التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

١ ـ انفساخ عقد الزواج.

٢ ـ تحرم المرأة على الزوج الملاعن حرمة مؤبدة.

٣ ـ يسقط حد القذف عن الزوج.

٤ ـ ينتفي الولد عن الزوج شرعا ، فلا يتوارثان ، ولا تجب نفقة أحدهما على الآخر ، أما بالنسبة الى المرأة فهو ولدها الشرعي ، وهي أمه الشرعية.

وإذا عرفنا اللعان بين الزوجين وشروطه وأحكامه اتضح لدينا المقصود من الآيات ، ولذا نقتصر في تفسيرها على ذكر الكلمات التي يشير اليها سياق الكلام :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) بالزنا (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) على ما يدعون (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ). يقول الزوج عند الحاكم الشرعي أربع مرات : أشهد بالله اني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ). ثم يقول الزوج في الشهادة الخامسة : عليه لعنة الله ان كان من الكاذبين في دعواه.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي يدفع الحد عن الزوجة بشرط (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فتقول عند الحاكم أربع مرات : اشهد بالله انه لمن الكاذبين فيما قذفني به (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماني به من الفاحشة (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) لهلكتم (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) وفي هذا إيماء الى الحكمة من تشريع اللعان ، وان الغاية منه الستر ودرء الحد عن الزوج بسبب القذف ، وافساح المجال أمام الزوجة لدفع التهمة عنها.

جاءوا بالأفك الآية ١١ ـ ٢٠ :

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ

٤٠١

وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠))

اللغة :

الإفك أشد الكذب. والعصبة الجماعة. والذي تولى كبره أي تحمل معظم الإفك. وأفضتم فيه خضتم فيه. تلقونه أي تتلقّون الإفك ويرويه بعضكم عن بعض. والبهتان كذب يحير المكذوب لفظاعته. وتشيع تنتشر.

الإعراب :

عصبة خبر ان. لا تحسبوه كلام مستأنف. لو لا أداة تحضيض بمعنى هلا.

٤٠٢

والمصدر من ان نتكلم اسم يكون. والمصدر من أن تعودوا مفعول من أجله ليعظكم. والمصدر من أن تشيع مفعول يحبون.

ملخص قصة الأفك :

اتفق المفسرون والرواة من جميع الطوائف والمذاهب الاسلامية الا من شذ ، اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت لبراءة عائشة من تهمة الزنا ، وسبب التهمة ان النبي (ص) كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فمن أصابتها القرعة أخرجها معه ، وفي السنة الخامسة الهجرية غزا رسول الله (ص) بني المصطلق ، وجاءت القرعة على عائشة ، فصحبها معه ، ونصر الله نبيه الكريم على بني المصطلق ، وتزوج بنت زعيمهم الحارث بعد ان أسلمت بدعوة منه ، وكان اسمها برّة فغيره الرسول الى جويرية ، وأسلم أبوها ومعظم رجال القبيلة ، وعاد النبي الى المدينة بموكبه الظافر يسير الليل والنهار ، حتى إذا كانت الليلة الثانية نزل بالجيش ليستريح قليلا.

ولما أذن بالرحيل ذهبت عائشة لحاجتها ، وحين عادت فقدت عقدها ، فرجعت تلتمسه وتبحث عنه في الموضع الذي فقدته فيه ، حتى إذا وجدته رجعت الى منازل الجيش فلم تر أحدا ، فانتظرت لعلهم يرجعون في طلبها حين يفتقدونها ، وكان صفوان بن المعطل وراء الجيش ، فمر بها وعرفها لأنه كان يراها قبل نزول الحجاب ، فأناخ راحلته وتنحى جانبا حتى إذا ركبت قادها وأوصلها الى الجيش أو الى المدينة ، وهنا سنحت الفرصة لأهل الإفك فأشاعوه وأذاعوه ، ورموا عائشة بالخيانة مع صفوان .. وأول من أطلق لسانه بهذا الإفك رأس النفاق عبد الله بن أبيّ ، وروّج له حسان بن ثابت ومسطح وآخرون من المنافقين .. فأنزل الله هذه الآيات لبراءة عائشة.

وبهذه المناسبة نشير الى أمرين : الأول ان الشيعة الإمامية يعتقدون ويؤمنون ان نساء الأنبياء جميعهن عفيفات طاهرات ، وان النبي ، أي نبي لا يضع ماءه إلا في أرحام مطهرة ، وان زوجته قد تكون كافرة ولن تكون بغيا ، لأن الرسول

٤٠٣

أكرم على ربه وأعز من أن يجعل تحته بغيا ، قال العالم الإمامي الطبرسي في مجمع البيان : «ان نساء الأنبياء يجب أن ينزهن عن مثل هذه الحال لأنها تشين ، وقد نزه الله أنبياءه عما هو دون ذلك توقيرا لهم وتعظيما عما ينفر من قبول قولهم والعمل بدعوتهم» ، وقد روي عن ابن عباس انه قال : ما زنت امرأة نبي قط ، وكانت الخيانة من امرأة نوح انها كانت تنسبه الى الجنون ، والخيانة من امرأة لوط انها كانت تدل على أضيافه.

