التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

كان أو أمة فله أن يكاتبه ، أي يتفق معه على أن يؤدي المملوك مبلغا من المال في وقت معين قسطا واحدا ، أو أقساطا ، فان أداه كاملا الى سيده يصبح المملوك حرا ، وإذا أدى البعض أعتق منه بقدر ما أدى ان كان العقد مطلقا غير مشروط بتأدية الجميع ، والا لم يعتق منه شيء ، وقيل : العبد لا يتبعض ، إما ان يتحرر كاملا ، واما ان يكون رقا كذلك ، ويستحب للسيد ان يحط عن المملوك شيئا من المال المتفق عليه ، وهذا هو المراد بقوله تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ) وقد اصطلح الفقهاء على تسمية هذه المعاملة بين المملوك وسيده بالمكاتبة لقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ الْكِتابَ .. فَكاتِبُوهُمْ).

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا). المراد بالفتيات هنا الإماء ، ولا وجود لهن في هذا العصر ، والبغاء الزنا .. وكان أهل الجاهلية يكرهون الإماء والجواري على الزنا التماسا للمال ، فنهى سبحانه عن ذلك.

وتسأل : ان الظاهر من قوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ان إكراه الأمة على الزنا انما يحرم إذا أرادت العفة والصون ، أما إذا أرادت الزنا ورغبت فيه فلا بأس أن تزني ، مع العلم بأن الزنا محرم في شتى الأحوال؟.

الجواب : ان المعنى المراد من أداة الشرط يختلف باختلاف المقاصد والقرائن ، فقد يكون المراد بأداة الشرط مثل (ان) و (إذا) القيد والتعليق حقيقة وواقعا أي ان يقصد المتكلم تحقيق المشروط عند وجود شرطه ، وعدمه عند عدمه ، ومثال ذلك أن تقول لصاحبك : ان فعلت أنت هذا فعلت أنا مثله. فقد علقت فعلك على فعل صاحبك ، وجعلت فعله شرطا لفعلك بحيث إذا لم يفعل هو لم تفعل أنت.

وقد يقصد المتكلم بأداة الشرط مجرد بيان الموضوع من غير تعليق شيء على شيء ، مثل ان تقول لصاحبك : ان رزقت ولدا فلا تشتر له دراجة ، فأنت لا تريد بكلمة (ان) هنا القيد والتعليق ، وإنما أردت إبداء رأيك وكراهيتك أن يركب الأولاد الدراجة ، ولو أردت الشرط والقيد لكان المعنى ان لم ترزق ولدا فاشتر لولدك دراجة .. وهذا هو الهذيان بعينه ، وقوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) من هذا الباب أي ان كلمة (ان) لا يراد بها القيد والشرط ، بل

٤٢١

ذكرت لمجرد بيان الواقع ، وإنه إذا أرادت الأمة العفة والصون فبالأولى ان تريدوها أنتم .. ولو أريد بكلمة (ان) التعليق والشرط حقيقة لكان المعنى : عليكم أن تكرهوا الفتيات على فعل الزنا ان أردن الزنا .. وبداهة ان الإكراه لا يتصور مع وجود الارادة ، تماما كما لا يتصور ركوب الدراجة من الولد مع عدم وجوده.

المنطوق والمفهوم :

وبتعبير ثان ان كلمة (ان) و (إذا) وما اليهما تدل على شيء واحد في مقام ، وتدل على شيئين في مقام آخر ، وتسمى احدى الدلالتين بدلالة المنطوق ، والثانية بدلالة المفهوم في اصطلاح أهل الأصول ، والمنطوق هو النص الحرفي الذي يتفوه به المتكلم ، والمفهوم هو الذي لم ينطق به ، ولكن يدل عليه بالتلويح والاشارة ، لا بالنص والعبارة ، ومثال ذلك ان تقول لصاحبك : ان أكرمتني أكرمتك ، فالمنطوق هنا يدل على إكرامك له عند إكرامه لك.

