التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

ولكن أين المفر من حكم الله ومشيئته. وتقدم نظيره في الآية ٤٩ وما بعدها من سورة ابراهيم ج ٤ ص ٤٥٩ فقرة : «جهنم والأسلحة الجهنمية».

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ). للكافرين ثياب النار ومقامع الحديد ، وماء الحميم ، وللمؤمنين المخلصين جنات نعيم ، وأنهار لذة للشاربين ، وثياب من حرير ، وحلي من الذهب واللؤلؤ (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) بعد أن أشار سبحانه الى طعامهم وشرابهم ذكر أقوالهم ، وهي أحسن الأقوال ، مثل الحمد لله وله الشكر على ما تفضل وأنعم (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) وهو الطريق القويم الذي سلكوه في الحياة الدنيا ، وأدى بهم الى نعيم الآخرة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ). كان مشركو قريش يمنعون الناس من الدخول في الإسلام ، ومن الحج والعمرة الى بيت الله الحرام الذي جعله مثابة وأمنا للمؤمنين كافة لا فرق بين المقيم فيه والعابر. وتقدم نظيره في الآية ١٢٥ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٠٠ (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ). المراد بالإلحاد هنا الميل والانحراف ، والمعنى من يميل وينحرف عما أمر الله ، وأساء لمن قصد بيته الحرام فان الله يعذبه العذاب الأكبر.

وطهر بيتي الطائفين والقائمين الآية ٢٦ ـ ٢٩ :

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ

٣٢١

فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

اللغة :

بوأنا هنا بمعنى هيأنا ووطأنا لأنها تعدّت باللام. والطواف الدوران. والضامر الهزيل. والفج الطريق. والعميق البعيد. وبهيمة الأنعام الإبل والبقر والضان. والبائس هو الذي أصابته شدة. والتفث الوسخ ، يقال : قضى تفثه إذا أزال وسخه.

الإعراب :

بوأنا متضمنة معنى هيأنا ولذلك دخلت اللام على ابراهيم ، ومكان منصوب ببوأنا. ان لا تشرك (ان) مفسرة لفعل محذوف أي أوحينا اليه ان لا تشرك. ورجالا حال أي مشاة على أرجلهم. وعلى كل ضامر أيضا حال أي مشاة وركبانا. ويأتين الجملة صفة لكل ضامر والنون تعود الى كل ضامر لأنه بمعنى الجمع. والمصدر من ليشهدوا متعلق بيأتوك.

المعنى :

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ). المراد بالقائمين المقيمون في مكة وضواحيها ، وبالركع السجود المصلون .. كانت قريش تعبد الأصنام ، وتقوم على أمر الكعبة ، وبعد أن بعث الله محمدا (ص) نصبت العداء له ولمن آمن به ، ومنعت المسلمين من الطواف والصلاة في بيت الله ، كما جاء في الآية السابقة ، ومع هذا كانت

٣٢٢

تزعم قريش انها على دين ابراهيم (ع) .. فأبطل الله هذا الزعم بأنه هو صاحب البيت ، وقد أوحى الى ابراهيم ان يبنيه ويجعله خاصا بعبادة الموحدين المقيمين منهم في مكة والعابرين ، وان يبعد عنه المشركين وأوثانهم ، وهذا هو معنى (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) .. ولكن قريشا عكست الآية ، فملأت بيت الله بالأصنام ، وأباحته لأهل الشرك والفساد وصدت عنه أهل التوحيد والصلاح.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). أمر الله خليله ان يدعو الناس الى حج المسجد الحرام بعد ان يقيم قواعده ، ويتم بناءه ، ووعده أن يستجيب الناس الى دعوته. ويأتوه مشاة وركبانا على ضوامر من الخيل والإبل من كل طريق بعيد ، وبالأولى من الطريق القريب.

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ). الحج هو العبادة الوحيدة التي تجمع بين المنافع الدينية والدنيوية ، أما الدينية فطاعة الله بأداء الفريضة ، والتوبة من الخطايا والذنوب واستشعار الهيبة والجلال ، قال ابن عربي في الفتوحات المكية : «كنت في ذات يوم أطوف بالكعبة ، فرأيتها فيما خيل الي انها ارتفعت عن الأرض ، وتوعدتني بكلام والله سمعته ، وهي تقول : تقدم حتى ترى ما أصنع بك ، كم تضع من قدري ، وترفع من قدر بني آدم».

ونقول عن يقين : ما من أحد يسعى أو يطوف في بيت الله بإخلاص إلا ويستشعر شيئا من هذا النوع.