الأمر الثاني قال البعض : ان النبي (ص) استشار الإمام علي (ع) مع من استشار في أمر عائشة : فأشار عليه بطلاقها ، وان هذا هو الدافع لخروجها على الإمام يوم الجمل ، وقد استند هذا القائل الى رواية لا نعرف مكانها من الصحة .. بالاضافة الى أن النبي لا يحتاج الى أحد يشير عليه ، لأنه أعلم وأفضل الخلق أجمعين ، وكيف يشك النبي في زوجته ، وهو يعلم انه أكرم على الله من أن يجعل تحته بغيا؟ .. ولو شك رسول الله في عائشة لكان مقصودا في قوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ). كلا ، ان محمدا (ص) لم يشك في عائشة ، ومن نسب اليه هذا الشك فقد جاء ببهتان عظيم.

هذا ، الى ان هناك رواية ثانية تقول : ان الإمام قال لرسول الله : ان نعلك منزه من النجاسة فكيف بزوجتك ، وان النبي سرّ بذلك. قال إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان : «استشار النبي عليا في أمر عائشة. فقال يا رسول الله انها بريئة ، وقد أخذت براءتها من شيء حدث معك ، وهو اننا كنا نصلي خلفك في ذات يوم ، وأنت تصلي بنعليك ، ثم انك خلعت إحداهما ، فقلنا ليكن ذلك سنة لنا ، فقلت : لا ، ان جبريل قال لي : ان فيتلك النعل نجاسة ، وإذا لم تكن النجاسة في نعلك فكيف تكون بأهلك؟ فسرّ النبي بذلك». ولم نذكر هذه الرواية إيمانا بها بل لنعارض بها رواية النصح بالطلاق.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

٤٠٤

الذين رموا عائشة بالخيانة هم جماعة تظاهروا كذبا وزروا بأنهم على ملة الإسلام ، وليسوا منه في شيء .. وقد عز ذلك على النبي وصحابته ، فقال لهم عز وجل : لا تظنوا ان هذا الإفك شر وضرر .. كلا ، بل فيه نفع كثير ، منه تمييز المؤمن الطيب من المنافق الخبيث الذي يحب ان تشيع الفاحشة في الأبرياء ، ومنه ابتلاء رسول الله (ص) وأمته ، فيزيد الذين اهتدوا هدى ، ولا يزيد المنافقين إلا خسارا.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ). ضمير منهم يعود الى أهل الإفك ، والمعنى ان لكل واحد من هؤلاء من العذاب بقدر ما أشاع وأذاع من الكذب والافتراء ، وفي ان تهمة القذف ثبتت على حسّان بن ثابت ومسطح وامرأة من قريش ، فأقام النبي (ص) عليهم الحد ، وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة ، أما عبد الله بن أبي فقد دبر الحملة وأفلت من حد القذف لشدة حذره بعد ان أوقع فيها غيره ، وهو المقصود بقوله تعالى : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا بافتضاحه واظهار كيده وزيفه على الناس ، حتى طالب برأسه من أجل ذلك أحد سادة الخزرج ، وأيضا طالب بها احد سادة الأوس ، وألح في طلبها كثير من شباب الأنصار ، ومنهم ابنه بالذات ، أما عذابه في الآخرة فآلم وأعظم.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ). الهاء في سمعتموه تعود إلى الإفك. وبأنفسهم أي ظن بعضهم ببعض لأن بني الإنسان جميعا متكافلون متضامنون ، وبالخصوص المؤمنين فإن الايمان عهد وذمام ، وفي الحديث : المؤمنون كنفس واحدة : وفي الآية ١٠ من الحجرات : انما المؤمنون اخوة. هذا النحو من الاستعمال كثير في القرآن ، منه : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ـ ٢٩ النساء. ومنه : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ـ ٦١ النور. وتشير الآية الى ان المؤمن حقا لا يجوز له إذا سمع الإفك والباطل ان يسكت عنه. أما القول المشهور : إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب فان المراد به الكلام من غير علم ، وكلام اللغو والباطل كالكذب والغيبة والنميمة.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) يدل على ان المؤمن

٤٠٥

يجب أن يجزم بتكذيب الفاحشة وحديث الزنا بمجرد سماعه ، ودون أن يتثبت ، ولا يتفق هذا مع المبدأ العقلي والاسلامي القائل : ان النافي بلسان الجزم تماما كالمثبت ، كل منهما يحتاج الى دليل قاطع؟.

