التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))

اللغة :

المراد بالحسنى هنا كلمة البشارة بالجنة. والحسيس الصوت الذي يحس. والسجل الصحيفة. والزبور الكتاب.

الإعراب :

أولئك مبتدأ ومبعدون خبر ، والجملة خبر ان. وهذا يومكم مبتدأ وخبر ، والذي عطف بيان ليومكم ، والجملة مفعول لقول محذوف. ويوم منصوب بفعل محذوف أي يوم نطوي. وكطي السجل الكاف في محل نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي طيا مثل طي السجل. وكما بدأنا (ما) مصدر والمصدر المنسبك مجرور بالكاف. وأول مفعول بدأنا. ووعدا منصوب على المصدرية أي وعدنا وعدا. ورحمة مفعول من أجله لأرسلناك.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ). وعد الله المتقين ان يعاملهم بالحسنى ، ومن ذلك النجاة من النار (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) هذا تأكيد لبعدهم عنها ونجاتهم منها (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ). آمنون من عذاب الله منعمون في جنانه (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ). وبالأولى الأصغر ،

٣٠١

فان للفزع مراتب : من سكرات الموت الى وحشة القبر ثم الخروج منه الى الحساب واطباق جهنم على أهلها (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). تستقبل ملائكة التشريفات المتقين بالحفاوة والتكريم ، وتقول لهم : لقد جمعكم الله في هذا اليوم الذي وعدكم فيه بالملك الدائم والنعيم القائم. وتتلخص هذه الآيات الثلاث بكلمة : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ـ ٦٠ الرحمن. أو كلمة : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) ـ ٢٦ يونس.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ). السجل الصحيفة ، والمراد بالكتب هنا ما يكتب في الصحيفة من كلمات ، والمعنى ان الله سبحانه يطوي الكواكب يوم القيامة ، على ضخامتها وكثرتها ، كما تطوي الصحيفة ما كتب فيها بحيث يصير كل كوكب أشبه بالكلمة أو الحرف في الصحيفة (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ). شبه سبحانه النشأة الثانية بالنشأة الأولى ، وانه كما تحققت هذه فستحقق تلك لا محاله وفاء لوعده تعالى ، وما ذاك على الله بعزيز ، فان من خلق الكون قادر على أن يعيده بعد تلاشيه وتفرق أجزائه : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) ـ ٢٧ الروم.

أيضا المهدي المنتظر :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). الزبور هو كتاب داود ، والذكر ما تقدمه من الكتب السماوية كصحائف ابراهيم وتوراة موسى ، والمعنى ان الحكم والسلطان في الأرض ، وان كان الآن بأيدي الطغاة الفجرة فان الله سينقله من أيديهم الى الطيبين الأخيار لا محالة ، وعندها يعم الأمن والعدل الكرة الأرضية ، وينعم بخيراتها وبركاتها الناس كل الناس ، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة وصحيحة ، منها ما رواه أبو داود في كتاب السنن وهو أحد الصحاح الستة ـ «قال رسول الله : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا» (١).

__________________

(١). تكلمنا عن المهدي المنتظر في ج ١ ص ٢٠٦ وعند تفسير الآية ٥٨ من سورة الاسراء.

٣٠٢

وقانون الحياة لا يأبى ذلك بل يقره ويؤكده ، وإذا كانت القوة الآن بأيدي الوحوش الضارية المتسلطة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيره فانه لا شيء يمنع أن تتحول القوة في يوم من الأيام من أيدي أهل البغي والضلال الى أيدي أهل الحق والعدالة ، بل ان غريزة حب البقاء والتحرر من الظلم ، والمبدأ القائل : كل ما على الأرض يتحرك تماما كالأرض ، وان دوام الحال من المحال ، كل ذلك وما اليه يحتم ان القوة في النهاية تكون للأصلح الأكفأ.

