التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ـ ٣٢ التوبة.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ). الذين في قلوبهم مرض هم اللصوص الذين يعيشون بالسلب والنهب ، والغش والخداع ، أما القاسية قلوبهم فهم الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق ، والمراد بالفتنة الاختبار ، والمعنى انه لا سوق للتمويه والدعايات الكاذبة إلا عند اللصوص والهمج الرعاع .. وانّى اتجهت فإنك واجد لهذه الحقيقة صورا جلية واضحة ، واجدها في الصحف والاذاعة ، وفي الكتاب والمسرح ، وفي حديث المأجورين والمخدوعين الذين يصدقون كل ما يقال لهم من غير وعي وتمحيص ، وما أكثر هؤلاء.

ثم ان الدعايات الكاذبة ، وان أضرت من جهة فإنها نافعة من جهة أخرى ، لأنها تميز بين الخائن والمخلص ، وبين العالم والجاهل ، وهذا هو القصد من (فِتْنَةً) في قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) .. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). وكل من موّه وافترى فهو ظالم ، وكل من صدق الكذب والافتراء من غير تمحيص فهو ظالم أيضا ، والمراد بالشقاق العصيان والتمرد على أحكام الله.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ). ضمير به وله يعودان الى النبي أو القرآن ، والمعنى إذا صدّق من صدّق الكذب على الله ورسوله فان أهل المعرفة والإخلاص يعلمون حقيقة هذا الكذب والافتراء ، ولا يزيدهم إلا إيمانا وتمسكا بالله ورسله وكتبه ، وإلا خشوعا وخضوعا لله وهيبته (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). يرشدهم الله الى طريقه ، فيسلكونه تقربا اليه ، ولا ينحرفون عنه مهما تكن الضغوط والدعايات.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ). المراد بالساعة الوقت الذي يخرج فيه الناس الى ربهم من الأجداث واليوم العقيم هو يوم الحساب ، وعقمه كناية عن يأس الكافرين فيه من النجاة .. وبعد ان قال سبحانه في الآية السابقة : ان أهل العلم يؤمنون بالقرآن وبنبوة محمد (ص)

٣٤١

قال في هذه الآية : أما الكافرون فإنهم في شك من أمر رسول الله ، وسيظلون كذلك الى يوم يبعثون من قبورهم أو يوم وقوفهم بين يدي الله للحساب ، وعندئذ تنكشف لهم الحقيقة ، ويعلمون انهم كانوا على ضلال.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحده ، فلا قاض أو أمير ، ولا سلطان يحابي أو وزير يداري كما هو الشأن في هذه الحياة (يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي بين الكافرين والمؤمنين (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). لهؤلاء خزي ونيران ، ولأولئك روح وريحان. وتقدم مثله أكثر من مرة.

والذين هاجروا الآية ٥٨ ـ ٦٤ :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤))

٣٤٢

اللغة :

المدخل بضم الميم من ادخل ، وهو اسم مكان ، والمراد به هنا الجنة.

الإعراب :

ليرزقنهم الله اللام جواب لقسم محذوف ، والقسم وجوابه خبر الذين هاجروا. ومدخلا مفعول فيه. وذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. فتصبح بالرفع لأن ألم تر لفظه الاستفهام ومعناه الخبر.

المعنى :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) للهجرة في سبيل الله مظاهر ، منها ان يخرج الإنسان من وطنه مجاهدا أهل البغي والضلال ، ومنها أن يفر بدينه ممن يصده عن القيام بواجبه ، وفي حكمه من هاجر لطلب العلم بالدين من أجل الدين ، أو لطلب الرزق الحلال ، أو لأداء فريضة الحج ، فأي واحد من هؤلاء ومن اليه إذا قتل أو مات في هجرته فان له عند الله ما للشهداء من الأجر العظيم والرزق الكريم. وتكلمنا عن الهجرة مفصلا عند تفسير الآية ١٩٥ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٣٣ ، والاية ٩٧ من سورة النساء في المجلد المذكور ص ٤١٧ وما بعدها.