الجواب : أجل ؛ لا شك في هذا المبدأ ، وانه عام لكل شيء ، ولكن ليس المراد بالنفي هنا نفي الزنا في الواقع وفي علمه تعالى ، كلا ، بل المراد نفي حكمه وآثاره كاقامة الحد واللغو فيه ، واعتباره كأن لم يكن في الواقع الا إذا ثبت بالطريق الشرعي ، فإذا انتفى طريق الإثبات انتفى الحكم قطعا ، ولذا يحد القاذف ثمانين جلدة مع عدم الإثبات ، وبتعبير ثان ان عدم الدليل الشرعي على الزنا دليل على عدمه حكما وآثارا ، وأقوى الشواهد على ذلك قوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ ـ أي على الزنا ـ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي كاذبون في حكم الله بالدنيا ، أما علمه تعالى الذي يتعلق بالأشياء على حقيقتها فيبتني عليه حكم الآخرة.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ). أفضتم خضتم ، وضمير فيه للإفك وحديثه ، ورحمته تعالى في الدنيا على من عصى هي الستر والامهال لكي يتوب ، وفي الآخرة العفو إذا تاب وأناب ؛ ثم بيّن سبحانه سبب استحقاقهم العذاب العظيم دنيا وآخرة ، بيّنه بقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ). تديرون حديث الافك بألسنتكم ، وينقله بعضكم عن بعض من غير دليل ، وتظنون ذلك سهلا وهو من أعظم الذنوب والآثام عند الله ، ومن أقوال الإمام علي (ع) : اللسان سبع إذا خلي عنه عقر.

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) من الأساس فضلا عن الشك فيه ، بل ينبغي تنزيه اللسان عن حديث الزنا ، حتى ولو ثبت بالبينة الشرعية إلا في مقام الردع والزجر عنه .. والذين يتحدثون ويتلذذون بحديث الزنا والفجور هم اراذل الناس وشرارهم (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) وأي شيء أعظم بهتانا واثما من الافتراء على الأبرياء؟ والمؤمن الحق يذبّ عن أخيه المؤمن ، ولا يتهمه بالسوء والشر ما وجد له في الخير سبيلا.

٤٠٦

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). يعظكم ينهاكم ، ولمثله أي مثل حديث الإفك ، فلا يجوز اللغو فيه والاستماع اليه .. وفي تعليق الاطاعة على الايمان اشارة الى ان المؤمن إذا نهاه الله عن شيء أو أمره به امتثل وأطاع (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). يفصل ويوضح لنا الحلال والحرام في كتابه وعلى لسان نبيه ، ويعلم العاصي منا والمطيع ، ويعامل كلا بعلمه وعدله وحكمته.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الفاحشة على حذف مضاف أي حديث الفاحشة .. ولا فرق بين من فعل الفاحشة ومن أشاعها ، فكل منهما يقام عليه الحد إذا ثبت عليه الفعل أو القذف ؛ وله في الآخرة عذاب الحريق .. وكل ناقص يود ان يكون له أشباه ونظائر ، لأن من يحمل علامات النقص لا يطيق رؤية الكمال على غيره (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) والمؤمن لا يقول ولا يفعل بغير علم ، بل يرد ما يجهل الى من يعلم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم (وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) بعباده يريد لهم الخير ، وان أرادوا الشر لأنفسهم.

لا تتبعوا خطوات الشيطان الآية ٢١ ـ ٢٥ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ

٤٠٧

الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥))

اللغة :

لا يأتل لا يحلف ، من قولك : آليت إذا حلفت. والمراد بالمحصنات هنا ذوات العفة والصون وبالغافلات سليمات الصدور اللاتي لا يفكرن في الفاحشة.

الإعراب :

من احد (من) زائدة إعرابا وأحد مفعول زكى. والمصدر من ان يؤتوا منصوب بنزع الخافض أي على الإيتاء. واللام في ليعفوا وليصفحوا لام الأمر. والا تحبون (الا) هنا للتحضيض مثل هلا. والمصدر من أن يغفر مفعول تحبون. يوم تشهد : (يوم) متعلق بما تعلق به لهم عذاب أليم. ويومئذ متعلق بيوفيهم.