(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم ، وذكر اسمه تعالى على الانعام كناية عن ذبحها ونحرها لأن التسمية تجب عند نحر الإبل وذبح البقر والغنم ، والمراد بآيات معلومات ايام النحر والذبح في الحج كما يدل عليه سياق الآية. وقد اختلف الفقهاء في عدد هذه الأيام ، قال الشيعة : هي أربعة ، أولها يوم عيد الأضحى وآخرها اليوم الثالث عشر من ذي الحجة ، وقال غيرهم من فقهاء المذاهب : هي ثلاثة تنتهي بالثاني عشر منه. والتفصيل في كتابنا «الفقه على المذاهب الخمسة».

وقال الرازي : أكثر العلماء يفرقون بين الأيام المعلومات في هذه الآية ، والأيام المعدودات في الآية ٢٠٣ من سورة البقرة ، ويرون ان الأيام المعلومات هي عشرة

٣٢٣

ذي الحجة ، والمعدودات ايام الذبح والنحر على الخلاف الذي أشرنا اليه في انها أربعة أو ثلاثة.

(فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ). اتفق الفقهاء على وجوب اطعام الفقير من أضحية الحج ، واختلفوا في وجوب أكل صاحبها منها ، ونحن مع القائلين بعدم الوجوب عليه ، وان الأمر متروك الى ارادته ، ان شاء أكل منها ، وان شاء تصدق بأجمعها ، أما قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها) فقد جاء لرفع توهم تحريم الأكل منها ، حيث كان أهل الجاهلية لا يأكلون من أضاحيهم زاعمين ان ذلك محرم عليهم ، فنبه سبحانه بقوله : فكلوا منها ، الى خطئهم.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) لا يجوز للحاج ايام إحرامه أن يحلق رأسه أو يقلم أظافره أو يتطيب ، بل قال الفقهاء أو أكثرهم : ان قتل هو ام الجسد كالقمل حرام ، فإذا انتهت أيام الإحرام حل له ما كان محرما عليه ، فيحلق ويقلم أظافره وغير ذلك ، والى هذا أشار سبحانه بقوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ). (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ان كانوا قد نذروا شيئا من أعمال البر أيام الحج أو قبلها ، فان كثيرا من الناس ينذرون الصدقات وغيرها من أعمال الخير ان رزقهم الله الحج (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي القديم لأنه أول بيت وضع للناس ، وذكر سبحانه الطواف في صيغة المبالغة حيث يستحب الإكثار منه ، كما يستحب الإكثار من الصلاة ، فلقد اشتهر عن نبي الرحمة (ص) انه قال : الطواف بالبيت صلاة.

حرمات الله وشعائره الآة ٣٠ ـ ٣٥ :

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)

٣٢٤

ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

اللغة :

حرمات جمع حرمة ، وهي ما لا يحل انتهاكه. وحنفاء جمع حنيف ، وهو من استقام على دين الحق مائلا عن الأديان الباطلة. والسحيق البعيد. وشعائر جمع شعيرة ، وهي العلامة مأخوذة من الإشعار بمعنى الاعلام. والمنسك موضع العبادة ، والنسك العبادة. والمخبتين الخاشعين بدليل قوله تعالى : الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم .. أي خافت.

الإعراب :

ذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. ومن الأوثان (من) بيانية أي الرجس الذي هو الأوثان. وفهو يعود الى مصدر متصيد من يعظم أي التعظيم. وحنفاء حال من واو اجتنبوا. وغير مشركين حال ثانية. فإنها ، الأصل فان تعظيمها ثم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فصارت فإنها ، والذين إذا ذكر الله عطف بيان للمخبتين ، والصابرين والمقيمي الصلاة عطف على المخبتين.

٣٢٥

المعنى :

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ). للتعظيم مظاهر شتى ، تتفاوت على قدر المعظّم ، وما يليق به من التعظيم والاحترام ، ولا شيء لدى المخلوق يليق بتعظيم خالقه إلا الطاعة والانقياد له في كل شيء ، فمن أطاع الله وامتثل أوامره ونواهيه فقد عظمه وعظّم حرماته وشعائره ، وهذا التعظيم أو هذه الطاعة ترفع من شأن المطيع عند خالقه ، لا من شأن الخالق المطاع لأن الله غني عن العالمين ، ولذا قال تعالى : (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي تعظيم أحكام الله باطاعتها خير للمطيع عند خالقه وبارئه.