أما المفهوم فهو الذي يشير اليه المنطوق ، ويستفاد من مضمونه لا من نصه ، وهو في المثال المذكور ان لم تكرمني فأنا لا أكرمك ، فهذه الجملة لم ينطق بها المتكلم ، ولكنها مفهومة من منطوق كلامه المشتمل على (ان). والآية التي نحن بصددها من النوع الأول أي لها دلالة واحدة ، وهي دلالة المنطوق والعبارة فقط ، وليس لها دلالة المفهوم والاشارة إطلاقا .. والمنطوق الذي دلت عليه الآية هو عدم جواز الإكراه على الزنا مع ارادة الستر ، ولا شيء وراء هذه الدلالة على الإطلاق ، لأن هذا الشيء الذي وراء المنطوق لا يخلو ان يكون واحدا من اثنين : إما جواز الإكراه على الزنا مع ارادته والرغبة فيه ، وهذا محال لأن الإكراه على الشيء لا يجتمع مع ارادته والرغبة فيه ، وهذا واضح ، واما جواز الإكراه مع عدم ارادته ، وهذا محال من الله لأنه تعالى لا يجيز الفحشاء بحال من الأحوال.

(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) للمكرهات على الزنا لأن العقاب على من أكره ، لا على من استكره ، قال الرسول الأعظم (ص) : رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه .. ومن أكره غيره على الحرام يغفر له الله إذا

٤٢٢

تاب وأناب (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ). المراد بالآيات أحكام القرآن وتعاليمه ، وهي ظاهرة واضحة و (مثلا) اشارة الى أخبار الماضين وقصصهم ، وموعظة للمتقين أي هدى لمن طلب الهداية ، والمعنى ان الله سبحانه أنزل القرآن تبيانا واضحا لما نحتاج اليه من الأحكام ، ونبأ عن الماضين ، وهدى لمن ائتم به ، وعزّا لمن تولاه.

الله نور السموات والأرض الآة ٣٥ ـ ٣٨ :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

اللغة :

المشكاة تطلق على الكوة في الحائط غير نافذة يوضع فيها المصباح ونحوه ،

٤٢٣

وأيضا تطلق على العمود الذي يكون المصباح على رأسه. درّيّ أي يشبه الدر في صفائه. والغدو جمع غدوة ، وهي الصباح ، والآصال جمع أصيل ، وهو المساء.

الإعراب :

زيتونة بدل من شجرة ، وما بعدها صفة. نور على نور (نور) خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك نور على نور و (عَلى نُورٍ) متعلق بمحذوف صفة لنور. والمصدر من ان ترفع منصوب بنزع الخافض أي بأن ترفع. وفي بيوت متعلق بيسبح ، وفيها بدل من في بيوت مثل: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) ـ ١٠٨ هود. ورجال فاعل يسبح. وليجزيهم متعلق بمحذوف أي فعلوا ذلك ليجزيهم. وأحسن مفعول ثان ليجزيهم لأنه بمعنى يعطيهم.

المعنى :

أشار سبحانه في كتابه العزيز الى عظمة الكون وما فيه مئات المرات ، معبرا عنه في العديد من آياته بالسماوات والأرض .. والغرض من ذلك ان يستدل الإنسان بعظمة الكون على وجود المكوّن وعظمته ، وأن يكون على يقين من ربه وخالقه ، وقد ذكر سبحانه في بعض الآيات ان خلق الكون أشد وأكبر من خلق الإنسان على ما فيه من بديع الصنع ، وجمال الخلق ، قال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) ـ ٢٧ النازعات. وقال : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ٥٧ غافر.

فالسموات والأرض بإحكامها وترتيبها ونظامها هي أعظم الأدلة وأظهرها على عظمة الخالق في قدرته وعلمه وحكمته .. ولأن الكون أوضح الأدلة على وجود الله ، ولأن النور أظهر من كل ظاهر قال سبحانه : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). والمراد بنور الله عظمته في قدرته وعلمه وحكمته ، وتتجلى هذه العظمة في خلق

٤٢٤

الكون ، فكل شيء في أرضه وسمائه يدل دلالة صريحة واضحة على وجود الله وعظمته ، وبهذا يتبين معنا انه لا فرق بين ان نقول : السموات والأرض نور الله ، وبين ان نقول : الله نور السموات والأرض ، لأن معنى الجملة الأولى ان عظمة الكون تدل على عظمة الله ، ومعنى الثانية ان عظمة الله تتجلى في عظمة الكون ، فهو تماما مثل قولك : إتقان هذا البناء يدل على مهارة الباني ، ومهارة الباني قد تجلت في إتقان هذا البناء.