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بإشاعة الفحشاء في الذين آمنوا ، ولا بشيء مما يوسوس به ويدعوكم اليه (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). من أمكن الشيطان من نفسه قاده الى كل قبيحة ورذيلة (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً). لقد دلنا سبحانه على طريق الخير وطريق الشر ، ونهانا عن هذا ، وأمرنا بذاك ، وزودنا بالقدرة على

٤٠٨

الفعل والترك ، وفتح باب التوبة لمن عصى وأذنب ، وهذا هو فضله ورحمته ، أما تزكيته فلا يمنحها إلا لمن سمع وأطاع (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وحكيم أيضا لا يزكي إلا أصحاب الأعمال الزاكية ، والقلوب الصافية.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ). روي ان هذه الآية نزلت في أبي بكر حين حلف ان لا ينفع مسطح بن اثاثة أبدا بعد أن اشترك مع من اشترك في اشاعة الفاحشة في ام المؤمنين ، وقد اجتمعت هذه الصفات الثلاث في مسطح أي القربى من أبي بكر ، والمسكنة والهجرة في سبيل الله ، فهو ابن خالة أبي بكر ، وهو مسكين لا مال له ، وهو من المهاجرين والبدريين (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). هذا وعد من الله سبحانه ان يعفو ويرحم من عفا وصفح عمن أساء اليه .. وكان الإمام زين العابدين (ع) يعفو عمن يسيء اليه ، ثم يخاطب الله بقوله : ربنا انك أمرتنا بالعفو عمن ظلمنا ، وقد عفونا كما أمرت ، فاعف عنا ، فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). في الآية ٤ من هذه السورة بيّن سبحانه ان من يقذف امرأة بالزنا ، ولم يأت بأربعة شهداء فعقوبته في الحياة الدنيا أن يجلده الحاكم الشرعي ثمانين جلدة كائنا من كان القاذف ، وسكت سبحانه عن عقوبة القاذف وعذابه في الآخرة ، وفي الآية التي نفسرها بيّن جل وعز ان عقاب القاذف في الآخرة هو العذاب العظيم إذا كانت المقذوفة عفيفة بريئة مما رميت به ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : الغافلات أي الذاهلات عن الزنا ، لا يفكرن فيه ، أو لا يفعلنه والأمر كذلك فيمن قذف بالزنا عفيفا بريئا.

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ). في الدنيا يحتاج المدعي الى شهود ـ مثلا ـ إذا ادعت امرأة ان فلانا قذفها بالزنا ، وأنكر المدعى عليه ، فعليها الإثبات ، فان عجزت ردت دعواها ، أما في الآخرة فلا تحتاج الى شهود ، ولا تطالب بهم لأن الفاعل لا سبيل له الى الإنكار ، ولو افترض انه أنكر أو حاول شهدت عليه جوارحه وأعضاؤه ، فكل عضو يشهد

٤٠٩

على المهمة التي أداها ؛ فلسانه يشهد على الكلام ، ويده على البطش ، ورجله على المشي وهكذا (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ). المراد بدينهم هنا جزاؤهم الواجب ، والمعنى ان الله سبحانه يحاسبهم غدا ، ويجزيهم جزاء الحق والعدل ، وعند ذلك يعلمون ان ما وعدهم به من البعث والحساب والجزاء حق لا مهرب منه.

الخبيثات للخبيثين الآة ٢٦ ـ ٢٩ :

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩))

اللغة :

تستأنسوا تستأذنوا. والجناح الحرج والإثم. والمتاع ما يتمتع به الإنسان في العاجل.

٤١٠

الإعراب :

تستأنسوا منصوب بأن مضمرة بعد حتى ، ومثله حتى يؤذن. وتذكرون أصله تتذكرون. والمصدر من ان تدخلوا مجرور بفي محذوفة.

المعنى :

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ). الخبيث هو القبيح من كل شيء ، فيشمل العقيدة والنوايا والصفات والأقوال والأفعال بشتى أنواعها ، ولا يختص بالزنا ، والطيب هو الحسن من كل شيء ، وأطلق القرآن الكريم كلمة الخبيث على الرديء من الأرض والمال والكلام والمأكول المحرم ، وعلى كل من استحق سخط الله وعذابه من شياطين الانس والجن .. وقال جماعة من المفسرين : المراد بالخبيثات هنا من خبث من النساء ، وبالخبيثين من خبث من الرجال ، وبالطيبات من طاب منهن ، وبالطيبين من طاب منهم ، وان معنى الآية : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون منهم للخبيثات منهن ، وكذلك الطيبون والطيبات.

وهذا القول لا يتفق مع الواقع ، فلقد رأينا الخبيثة يتزوجها الطيب ، والطيبة يتزوجها الخبيث ، بل لا يتفق هذا مع صريح القرآن ، قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) «الى قوله» (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) ـ ١١ التحريم. ومعلوم ان نوحا ولوطا نبيان معصومان ، وان فرعون هو القائل : أنا ربكم الأعلى.