(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ). هذا اشارة الى أن الأرض يرثها العباد الصالحون ، ولو بعد حين ، والمراد بالعابدين هنا الذين يتعظون بالعبر ، وينتفعون بالنذر.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ). الخطاب لمحمد (ص) ، ورسالته رحمة للأولين والآخرين ، وفيما تقدم ذكرنا الكثير من مبادئها وتعاليمها ، وحسبنا منها قول صاحبها : «ما آمن بالله من لا تأمن الناس بوائقه .. إذا ساءتك سيئة ، وسرتك حسنة فأنت مؤمن». وعلى هذا الاحساس والشعور يقوم العدل ، وينشر الأمن ، وتهنأ الحياة .. وتكلمنا عن عموم رسالة محمد (ص) الى جميع الناس في كل زمان ومكان تكلمنا عن ذلك عند تفسير الآية ٩٢ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٢٥.

انما الهكم إله واحد الآة ١٠٨ ـ ١١٢ :

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

٣٠٣

اللغة :

مسلمون مستسلمون منقادون لله وحده. آذنتكم أعلمتكم. على سواء أي ان الإيذان والاعلام يعم الجميع بلا استثناء. والفتنة الاختبار. والمتاع ما يتمتع به قليلا.

الإعراب :

انما بالكسر للحصر ، وانما بالفتح كلمتان (أنّ) المشددة وما الكافة عن العمل ، وإلهكم مبتدأ وإله واحد خبر ، ومعنى الجملة نائب فاعل ليوحى أي يوحى إليّ الوحدانية. وعلى سواء متعلق بمحذوف حالا من المفعول في آذنتكم أي مستوين في الإيذان والاعلام. وان أدري (ان) نافية أي ما أدري ، وقريب مبتدأ ، وما توعدون فاعل قريب ساد مسد الخبر.

المعنى :

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). أمر الله نبيه الكريم أن يقول للمشركين : ان الله أوحى إليّ انه وحده لا شريك له في خلقه ولا في علمه ، وهذا الكون بعجائبه وقوانينه يشهد بوضوح على وحدانيته تعالى وقدرته وعظمته .. فلما ذا لا تؤمنون به وتنقادون لأمره؟ وكيف تزوغون عن عبادته الى عبادة أحجار لا تنفع ولا تضر؟

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ). بعد ان لزمتهم الحجة بالتبليغ والانذار أمر الله نبيه الكريم ان يقول لهم : لقد أديت ما علي ، وبلغتكم جميعا رسالات ربي ، ولم يبق لأحد منكم عذر يتعلل به (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ). أنا على يقين من عذابكم ، لأن الله قد وعدكم به وحذركم منه ، ووعده تعالى أصدق الوعد ، وعذابه أشد العذاب ، ولكن لا أدري متى يكون ذلك ، وسواء أكان قريبا أم بعيدا فإنه له أجلا لا يعدوه ، فانتظروا اني معكم من المنتظرين.

٣٠٤

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ). تقدم مثله في الآية ٧ من سورة طه (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ). لست أدري ما هي الحكمة من إمهالكم وتأخير عذابكم؟ هل أراد سبحانه بذلك ان يظهر كل على حقيقته ، فيتوب الطيب ، ويتمرد الخبيث ، او انه أراد ان تستمتعوا أياما بقيت من أعماركم؟. الله العالم (قالَ ـ محمد ـ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي أظهره وانصر أهله على من كفر به ، وسخر منه وممن دعا اليه (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أصنامكم بالألوهية ، ودعوتي بالافتراء.

أنت العزاء يا رسول الله لكل بريء مفترى عليه .. ويا سعادة من تأسّى بك واقتص أثرك ، وقال للمفترين كما قلت : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

٣٠٥

سورة الحج

بعضها مكي ، وبعضها مدني ، وآياتها ٧٨.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

البعث الآة ١ ـ ٧ :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ

٣٠٦

اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

اللغة :

الزلزلة والزلزال الحركة الشديدة. والمريد بفتح الميم وكسر الراء المتمحض للفساد ولا خير فيه ، يقال : رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا. والنطفة في الأصل الماء الصافي ، ثم استعملت للماء الذي يتولد منه الحيوان. والمضغة القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ. ومخلقة تامة الخلقة. وهامدة لا حياة فيها. وربت ازدادت.