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ). حرم الله على الحاج الصيد أيام إحرامه ، وربما توهم هذا الحاج المحرم انه إذا حرم عليه الصيد فقد حرم عليه أيضا الأكل من لحوم الانعام ، فبين سبحانه عدم التلازم بين التحريمين ، وان المحرم من الأنعام ما نص عليه القرآن كالميتة وما ذبح على النصب. انظر تفسير الآية ٣ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٠ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ). ابتعدوا عنها وعن عبادتها كما تبتعدون عن الأوساخ والاقذار ، والأوثان كلها رجس ، ولذا قال علماء العربية : ان من هنا للتبيين لا للتبعيض ، مثلها مثل (من) في قولك : خاتم من حديد (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). وقول الزور يشمل كل محرم كذبا كان أو غيبة أو شتما أو فحشا ، وأشد أنواع الزور الشهادة الكاذبة لأن فيها هدرا لحقوق الله والناس ، قال رسول الله (ص) : عدلت شهادة الزور بالشرك بالله. ثم تلا هذه الآية.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ). الحنفاء هم المستقيمون على دين الحق المائلون عن الأديان الباطلة ، وغير مشركين تأكيد للحنفاء. وتكلمنا عن الحنفاء عند تفسير الآية ١٠٧ من سورة الإسراء (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ). هذا كناية عن ان اثم الشرك لا يعادله اثم ، وان عذاب المشرك ليس وراءه عذاب .. ومن تتبع الآيات القرآنية والسنة النبوية يلاحظ ان المشرك أكبر إثما من الملحد عند الله ، وقد يكون السر في ذلك ان الملحد لا يثبت النقص «للخالق» لأنه لا يعترف بوجوده من

٣٢٦

الأساس ، وهذا اثم عظيم ما في ذلك ريب .. ولكن اثم المشرك أعظم لأن الاشراك انكار للخالق الواحد من جهة ، واثبات النقص للموجود من جهة ثانية.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). شعائر الله وحرماته بمعنى واحد ، وتكلمنا عنها في تفسير الآية السابقة ، وليس من شك انه لا يطيع احكام الله الا المتقون المخلصون ، ومن تعظيم شعائر الله واطاعة أحكامه ان تذبح السمين السليم من الانعام أيام الحج ، قال رسول الله (ص) : لا تضح بالعرجاء ولا العجفاء ، ولا الخرقاء ، ولا الجذاء ، ولا العضباء. والعجفاء الهزيلة ، والخرقاء هي التي لا اذن لها. أو مخرومة الاذن ، والجذاء مقطوعتها ، والعضباء مكسورة القرن.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). ضمير فيها يعود الى ذبائح الحج ، والى أجل مسمى أي وقت نحرها أو ذبحها ، والمعنى ان للحاج ان ينتفع بلبن أضحيته وظهرها الى حين النحر والذبح. وفي تفسير الرازي ان رسول الله مر برجل يسوق بدنة ، وهو في جهد ، فقال له : اركبها. قال الرجل : انها هدي يا رسول الله ، فقال له : اركبها ويلك ، ثم قال الرازي : وأبو حنيفة لا يجيز ذلك ، واحتج بأنه لا يجوز أن يؤجرها ، فإذن ، لا يجوز أن يركبها ، ورد الرازي على أبي حنيفة بأن هذا ضعيف لأن أم الولد من الإماء لا تباع ، ومع ذلك يجوز الانتفاع بها. (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) اي ان مكان ذبح الانعام هو بيت الله الحرام ، والمراد به الحرم كله ، ومنه منى ، وفي الحديث منى كلها منحر.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً). المراد بالمنسك هنا النسك بذبح الأنعام بدليل قوله تعالى بلا فاصل : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ). والمعنى لا بدع في الأضحية فلقد كانت مشروعة في الأديان السابقة (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فلا تذكروا اسم غيره على ذبائحكم (فَلَهُ أَسْلِمُوا) انقادوا لأمره وأخلصوا له في القول والفعل.

(وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). بشّر يا محمد بالجنة من تواضع لله ،

٣٢٧

وخاف منه ، وثبت على دينه في السراء والضراء ، وتعبّد له من غير نفاق ورياء ، وأنفق ماله في طاعة الله ومرضاته. وليس من شك ان هذه الصفات إذا اجتمعت في انسان سمت به الى أعلى الدرجات عند الله والناس.

والبدن جعلناها لكم الآة ٣٦ ـ ٣٧ :

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

اللغة :

البدن بضم الباء جمع بدنة ، وهي الناقة السمينة من بدن بدنا إذا كثر لحمه. وصوافّ أي ان البدن قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن. ووجبت جنوبها سقطت جنوبها على الأرض وهو كناية عن خروج أرواحها بالنحر. والقانع الراضي بما يعطى له من غير مسألة. والمعتر الذي يتعرض لك لتعطيه.