والذي نراه ان المراد بالخبيثات في الآية ما خبث من الأقوال والأفعال ، وبالطيبات ما طاب منها ، وبالخبيثين من خبث من الرجال والنساء تغليبا للذكور على الإناث ، وبالطيبين من طاب منهم ومنهن أيضا من باب التغليب ، وعليه يكون المعنى ان ما خبث من الأقوال والأفعال لا يصدر إلا ممن خبث من الرجال

٤١١

والنساء وما طاب من الأقوال والأفعال لا يصدر إلا ممن طاب منهم ومنهن ، تماما كما قال الشاعر : «وكل إناء بالذي فيه ينضح».

(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). أولئك اشارة الى الطيبين والطيبات ، وضمير يقولون يعود الى الخبيثين والخبيثات ، وان الله سبحانه ينعم بالغفران والجنان على من طاب نفسا وفعلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). حتى تستأنسوا أمر بالاستئذان قبل الدخول الى بيت الغير تماما كقوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) ـ ٥٩ النور ، فكل من يريد الدخول الى بيت الغير فعليه أن يستأذن أولا ، لأن الدخول تصرف في مال الغير ، فلا يحل إلا بإذن صاحبه ، ومن هنا قال الفقهاء : الاستئذان واجب ، والسلام مستحب ، ويكفي في الاستئذان والاذن كل ما دل عليهما ، فقرع الباب استئذان ، وأهلا وسهلا إذن ، وبعد الاذن يدخل ويسلّم.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ). وتسأل : ان لم يكن في الدار أحد فمن الذي يأذن بالدخول؟.

وأجاب الشيخ المراغي وغيره بأن المراد «ان لم يكن فيها أحد يملك الاذن بأن كان فيها عبد أو صبي». والأرجح في الجواب ان الدار ان كانت خالية من أهلها فلا يجوز للغريب عنها أن يدخلها إلا إذا رأى صاحبها أولا ، وأذن ، كما لو قال له : اذهب الى داري وائتني منها بكذا ، أو اسبقني اليها وأنا لا حق بك.

(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) ولا تلحوا في طلب الدخول ، ولا يكن في أنفسكم أية غضاضة على صاحب البيت ، واحملوه على الأحسن وقولوا : له عذر مشروع. انظر تفسير قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) ـ ٨٣ البقرة ج ١ ص ١٤١ فقرة : «أصل الصحة» (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). هذا تهديد ووعيد لمن يشتم ويستغيب من لا يأذن له بدخول بيته.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ). المراد بهذه البيوت الأماكن العامة كالفنادق والحوانيت ، فمن كان له متاع في فندق أو في حانوت فله ان يدخله ويأخذ متاعه منه دون أن يستأذن صاحبه إذنا خاصا لأن

٤١٢

من فتح بابه للجميع فقد اذن لهم اذنا عاما ، وأيضا لا أسرار لصاحب الفندق والحانوت فيهما ، فلا موجب ـ اذن ـ للاستئذان (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ). فيه إيماء الى أن الإنسان لا يحل له أن يدخل بيت غيره بقصد الخيانة والاساءة الى أهله ، وان من قصد ذلك فإن الله يعلم قصده ، ويؤاخذه عليه.

الحجاب وغض النظر الآة ٣٠ ـ ٣١ :

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

اللغة :

الخمر جمع خمار ، وهو ما تغطي به المرأة رأسها. والجيوب جمع جيب ، وهو فتحة في أعلى القميص ، والمراد به هنا الصدر. والإربة الحاجة والمراد بها الحاجة

٤١٣

الى النساء. ولم يظهروا على عورات النساء أي لا يدرون ما هي ، ولا يفرقون بينها وبين غيرها من أعضاء الجسم.

الإعراب :

يغضوا مضارع مجزوم بلام الأمر المحذوفة أي ليغضوا. والا ما ظهر بدل من زينتهن. والا لبعولتهن بدل باعادة حرف الجر من لأحد المحذوف أي ولا يبدين زينتهن لأحد الا لبعولتهن. وغير اولي الإربة صفة للتابعين.

المعنى :

هاتان الآيتان من آيات الأحكام ، وقد تضمنتا وجوب غض النظر على النساء والرجال ، وحفظ الفروج من الزنا ، والحجاب ، والتفصيل فيما يلي :

١ ـ (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ). أمر سبحانه الرجال أن يكفوا عن النظر ، ولكنه أطلق ولم يذكر متعلق الفعل ، ويبين عن أي شيء يكفون أبصارهم ، سكت سبحانه عن ذلك معولا على دلالة السياق ، فان الظاهر منه تحريم النظر الى الأجنبيات .. وقد اتفق أكثر الفقهاء على ان الرجل لا يجوز له النظر الى شيء من بدن الأجنبية إلا الى وجهها وكفيها شريطة أن يكون النظر من غير تلذذ ، وان لا يخشى معه الوقوع في الحرام .. هذا إذا كانت المرأة مسلمة يحرم دينها السفور ، أما غيرها التي لا يحرم دينها السفور فقد اختلف الفقهاء في جواز النظر الى غير الوجه والكفين منها ، فأجازه جماعة منهم ، وأجازوا أيضا النظر الى شعور المسلمات من أهل البوادي لأنهن لا ينتهين إذا نهين.