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ). هذا مثال ضربه الله سبحانه على وضوح الأدلة وظهورها على وجوده ، وانها قائمة في كل جزء من أجزاء الكون ، ويتلخص هذا المثال بسراج وضع في كوة بجدار البيت تحصر نوره وتجمعه ، ولا ينفذ اليه الهواء ، وهذا السراج داخل قنديل من الزجاج الشفاف الصافي الذي يتلألأ كالكوكب المضيء ، أما الزيت الذي فيه فهو من زيتونة لا هي شرقية تصيبها الشمس عند شروقها فقط ، ولا هي غربية تصلها الشمس عند غروبها فقط ، بل هي شرقية غربية لأنها تواجه الشمس صباحا ومساء ، لا يظلها جبل ولا شجر ولا حائط ، ومن هنا جاء زيتها نقيا صافيا ، يكاد يضيء من غير إحراق ، فإذا مسته النار أشرق نوره وتألق (نُورٌ عَلى نُورٍ). نور المصباح ، ونور الزجاج الصافي ، ونور الزيت النقي. وبكلام أخصر زاد المصباح إنارة لنقاء الزيت ، وصفاء القنديل وحصر الكوة لنور المصباح ووقايتها له من تلاعب الأرياح.

(يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) إذا سلكوا السبيل الذي نصبه للهداية لأن الله سبحانه حكيم لا يفعل الشيء اعتباطا ، والذين يهديهم ويثيبهم هم الذين يرون دلائله ويعملون بها ، وقد أشار اليهم في الآية التالية بقوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) الخ. (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) ومنها هذا المثال البليغ ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم الجحود العنود لدلائله الساطعة وبيناته القاطعة ، ويجزيه جهنم وبئس المهاد.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). المراد بالبيوت هنا المساجد ،

٤٢٥

وبرفعها بناؤها .. بعد ان ذكر سبحانه أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر المساجد وانه تعالى قد رخص ببنائها لأن المؤمنين يعمرونها بالصلوات صباحا ومساء (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ). التجارة والبيع هنا كناية عن مطلق العمل للدنيا من أي نوع كان ، وإنما خص التجارة بالذكر لأنها أكثر ربحا وأقوى صارفا من جميع الأعمال ، والمعنى ان المؤمنين يعملون للدنيا في الأسواق والحقول والمصانع وغيرها ، وأيضا يعملون للآخرة ، فيصلّون ويصومون ويزكون ويحجون ، ولا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ، ولا الآخرة عن الدنيا عاملين بقوله تعالى : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) ـ ٧٧ القصص.

(يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) هذا كناية عن هلع المجرمين وفزعهم ، أما الطيبون فهم بأمان من الفزع الأكبر (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) من الصالحات والمبرات ، قال الإمام علي (ع) : لن يفوز بالخير إلا عامله ، ولن يجزى جزاء الشر إلا فاعله (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أضعافا مضاعفة (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير استحقاق ، بل تفضلا منه وكرما. قال صاحب الأسفار : من خلت صحيفته من السيئات دخل الجنة بغير حساب ، ومن خلت صحيفته من الحسنات دخل النار بغير حساب ، وأما الذين يحاسبون فهم الذين خلطوا عملا صالحا ، وآخر سيئا.

أعمالهم كسراب الآة ٣٩ ـ ٤٢ :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ

٤٢٦

يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))

اللغة :

السراب شعاع من ضوء الشمس في الهجيرة يتخيله الرائي ماء يجري على الأرض. وقيعة جمع قاع ، وهو المنبسط من الأرض. ولجيّ عظيم الماء تتراكم أمواجه. ويغشاه يغطيه. وصافات باسطات أجنحتها في الهواء. والمصير المرجع.

الاعراب :

بقيعة الباء حرف جر ، وقيعة مجرور بها متعلقا بمحذوف صفة لسراب. أو كظلمات معطوف على سراب. من فوقه موج مبتدأ وخبر والجملة صفة موج. من فوقه سحاب مثله. وظلمات خبر لمبتدأ محذوف أي هذه ظلمات. من نور (من) زائدة اعرابا ونور مبتدأ. والطير عطف على من في السموات. وصافات حال من الطير.

المعنى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً). المراد بالكافرين هنا من جحد نبوة محمد (ص) تعصبا وعنادا ، أو عن إهمال وتقصير ، أي لم يبحث عن الحقيقة ، وهو قادر على البحث

٤٢٧

والنظر .. بعد أن ذكر سبحانه الذين لا تلهيهم تجارة عن ذكر الله ، وانه يجزيهم أحسن ما عملوا ذكر هؤلاء الجاحدين ، وانهم وثقوا بالباطل ، واعتقدوه حقا ينفعهم عند الله ، تماما كالظامئ يثق بالسراب الغرّار الخدوع ، فإذا أراد أن ينهل منه وجده هجيرا يزيده ظمأ على ظمأ .. ولا يختص هذا الوصف بمن كفر بالله أو بنبوة محمد (ص) .. كلا ، فانه ينطبق على الكثيرين من أمة محمد (ص) الذين يظنون بأنفسهم الخير والتقوى ، وهم مطية الشيطان ، وأعداء الرحمن .. وهل يجتمع الخير والتقوى مع الغرور والحقد على عباد الله ، والتكالب على الدنيا وحطامها؟.

(وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ). وجد الله أي وجد حسابه وجزاءه ، وضمير عنده يعود الى العمل ، أو الى المجيء الذي دلت عليه كلمة جاءه ، والمعنى ان الكافر يعتقد ، وهو في دار الدنيا انه سوف ينجو من عذاب الله بما قدم من صالح الأعمال .. ولكنه حين يقف بين يدي الله لنقاش الحساب لا يجد شيئا مما توهم وتخيل ، بل يجد ذنوبا وآثاما ، وحسابا وعقابا ، وخاب منه الأمل تماما كما خاب من وثق بالسراب.

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها). بحر عميق الغور ، تتراكب فوقه الأمواج الواحدة فوق الأخرى ، وفوق الجميع سحاب ثقيل كثيف .. وهذا أبلغ تشبيه لأهل الشهوات والأهواء الذين غرقوا في بحر القبائح والرذائل : كذب ورياء وحقد ودس وغرور وكبرياء وطمع وحرص .. الى ما لا نهاية ، ومن عاش في هذه الظلمات التي لا يرى فيها شيئا كيف يرى الحقيقة ويدركها؟

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). قال الطبرسي : المراد من لم يجعل الله له نجاة في الآخرة فلا نجاة له. والذي نفهمه نحن ان الذين لا يهتدون الى طريق الحق الذي أرشدهم الله اليه فإنهم يعيشون في حيرة الجهل والضلالة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ). انظر الآية ٤٤ من سورة الإسراء ،

٤٢٨

فقرة «كل شيء يسبح بحمده» (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأنه خالقهما ، والخالق هو المالك الحق (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) للحساب والجزاء.

الماء الآية ٤٣ ـ ٤٦ :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

اللغة :

يزجي يسوق سوقا رفيقا. ركاما متراكما بعضه فوق بعض. ويؤلف يجمع. والودق المطر والقطر. من خلاله من بينه. السّنا بالقصر الضوء وبالمد المجد. يقلب الليل والنهار يتصرف فيهما.

الإعراب :

من جبال بدل اشتمال من السماء مع اعادة حرف الجر. وقال الطبرسي : فيها

٤٢٩

متعلق بمحذوف صفة لجبال ، ومثلها من برد أي صفة بعد صفة. من يمشي على بطنه ، ومن يمشي على أربع (من) استعملت هنا فيمن لا يعقل.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ). يرسل سبحانه الرياح ، فتثير سحابا يسوقه من بلد الى بلد ، ثم يجمع بعضه فوق بعض على هيئة الجبال ، وفي هذا السحاب ماء سائل ، ومتجمد في قطع ثلجية تسمى بردا يخرج من السحاب (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ). يتصرف سبحانه في البرد على موجب حكمته ، فان اقتضت إهلاك زرع أو أي شيء أرسل عليه البرد ، والا صرفه عنه. وتقدم مثله في الآية ١٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٣٨٨ وقلنا هناك وفي مناسبات شتى : ان الظواهر الكونية تستند الى أسبابها الطبيعية مباشرة ، وتنتهي اليه تعالى بالواسطة لأنه خالق الكون بما فيه.

(يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ). ضمير برقه يعود الى السحاب ، ويذهب بها يخطفها ، قال تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) ـ ٢٠ البقرة (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) طولا وقصرا (إِنَّ فِي ذلِكَ) التقلب (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) الذين لا يقفون عند الأسباب الظاهرة ، ويدركون مبدعها وموجدها.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ). ان لقدرة الله ووحدانيته شواهد وبينات لا يبلغها الإحصاء ، منها ما يتجلى في خلق الجماد ، ومنها ما نشاهده في خلق النبات ، ومنها في خلق الحيوان ، وما يدب على الأرض ، واليه الاشارة في هذه الآية ، ومحل الشاهد في الدابة على قدرة الله وعظمته ان الماء عنصر أساسي في تكوين الدابة وتركيبها ، وحقيقة الماء واحدة مع ان الدابة التي خلقت منه متنوعة ، فمنها من يمشي على بطنه كالزواحف ، ومنها من يمشي على رجلين كالإنسان ، ومنها ما يمشي على أربع كالانعام والخيل والبغال والحمير والوحوش ..