الإعراب :

البدن مفعول لفعل محذوف أي وجعلنا البدن ، ولكم متعلق بجعلناها ، ومن شعائر الله متعلق بمحذوف مفعولا ثانيا لجعلناها وصوافّ حال من البدن.

٣٢٨

المعنى :

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ). البدن هي الإبل خاصة كما في كثير من التفاسير ، منها تفسير الرازي والبيضاوي ، وياحق بها البقر في الحكم ، لا في الاسم .. وعلى أية حال فان الإنسان نتيجة لعوامل كثيرة ، منها البيئة التي يعيش فيها ، وقد عاش العرب وغيرهم في الجاهلية وبعدها بقرون ، عاشوا مع الإبل ، وكانت جزءا من حياتهم ، يأكلون من لحومها ، ويشربون من ألبانها ، ويلبسون من أوبارها ، وتحمل أثقالهم من بلد الى بلد .. أنظر تفسير الآية ٦ من سورة النحل ج ٤ ص ٤٩٧. ومن أجل هذا ذكرها الله سبحانه في العديد من آياته بلفظ عام كالانعام ، أو بلفظ خاص كما في الآية ١٧ من سورة الغاشية والآية التي نحن بصددها ، فلقد امتن سبحانه فيها على عباده بالبدن ، وجعل لها منافع كثيرة ، منها أن يتقرب العبد الى الله بنحرها في بيته الحرام ، والتعبير عن هذا النحر بشعائر الله يشعر بأنه من أفضل الطاعات والعبادات.

(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ). من شروط الذبح والنحر التسمية والاتجاه بالمذبوح والمنحور الى القبلة والنحر للإبل ، والذبح لغيرها ، ولا تحل الإبل بالذبح ، كما لا يحل غيرها بالنحر ، والذبح معلوم ، أما النحر فهو ان يدخل الذابح سكينا أو ما إليها من الآلات الحادة في لبة البعير ، وهو قائم أو بارك أو مضطجع على جنبه شريطة أن يكون متجها بنحره وجميع مقاديم بدنه الى القبلة ، وأفضل صور النحر ما جاء في بعض الروايات ، وهو ان يقام البعير واقفا اتجاه القبلة ، وان تعقل احدى يديه ، ويقف الناحر متجها الى القبلة أيضا ، ثم يضرب في لبته ، وهذه الرواية تصلح تفسيرا لكلمة صواف.

(فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) سقطت على الأرض وخرجت الروح منها (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ). القانع الراضي بما تعطيه من غير سؤال ، والمعتر من يتعرض لك بالعطية (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سخرها لنا سبحانه في كل ما نريده منها حتى الذبح ، فوجب له الشكر على هذا التسخير (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) لأن الله غني عن العالمين فضلا عن لحوم الاضاحي ودمائها ، بل لا غنى لشيء إلا به ومنه سبحانه وتعالى ، وقيل : ان هذا رد

٣٢٩

على المشركين الذين كانوا يلطخون أصنامهم بدم الأضاحي ، ويلوثون به حيطان الكعبة.

(وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ). وتسأل : ان معنى التقوى ان تتقي الله فيما حرمه عليك ، وهذا يعود ثوابه ونفعه عليك وحدك ، أما الله سبحانه فلا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا تضره معصية من عصى ، اذن ، فما معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ)؟

الجواب : المراد بالتقوى هنا رضا الله لأن تقوى العبد ، ورضا الله عن المتقي متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر ، وعليه يكون المعنى ان الذي يصل الى الله من أضاحيكم هو ان يرضى عنكم ولا يغضب عليكم .. فهو أشبه بقولك لولدك : ان نجاحك في الدراسة يجعلني راضيا عنك محبا لك ، وهذا كل ما أناله من دراستك ونجاحك.

(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ). سخر الله البدن لعباده وهداهم الى التقرب بنحرها اليه تعالى ليسبحوا بحمده ، ويعظموه في علمه وقدرته ويخافوا من عقابه ، ويطمعوا في ثوابه (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) كل المحسنين ، سواء أأحسنوا في التقرب الى الله بالأضاحي أم بغيرها ، فان أنواع الإحسان لا يبلغها الإحصاء ، وأفضلها جهاد أهل البغي والضلال ، ولو بكلمة الحق والعدل.

ان الله يدافع عن الدين آمنوا الآة ٣٨ ـ ٤١ :

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ

٣٣٠

فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

اللغة :

صوامع جمع صومعة بفتح الصاد. وبيع جمع بيعة بكسر الباء. وفي مجمع البيان الصوامع في أيام شريعة عيسى ، والبيع في أيام شريعة موسى ، والمساجد في أيام شريعة محمد ، وقال الخوري الشرتوني في «أقرب الموارد» : البيعة متعبّد النصارى ، وقال الخوري معلوف في «المنجد» : البيعة معبد النصارى واليهود.