الإعراب :

اتقوا ربكم على حذف مضاف أي عذاب ربكم. ويوم متعلق بتذهل. وترى هنا بصرية ، لا قلبية ، وتتعدى الى مفعول واحد وهو الناس ، وسكارى حال منهم. الضمائر الثلاثة في عليه وانه من تولاه تعود الى الشيطان ، وضمير فانه يضله للشأن ، والمصدر من انه من تولاه نائب فاعل لكتب. ومن تولاه (من) مبتدأ ، والمصدر من فانه يضله خبر لمبتدأ محذوف أي فالشأن إضلال الشيطان له ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره خبر من تولاه ، وجملة من تولاه وخبره خبر انه الأولى. ونقر كلام مستأنف ، وجملة نقر خبر لمبتدأ محذوف أي ونحن نقر ، ومفعول نقر محذوف أي نقر الولد. وما نشاء (ما) مصدرية ظرفية أي مدة مشيئتنا والظرف متعلق بنقرّ. وطفلا حال ، ولفظه مفرد ومعناه الجمع. وشيئا مفعول مطلق. وهامدة حال لأن ترى هنا بصرية تتعدى الى مفعول واحد.

٣٠٧

المعنى :

في هذه الآيات تحذير وتخويف من يوم القيامة مع الاشارة الى شدائده وأهواله ، وذم الجاهل المتعنت ، ثم الاستدلال على البعث ، وفيما يلي التفصيل :

١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ). المراد بالساعة يوم القيامة ، وسمي بها لأن جميع الخلائق تسعى اليه ـ كما في كتاب الاسفار للملا صدرا ـ ومعنى زلزلة الساعة خراب الكون بأرضه وسمائه ، فتختلط هذه بتلك ، والبر بالبحر ، وتزول الأبعاد ، وترتفع الحواجز ، وتقوم الخلائق من الأجداث كأنها أشباح بلا أرواح.

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ). هذا كناية عن هول الساعة وشدتها ، حيث لا مرضع ولا حامل يومذاك أي لو كان ثمة مرضع لذهلت أو حامل لوضعت .. والكل يمورون ويضطربون من الفزع والهلع ، تماما كما يضطرب السكران.

جدال الجهل والضلال :

٢ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ). الإنسان ، أي انسان ، لا يخلو أن يكون واحدا من اثنين : إما جاهلا ، وإما عالما ، والعالم لا يخلو اما أن يكون منصفا ، واما منحرفا ، والعالم المنصف هو الذي يقول ما يعلم ، ويسكت عما لا يعلم ، وقد حدد الله سبحانه وظيفة الجاهل بقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ـ ٧ الأنبياء». فان تجاوز وظيفته هذه صدق عليه قول الإمام علي (ع) : جاهل خبّاط جهالات .. لا يحسب العلم في شيء مما أنكره ، ولا يرى ان وراء ما بلغ مذهبا لغيره.

وهذا الجاهل هو المقصود بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ). وبقوله في الآية ٨ من هذه السورة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ

٣٠٨

بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ). انه يجهل الطريق الى العلم بالله ، ومع ذلك يجادل فيه ، ويقول فيما يقول : لو كان الله موجودا لرأيناه .. انه يريد بمنطقه هذا أن يفسر غير المادة بالمادة ، وان يرى بالعين والبصر من لا يدرك الا بالعقل والبصيرة ، وان يلمس باليد خالق السموات والأرض .. ولا فرق بين هذا ، وبين من حاول أن يمتحن في المعمل والمختبر نظرية «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» أو أراد أن يختبر موهبته الشعرية في قيادة السيارة.

تذكرت ، وأنا أكتب هذه الكلمات ساعة من ساعات الدراسة في النجف ، وقد مضى عليها حوالى أربعين عاما ، كنا في هذه الساعة نتحلق حول الأستاذ ، نستمع الى محاضرته ، وفي أثنائها اعترض عليه أحد التلاميذ ، واستشهد بحادثة لا تمت الى موضوع الدرس بسبب قريب أو بعيد .. فأعرض الأستاذ عنه ، ونظر الى بقية التلاميذ ، وقال : كان فيما مضى رجل معتوه يقال له «». وفي ذات يوم مر بأحد الشوارع ، فرأى جمهورا من الناس مجتمعين ، وهم يموجون في حيرة ، ولما سألهم قال له البعض : ان فلانا سقط عن السطح ، وتحطمت أعضاؤه وقد أوشك على الهلاك ، ولا يدري أهله ما ذا يصنعون؟ فقال «» : عندي دواؤه ، وعليّ شفاؤه ، اربطوه بالحبل وشدوه الى السطح ، وأجلسوه عليه كما كان فانه يشفى لا محالة .. ولما ضحكوا منه احتج عليهم ، وقال : لما ذا تضحكون؟ في العام الماضي سقط فلان بالبئر ، فربطوه بالحبل وأخرجوه منه سليما ..