(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ). المراد بالمدخل الجنة ، وبداهة ان من دخلها سعد بها ، ولا يرضى عنها حولا (ذلك) اشارة الى ما ذكره سبحانه من ان من هاجر في سبيله وقتل أو مات فان له ما يرضيه عند خالقه (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي قاتل دفاعا عن نفسه (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) لا لشيء إلا لأنه لم يستسلم للظلم والعدوان (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) أي انه تعالى ينصر المبغي عليه ، وينتقم له من الباغي (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فيه إيماء الى

٣٤٣

ان العفو عن المسيء عند الظفر به محبوب عند الله ، هذا إذا كان الاعتداء على حق خاص ، اما الحق العام فلا عفو عنه.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). تقدم مثله في الآية ٢٧ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٣٧. وذكر المفسرون أكثر من وجه لربط هذه الآية بما قبلها ، ولكنهم لم يأتوا بما تركن اليه النفس .. وفي المقدمة ج ١ ص ١٥ أشرنا الى ان القرآن ليس كتابا فنيا ، فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص ، وانما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل من شأن الى شأن ، قال الإمام علي (ع) : ان الآية يكون أولها في شأن وآخرها في شأن آخر.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). الله هو الحق لدوام ذاته وعظيم صفاته ، وهو العلي حيث لا سلطان فوق سلطانه ، وهو الكبير الذي وسع كل شيء قدرة وعلما ورحمة ، والقصد من ذكر هذه الصفات هو الإيماء الى ان الله تعالى ينصر الذين آمنوا واتقوا ، ويخذل الذين كفروا وأفسدوا في الأرض.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ). تقدم مثله في الآية ٥ من هذه السورة ، والآية ١٦٤ من سورة البقرة وغيرها (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). غني عن العالمين وحمد الحامدين ، وفي نهج البلاغة : هو الغني بلا استفادة أي ان غناه تعالى ذاتيّ لا نسبي ، وانه لو احتاج الى شيء لم يكن إلها ، وقال ابن عربي في الفتوحات المكية : لا محمود إلا من حمده الحمد. يريد ان الله هو الحمد ، وانه لا أحد يستحق الحمد والثناء إلا من حمده الله أو رضي بأن يحمد ويثنى عليه.

يمسك السماء ان تقع الآية ٦٥ ـ ٧٠ :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ

٣٤٤

بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

اللغة :

المنسك موضع العبادة ، وناسكوه على حذف حرف الجر أي ناسكون فيه. والمراد بالمنسك هنا الشريعة والمنهاج ، وناسكوه أي عاملون أو ملتزمون به.

الإعراب :

الفلك بالنصب معطوفة على ما في الأرض أي وسخر الفلك ، وجملة تجري حال من الفلك. والمصدر من ان تقع مفعول من أجله ليمسك أي كراهة الوقوع على الأرض. وهم ناسكوه مبتدأ وخبر والجملة صفة لمنسكا.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ). تقدم مثله في الآية ٣٢ من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٤٨. والآية ١٣ و ١٤ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٠٢.

٣٤٥

(وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). أمسك سبحانه الكواكب بنظام الجاذبية ، كما أمسك الطير في الجو بجناحيه ، وأسند الإمساك اليه تعالى لأنه خالق الكون ، ومسبب الأسباب ، وفي بعض الآيات عبّر عن هذه الأسباب بأيدي الله ، قال تعالى : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) ـ ٧١ يس. وقال : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ـ ٧٥ ص. وعلى أية حال فان الغاية من قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) الخ هي الاشارة الى ان على الإنسان أن يطيل الفكر في خلق الكون ، وكيف أتقنه تعالى بقدرته ، ودبره بلطفه وحكمته ، ولو لا هذا اللطف والتدبير لاختل نظام الكون ، وأصبح بجميع كواكبه هباء منبثا.