الإعراب :

أذن ، المأذون به محذوف أي اذن بالقتال ، ويدل عليه يقاتلون. وان الله على نصرهم جملة حال من واو يقاتلون. وإلا أن يقولوا استثناء منقطع ، أي ولكن قولهم ربنا الله. ودفع مبتدأ والخبر محذوف أي ولو لا دفع الله حاصل. وصلوات على حذف مضاف أي مكان الصلوات. الذين أخرجوا بدل من للذين يقاتلون.

لا يخلو المؤمن من ناصر :

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). تدل هذه الآية ان الله سبحانه يمنع في هذه الحياة الكفرة والطغاة عن المؤمنين بالله واليوم الآخر ، وأوضح منها في الدلالة قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) ـ ٥١ غافر. مع ان الله سبحانه قد نص في العديد من آياته ان اليهود كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق ،

٣٣١

منها الآية ٢١ و ١١٢ و ١٨١ من سورة آل عمران ، والآية ١٥٤ من سورة النساء ، بالاضافة الى ان تاريخ البشرية القديم والحديث مفعم بالمظالم والاعتداءات على المتقين والمخلصين .. فما هو وجه الجمع بين الآيات الدالة على ان الله ينصر أهل الحق والآيات التي أخبرت عن قتل الأنبياء؟

الجواب أولا : ان آيات النصر تدل بسياقها على انها خاصة ببعض الأنبياء دون بعض ، كنوح وهود وصالح ولوط ومحمد ، ويومئ الى ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) ـ ١٣ آل عمران ، والآيات التي نحن بصددها تدل على ان محمدا (ص) والصحابة هم المقصودون بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) لأنهم هم الذين أخرجوا من ديارهم لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله ، وقد جاء في كتب الصحاح ان هذه الآيات نزلت حين هاجر النبي من مكة الى المدينة.

ثانيا : ان المحق المخلص لا يخلو من ناصر ينصره بيده أو ماله أو لسانه ، ولا نعرف مجتمعا اتفق جميع أفراده ضد من نطق بكلمة الحق والعدل .. أجل ، ان كثيرا من المحقين قتلوا وأسروا وشردوا ، ولكن الله عز وجل قد أتاح لهم أنصارا يعلنون ظلامتهم ، ويشيدون بعظمتهم ، ويدينون أعداءهم بحجج دامغة ، وأدلة قاطعة ، وهذا مظهر من مظاهر النصر ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) تعليل لقوله : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) ويشعر هذا التعليل بأن على من آمن بالله ان يناصر المؤمن بما يملك من أسباب النصر ، وأدناها ان يدافع عنه إذا ذكر أمامه بسوء ، والا فهو خوان كفور .. وفي الحديث الصحيح : الساكت عن الحق شيطان أخرس.

ثالثا : لو كان مجرد الايمان بالله يدفع العدوان والنكبات عن المؤمن ـ ان صح التعبير ـ لآمن كل الناس ايمانا تجاريا تماما كمن يبيع دينه وضميره لكل من يدفع الثمن.

رابعا : ان الايمان الحق أن نطيع الله في جميع أحكامه وأوامره ، وقد أمر سبحانه إذا أردنا أمرا أن نتبع الأسباب الطبيعية التي جعلها مؤدية الى ما نريد ، وقد حدد سبب النصر بوحدة الكلمة ، وأعداد القوة ، قال تعالى : (وَلا تَنازَعُوا

٣٣٢

فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ـ ٤٦ الأنفال وقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ـ ٦٠ الأنفال. وفي الفتوحات المكية عبّر محيي الدين ابن عربي عن هذه الأسباب بأيدي الله ، وقد أخذ هذا التعبير من قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) ـ ٧١ يس. انظر ما كتبناه بعنوان : «الدين لا ينبت قمحا» ج ٣ ص ٤٤٩.