وهذا هو بالذات منطق من أنكر وجود الله لأنه ما رآه .. أما الكون العجيب بنظامه وجلاله فقد رآه ، ولكنه لا يدل بزعمه على وجود المكوّن والمنظم .. ونحن نؤمن بالمشاهدة والتجربة ، ولكن نؤمن أيضا بأن هذه التجربة لا تجري على كل نوع من الوجود ، بل تقتصر على النوع المادي منه ، أما النوع الروحي والانساني فان لمعرفته سبيلا آخر .. نقول هذا ، ونحن على يقين بأن كلا من الوجود الانساني والمادي متفاعلان متكاملان ، وانه لا غنى للانسانية عن المادة ، وان القيم كالحق والخير لا بد ان يكون لها أثر ملموس محسوس ، وإلا كانت ألفاظا بلا معنى .. ولكن هذا لا يستدعي أن يكون سبيل المعرفة واحدا في كل شيء ، بل يختلف باختلاف الأشياء

٣٠٩

التي يراد معرفتها ، فالمشاهدة والتجربة سبب لمعرفة المادة ، والعقل سبب لمعرفة غيرها. وتكلمنا عن المعرفة وأسبابها في ج ١ ص ٤٣.

والخلاصة ان من قال : لا أومن بالله حتى أراه فقد اعترف بأنه لا يريد ان يؤمن بالله ، ولو شهد بوجوده ألف دليل ودليل ، ومعنى هذا انه يقر على نفسه بالجهل والمكابرة ، لأن المفروض ان الله لا يرى بالعين ، وان الطريق الى معرفة الحقائق لا تنحصر بهذه الرؤية. ان الله يريد من الإنسان ان يبحث ويدقق ويجادل ويناقش ولكن عن علم ووعي ، لا عن جهل وعمى.

(وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ). كل من استطاع ان يموه عليك ، ويخفي حقيقته عنك فهو شيطان ، والشيطان المريد هو الذي تمحضت جميع أقواله وأفعاله للشر والفساد ، وما نفذ هذا الشيطان المريد الى عقل انسان وقلبه إلا قاده الى الضلال والهلاك ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ). فالضلال وعذاب الحريق لا مفر منه لمن يتبع أهل الضلال والفساد ، وفي طليعة المفسدين المضللين أولئك الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه ، ويحللون ويحرمون بأهوائهم وأغراضهم.

٣ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) بعد أن أشار سبحانه الى من يجادل في الله بغير علم ذكر الدليل على إمكان البعث الذي يظنه الجاهل محالا ، وأورد سبحانه هذا الدليل بمثال محسوس ، وهو ان الله خلق الإنسان من تراب مباشرة وبلا واسطة كخلق آدم أبي البشر ، أو بوسائط كخلقنا نحن بني آدم ، فكل واحد منا يتكون من مني ودم ، وهما من الأغذية ، وهي بشتى أنواعها تنتهي الى الماء والتراب ، فالتراب ـ اذن ـ عنصر أساسي في تكوين الإنسان (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) وهي المني لقوله تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) ـ ٣٧ القيامة. (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) تتحول النطفة الى قطعة من دم جامد (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) تتحول العلقة الى شبه قطعة ممضوغة من اللحم (مُخَلَّقَةٍ) أي بعضها تام الخلقة (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) وبعضها الآخر غير تام الخلقة.

(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) قدرتنا على البعث وغيره (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الوقت الذي تلد فيه المرأة (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) واضح ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا

٣١٠

أَشُدَّكُمْ) والأشد ان يستكمل الإنسان قواه الجسمية والعقلية (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) قبل بلوغ الأشد ، أو بعده وقبل الهرم وأسوأ العمر : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً). هرم وخرف ، وضعف في الجسم والعقل والذاكرة ، فمن أين يأتي العلم؟ ومتى ضعف العقل تحكمت العاطفة ، واشتد الانفعال لأتفه الأشياء.