٤٣٠

الى غير ذلك من الأنواع التي أشار اليها سبحانه بقوله : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ان الدواب جميعا من أدنى نوع الى أعلاه يسير على أكمل نظام ، ويفعل ما يلائمه ويتفق مع مصلحته ، وهذا دليل قاطع على ان وراء ذلك خالقا عظيما ومدبرا حكيما.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ). أقام سبحانه الدلائل على وجوده وعظمته ووحدانيته ، ومنها خلق الدابة بشتى أنواعها ، ولم يدع عذرا لمتعلل. قال الإمام علي (ع) : ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات ، وساكن وذي حركات ، فأقام من شواهد البينات على لطيف صنعه ، وعظيم قدرته ما انقادت له معترفة به مسلمة له (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). لا شك ان من سلك الصراط المستقيم الذي أمر سبحانه بسلوكه فهو مهتد عند الله ، أما من عصى أمره تعالى ، وحاد عن صراطه فهو ضال عند الله وعند الناس ، ما في ذلك ريب.

المنافقون الآة ٤٧ ـ ٥٤ :

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢)

٤٣١

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

اللغة :

يتولى يعرض. والمراد بالمرض هنا الهوى والبغض. والحيف الجور.

الإعراب :

إذا فريق (إذا) فجائية وقعت في جواب الشرط لأنه جملة اسمية. ومذعنين حال من واو يأتوا. والمصدر من أن يحيف مفعول يخافون. وقول المؤمنين خبر كان ، والمصدر من أن يقولوا سمعنا اسمها ، أي انما كان قول السمع والطاعة قول المؤمنين. ويتقه الأصل يتقيه فحذفت الياء للجزم لأن الفعل المعطوف عليه مجزوم. وجهد مفعول مطلق لأقسموا لأنه مضاف الى الأيمان ، وهي بمعنى القسم. وطاعة خبر لمبتدأ محذوف أي أمرنا طاعة أو مبتدأ والخبر محذوف أي طاعة معروفة أمثل ، ومعروفة صفة طاعة.

المعنى :

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ). الذين يقولون : آمنا وأطعنا على ثلاثة أنواع : الأول يقولون كلمة الايمان بألسنتهم ، ويعرفونها بقلوبهم ، ويعملون بموجبها ، وهؤلاء غير مقصودين

٤٣٢

من الآية التي نحن بصددها. النوع الثاني : يقولون ويعتقدون ولكنهم يعصون ولا يفعلون ، أي يؤمنون نظريا لا عمليا. النوع الثالث : يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، وهم المنافقون ، والآية تشمل النوع الثاني والثالث ، ولا تختص بالمنافقين فقط ، كما قيل. لأن الايمان بلا عمل لا يجدي نفعا بدليل قوله تعالى : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) ـ ١٥٧ الانعام.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ). قال أكثر المفسرين : وقعت خصومة بين منافق ، ويهودي على أرض ، فقال المنافق : أخاصمك الى كعب الأحبار اليهودي لعلمه بأنه يقبل الرشوة .. وقال اليهودي : بل نتحاكم عند محمد (ص) ليقينه بأنه لا يقبل الرشوة. فرفض المنافق ، فنزلت الآية ، وسواء أصحت الرواية أم لم تصح فإنها أوضح تفسير للآية.

امتحن دينك وإيمانك :

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ). انهم لا يعرفون الحق إلا إذا وافق أهواءهم ، فإن خالفها تنكروا له. وهذه الأنانية البشعة الجشعة لا تختص بالمنافقين وحدهم ، فإنها تطبع أيضا حياة الكثير من المؤمنين ، أو الذين يرون أنفسهم مؤمنين .. انهم يجاهرون بالحق : وينكرون الباطل ، ولكن أي باطل ينكرون؟ وبأي حق يجاهرون؟ ان الحق في مفهومهم وإيمانهم ما يتفق مع مصلحتهم ، والباطل ما يخالفها ، ولكنهم يذهلون عن باطن أنفسهم وواقعهم .. هم يؤمنون بأنهم لا يفعلون إلا الحق ، ولا ينطقون إلا بالصدق ، وفي الوقت نفسه لا ينبعثون ولا يتحركون إلا بدافع من أهوائهم ومصالحهم.