٢ ـ (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) من الزنا ، وأدخل سبحانه كلمة «من» على الأبصار دون الفروج لأن الفرج تجب صيانته إلا في حالة واحدة ، وهي خلوة الزوجين على عكس النظر فانه لا يحرم إلا في بعض الحالات (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ). ذلك اشارة الى الغض عن المحرمات ، وهو أطهر للنفس ، وأقرب للتقوى ، وأبعد عن الذنوب والآثام.

٤١٤

٣ ـ (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ). قال فقهاء الشيعة الإمامية : يحرم على المرأة أن تنظر من الرجل ، ما يحرم عليه أن ينظر منها ، ويحل لها ان تنظر منه ما يحل له ان ينظر منها أي إلى الوجه والكفين فقط ، ومعنى هذا ان المرأة لا يحل لها ان تنظر الى شعر الرجل ، تماما كما لا يحل له ان ينظر الى شعرها ، وقال غيرهم : بل يجوز أن تنظر الى جميع بدنه إلا ما بين السرة والركبة. والتفصيل في كتابنا الفقه على المذاهب الخمسة ، فصل ما يجب ستره وما يحرم النظر اليه من البدن.

٤ ـ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها). المراد بالزينة هنا موضعها لأن الزينة بما هي لا يحرم النظر اليها ، والمراد بالظاهر من موضع الزينة الوجه والكفان فقط ، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على وجوب الحجاب ، وان جميع بدن المرأة عورة إلا ما استثني منه أي الوجه والكفين ، فقد سئل الإمام جعفر الصادق (ع) عن الذراعين : هل هما من الزينة التي قال الله عنها : ولا يبدين زينتهن؟ فقال : نعم ، وما دون الوجه والكف من الزينة. أي المحرمة. وفي أحكام الآيات للجصاص أحد أئمة الأحناف : «المراد بما ظهر الوجه والكفان». وفي تفسير الرازي الشافعي : «اتفقوا على ان الوجه والكفين ليسا بعورة».

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ). يضر بن أي يلقين. والخمار غطاء الرأس. والجيب فتحة القميص ، والمراد به هنا الصدر من باب اطلاق اسم الحالّ على المحل ، والمعنى يجب على النساء ان يسدلن الاخمرة من الأمام ليسترن الصدور والنحور .. وكان نساء الجاهلية يغطين رؤوسهن بالاخمرة ، ويسدلنها من وراء الظهر ، فتبدو صدورهن ونحورهن ، وبقين على ذلك حتى نزلت هذه الآية ، فأسدلن الأخمرة الى الأمام يسترن بها الصدور والنحور.

سفور أو متجر لبيع اللحوم؟

رخص الإسلام للمرأة أن تكشف عن الوجه والكفين لأن ضرورة الحياة تستدعي ذلك ، واعتبر ما عداهما عورة لأنه طريق المخاطر والمهالك ، قال الرسول الأعظم (ص) :

٤١٥

«من رعى غنمه حول الحمى نازعته نفسه أن يرعاها فيه» .. وهذا هو الواقع المشهود ، فأنّى اتجهت ببصرك رأيت له العديد من الصور .. فما ان أسفرت المرأة عن شعرها حتى ذهبت الى الحلاق ، ومنه الى كشف الصدر والكتف والساق ، الى «الميني جيب والمكر يجيب» الى الأزياء التي تتطور يوما فيوما ، وتجسم الأنوثة وتحكيها عضوا عضوا ، وتعرضها في الشوارع والأسواق كأنها لحم في متجر جزار .. والسر ان أكثر النساء لا يذهبن الى أبعد من اظهار زينتهن وعرض جمالهن.

وأعجب ما قرأته في هذا الباب ان في مدينة هامبورغ بألمانيا الغربية شارعا رهيبا يصطف على طول جانبيه محلات ، وفي كل محل تعرض في واجهاته نساء على الزبائن والناظرين ، وهن عرايا في أوضاع شاذة لا تخطر على بال .. وان كل ما يبدو مستحيلا فهو متحقق بالفعل ، ويستمر هذا العرض طوال الليل والنهار .. هذه هي عاقبة الحرية الزائفة .. قرأت هذا ، وأنا أرتجف من هول ما قرأت ، وأول شيء أوحى به إليّ هذا الشارع العاري انه في المستقبل القريب أو البعيد سينتقل الى بلادنا ، تماما كما انتقل الميني جيب وغيره ، ما دمنا مستمرين في محاكاة الغرب .. نستجير بالله مما يخبئه الغد.

