجاب ..

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). قل يا محمد : كلا ، ليس القرآن خرافة وأساطير ، ولا هو مأخوذ من التوراة والإنجيل .. انه علم ونور أنزله الله على قلبك لتهدي به الأجيال الى نهج الحق والخير والعدل ، انه من الله الحكيم العليم بأسرار الكون ، وما يصلح الخلائق ويفسدهم ، وأنت تبلغهم عن الله ما فيه خيرهم وشرهم ، ونجاتهم وهلاكهم (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يرحم العاصي بالامهال ، مع التحذير والانذار ، ولا يعالجه بالعقوبة على خطيئته عسى أن يرجع الى ربه ، ويتوب من ذنبه ، فإن فعل غفر له ، وعفا عما سلف ، وإلا لقي جزاءه وما يستحق من أليم العذاب.

يأكل الطعام ويمشي في الأسواق الآة ٧ ـ ١٦ :

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ

٤٥٠

إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

اللغة :

مسحورا مغلوبا على عقله. وأعتدنا هيأنا. والسعير شدة اللهب. والتغيظ الهيجان والغليان. والزفير مد النفس وترديده. ومقرّنين مقيدين. والثبور الهلاك.

الإعراب :

ما مبتدأ ولهذا خبر والرسول عطف بيان من هذا. وجملة يأكل حال من الرسول. ولو لا أداة تحضيض. فيكون منصوبة بأن مضمرة بعد الفاء الواقعة في جواب لولا. أو يلقى وما بعده عطف على أنزل اليه. وجنات بدل من (خيرا).

٤٥١

ويجعل بالجزم عطفا على جعل لأنها جواب ان الشرطية فهي مبنية لفظا مجزومة محلا. ومنها متعلق بمحذوف حالا من (مكانا) ومكانا ظرف لألقوا. ومقرنين حال من واو ألقوا. وثبورا مفعول به. وخالدين حال من واو يشاءون. واسم كان على ربك ضمير مستتر يعود الى ما يشاءون أي كان الذي يشاءونه وعدا على ربك.

المعنى :

ان حكمة الله في إرسال رسله الى الناس هي أن يبيّنوا لهم ما يصلحهم وما يفسدهم ليكونوا على بصيرة من أمرهم ، ويكون لهم على الله الحجة حين الحساب والجزاء ، ولا تتحقق هذه الحكمة إلا إذا كان الرسول واحدا من الناس في حياته وطبيعته وغرائزه ، ولو كان من غير جنسهم وطبيعتهم لنفروا منه ، ولم يركنوا اليه ركونهم الى من هو مثلهم يتكلم كما يتكلمون ، ويفعل كما يفعلون ، ويتأثر بهم ويتأثرون به .. أجل ، يجب أن يبلغ الرسول من الكمال أقصى ما يبلغه انسان في حدود الانسانية وصفاتها وطاقاتها ، لأن الكمال هو القوة التنفيذية لرسالته وتعاليمه. أنظر تفسير الآية ٣٥ من سورة طه فقرة «حقيقة النبوة» .. وبعد هذا التمهيد ننظر الى أقوال المشركين واعتراضاتهم على نبوة محمد (ص) وهي :

١ ـ (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ). يريدون من رسول الله أن يحتجب في برج من العاج ، ودونه الحراس والحجاب ، تماما كما يفعل الملوك والجبابرة .. وجهلوا أو تجاهلوا ان صاحب الرسالة أيا كان ، نبيا أو غير نبي ، لا يمكنه أن يؤدي رسالته إلا إذا كان مع الناس في تجاربهم وأعمالهم ، وكيف يستجيبون له ، وهو عنهم في حجاب ، أو من عالم غير عالمهم.

٢ ـ (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً). من مقترحات المشركين على محمد (ص) أن يكون معه أحد الملائكة .. ولا بدع ، فمن جعل لله شريكا في خلقه فبالأولى أن ينكر نبوة محمد إذا لم يكن معه شريك في تأدية الرسالة ، ومن قبلهم قال فرعون عن موسى : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) ـ ٥٣ الزخرف».

٤٥٢

منطق أرباب المال : بنك وعقار :

٣ ـ (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها). هذا هو منطق أرباب المال .. بنك وعقار ، فكيف يؤمنون بمن يقول : لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى؟ ان الفضل والحرية عندهم بالمال .. بالبذخ والترف من غير كد وعمل ، أما من يكد ليعيش فهو عبد ، عليه أن يسمع ويطيع .. فكيف يختار الله محمدا ، ويفضله على الأغنياء ، وهو يعاني الفقر والعوز؟. ولو اختاره الله واصطفاه ، كما يدعي ، لأنزل عليه كنزا من السماء ، أو كان له بستان يعيش منه من غير كد وعناء .. وما زال هذا المنطق يسيطر حتى اليوم ، فالحكم والسلطان في أكثر البلاد أو الكثير منها لأصحاب الشركات والمصارف ، أو لمن يختارونه حارسا لمكاسبهم وثرواتهم. أنظر تفسير الآية ٩٠ من سورة الاسراء ، فقرة «التفكير من خلال المال».