وهؤلاء أسوأ حالا من المنافق الذي يخدع الناس ، ولا تخدعه نفسه لأنه على يقين من كذبه وريائه ، أما أولئك فإنهم يسيئون وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا .. ولا يظلمهم من ينفي عنهم صفة الإيمان لأن المؤمن حقا لا ينخدع بحيل الشيطان وأباطيله ، ويتهم نفسه إذا زينت له عملا من أعماله .. فإن الشيطان لا مهمة له إلا أن يزين للناس سوء أعمالهم ، وإلا ان يريهم الباطل حقا ، والضلال صلاحا ..

٤٣٣

قيل : ان رجلا قال لإبليس : لا سبيل لك على المؤمنين من أمثالي ، فضحك إبليس وقال له : ان كلامك هذا هو الشاهد على انك وأمثالك مطية لي .. ان غرورك هذا هو المنفذ الذي أدخل منه الى قلبك ، فأفسده وأعماه حتى عن الواضح المحسوس.

وبعد ، فمن أراد أن يمتحن دينه وإيمانه فلينظر : هل يتهم نفسه أو يزكيها من كل عيب؟ وهل تقبل الحق حتى ولو كان عليها ، فإن اتهمها وقبلت الحق مهما كانت النتائج فهو من المؤمنين وإلا فهو من الهالكين.

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). رفضوا أن يتحاكموا عند الرسول ، ولا موجب لهذا الرفض إلا البغض والكراهية لرسول الله ، أو الشك والريب في نبوته ، أو الخوف من ظلمه وجوره. وأيا كان السبب الموجب فانه لا يأبى حكم الرسول الأعظم (ص) إلا كافر أو ظالم لنفسه ولغيره (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). بعد أن ذكر سبحانه المنافقين ، وانهم الذين يمتنعون عن المحاكمة عن الرسول إذا دعوا اليها ذكر المؤمنين ، وانهم الذين يستجيبون لكل من دعاهم الى الله ورسوله ، ويلبون دعوته خاضعين طائعين. وهؤلاء هم حزب الله الذين عناهم بقوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ـ ٢٢ المجادلة.

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) برضوان الله وجنانه .. وعطف الخوف من الله وتقواه على طاعته تعالى هو من باب عطف التفسير لأن من أطاع الله فقد خافه واتقاه ، ولكن المفسرين أبوا إلا أن يفرقوا بين هذه الأفعال ، فقالوا : أطاع الله فيما أمر ونهى ، وخافه فيما عصى ، واتقاه فيما يأتي (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ). ضمير أقسموا للمنافقين ، والمعنى انهم حلفوا الايمان المغلظة لئن أمرهم الرسول بالخروج من ديارهم وأموالهم ليسمعوا ويطيعوا. فزجرهم سبحانه عن الايمان الكاذبة بقوله : (قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). قل يا محمد للمنافقين لا تحلفوا ، فان الله يعلم ان طاعتكم هذه طاعة كذب ورياء ، وانكم أعداء الله ورسوله ، وقد أعد لكم من أليم العذاب ما تستحقون.

٤٣٤

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ظاهرا وباطنا ، لا نفاقا ورياء (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ). ضمير عليه للرسول ، والخطاب في عليكم للمنافقين ، والمعنى ان الرسول مكلف بالتبليغ ، وأنتم مكلفون بالطاعة ، ومن أهمل فعليه يقع حساب الإهمال وتبعته ، سواء أكان رسولا ، أم مرسلا اليه (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ). من أدى ما كلف به فعلى الله أجره وثوابه ، وقد بلغ الرسول وأدى ما عليه ، وبقي ما عليكم.

استخلاف المؤمنين في الأرض الآية ٥٥ ـ ٥٧ :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

الإعراب :

اللام في ليستخلفنهم وما بعده جواب لقسم محذوف. وكما استخلف الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق أي استخلافا مثل استخلاف الخ. وجملة يعبدونني حال من ضمير ليبدلنهم. وشيئا مفعول مطلق.

٤٣٥

المعنى :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). ظاهر الآية يدل على ان أية أمة تؤمن بالله ورسوله ، وتلتزم العمل بشريعته فان الله يستخلفها ويمكن لها في الأرض كان على ربك حتما مقضيا .. وقد أخذ بعض المفسرين بهذا الظاهر ، ثم شرع يشرح ويفسر معنى الايمان والعمل الصالح وحدودهما وقيودهما.