وبهذه المناسبة نشير الى ان المرأة إذا كانت مولعة بإظهار زينتها وجمالها ، وتجسيم أنوثتها بكل أسلوب فان كثيرا من الرجال مولعون بإظهار شخصيتهم وإلصاق الشهرة بهم ، ولو كذبا وخداعا ، وإذا كانت المرأة تحقد وتحسد من ينافسها في الزينة والجمال فان الرجال المولعين بالشهرة أكثر حسدا ، وأشد حقدا على من له اسم يذكر .. في سنة ١٩٥٧ نشر كاتب مصري كلمة يسخر فيها من فتوى شيوخ الأزهر بتحريم لبس «المايو» للمرأة ، وقال فيما قال : ان الإسلام بريء من هذه الفتوى .. فنشرت كلمة في الرد عليه ، وأثبت ان شيوح الأزهر نطقوا بكلمة الإسلام والقرآن ، واستشهدت بآية : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ).

وبعد أيام صادف ان زرت شيخا مع أحد الزملاء ، ولما استقر بنا الجلوس أقبل عليّ الشيخ وقال : كيف تحلل لبس «المايو» وترد على شيوخ الأزهر الذين أفتوا بتحريمه؟.

٤١٦

قلت : بالعكس ، أيدت فتوى الشيوخ ، وفندت رأي من رد عليهم.

قال : كلا ، وقد احتفظت بالصحيفة التي نشرت فيها كلمتك لأجابهك بها.

قلت : هاتها .. فقام مسرعا ، وجاء بالصحيفة وشرع يقرأ بحماس كالظافر المنتصر.

قلت : ما ذا رأيت؟ .. فبهت وأسقط في يده .. وحضر هذا المشهد ـ ولله الحمد ـ رفيقي السيد وشيخ من أقارب الشيخ ـ على الهامش ما زال الشاهدان من الأحياء ، نحن الآن في صيف سنة ١٩٦٩.

ولا أجد تفسيرا لاقدام هذا الشيخ على تكذيب نفسه بنفسه إلا انه ـ غفر الله له ـ كان يتمنى لي العثرات واللعنات ، فأخذ يبحث بالسراج والفتيلة ـ كما يقول العامليون ـ ليشيعها ويذيعها ، ولما قرأ اسمي في الصحيفة تحرك حقده الكامن المكبوت ، وطغى حبه للتشهير بي على بصره وبصيرته ، فأراه البياض سوادا ، والحق باطلا .. ولا بدع فان البغض تماما كالحب يعمي ويصم ، وصدق الله العظيم : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) ـ ١٧٨ الأعراف.

وما ذكرت هذا الحديث شاكيا أو متبرما .. كلا ، فقد علمتني التجارب ان لا أبالي بالكواذب ، ولكن أملاه عليّ القلم ، ولم يدع لي سبيلا للاختيار ، وهذا شأنه معي كلما انصرفت اليه.

وبعد أن نهى سبحانه النساء المسلمات عن كشف مواضع الزينة إلا الوجه والكفين ، بعد هذا رخص لهن بابداء غيرهما لاثني عشر صنفا :

١ ـ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) فلكل من الزوجين ان يرى من صاحبه ما يشاء.

٢ ـ (أَوْ آبائِهِنَّ) ويدخل فيهم الأجداد من الأب والأم.

٣ ـ (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ) ويدخل في آباء الأزواج الأجداد من الأب والأم.

٤ ـ (أَوْ أَبْنائِهِنَّ) وولد الولد ولد ذكرا كان أو أنثى.

٥ ـ (أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ) وان نزلوا.

٦ ـ (أَوْ إِخْوانِهِنَّ) من الأم والأب أو من أحدهما.

٤١٧

٧ ـ (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ) وان نزلوا.

٨ ـ (أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) كذلك.

٩ ـ (أَوْ نِسائِهِنَّ) يحرم على المسلمة ان تتجرد من عورتها أمام مثلها حتى ولو كانت أمها أو ابنها ، كما يحرم عليها أن تنظر الى عورتهما .. ويحل لها ان تتجرد عما عدا السوءة أمام مسلمة مثلها ، ولا يحل ذلك أمام غير المسلمة ، هذا ما دلت عليه الآية ، وما خالفها فمتروك. وفي بعض الروايات ، ان المسلمات إذا تجردن أمام غير المسلمات وصفن ذلك لأزواجهن.