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ). تقدم في الآية ٢٨ من سورة البقرة ج ١ ص ٨٦ فقرة «موتتان وحياتان» أما وصف الإنسان بالكفور والظلوم والفخور ونحوه فليس تحديدا لحقيقته وهويته ، بل هو تفسير لسلوكه في بعض مواقفه. أنظر تفسير الآية ٩ من سورة هود ج ٤ ص ٢١٢ وما بعدها.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ). المراد بكل أمة أهل الأديان ، والمنسك يطلق على ما يذبح لوجه الله من الانعام كما في الآية ٣٤ من هذه السورة وأيضا يطلق على مكان العبادة ، وعلى الشريعة والمنهج ، وهذا المعنى هو المراد هنا لقوله تعالى بلا فاصل : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) أي ما دام لكل أهل ملة شريعة ومنهاج فعلى أهل الأديان والملل ان لا ينازعوك يا محمد في الإسلام وشريعته ، فقد كانت شريعة التوراة والإنجيل للماضين ، أما شريعة القرآن فهي لأهل العصر الذي نزل فيه ، ولكل عصر الى يوم يبعثون (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) ولا تهتم باعراض من أعرض ، ونزاع من نازع (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) ومن اتبع هداك فلا يضل ولا يشقى.

(وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). أمر الله نبيه الكريم أن يمضي في دعوته ، وإذا نازعوه عتوا وعنادا أن يعرض عنهم ويقول لهم : الله أعلم بعملنا وعملكم ، وبالمهتدين منا ومنكم ، وهو الحكم في يوم الفصل ، وفيه تعرفون المحق من المبطل.

٣٤٦

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ). الخطاب لرسول الله (ص) والمراد تهديد الكافرين بأن ما قالوه وفعلوه وأضمروه من الكفر والكيد لنبي الله فهو مسجل ومحفوظ عنده تعالى ، وسيحاسبهم عليه ، ويجازيهم بما يستحقون (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

ويعيدون من دون الله الآية ٧١ ـ ٧٦ :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

اللغة :

السلطان الحجة والبرهان. والمنكر هنا الكراهة التي هي أثر الإنكار. ويسطون يبطشون. ويصطفي يختار.

٣٤٧

الإعراب :

سلطانا تمييز لأنه بمعنى من سلطان ، وفي الآية ٧١ من سورة الأعراف (ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). ومن نصير (من) زائدة اعرابا ونصير مبتدأ ، وللظالمين خبر مقدم. وبينات حال من آياتنا. والنار مبتدأ وجملة وعدها خبر. وحق قدره مفعول مطلق لقدروا لأنه مضاف الى مصدر الفعل ، وهو قدره.

المعنى :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ). ان العلم بالشيء ، أي شيء ، لا يخلو اما أن يكون علما بديهيا ، وهو الذي يحصل للإنسان بمجرد أن يتصور الشيء مثل ان المثلث غير المربع ، والمربع غير المستدير ، واما أن يكون نظريا مثل ان الأرض تدور حول الشمس ، والمراد بالسلطان في الآية الادلة النظرية ، وبالعلم الفطرة والبداهة ، والمعنى ان المشركين عبدوا الأصنام وما اليها دون أن يستندوا الى النظر والاستنباط ، أو الى الفطرة والبداهة ، وقد ظلموا الله بعبادة الأصنام حيث جعلوا له شريكا ، وظلموا أنفسهم لأنهم عرضوها لغضب الله وعذابه (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) في يوم الحساب والجزاء.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا). ضمير عليهم يعود الى الذين يعبدون من دون الله .. وكانوا إذا سمعوا من النبي أو المؤمنين آيات القرآن وغيرها من الحجج على التوحيد ونبوة محمد (ص) ـ انعكست على وجوههم علامات الغيظ والحقد ، وهموا ان يبطشوا بمن سمعوا منه الدلائل والبينات (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). أمر سبحانه نبيه الكريم أن يقول لهؤلاء الحانقين : إذا صعب عليكم الاستماع الى الحق فان نار جهنم عليكم أشد وأعظم.