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). كان المسلمون في مكة مستضعفين يلاقون أنواع الأذى والعنف من المشركين ، ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، فكانوا يأتون النبي (ص) ويتظلمون اليه ، وهو لا يملك لهم إلا الوصية بالصبر ، وكان يقول لهم فيما يقول : «اني لم أؤمر بقتال» بل نهى (ص) عن قتال المشركين في أكثر من سبعين آية ، وهو بمكة ، لأن القتال آنذاك كان أشبه بعملية انتحارية. انظر تفسير الآية ٧٧ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٨١. وبعد ان هاجر النبي الى المدينة ، وأصبح للمسلمين شوكة وقوة نزلت هذه الآية ، وهي أول آية أذن فيها للمسلمين بالقتال ـ على ما قيل ـ وقد بيّن سبحانه سبب هذا الاذن بأن المشركين اعتدوا على المسلمين وأخرجوهم من ديارهم ظلما وعدوانا ، ووعد المسلمين بالنصر والظفر بأعدائهم ، حيث قال : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ). ظاهر الآية يدل على ان الذنب الوحيد للنبي (ص) والصحابة عند المشركين هو قولهم : لا إله إلا الله. وبهذا الظاهر أخذ جميع المفسرين ، بل قال أحد المفسرين الجدد ما نصه بالحرف : «لا صراع على عرض من أعراض هذه الحياة التي تشتجر فيها الأطماع ، وتتعارض فيها المصالح ، وتختلف فيها الاتجاهات ، وتتضارب فيها المطامع». وقد أشرنا فيما تقدم أكثر من مرة الى ان طغاة الشرك حاربوا رسالة محمد (ص) وكلمة التوحيد لأنها تقضي على أطماعهم ومنافعهم ومصالحهم ، وتساوي بين الناس. انظر ما كتبناه بعنوان : «المصلحة هي السبب» في ج ١ ص ١٥٥ و ١٧٩.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ

٣٣٣

يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً). بعد أن اذن سبحانه للمؤمنين المعتدى عليهم بقتال أهل الشرك المعتدين بيّن في هذه الآية السبب الموجب لهذا الاذن ، ويتلخص بأنه لو لا القوة الرادعة لسادت الفوضى وعم الفساد في الأرض بالسلب والنهب واراقة الدماء ، وبالخصوص بين الطوائف وأهل الأديان. وعبّر سبحانه عن الفتن بين الطوائف بهدم معابدها لأنها المظهر الديني لكل طائفة ، ولها علامات فارقة تميز أهل الأديان بعضهم عن بعض .. والصوامع للنصارى والبيع لليهود ـ أنظر فقرة اللغة ـ والصلوات على حذف مضاف أي مكان الصلوات ، والمراد بها معابد الطوائف الأخرى .. وتمتاز مساجد المسلمين عن معابد سائر الأديان بأن الصلاة تقام فيها خمس مرات في اليوم والليلة ، ولذا قال سبحانه : (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً).

وقال جماعة من المفسرين : المراد من الآية ان الله يمنع المشركين بالمؤمنين ، ولو لا هم لهدم أهل الشرك معابد أهل الأديان .. وإذا صح هذا التفسير في وقت من الأوقات فانه لا يصح ولا يطرد في كل عصر ومصر ، والصحيح في معنى الآية ما قلناه من انه لا غنى عن القوة الرادعة لحفظ الامن والنظام ، سواء أكانت هذه القوة بيد المؤمن ، أم بيد الكافر بالله. قال الإمام علي (ع) : «لا بد للناس من أمير بر أو فاجر ، يعمل في إمرته المؤمن ، ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل ، ويجمع به الفيء ، ويقاتل به العدو ، وتأمن به السبل ، ويؤخذ به للضعيف من القوي ، حتى يستريح به ، ويستراح من فاجر». وتجدر الاشارة الى أن الإمام قال هذا ردا على قول الخوارج : لا حكم إلا لله. أنظر ما كتبناه بهذا العنوان في ج ٤ ص ٣١٥.

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). هذا ترغيب في الجهاد لنصرة الحق وأهله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ). المراد بالتمكين في الأرض الحكم والسلطان ، وقد أقسم سبحانه مؤكدا انه ينصر الحاكمين شريطة أن يجمعوا بين أمرين : الأول أن يؤدوا حق العباد لله كاملا في أنفسهم كالصوم والصلاة ، وفي أموالهم كالحج والزكاة ، وعبّر سبحانه عن العبادة البدنية بالصلاة ، والعبادة المالية بالزكاة.

٣٣٤

الأمر الثاني : أن يعدلوا بين الناس ، ويحقوا الحق ، ويبطلوا الباطل ، وهذا هو المراد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فان أخل الحكام بواحد من هذين فان الله يهملهم ويكلهم الى أنفسهم.

وتسأل : لقد شاهدنا كثيرا من الحكام لا يؤمنون بالله من الأساس فضلا عن التعبد له باقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومع ذلك استقام لهم الملك ، وانقادت اليهم الرعية لأنهم حققوا أهدافها ، وعملوا من أجل أمانيها ، ولم يحاسبهم أحد من رعيتهم على كفرهم وجحودهم ، اذن عنصر الايمان وعبادة الرحمن ليس شرطا لدوام الملك واستقامته؟.