أما نحن فمع الذين قالوا : ان المقصود بالآية هم النبي والصحابة خاصة ، فإنهم لاقوا الكثير من الأذى والعناء في ذات الله قبل الهجرة وبعدها ، ورماهم المشركون واليهود عن قوس. واحدة ، وكانوا ، وهم في المدينة الى عام الفتح ، لا يصبحون ولا يمسون إلا مع السلاح ، حتى قال قائلهم ـ كما في تفسير الطبري ـ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع عنا السلاح .. فقال له النبي (ص) : لا تعبرون يسيرا حتى يجلس الرجل ليس معه سلاح. وتحقق وعد الله ورسوله ، فما مضت الأيام حتى عاشوا آمنين على أنفسهم وأموالهم ، وحكموا البلاد العربية كلها ، وفتحوا الكثير من بلاد المشرق والمغرب.

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ). يشير سبحانه الى انتشار الإسلام وسلطانه في شرق الأرض وغربها (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً). وهذه هي نتيجة الصبر والتوكل على الله ، وتقدم ذلك بصورة أوسع في الآية ٢٦ من سورة الأنفال ج ٣ ص ٤٦٩. (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً). والشرك لا يختص بعبادة الأصنام ، فمن أطاع المخلوق في معصية الخالق فهو في حكم المشرك.

(وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) اشارة الى الاستخلاف والتمكين في الأرض ، والأمن بعد الخوف (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) والله لا يهدي القوم الفاسقين (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). هذا بيان وتفسير لقوله تعالى في الآية السابقة : الذين آمنوا وعملوا الصالحات (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ). الخطاب في لا تحسبن لرسول الله (ص) ، والغرض منه تهديد منه خالف رسالته وعاندها ، وأيضا هو

٤٣٦

تهديد لكل من بدّل نعمة الله كفرا ، وفي نهج البلاغة : أقل ما يلزمكم لله أن لا تستعينوا بنعمته على معاصيه.

وجه آخر لاعجاز القرآن :

في ج ١ ص ٦٥ فقرة «سر الاعجاز في القرآن» أشرنا اشارة سريعة الى أقوال العلماء في اعجاز القرآن ، وعند تفسير آية المباهلة ٦١ من سورة آل عمران قلنا : ان إقدام النبي (ص) على المباهلة واثقا بالنصر الذي أخبره به القرآن ، وتحققه كما أخبر ، ان هذا من أعظم الأدلة على صدق القرآن ومن أوحي اليه ، وعند تفسير الآية ٥٣ من سورة النساء قلنا : ان كشف القرآن عن طبيعة اليهود ، وأنهم لو ملكوا لفعلوا كما فعلوا الآن بفلسطين ـ دليل قاطع على اعجاز القرآن وصدقه ، حيث تحقق ما أخبر به بعد أكثر من ألف وثلاثمائة سنة.

والآن ، ونحن نفكر في تفسير هذه الآية : وعد الله الذين آمنوا الخ تنبهنا الى وجه آخر لاعجاز القرآن ، وهو ان كلمات القرآن عربية تتداولها الناس كتابة ومشافهة قبل القرآن وبعده ، ولا تختلف عن غيرها في الحروف والتركيب ، ومع ذلك فان الجملة من القرآن تتحمل من المعاني الكثيرة ما لا تتحمله في غير القرآن حتى الحديث النبوي يفقد هذه الميزة ، ولذا قال الإمام علي (ع) لابن عباس : لا تخاصم الخوارج بالقرآن ، فان القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسنة ، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا.

والسر في ذلك يكمن في سعة المتكلم ، لا في سعة الكلام نفسه ، وإلا لجاء على نسق واحد في القرآن وغير القرآن .. ان الكلام جامد لا حياة فيه ، والمتكلم هو الذي يبعث فيه الحياة والإيحاء ، ومن هنا اختلف ايحاء الكلام باختلاف المتكلم ، فان ما يوحيه كلام العالم غير ما يوحيه كلام الجاهل ، وان تشابهت الجمل والكلمات ، حتى آيات القرآن يختلف ايحاؤها باختلاف من يتلوها .. وكذلك الحال بالنسبة الى كلام المخلص والمنافق .. وعلى هذا فإن اتساع القرآن للعديد من الوجوه والمعاني دليل قاطع على انه ممن وسع كل شيء علما.