وهذا التحول والتطور في تكوين الإنسان من الأدنى الى الأعلى ، من التراب الى النطفة ، ومنها الى العلقة ، ثم المضغة ثم الطفولة الى بلوغ الأشد ، ان هذا التطور يدل صراحة على ان في الإنسان طاقة منذ ولادته ، واستعدادا أصيلا يسير به نحو الأكمل والأفضل إذا لم يقف في طريقه من يصده عن السير الى هذا الهدف الأكمل.

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ). إذا نزل الماء على الأرض الميتة تحركت ونبضت بالحياة وأخرجت أشكالا وألوانا من النبات يسر الناظرين ، ويطيب للآكلين .. وليس من شك ان في الأرض استعدادا لاستقبال الحياة ، ومع هذا لا تحل فيها إلا بإذن الله تعالى ، لأن كل شيء ينتهي إلى أمره وقوله : «كن فيكون». وقال بعض الصوفية : المراد بالأرض الميتة النفس الجاهلة ، وبالماء العلم ، وبالزوج البهيج صفات الكمال والجلال.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ). ذلك اشارة الى الأمر والشأن ، ومعنى الله هو الحق ان الحكم والسلطان له وحده لا شريك له ، وانه لا وجود إلا منه .. ويتفرع على ذلك انه هو المبدئ والمعيد ، وان النشأة الثانية حتم لا مفر منها ، تماما كالنشأة الأولى ، بل ان هذه وسيلة وطريق الى الثانية التي هي غاية الغايات ، لأنها تعود بالإنسان الى خالقه ، وتوقفه بين يديه للحساب والجزاء ، ولأنها دائمة باقية ، والنشأة الأولى زائلة فانية ، والفاني وسيلة الى الباقي .. وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ـ ٥٦ الذاريات أي الا ليعملوا للآخرة.

٣١١

وتقدم الكلام عن البعث في العديد من الآيات. انظر ج ١ ص ٧٧ فقرة «البعث» ، وج ٢ ص ٣٩٦ فقرة : «طرق متنوعة لاثبات المعاد» وج ٤ ص ٣٧٩ فقرة : «الماديون والحياة بعد الموت».

أسباب المعرفة في آية واحدة الآة ٨ ـ ١٤ :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

اللغة :

المراد بالعلم هنا المشاهدة والتجربة الحسية ، وبالهدى العقل ، وبالكتاب المنير الوحي. وثنى لوى والعطف الجنب ، وثاني عطفه كناية عن التكبر والاختيال.

٣١٢

والحرف في اللغة الطرف والجانب ، وهو هنا كناية عن الشرط أي يعبد الله على شرط ، ويأتي التحقيق. والمراد بالفتنة المحنة. وانقلب على وجهه ارتد عن دينه. والعشير الصاحب.

الإعراب :

ثاني عطفه حال من ضمير يجادل. والمصدر المجرور باللام في ليضل متعلق بيجادل. له في الدنيا خبر مقدم ، وخزي مبتدأ مؤخر. ويدعو لمن ضره أقرب من نفعه. اختلفوا في اللام الداخلة على من : أي لام هي؟ وذكروا لها وجوها ، أرجحها ان مفعول يدعو محذوف أي يدعو الأصنام ، ومن مبتدأ واللام لام الابتداء ، وضره مبتدأ ثان وأقرب خبر المبتدأ الثاني ، والجملة من الثاني وخبره صلة لمن. ولبئس المولى اللام واقعة في جواب القسم المحذوف ، والجملة من القسم وجوابه خبر المبتدأ الأول ، وهو لمن.

المعنى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ). أنت ترى هذا حقا ، وذاك باطلا .. ولكن ما يدريك ان رأيك صحيح وسليم؟ وما هو الضمان لصحة ما تراه ، فربما كان الذي رأيته حقا هو باطل ، والذي رأيته باطلا هو حق في واقعه؟

ولا سبيل الى تمييز المعرفة الصحيحة من غيرها إلا بالرجوع الى مصدرها والسبب الذي تولدت منه ، فان كان السبب صحيحا كانت المعرفة كذلك ، والا فهي باطلة لأن الفرع يتبع الأصل.