الجواب : المراد بنصر الله في الآية هو تثبيت الملك في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، بل هذا الثواب هو النصر الحقيقي لأن ملك الدنيا الى زوال ، ومشوب بالكدر ، أما نعيم الآخرة فدائم الى ما لا نهاية ، وهو صفو وهناء من جميع جهاته .. والحاكم الكافر قد يستقيم له الملك في الدنيا ان عدل ، أما في الآخرة فله عذاب الحريق على كفره بالأدلة الكونية على وجود المكوّن والمصور (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) هو وحده مالك الملك يؤتي الملك من يشاء ، ويمنعه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير.

وان کذبوک الآة ٤٢ ـ ٥١ :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ

٣٣٥

بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

اللغة :

النكير الإنكار ، والمراد به هنا الهلاك أي انكار بالفعل ، لا بمجرد القول. وخاوية خالية أو ساقطة. وعروشها سقوفها. وبئر معطلة لا يستقى منها. والشيد بكسر الشين ما طلي به الحائط من الجص ونحوه ، والمراد بالقصر المشيد هنا الفخم. ومعاجزين جمع معاجز من عاجزه معاجزة أي سابقه ليظهر عجزه.

الإعراب :

فكيف خبر كان مقدم ، ونكير اسمها ، والأصل نكيري وحذفت الياء تخفيفا. وكأين أصلها أي فدخلت عليها الكاف كما دخلت على ذا ، وصارت كلمة واحدة ، وهي بمعنى كم الخبرية ، وكتبت بالنون في المصحف ـ كما في تفسير البحر المحيط ـ ومحلها الرفع بالابتداء ، وجملة أهلكناها خبر خلافا للزمخشري. وهي ظالمة مبتدأ وخبر ، والجملة حال من هاء أهلكناها. فهي خاوية مبتدأ وخبر ، والجملة عطف على جملة أهلكناها. وبئر وقصر عطف على القرية. فتكون منصوب بأن مضمرة

٣٣٦

لوقوع الفعل في جواب الاستفهام. والتي في الصدور صفة للقلوب. ومعاجزين حال من واو سعوا.

المعنى :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى). كذبت قريش محمدا (ص) ، وأخرجته من دياره ، فقال سبحانه لنبيه الكريم مسليا ومعزيا : لا بدع فيما لاقيت من قومك فكل نبي عانى من قومه مثل ما عانيت .. ثم ذكر له عددا من الأنبياء على سبيل المثال دون الحصر ، منهم هود وقومه عاد ، وصالح وقومه ثمود ، أما أصحاب مدين فهم قوم شعيب. وتقدم نظيره في سورة الأنعام الآية ٣٤ ج ٣ ص ١٨٢ (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ). المراد بالنكير هنا العذاب ، والمعنى ان الله سبحانه أخر عذاب الكافرين الى أجله ، حتى إذا حان أخذهم به أخذ عزيز مقتدر ، وتومئ الآية الى ان على العاقل ان لا يتعجل الشيء قبل أوانه.

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ). بعد ان قال سبحانه ، انه يمهل الكافرين الى أجل مسمى أشار الى إهلاك القرى الظالم أهلها ، وهي كثيرة كما تشعر كلمة كأين. وتقدم مثله في الآية ٣ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٠١ (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) تقدم في الآية ٢٥٩ من سورة البقرة ج ١ ص ٤٠٥ والآية ٤٢ من سورة الكهف (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). البئر المعطلة هي العامرة بالماء ولكن لا يستقي منها أحد ، وقصر مشيد أي فخم ، وهذا ترك أيضا من غير أهل ، والقصد ان ديار الظالمين أصبحت مقفرة موحشة بعد ما كانت مأهولة تعج بالمقيمين والزائرين.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها). ضمير يسيروا يعود الى الذين كذبوا محمدا (ص) أي ألم يتعظ هؤلاء بمصارع المكذبين؟ وينظروا كيف أصبحت ديارهم خالية وأملاكهم معطلة؟ وتقدم مثله في سورة آل عمران الآية ١٣٧ ج ٢ ص ١٥٩ والآية ٣٦ من سورة النحل ج ٤ ص ٥١٢ (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). وأية

٣٣٧

جدوى من السمع والبصر إذا عميت البصيرة؟ فان الأذن والعين وسيلة وأداة ، والعقل هو الأصل.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ). الخطاب لمحمد (ص) ، وواو الجماعة لمشركي قريش ، وكان النبي يتوعدهم بالعذاب ان أصروا على الشرك ، وكانوا يقولون له ما قاله الأولون لكل نبي حين ينهاهم عن الشرك ، ويتوعدهم عليه : ائتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ). فالتعجيل أو التأجيل ليس بالشيء المهم ما دام الوفاء بالوعد كائنا لا محالة .. وتجدر الاشارة الى ان الوعد من الله بالثواب على الطاعة هو حق للعبد المطيع لا يمكن الخلف فيه ، أما وعيده تعالى بالعقاب على المعصية فحق لله على العبد العاصي ان شاء عفا ، وان شاء عاقب إلا إذا سبق منه القول : انه لن يعفو كما في الآية التي نحن بصددها حيث نفى الخلف فيما وعد به من عذاب قريش لموقفها من رسول الرحمة.

