التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

سورة الأنبياء

مكية وآياتها ١١٢.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقترب الناس حسابهم الآة ١ ـ ٦

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

اللغة :

من ذكر من قرآن. ومحدث نزل سورة بعد سورة. وأسروا النجوى تناجوا فيما بينهم. وأضغاث جمع ضغث ، وهو الحزمة من كل شيء.

٢٦١

الإعراب :

من ذكر (من) زائدة أعرابيا وذكر فاعل يأتيهم. ومن ربهم متعلق بمحذوف صفة لذكر. ومحدث صفة ثانية. ولاهية حال من واو يلعبون. والذين ظلموا بدل من واو أسروا. ومثلكم صفة لبشر. وأضغاث أحلام خبر لمبتدأ محذوف أي هو أضغاث أحلام.

المعنى :

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ). المراد بالحساب هنا يوم القيامة ، وهو قريب من كل انسان لأنه آت لا محالة ، وان طال الزمن ، ويتلخص المعنى بقول الإمام علي (ع) : لا تغفل فليس بمغفول عنك. وقال أيضا : وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه ، وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ). يستقبلون الحق بالتكذيب ، والنصيحة بالسخرية ، والتحذير من العواقب بالاستخفاف (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) عن الحق ، لا يبالون بشيء ، ولا يشعرون بمسؤولية الحساب والجزاء ، تماما كالحيوانات والحشرات.

(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). قال بعض المشركين لبعض في الخفاء عمن اهتدى وأسلم ، قال : من هو محمد حتى نطيعه ونتبعه؟ وهل هو إلا واحد من الناس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ أما العلم والفضائل فكلام بلا معنى ، وأما المعجزات فهي سحر وتمويه (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ). تأتون هنا بمعنى تقبلون ، وتبصرون بمعنى تعلمون ، ولا عجب أن ينعتوا بالكذب آيات الله ودلائله التي جاءت على يد الرسول الأعظم (ص) .. فكل مكابر عنود يتذرع بمثل هذه الأباطيل إذا لزمته الحجة ، ولم يجد منها مهربا.

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) قالوا عن النبي (ص) : انه ساحر. فأجابهم بأن الله يعلم صدقه ، ويعلم قولهم هذا ، لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، وسيحاسبكم ويجازيكم بما

٢٦٢

تستحقون .. ولا جواب لمن التوى عن الحق وعانده إلا ان يحيله الى محكمة الحق والعدل (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ). رفضوا الاعتراف بالحق ، وبحثوا عن حيلة يتذرعون بها فتاهوا في حيرتهم يعمهون ، قال صاحب مجمع البيان : «وهكذا المتحير الذي بهره ما سمع .. فمرة يقول هذا سحر ، ومرة يقول هو شعر ، ومرة يقول انه حلم ، ولا يجزم على أمر .. وهذه مناقضة ظاهرة».

(فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ). قال مشركو قريش لمحمد (ص) : ان كنت نبيا فأتنا بمعجزة كناقة صالح ، وعصا موسى وغيرهما من معجزات الأنبياء السابقين ، فأجاب سبحانه عن هذا الطلب بقوله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها). ومعنى هذا الجواب : صحيح ان الأنبياء السابقين جاءوا بالخوارق كالناقة والعصا ، ولكن قومهم لم يؤمنوا بها ، بل رفضوها وكذبوها ، مع انهم هم الذين طلبوها واقترحوها ، ومن أجل ذلك أهلكناهم ، فينبغي لكم أنتم يا مشركي قريش أن تنظروا الى النتائج التي ترتبت على الخوارق ، لا الى نفس الخوارق ، وعين الشيء يحدث لكم لو استجاب الله لاقتراحكم (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) أي لم يؤمن الذين كانوا قبلهم بالمعجزات التي اقترحوها فكذلك هم لا يؤمنون بالمعجزات التي اقترحوها ، وتكون النتيجة أن يهلكوا كما هلك الأولون ، حيث قضت حكمته تعالى أن يهلك من يكذب بمعجزة هو الذي طلبها واقترحها.

فأسألوا أهل الذكر الآية ٧ ـ ١٥ :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ

٢٦٣

قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

اللغة :

القصم الكسر ، والمراد به الهلاك. والإنشاء الإيجاد. والركض العدو. والإتراف من الترف ، وهو النعمة. والويل الخزي والهوان والهلاك. والخمود السكون.

الإعراب :

جسدا مفرد في موضع الجمع أي ذوي أجساد ، ولذا أعاد عليه ضمير الجمع في يأكلون. فيه ذكركم مبتدأ وخبر ، والجملة صفة لكتاب. وكم في محل نصب بقصمنا. وإذا للمفاجأة. ومساكنكم معطوف على ما أترفتم أي ارجعوا الى ما أترفتم فيه والى مساكنكم. ويا ويلنا (يا) حرف نداء ويلنا منادى ، أي يا ويلنا احضر. وخامدين صفة لحصيد ، وقيل: حصيدا وخامدين بمنزلة الكلمة الواحدة مثل حلو حامض أي مز.