(وَقالَ الظَّالِمُونَ ـ للمؤمنين ـ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً). تقدم نظيره في الآية ١٠٣ من سورة الاسراء (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بأنك فقير ومسحور (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) لابطال نبوتك وردك بالحجة والدليل.

شأن الجاهل المغرور :

كذّبوا برسالة محمد (ص) ، ونعتوه بالافتراء فكانوا هم المفترين ، لأن من قال للعالم : أنت جاهل ، وللمخلص : أنت خائن ـ فقد شهد على نفسه بالجهل والخيانة. وعلى هذا فان الأمثال التي ضربوها لرسول الله (ص) هي شواهد وأمثال لجهلهم وافترائهم وعنادهم للحق ، ولكنهم لا يشعرون ، تماما كمن رأى قبح وجهه في المرآة فظن القبح فيها ، لا في وجهه .. وهذا هو شأن الجاهل المغرور. (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً). ان الذي خلق الكون بأرضه وسمائه قادر على ان يهب نبيه الكريم الكثير من المال والعقار ، ولكن العظمة عند الله لا تقاس بالمال ، وإنما تقاس بالتقوى وصالح الأعمال ، وجزاء المتقين والصالحين نعيم قائم ، وهناء دائم ، أما الحياة الدنيا فهي أهون من ان يجعلها الله ثوابا لأوليائه وأهل طاعته ، وفي

٤٥٣

الحديث : «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء».

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ). أنكروا نبوة محمد (ص) وتعللوا بأنه فقير ومسحور ، وهم كاذبون حتى عند أنفسهم ، والدافع الأول هو الخوف على مصالحهم ومنافعهم .. وقالوا : لا حشر ولا نشر كيلا ينكر عليهم منكر بأنهم يؤثرون الفاني على الباقي .. وكل من قاس الفضيلة بالمال ، وآثره على مرضاة الله فهو في حكم من كذّب بلقاء الله ، وان آمن به نظريا (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً). قيل: ان الرؤية والتغيظ والزفير هي صفات لخزنة النار الموكلين بها ، وعليه يكون في الكلام حذف مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). وقيل : ان الله يخلق في النار غدا حياة وعقلا .. وقال ثالث : بل هي صفات لأهل النار ، ونسبت الى النار مبالغة. وفي رأينا انها كناية عن أليم العذاب وشدة الهول.

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً). ان نار الله لا تضيق بشيء ، كما صرحت بذلك الآية ٢٩ من ق : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ). والمراد من الضيق ان أهل النار يضيقون بها ويستكرهون على الدخول فيها ، فقد سئل رسول الله (ص) عن هذه الآية : فقال : «والذي نفسي بيده انهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» أي يدخل فيه بالضرب والضغط. وتقدم مثل هذه الآية في سورة ابراهيم الآية ٥١ ، فقرة «جهنم والأسلحة الجهنمية». (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً). تدل كلمة «على» في الآية على ان الله سبحانه قد كتب على نفسه الوفاء بالوعد كما كتب عليها الرحمة. ومسؤولا أي ان المطيع له الحق في ان يسأل الله الوفاء بوعده .. وفي تفسير الرازي : إن قيل : كيف يقال : العذاب خير أم جنة الخلد؟ وهل يجوز ان يقول العاقل : السّكر أحلى أم العلقم؟ قلنا : هذا يحسن في معرض التقريع ، كما إذا أعطى السيد عبده مالا ، فتمرد واستكبر ، فضربه ضربا موجعا ، وهو يقول له على سبيل التوبيخ : هذا أطيب أم ذاك؟

٤٥٤

ويوم يحشرهم وما يعبدون الآية ١٧ ـ ٢٠ :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

اللغة :

بورا هلكى. والصرف بفتح الصاد الدفع. والمراد بالفتنة هنا الامتحان.

الإعراب :

هؤلاء بدل من عبادي. وسبحانك منصوب على المصدرية. ومن أولياء (من) زائدة اعرابا وأولياء مفعول أول لنتخذ ، ومن دونك مفعول ثان مقدم ، والمصدر من أن نتخذ فاعل ينبغي. والجملة من انهم ليأكلون الخ حال من المرسلين أي إلا وهم يأكلون ، ولا وجه لجعل الجملة مستثنى كما قال صاحب مجمع البيان لأن جميع الرسل يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق دون استثناء.