صفحات الوجه ونظرات العينين :

لا شيء أثقل على المبطل من كلمة الحق ، وانتصار أهله على الباطل ، وبالخصوص

٣٤٨

إذا عجز المبطل عن المقاومة والدفاع .. انه يسكت مرغما ، وهو يذوب كمدا ، ويحاول ان يتماسك ويتمالك ويظهر بمظهر اللامبالاة ، ولكن تفضحه الدلائل التي تنعكس على صفحات وجهه ، ونظرات عينيه .. والإنسان قد يكذب ويخادع الناس في أقواله وأفعاله ، لأنه يتحكم بلسانه ويحركه كيف يشاء ، وأيضا يتحكم بيديه ورجليه ويحركها كما يريد ، وان كانت حركة اللسان أخف عليه وأيسر .. شيء واحد لا يمكن التحكم فيه والاملاء عليه ، وهو القلب سليما كان أو سقيما ، فإن أحب أو كره ظهرت الآثار على الوجه والعين جلية واضحة لا يخفيها الابتسام المصطنع ولا الكلام المعسول ، ومن أجل هذا كانت المقياس الصحيح لما في داخل الإنسان دون الأقوال وكثير من الأفعال.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ). بعد ان ذكر سبحانه ان المشركين أثبتوا لأصنامهم صفة الألوهية من غير دليل ـ ذكر في هذه الآية دليلا حسيا على نفي هذه الصفة ، يدركه الجهال والأطفال ، وهو ان الذباب أحقر وأضعف مخلوق ، ومع هذا لو أخذت ذبابة واحدة شيئا من الأصنام ، ثم اجتمعت الأصنام بكاملها وأعلنت الحرب على الذبابة لتسترد ما أخذته منها ، لو حصل ذلك لكانت الذبابة هي الغالبة ، والأصنام كلها مغلوبة ، وبالأولى ان لا تخلق ذبابة أو جناحها (ضَعُفَ الطَّالِبُ) وهو الأصنام (وَالْمَطْلُوبُ) وهو الذبابة .. اذن ، فكيف تكون الأصنام آلهة؟

وتسأل : ان الأصنام تحمل معها الدليل على انها ليست بآلهة ، فلما ذا اهتم القرآن بإيراد الأدلة على ذلك؟

الجواب : ان نفي الألوهية عن الأصنام من البديهيات في منطق العقل ، والذين عبدوها واتخذوها آلهة لم يعبدوها بدافع من العقل ، بل بدوافع أخرى كالتقليد والتربية والمصلحة ، وما إلى ذلك من الدوافع التي لا تبالي بالنقد مهما يكن صائبا.

حول عقيدة التوحيد :

شعرت ، وأنا أفسر آي الذكر الحكيم اني كلما تقدمت في التفسير فتح الله

٣٤٩

عليّ أبوابا من المعرفة بأسرار القرآن وعجائبه التي لا تقف عند حد ، فكثير من الآيات تكررت في كتاب الله بلفظها أو بمعناها ، فأشرح في المرة الأولى المعنى بما أفهمه من اللفظ والسياق وغيره من القرائن. وفي المرة الثانية أعطف الآية المكرورة على ما تقدم مع الاشارة الى اسم السورة ورقم الآية السابقة ، أو أفسرها بأسلوب ثان ، وقد اتنبه في المرة الثانية أو الثالثة الى جهة في الآية كانت قد خفيت عليّ من قبل وعلى جميع المفسرين ، وبالأصح على أصحاب التفاسير التي لدي.

وأكثر الآيات تكرارا في كتاب الله هي الآيات الدالة على وحدانية الخالق ، والتنديد بالشرك وأهله ، فقد ذكرها سبحانه بكل أسلوب وبشتى الصور ، وتكلمت عن التوحيد ونفي الشرك في المجلد الثاني ص ٣٤٤ بعنوان «دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة» ، ثم عدت الى الموضوع بأسلوب آخر في المجلد الرابع ص ٣٩١ بعنوان «عقول الناس لا تغنيهم عن دين الله» ، وأيضا أوردته بأسلوب ثالث في تفسير الآية ٣١ من هذه السورة ، وبأسلوب رابع وخامس حسب المناسبات ، وأعود اليه الآن بالبيان التالي :