ويعود السؤال : ما هو السبب الصحيح للمعرفة؟ وبأي شيء نميزه عن غيره؟ قال جماعة من الفلاسفة : ان سبب المعرفة الصحيحة ينحصر بالتجربة الحسية. وقال آخرون : بل هو العقل ، والحواس أدوات له. أما القرآن الكريم فقد

٣١٣

ذكر في الآية التي نفسرها ثلاثة أسباب للمعرفة : الأول التجربة الحسية ، وهي المعنية بكلمة علم. الثاني العقل ، وهو المراد بكلمة هدى. الثالث الوحي ، وهو المقصود بكتاب منير. والتجربة الحسية تكون سببا للمعرفة في الماديات فقط لأنها هي التي تقع تحت الحس ، وتتناولها التجربة ، ولا غنى لهذه التجربة عن العقل لأن الحواس لا تدرك إلا بمعونته ، وينحصر طريق المعرفة بالعقل وحده في اثبات الألوهية ، أما النبوة فتثبت به وبالمعجزة معا ، وان شئت الدقة في التعبير فقل : تثبت النبوة بالمعجزة التي يقرها العقل ، ويعترف بأنها من السماء لا من الأرض ، أما الوحي فهو سبب المعرفة في كل ما جاء به من غير استثناء ، وينحصر طريق المعرفة بالوحي في الأشياء الغيبية كالجن والملائكة ، وتوقيت الساعة ، وكيفية الحساب والجزاء في النشأة الثانية وما اليها.

(ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ). هو جاهل يجادل في الله بغير علم ، وهو متكبر يتمايل من الزهو والغرور ، وهو ضال مضل .. وهل من جزاء لأهل الجهل والكبرياء والضلال إلا الهوان والاحتقار من الناس ، وإلا العذاب الأليم من الله!؟ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) لأنه اعذر اليهم بما وهبهم من العقل ، وما أرسل من الرسل ، وأنزل من الكتب.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ). في الآية السابقة ذكر سبحانه من يكفر بالله ، ويجادل فيه بغير علم ، وفي هذه الآية ذكر الذي يعبد الله على حرف ، واختلف المفسرون في المراد منه على أقوال ، منها انه يعبد الله ، وهو على شك في دينه ، ومنها انه يعبده بلسانه دون قلبه ، الى غير ذلك .. ولا وجه لهذا الاختلاف لأن الله قد بيّن هذا الذي يعبده على حرف ، وفسره بقوله : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ). والمراد بالخير هنا السراء ، وبالفتنة الضراء ، واطمأن به أي ارتاح الى ما هو فيه واستمر في العبادة. وانقلب على وجهه أي ارتد عن دينه .. ومحصل المعنى ان الذي يعبد الله على حرف هو الذي لا يعبده إلا على شرط ان يعوضه عن عبادته ، ويقبض ثمنها في هذه الحياة ، والا كفر به وبكتبه ورسله.

٣١٤

ومن يكفر بالله فجزاؤه جهنم وساءت مصيرا (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ). خسر الدارين حيث أصابه في الأولى البلاء والضراء ، وقدم في الآخرة على ربه كافرا به ، وأي خسران أعظم من الفقر في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .. وأوضح تفسير لهذه الآية ما روي : ان بعض الأعراب كانوا يقدمون على النبي (ص) مهاجرين من باديتهم ، وكان أحدهم ان كثر ماله صلى وصام ، وان أصيب به ، أو تأخرت الصدقة عنه ارتد عن الإسلام .. وقد شاهدت ما يشبه هذا من بعض القرويين أيام عشت بين ظهرانيهم.

وبعد ، فان المؤمن حقا هو الذي يخلص لله ، ويثق به في جميع حالاته ، يصبر عند الشدة ، ويشكر عند الرخاء ، وفي نهج البلاغة : لا يصدق ايمان عبد ، حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ). تقدم هذا المعنى في العديد من الآيات ، بالاضافة الى وضوحه (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ). المولى الناصر والعشير الصاحب.