٤٣٧

الطفل والمملوك والاستئذان الآية ٥٨ ـ ٦٠ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

اللغة :

ملكت ايمانكم العبيد والإماء. والحلم البلوغ. وكل شيء يستره الإنسان من أعضائه حياء فهو عورة. والجناح الإثم والقواعد من النساء العجائز. وتبرج المرأة اظهار محاسنها.

الإعراب :

ثلاث مرات مفعول فيه ليستأذنكم لأن المراد بالمرات هنا الأوقات. وثلاث

٤٣٨

عورات برفع ثلاث خبر لمبتدأ محذوف أي هي ثلاث عورات ، وبالنصب بدل من ثلاث مرات. وطوافون خبر لمبتدأ محذوف أي هم طوافون .. وبعضكم على بعض (بعضكم) فاعل لفعل محذوف دل عليه طوافون أي يطوف بعضكم على بعض أو خبر لمبتدأ محذوف أي بعضكم يطوف على بعض. والقواعد مبتدأ ، واللائي صفة ، وجملة فليس عليهن جناح خبر. والمصدر من ان يضعن مجرور بفي محذوفة. والمصدر من ان يستعففن مبتدأ ، وخير خبر ، أي الاستعفاف خير لهن.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ) في الآية ٢٧ من هذه السورة نهى سبحانه عن دخول بيوت الآخرين إلا بعد الاستئذان ، وفي الآية ٢٨ أمر بالرجوع مع عدم الإذن ، وفي الآية ٣١ نهى المرأة عن إبداء زينتها إلا ما ظهر منها ، واستثنى بعض الأقارب والعبد والتابع الذي لا مأرب له في النساء والطفل الذي لم يظهر على عورة النساء ، وفي الآية التي نحن بصددها قال سبحانه : مروا عبيدكم واماءكم والصغار الذين لم يبلغوا ويميزوا بين العورة وغيرها ذكرانا كانوا او إناثا ، مروهم أن يستأذنوا قبل الدخول عليكم في ثلاثة أوقات لأنها مظنة انكشاف العورة ، وهذه الأوقات هي :

١ ـ (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) حيث يقوم الإنسان من فراشه ، وهو في ثياب النوم.

٢ ـ (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي وقت القيلولة والاستراحة لأن الإنسان يتخفف من ملابسه التي يستقبل الناس بها.

٣ ـ (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) حيث يتجه الإنسان الى شأنه الخاص.

(ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ). هذا بيان للفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها ، ولبيان السبب للاستئذان فيها ، وانها مظنة انكشاف العورة (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ). لا إثم عليكم أيها المؤمنون الأحرار ، ولا على الخدم والصبيان إذا دخلوا من دون استئذان في غير هذه الأوقات (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى

٤٣٩

بَعْضٍ) تترددون عليهم ، ويترددون عليكم ، ولا غنى لأحدكما عن الآخر (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) لقد بيّن لكم هذه الأحكام ، وأمركم بالتزامها ليؤدبكم بعلمه وحكمته.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) في جميع الأوقات ، لا في الأوقات الثلاثة فقط ، لأن الرخصة في غيرها انما هي للذين لم يبلغوا الحلم ، أما من بلغه فلا فرق بينه وبين غيره من الكبار ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كما يجب الاستئذان على الكبار في جميع الأوقات كذلك يجب على من بلغ الحلم من غير فرق ، ويبلغ الصبي الحلم بالانزال ، أو ببلوغ خمس عشرة سنة ، وتبلغ الصبية بالحيض أو الحمل أو بلوغ تسع على قول ، وخمس عشرة على قول (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ولا نفهم وجها لهذا التكرار من دون فاصل بين الآيتين إلا التأكيد والمبالغة في الأمر بالاستئذان.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً). وهن اليائسات من الحيض والولد ، ولا يطمعن في الرجال ، ولا الرجال فيهن (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ). لا بأس للعجوز ان تخلع ثوبها الظاهر الذي تلبسه في الشوارع والأسواق على ان لا تقصد بذلك اظهار زينتها للرجال لينظروا اليها ، وان لم تكن لذلك أهلا ، ولكن عسى من لاقط او قائل : كانت في الزمان الغابر ..

(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ). الأولى للعجوز أن لا تخلع ثيابها أمام الأجانب ، حتى الظاهر منها ، وان جاز لها ذلك ، لأن الترك أبعد عن التهمة. وفي الحديث : دع ما لا بأس به حذرا مما به البأس (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع الأقوال ، ويعلم ما توسوس به الصدور.

٤٤٠