ان الهدف الرئيسي للإسلام هو أن يربط الإنسان بخالقه يستلهم منه الهداية فيما يعتقد ويفكر ، وفيما يقول ويفعل ، ويتجه اليه في ذلك كله ، ومن أجل هذا حارب الإسلام الشرك ، واعتبره كبيرة الكبائر ، وجريمة لا تغتفر ، كما اعتبر الرياء والعمل لغير وجه الله في حكم الشرك ، وأخذ المشركين بأقسى العقوبات وأشدها ، وليس من شك ان ايمان الناس ، كل الناس بإله واحد ، وانهم يتحركون بارادة واحدة يقتضي بطبيعة الحال أن يكونوا جميعا على دين واحد وشريعة واحدة لا أحقاد دينية ، ولا نعرات طائفية ، ولا اتجار باسم الدين والمذهب .. أما الإيمان بتعدد الآلهة ، وان البشرية تتحرك بارادات كثيرة فان هذا يستدعي بطبيعته الشقاق والتناحر بين بني الإنسان .. فالإسلام ـ اذن ـ بدعوته الى عقيدة التوحيد يهدي الانسانية الى الأساس الذي يبتني عليه الحب والإخاء ، والأمن والهناء .. هذا ، الى ان الإله الواحد الذي يدعو الإسلام الى عبادته والعمل بشريعته هو الإله العالم الحكيم والعادل الرحيم يحب الخير لجميع الناس على السواء ، ويكره الشر بشتى صوره ومظاهره ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، والذين أساءوا بما كانوا يعملون.

٣٥٠

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) لأنهم عبدوا غيره ، وعصوا أمره (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ينتقم منهم ولا يجدون من دونه وليا ولا نصيرا (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبريل ينزل بالوحي على النبيين (وَمِنَ النَّاسِ) وأيضا اصطفى الله رسلا من الناس يدعون الى مرضاته (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يسمع أقوالهم ، ويعلم ما يضمرون وما يفعلون (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ). هذا كناية عن انه تعالى لا تخفى عليه خافية ، وهو شرح وتفسير لقوله : ان الله سميع بصير (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). منه البداية ، واليه النهاية. وبتعبير ثان انا لله وانا اليه راجعون.

وافعلوا الخير لعلكم تفلحون الآة ٧٧ ـ ٧٨ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

اللغة :

اجتباكم اختاركم. والحرج الضيق. والملة الدين. واعتصموا بالله تمسكوا بدينه.

الإعراب :

حق جهاده مفعول مطلق لجاهدوا لأنه مضاف الى الجهاد. ومن حرج (من) زائدة اعرابا وحرج مفعول لجعل. وملة مفعول لفعل محذوف أي اتبعوا ملة ابراهيم.

٣٥١

المعنى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ). خاطب سبحانه في هذه الآية الذين صدّقوا به وبنبيه ، خاطبهم بأن مجرد التصديق لا يجديكم نفعا إلا إذا جمعتم بين أوصاف أربعة : الأول أن تحافظوا على اقامة الصلاة لله وحده ، وهذا هو المراد بقوله : اركعوا واسجدوا. الثاني أن تجتنبوا محارم الله ، كالنفاق والخيانة واثارة الفتن والافتراء على الأبرياء وتدبير المؤامرات للتخريب والفساد ، وهذا المعنى هو المقصود بقوله : واعبدوا ربكم. الثالث أن تفعلوا الخير ، كاغاثة الملهوف وإصلاح ذات البين والتعاون على الصالح العام ، وهو المعني بقوله : وافعلوا الخير. الرابع أن تجاهدوا بأنفسكم وأموالكم أعداء الله والانسانية. ومتى اجتمع في الإنسان هذه الخصال فهو من أهل الفلاح والصلاح ، وتقدم أكثر من مرة ان كلمة لعل من الله تفيد الحتم والوجوب ، ومن غيره تفيد الاحتمال والرجاء.