وتسأل : نفى سبحانه في الآية الأولى الضر والنفع عن معبود المشركين ، ثم أثبتهما له في الآية الثانية ، غاية الأمر أنه تعالى جعل الضرر أكثر وأقرب من النفع ، فما هو وجه الجمع بين الآيتين؟

الجواب : المراد بالمعبود في الآية الأولى الأحجار ، وهي لا تنفع ولا تضر ، والمراد به في الآية الثانية طاعة الزعماء الطغاة ، ومناصرتهم بقصد الربح والمنفعة ، وأعظم منفعة في الحياة الدنيا لا تعد شيئا بالنسبة الى غضب الله وعذابه .. وبتعبير ثان انهم أطاعوا المخلوق في معصية الخالق لمآرب دنيوية وما دروا ان عذاب الله أشد وأعظم.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) واضح وتقدم في الآية ٢٥ من سورة البقرة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من ثواب الأخيار وعقاب الأشرار ، فلقد سبق في حكمه وقضائه ان يكافئ الذين أحسنوا بالحسنى ، والذين أساءوا بما كانوا يعملون.

٣١٥

فليمدد بسبب الى السماء الآة ١٥ ـ ١٨ :

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

اللغة :

قال كثيرون : المراد بالسبب هنا الحبل ، وبالسماء سقف البيت ، وبيقطع يختنق ، وكيده اختناقه. والصابئون يقرون بالله وبالمعاد ، ولكنهم يعتقدون بتأثير بعض النجوم في الخير والشر. والمجوس يعبدون النار ، ويقولون : الخير من النور ، والشر من الظلمة.

الإعراب :

من كان (من) اسم شرط ، وفليمدد جوابه ، واللام في يمدد ويقطع وينظر للأمر تجزم فعلا واحدا. وما يغيظ (ما) مصدرية ، والمصدر المنسبك مفعول

٣١٦

يذهبن أي هل يذهبن كيده غيظه. والمصدر من ان الله يهدي من يريد مفعول لفعل محذوف أي وأنزلنا ان الله يهدي من يريد. وجملة إن الله يفصل خبر إن الذين آمنوا .. فما له من مكرم (ما) نافية ، وله خبر مقدم ، ومن زائدة ، ومكرم مبتدأ مؤخر.

المعنى :

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ). قال كثير من المفسرين ان ضمير ينصره يعود الى محمد (ص) وان المعنى من ظن من المشركين ان الله لا ينصر نبيه محمدا فليختنق بحبل لأن الله ناصره لا محالة. ولكن ظاهر السياق يرجح ان الضمير يعود على من كان يظن لأن محمدا (ص) لم يرد ذكره في الآية ، وعليه يكون المعنى ان من نزلت به نازلة ، وتسخط من قضاء الله وقدره ، ويئس من روحه وعونه في الدنيا ، ومن ثوابه في الآخرة إذا صبر ، من كان كذلك فلا يملك أية وسيلة إلا أن يشنق نفسه بسقف بيته ، وينتحر خنقا ، ثم لينظر هل يذهب غيظه بذلك ، ويحقق مرامه؟.

والعاقل إذا نزلت به نائبة سعى جهده للخلاص منها مستعينا بالله عليها وعلى كل ما أهمه ، فان وجد المخرج فذاك ، وإلا فوّض الأمر الى الله ، وترقب الفرص.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ). ضمير أنزلناه يعود الى القرآن ، وبينات واضحات .. والله سبحانه يهدي من طلب الهداية بكتابه ، ويرشد الى سعادة الدارين من يسترشد به وبنبيه. ومن طلب الفساد والضلال فانه يجد السبيل اليهما عند المفسدين والمضللين.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). ان الله يعلم عقيدة كل طائفة من هذه الطوائف الست ، وسيفصل بينهم غدا ، ويجازي كل واحدة

٣١٧

بما تدين فيدخل الكافرين النار ، والمؤمنين المخلصين الجنة. وتقدم نظير هذه الآية مع التفسير في الآية ٦٢ من سورة البقرة ج ١ ص ١١٧.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ). قال جماعة من المفسرين : المراد بسجود الدواب والجماد والنبات انها جميعا طوع أمره يتصرف فيها كما يشاء .. وعند تفسير الآية ٤٤ من سورة الاسراء قلنا ان تسبيح كل شيء بحسبه. وكذلك السجود ، وان تسبيح الجمادات والنباتات والحيوانات هو دلالتها على وجود خالقها وعظمته. وقال الملا صدرا في كتاب الاسفار : «ان الموجودات كلها عاقلة ، تعقل ربها ، وتعرف مبدعها ، وتسمع كلامه ، وتمتثل أمره». وليس هذا ببعيد لأن العقل لا ينفيه ، وظاهر النقل يثبته ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ـ ٤٤ الاسراء. وقد يكشف العلم هذه الحقيقة في المستقبل القريب أو البعيد.

(وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) يؤمنون بالله وله يسجدون (وَكَثِيرٌ) منهم (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) هم الكافرون بالله الساخرون ممن آمن به وتعبد له. وكان على صاحب الأسفار أن يستثني الجاحدين من الموجودات والكائنات (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أبدا .. لا رافع لمن وضع الله وأذل ، ولا واضع لمن أعز وأكرم .. ولا كرامة عند الله إلا للمتقين (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) من إكرام الصالحين المصلحين ، واهانة الضالين والمفسدين.

وبعد ، فان لله سننا في خلقه لا يمكن تجاوزها ، وهي أن من سلك طريق التهلكة هلك ، ومن سلك طريق السلامة سلم ، وطريق السلامة والكرامة عند الله هو الايمان الصادق ، والعمل الصالح ، وطريق الخزي والهوان النفاق والإفساد في الأرض.

هذان خصمان اختصموا في ربهم الآة ١٩ ـ ٢٥ :

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ

٣١٨

نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

اللغة :

قطعت فصلت. والحميم الماء المغلي. ويصهر يذاب. والمقامع جمع مقمعة ، وهي مدقة الرأس من قمعه قمعا إذا دقه ـ كما في مجمع البيان ـ والحريق المحرق كالأليم الذي معناه المؤلم. والأساور جمع أسوار. وهدوا أرشدوا. والعاكف المقيم. والبادي الطارئ. والإلحاد الانحراف والعدول عن القصد. وبظلم بغير حق.

الاعراب :

الخصم مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى ، يقال : هو أو هي أو هما أو هم أو هن خصمي ، وجاءت التثنية في «هذان» بالنظر الى اللفظ ، وجاءت واو الجماعة في اختصموا بالنظر الى المعنى مثل وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا. وكلما منصوبة على الظرفية لأنها مضافة الى ما المصدرية الظرفية ،

٣١٩

والعامل فيها أعيدوا. ومن غم بدل اشتمال من ضمير منها باعادة حرف الجر. ومن ذهب متعلق بمحذوف صفة لأساور. ولؤلؤا عطف على محل أساور لأن كل مجرور لفظا هو منصوب محلا ، وقيل : مفعول لفعل محذوف أي ويعطون لؤلؤا. وان الذين كفروا ، خبر ان محذوف أي ان الذين كفروا نذيقهم العذاب. وسواء مفعول ثان لجعلناه ، وهو اسم فاعل بمعنى «مستويا» والعاكف فاعل له. وبإلحاد الباء زائدة اعرابا ، وإلحاد مفعول يرد. وبظلم متعلق بيرد أي يرد إلحادا بسبب الظلم ، وقيل : ان بإلحاد بظلم هما حالان مترادفان أي مائلا ظالما.

المعنى :

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ). جاء في تفسير الطبري ان أبا ذرّ كان يقسم بالله ان هذه الآية نزلت في ستة من قريش : ثلاثة منهم مؤمنون ، وهم حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحرث ، وثلاثة من المشركين ، وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، وان الخصومة بينهم كانت في القتال والمبارزة يوم بدر ، وان الله نصر المؤمنين على المشركين. وقال جماعة من المفسرين : ان المراد بالخصمين فريق المؤمنين ، وفريق الكافرين ، وهم اليهود والنصارى والصابئة والمجوس والمشركون لأنهم جميعا ذكروا في الآية السابقة ، وكل فريق من المؤمنين والكافرين يقول : أنا المحق دون غيري ، ومهما يكن فان الخصومة في الدين وقعت بين من آمن بالله ، ومن كفر به.

(فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ). بعد ان أشار سبحانه الى تخاصم المؤمنين والكافرين ذكر أن من آمن بالله فمصيره الى الجنة ، ومن كفر فإلى جهنم وبئس المصير. وان أهلها يلبسون ثيابا من نار ، ويصب فوق رؤوسهم الماء الحار الذي يذيب الشحم واللحم ، والأمعاء والجلود ، وان أعمدة الحديد تهوي على رؤوسهم وأبدانهم ، وهم يحاولون التخلص من هذا الهم والغم ،

٣٢٠