المعنى :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ

٤٥٥

هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ). ذكر سبحانه في الآيات السابقة المشركين وأقوالهم عن رسول الله (ص) وما يلاقونه غدا من عذاب الحريق ، وفي الآيات التي نحن بصددها ذكر جل وعز انه يوم القيامة يجمع بين المشركين والذين اتخذوهم شركاء لله ، ثم يسأل سبحانه الفريق المعبود على مسمع ومرأى من الفريق العابد المشرك ، يسألهم : أأنتم غررتم بهؤلاء الضالين ، وقلتم لهم : نحن شركاء لله؟ والغرض من هذا السؤال تبكيت المشركين وتأكيد الحجة التي لزمتهم بلسان الأنبياء والرسل.

(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ). أجاب الفريق المعبود : تنزهت يا إلهنا وتعاليت عن الشريك .. كيف ندعو الى عبادتنا ونحن نوحدك ونعبدك بصدق واخلاص ، ونخاف عقابك ، ونرجو ثوابك ، ولا نستعين بأحد سواك .. وفي هذا الجواب تقريع وتوبيخ للمشركين تماما كما في السؤال (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) ما زال الكلام للفريق المعبود ، ومعناه نحن ما أضللنا المشركين ، ولكن حكمتك يا إله العالمين قضت أن تمهلهم وآباءهم ، وأن تنعم عليهم بطول العمر والأموال والأولاد عسى أن يتوبوا ويستغفروا ، ولكنهم انصرفوا عنك الى الدنيا وملذاتها ، فكانوا من الهالكين بتقصيرهم وسوء اختيارهم.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً). الخطاب من الله للمشركين ، والمعنى كنتم أيها المشركون تقولون : نحن نعبد من نعبد ليشفعوا لنا عند الله ، ويقربونا منه زلفى .. فما ذا رأيتم؟ لقد تبرأوا منكم ، وكذبوكم في أقوالكم وأباطيلكم ، وهذا العذاب ينزل بكم ، ولا دافع يدفعه عنكم أو ناصر ينصركم من الله (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً ، كَبِيراً) ولا شيء أكبر وأعظم من نار جهنم ، وهي الجزاء لكل ظالم ومجرم.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ). نفى المشركون النبوة عن محمد (ص) لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فقال سبحانه ردا عليهم : وأية غرابة في ذلك؟ فجميع الأنبياء من قبله كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، ومنهم من تعتقدون أنتم أيها المشركون بنبوتهم كإبراهيم وإسماعيل (ع). أنظر تفسير الآية ٧ من هذه السورة. (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً). المراد بالفتنة هنا الامتحان والاختبار .. ان

٤٥٦

الله سبحانه يختبر عباده ، وهو أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي يستحق بها الثواب والعقاب كما قال الإمام علي (ع) ، ومن الأشياء التي امتحن الله بها عباده ، بل من أظهرها إرسال الرسل اليهم مبشرين ومنذرين ، فمن آمن بهم ، وسمع لهم وأطاع فقد استحق الثواب ، ومن كفر وعاند استحق العقاب ، فوجود النبي كمنذر ومبشر هو امتحان للمؤمنين والكافرين ، وسبب لإظهار ما يكنه كل من الفريقين .. وأيضا وجود الكافرين والمنافقين هو امتحان وابتلاء للأنبياء الصالحين ، لأن أهل الشر والفساد لا يدعون أهل الصلاح وشأنهم ، بل يحاولون إيذاءهم بكل سبيل ، بالاشاعات والافتراءات ، والدس والمؤامرات ، تماما كما فعل المشركون مع رسول الله (ص) ، ويفعل الآن العملاء المأجورون مع الأحرار المخلصين .. ويبتدئ تاريخ الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل بتاريخ الانسانية ، فلقد قتل قابيل هابيل ، وهما من نطفة واحدة ، وخرجا من رحم واحد ، قتله لا لشيء إلا لأن الله تقبل عمل هابيل لصلاحه ، ولم يتقبل عمل قابيل لفساده (أَتَصْبِرُونَ) أي اثبتوا على الحق أيها المؤمنون ، ولا تكترثوا بالمنافقين وأكاذيبهم (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بمن يفتري على الأبرياء الصالحين ، وبمن يثبت على الحق مهما تكن النتائج ويجزي كلا بما يستحق.

٤٥٧
٤٥٨

الجزء التّاسع عشر

٤٥٩
٤٦٠