(هُوَ اجْتَباكُمْ) ضمير هو لله ، والخطاب في اجتباكم للمسلمين ، ووجه الاجتباء والاختيار انه تعالى خصهم بسيد الرسل وخاتم النبيين وشريعته الخالدة بشمولها ويسرها (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). هذا أصل من أصول الشريعة الاسلامية تتجلى فيه سعتها ولينها ومرونتها. وفي الحديث : «ان دين الله يسر» لا عسر فيه ولا مشقة ، وهذا هو دين الفطرة ، وقد فرع الفقهاء على هذا الأصل العديد من الفتاوى والأحكام في جميع أبواب الفقه ، واشتهر على ألسنتهم وفي كتبهم : الضرورات تبيح المحظورات .. الضرورة تقدر بقدرها .. الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف .. يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام .. ومن أجلى مظاهر اليسر في الإسلام انه لم يقم بين الإنسان وخالقه أية واسطة ، كما هو شأن الأديان الأخرى.

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ). المراد بالملة الدين. ودين ابراهيم يدخل في الإسلام بجميع أصوله ، وكثير من شريعته وفروعه ، وابراهيم (ع) هو الأب الحقيقي للأنبياء ، والروحي لأهل الأديان السماوية بالنظر الى سبقه وتقدمه ، واتفاق الجميع على نبوته وتعظيمه.

٣٥٢

(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) قيل : ضمير «هو» سماكم يعود الى ابراهيم ، وان «في هذا» متعلق بمحذوف خبرا لمبتدأ محذوف أي وفي هذا شرف لكم ، والجملة مستأنفة. وقيل : «هو» يعود الى الله تعالى وان الاشارة في قوله : (وَفِي هذا) الى القرآن ، والمجرور متعلق بفعل محذوف معطوف على سماكم ، والتقدير ان الله سماكم يا أمة محمد المسلمين في الكتب المتقدمة على القرآن : وأيضا سماكم المسلمين في القرآن .. وكلا التفسيرين جائز لأن ابراهيم (ع) يتكلم بلسان الله. انظر تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) ـ ١٩ آل عمران ج ٢ ص ٢٦.

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). الحاكم غدا هو الله ، والشاهد الأول رسول الله ، والشاهد الثاني أهل العلم بالله ، والرسول يشهد على أهل العلم بالله انه بلغهم عن الله ليعملوا ويبلغوا أمة محمد (ص) وغيرها من الأمم ، وأهل العلم يشهدون على أمة محمد وغيرها انهم بلغوا ما بلغهم الرسول ، فان قصّر أحد من العلماء عن العمل أو التبليغ ، أو من الذين بلغهم العلماء فقد باء بغضب من ربه ومأواه جهنم وبئس المصير. وتقدم مثله في الآية ١٤٣ من سورة البقرة ج ١ ص ١٢٤ (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) هذا تأكيد لما تقدم في الآية السابقة (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) تمسكوا بطاعته ، وابتعدوا عن معصيته ، وفي نهج البلاغة : من العصمة تعذر المعاصي (هُوَ مَوْلاكُمْ) ان أطعتم واستقمتم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لمن تولاه واتكل عليه لا على سواه.

٣٥٣
٣٥٤

الجزء الثّامن عشر

٣٥٥
٣٥٦

سورة المؤمنون

١١٨ آية مكية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

صفات المؤمنين الآية ١ ـ ١١ :

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

اللغة :

اللغو ما لا فائدة فيه من الكلام. والمراد بملك اليمين الإماء. والعادون الذين يتجاوزون الحدود. الراعون الحافظون. والوارثون الذين يستحقون الجنة تماما كما يستحق الوارث ميراث قريبه. والفردوس الجنة.

٣٥٧

الإعراب :

الذين هم في صلاتهم عطف بيان من «المؤمنون». وعلى أزواجهم متعلق «بحافظون». وما ملكت استعملت «ما» فيمن يعقل. والذين يرثون بدل من «الوارثون». وجملة هم فيها خالدون حال.

المعنى :

كل من قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله كان له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم في هذه الحياة ، أما في الآخرة فلن يفوز بثواب الله ورضوانه إلا إذا جمع بين الخلال التالية :

١ ـ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ). الخشوع والخضوع ضد الاستعلاء والكبرياء ، قال تعالى : (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ) ـ ٤٥ الشورى. والخشوع في الصلاة نتيجة اليقين بالله والخوف من عذابه ، والصلاة بلا يقين ليست بشيء ، قال الإمام علي (ع) : نوم على يقين خير من صلاة في شك.