(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). يقول سبحانه للمشركين : علام تستعجلون عذاب الآخرة ، ويوم واحد منه أشد عليكم من عذاب ألف سنة من سني الدنيا ، وبالاختصار فان ألف سنة كناية عن هول اليوم الآخر (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ). تقدم مثله في الآية ٤٥ من هذه السورة ، وفي هذا المقطع بالذات ، وأعاد سبحانه لتأكيد الانذار والتخويف (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ). هذه هي مهمة الأنبياء : التبليغ عن الله وإنذار من أعرض وتولى ، وتكرر هذا المعنى بأساليب شتى.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) المعنى واضح وتقدم في العديد من الآيات ، منها الآية ٢٥ من سورة البقرة (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ). سعوا أي اجتهدوا ، والمعاجز المغالب. والمعنى ان المشركين دائمو الاقامة في النار ملازمون لها الى ما لا نهاية لأنهم عاندوا الرسول ، وبذلوا الجهود لإعجازه عن تبليغ رسالات ربه وصد الناس عنها.

٣٣٨

تمني النبي وإلقاء الشيطان في أمنيته الآة ٥٢ ـ ٥٧ :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

اللغة :

ينسخ يبطل. والمراد بالشقاق هنا العصيان. وتخبت تخشع. والمرية الشك. ومهين مذل.

الإعراب :

من قبلك من رسول (من) الأولى والثانية زائدتان اعرابا ، وقال صاحب البحر المحيط : من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية زائدة. فيؤمنوا عطف على ليعلم ، ومثله فتخبت. وبغتة حال من الساعة أي باغتة.

٣٣٩

المعنى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ). اختلف المفسرون : هل كلمة النبي وكلمة الرسول تعبّران عن معنى واحد ، أو لكل منهما معنى؟ والأقرب انه لا فرق بينهما من حيث ان كلا منهما ينبئه الله بما يريد ، فإذا أنبأه وأمره بالتبليغ أطلقت عليه كلمة النبي لأن الله أنبأه ، وكلمة الرسول لأنه تعالى أمره بالتبليغ ، وإذا أنبأه ولم يأمره بالتبليغ فهو نبي ، وعلى هذا فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا.

وقد روي في سبب نزول هذه الآية ان النبي (ص) تلا على قريش سورة النجم ، ولما بلغ الى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان في تلاوة رسول الله ما نصه بالحرف «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى». والغرانيق جمع غرنوق ، وهو الحسن الجميل أي ان هذه الأصنام حسنة وجميلة ، وترجى شفاعتها عند الله.

ونفى العلماء المحققون هذه الرواية ، وجزموا بأنها من وضع الزنادقة الطاعنين بكتاب الله ونبوة محمد (ص) واستندوا في ذلك الى أدلة قاطعة من العقل والنقل .. النبي الذي أرسله الله لمحاربة الشرك والأوثان يمتدحها وينعتها بأكمل النعوت والأوصاف؟ كيف ولسان النبي بيان الله وترجمانه؟ وهل للشيطان من سبيل على هذا البيان القدسي وهذه الترجمة الإلهية؟.

والصحيح في معنى الآية ان أغلى امنية للنبي ، أي نبي ، أن يعرف الناس حقيقة رسالته ، ويدركوا أهدافها ، ويهتدوا بها ، ولكن أرباب الأهداف والأطماع يحولون بين النبي وتحقيق أمنيته بالتمويه وبث الأكاذيب بكل وسيلة من وسائل الدعاية والنشر ، وقد شاهدنا ذلك ولمسناه ، بل وقاسينا منه الكثير .. وهذا هو معنى إلقاء الشيطان في امنية النبي ، فالنبي يتمنى الخير للناس ، والشيطان ـ أي المخرب ـ يصدهم عنه (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). يختلق المخربون ويذيعون ، ولكن الله يزهق أباطيلهم ، ويفضح أكاذيبهم بألسنة الصادقين ، وأيدي المجاهدين ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى :

٣٤٠