١٠ ـ (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من الإماء والجواري ، أما العبد فلا يجوز له ان ينظر الى سيدته إلا الوجه والكفين ، ولو كال خصيا ، وما خالف ذلك الأقوال والروايات فمتروك .. وعلى أية حال فإنه لا موضوع اليوم لهذا الحكم ، حيث لا إماء ولا عبيد.

١١ ـ (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) وهم الذين يخالطون الأسرة ، ويتبعونها في أكثر الأحيان ، ولا شهوة لهم في النساء لسبب بدني كالهرم والعنن أو عقلي كالعته.

١٢ ـ (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) المراد بالطفل الجنس ، وهم الصبيان الذين لا يفرقون بين العورة وغيرها من أعضاء البدن.

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) كان النسوة يلبسن الخلاخل ، وما زالت هذه العادة في كثير من البلدان العربية ، وكان بعضهن يضر بن الأرض بأرجلهن لتقعقع خلاخلهن لتهييج الرجال أو الإشعار بأنهن من ذوات الخلاخل ، فنهاهن الله عن ذلك. وفيه إيماء الى ان على المرأة أن لا تأتي بأية حركة تثير الشهوة وتوقظ المشاعر (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). انتهوا عما نهى الله ، ومن سبقت منه الخطيئة فليتداركها بالتوبة فإنها مسموعة عند الله.

وانكحوا الايامي منكم الآية ٣٢ ـ ٣٤

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا

٤١٨

فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

اللغة :

الأيامى جمع ايم ، وهو غير المتزوج رجلا كان أو امرأة بكرا كانت أو ثيبا. والإماء جمع أمة ، وهي المملوكة. والمراد بالكتاب هنا مكاتبة العبد مع سيده على مال معين فإن أداه كاملا يصبح حرا. والبغاء الزنا. والتحصن العفة.

الإعراب :

منكم متعلق بمحذوف حالا من الأيامى ، ومن للبيان. ومثلها من عبادكم. وحتى يغنيهم الله الفعل منصوب بأن بعد حتى. والمصدر المجرور بلام لتبتغوا متعلق بتكرهوا.

المعنى :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ). الخطاب للمسلمين جميعا ، والأمر هنا للاستحباب ،

٤١٩

لا للوجوب ، والأيم من لا زوج له ، ويطلق على الأعزب والعزباء .. بعد أن أمر سبحانه الرجال والنساء بحفظ الفروج ، والكف عن النظر المحرم ، ونهى النساء عن التبرج وإبداء الزينة أمام الأجانب ـ بعد هذا أمر بالتعاون على تيسير الزواج لكل من احتاج اليه من النساء والرجال ، لأن العزوبة مصدر القبائح والرذائل كالزنا واللواط ، والزواج وقاية من ذلك ، ولذا قال الرسول الأعظم (ص) : شراركم عزابكم .. الزواج من سنتي ، فمن رغب عن سنتي فليس مني.

(وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ). المراد بالصالحين هنا المؤمنون. والعباد جمع عبد. والإماء جمع أمة ، والمعنى وأيضا زوّجوا ما تملكون من العبيد والإماء إذا كانوا مؤمنين .. ولا موضوع اليوم لهذا الحكم (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). أكثر الناس لا ينظرون الى دين الخاطب وأخلاقه ، بل ينظرون الى جاهه وماله .. فندد سبحانه بمن يفعل ذلك ، وقال : ان الله قادر على ان يغني الفقير ، ويفقر الغني ، والفقر عنده تعالى هو فقر الدين والأخلاق ، وفي الحديث : إذا جاءكم من ترتضون دينه وخلقه فزوجوه ، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) يسع بفضله ورحمته من سأله ومن لم يسأله.

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). وتسأل : قال سبحانه في الآية السابقة : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ). وهذا بظاهره وعد منه تعالى بالغنى للفقير ، وانه لا ينبغي له أن يمتنع عن الزواج لمجرد الفقر لأن الله يكفيه ويغنيه .. ثم قال جل وعز بلا فاصل : من لا يجد المهر والنفقة للزواج فلا يدخل في الفاحشة ، وعليه أن يصبر حتى يوسع الله .. فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟.

الجواب : لا تنافر بينهما كي يسأل عن وجه الجمع ، لأن المقصود بالآية الأولى أولياء المرأة ، وانه لا ينبغي لهم أن يردوا الخاطب لفقره ، والمقصود بالآية الثانية الفقير بالذات ، وان الناس إذا ردوه ولم يزوجوه لفقره فعليه أن يصبر ويسعى متكلا على الله حتى تتهيأ له أسباب الزواج.

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ). من كان عنده مملوك قادر على الكسب عبدا

٤٢٠