٢ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ). ان المؤمن الحق في شغل بطاعة الله عن اللغو والباطل. قال الامام علي (ع) : ان اولياء الله هم الذين نظروا الى باطن الدنيا إذا نظر الناس الى ظاهرها ، واشتغلوا بآجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها. وقال : من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره.

٣ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ). انظر ما كتبناه في الزكاة ج ١ ص ٤٢٨.

٤ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ). المراد بملك اليمين الإماء ، ولا اثر لهن اليوم ، والزنا من الكبائر والفواحش في شريعة الإسلام ، وما فشا في مجتمع إلا كان مصيره الى الانحلال (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي من طلب نكاح غير زوجته وأمته فقد تجاوز حدود الله ، واستحق غضبه وعذابه.

وتسأل : هل قوله تعالى : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) يشمل الاستمناء باليد المكنى عنه بجلد عميرة؟

٣٥٨

الجواب : أجل ، يشمله لأن الله سبحانه أباح الزوجة والأمة ، وحرم ما عداهما أيا كان ، ولذا أفتى الفقهاء بتحريمه إلا الحنفية والحنابلة فقد أجازوه لمن يخاف الوقوع في الحرام ـ روح البيان لإسماعيل حقي ـ وسئل الإمام جعفر الصادق (ع) عن الاستمناء؟ قال : هو اثم عظيم ، قد نهى الله عنه في كتابه ، ولو علمت بمن يفعله ما أكلت معه. قال السائل : أين هو في كتاب الله يا ابن رسول الله؟ فقرأ الإمام : فمن ابتغى وراء ذلك الخ ثم قال : والاستمناء وراء ذلك.

٥ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ). تكلمنا مفصلا عن الأمانة ووجوب تأديتها بشتى أنواعها عند تفسير الآية ٥٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٥٥ ، أما العهد فهو كل ما أمر الله به ونهى عنه ، قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) ـ ٤٠ البقرة.

٦ ـ (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ). يواظبون عليها في أوقاتها ، وتكلمنا عن الصلاة مفصلا عند تفسير الآية ٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٤٧ ، وأيضا عند تفسير الآية ١١٠ من نفس السورة والمجلد ص ١٧٥.

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ). فأي مؤمن جمع بين الخصال المذكورة فقد استحق الجنة بعمله كما يستحق الوارث الميراث من قريبه ، وأين تراث الدنيا وحطامها الزائل من تراث الآخرة ونعيمها الدائم؟

خلق الانسان والسموات الآة ١٢ ـ ١٧ :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ

٣٥٩

الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧))

اللغة :

السلالة ما يستخرج من الشيء. والمراد بالطرائق السموات لأن بعضها فوق بعض ، يقال : طارق بين الثوبين إذا لبس أحدهما على الآخر.

الإعراب :

من سلالة متعلق بخلقنا ، ومن طين بمحذوف صفة للسلالة. وجعلناه تتعدى الى مفعولين لأنها بمعنى صيرناه ، وكذلك خلقنا النطفة علقة ، فخلقنا المضغة عظاما. وكسونا أيضا تتعدى الى مفعولين. وخلقا مفعول مطلق لأنشأناه لأنها مثل قمت وقوفا. وأحسن الخالقين صفة لله ، وان كانت الاضافة هنا لا تفيد تعريفا لأن كلمة أحسن الخالقين لا تطلق إلا عليه تعالى ، بل لا خالق سواه. وبعد ظرف متعلق «بميتون».

الله والإنسان :

أشار سبحانه الى خلق الإنسان في العديد من آي الذكر الحكيم ، لا لنعرف من أين وكيف وجدنا ، وما هي حقيقتنا والأدوار التي نمر بها وكفى ، بل لندرك عظمة الخالق في خلقنا نحن ، كما ندركها في خلق السموات والأرض ، فنؤمن به ، ونسير على هداه طمعا في ثوابه ، وخوفا من عقابه ، ومن هذه الآيات : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ـ ١ الإنسان .. أجل ، لم يكن الإنسان ثم كان ، أما الذي كونه ، ونقله من العدم الى الوجود فينبئنا عنه خالق الكون

٣٦٠