المعنى :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). تقدم بنصه مع التفسير في الآية ٤٣ من سورة النحل ج ٤ ص ٥١٧ (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ). ليس الأنبياء أرواحا

٢٦٤

بلا أجساد ، ولا خالدين في هذه الحياة .. انهم تماما كغيرهم من الناس لا يمتازون عنهم إلا بالتبليغ عن الله ، وانهم أكمل البشر. انظر ما كتبناه بعنوان حقيقة النبوة عند تفسير الآية ٣٥ من سورة طه.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ). يشير سبحانه بهذا الى قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ـ ٢١ المجادلة. وقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) ـ ٥١ غافر. وخلاصة المعنى ان الله سبحانه وعد الأنبياء والذين آمنوا بالنجاة ، والكافرين بالهلاك ، وقد وفى بوعده ، ومن أوفى بعهده من الله.

محمد والعرب :

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ). لم يكن العرب قبل محمد (ص) والقرآن شيئا مذكورا ، وبعدهما أصبحوا مشهورين تذكر الأمم تاريخهم وحضارتهم ، وترفع من شأنهم ومكانتهم ، قال «و. ل. ديورانت» في موسوعته التاريخية «قصة الحضارة» :

كان محمد من أعظم عظماء التاريخ. فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب عاش في دياجير الهمجية ، وحرارة الجو ، وجدب الصحراء ، وقد نجح في هذا الغرض نجاحا لا يدانيه أي مصلح آخر في التاريخ كله. كانت بلاد العرب لما بدأ دعوته صحراء جرداء تسكنها قبائل من عبدة الأوثان ، قليل عددها ، متفرقة كلمتها ، وصارت عند وفاته أمة ممّاسكة ، وقد كبح جماح التعصب والخرافات ، وأقام فوق اليهودية والمسيحية ودين بلاده القديم دينا سهلا واضحا ، وصرحا قوامه البسالة والعزة والقومية ، واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة ، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة ، وأن يبقى الى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في العالم.

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ). هذا تهديد ووعيد للذين كذبوا محمدا (ص) بأن يحل بهم من الهلاك ما حل بمن كان قبلهم

٢٦٥

من الأمم الذين كذبوا رسلهم ، ثم يوجد سبحانه قوما لا يمتون الى الهالكين بسبب ولا بنسب ، فيورثهم أملاكهم وديارهم ، فيعيدون بناءها من جديد ، ويتمتعون بخيراتها وبركاتها.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ). هذا تصوير لحال المشركين حين ينزل بهم عذاب السماء .. انهم يعدون ويسرعون هربا منه .. ولكن هيهات أين المفر من سلطان الله وقضائه؟ ولو هربوا من قبل الى الله لوجدوا عنده الأمن والأمان ، أما الهرب من الله فهو تماما كهرب الإنسان من ظله وأجله (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ). قبل أن ينزل العذاب بالمشركين كانت لاهية قلوبهم عن كل شيء إلا عن أموالهم وترفهم ، وحين نزل بهم العذاب عميت أبصارهم وبصائرهم عن كل شيء ، وأطلقوا سيقانهم للهواء لا يلوون على مال ولا بنين .. فقال لهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع : الى أين؟ ارجعوا الى مساكنكم وأموالكم وأولادكم .. أتتركونها الآن ، وقد كنتم بالأمس تعبدونها من دون الله؟ هذا جزاء من ترك الرشد ، ولم يهتد الى قصد.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ). اطمأنوا لترفهم ، ودانوا لشهواتهم ، واتهموا الناصح الأمين ، ولما رأوا العذاب ندموا ودعوا بالويل والثبور ، ولكن الحسرات لا ترجع ما قد فات (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ). هم يكررون الدعاء بالويل ، والعذاب ينصب على رؤوسهم تلو العذاب ، حتى أصبحوا أثرا بعد عين .. وما أغنى عنهم جاه ولا مال ، بل تنكر لهم كل شيء وتلك عاقبة المجرمين.

هل أفعاله تعالى معطة بالأخراص الآية ١٦ ـ ٢٣ :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ

٢٦٦

فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣))

اللغة :

في كتب اللغة دمغه دمغا أي شجه حتى بلغت الشجة دماغه. والمراد بالدمغ هنا القمع والابطال. والزاهق الهالك. واستحسر تعب وأعيا. لا يفترون من الفتور وهو السكون ، لا من الافتراء.

الإعراب :

ومن عنده لا يستكبرون (من) اسم موصول مبتدأ ، وعنده صلة ، ولا يستكبرون خبر. وجملة يسبحون حال من فاعل ما قبلها. ام اتخذوا (ام) هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. وإلا الله (إلا) بمعنى غير صفة للآلهة ، ولا يجوز أن تكون «الا» للاستثناء ، حيث يصير المعنى انه لو كان الله مع الآلهة لا يقع الفساد ، وانما يقع إذا كانوا وحدهم فقط.

المعنى :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). تقدم نظيره في الآية ١٩١ من

٢٦٧

سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٣١. ونقلنا هناك الأقوال في ان أفعال الله هل تعلل بالأغراض ، او انه تعالى لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه شيء؟ (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ). اللهو واللعب والعبث محال على من يقول للشيء : (كُنْ فَيَكُونُ ..) ولذا قال تعالى : (لَوْ أَرَدْنا ..»إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) أي ما أردنا ولسنا بفاعلين ، ولو أراد ان يتخذ لهوا ـ وفرض المحال ليس بمحال ـ لاتخذه من عنده أي من نوع آخر يناسب عظمته لا من نوع ما يفعله العباد كاللهو بالنساء والأولاد.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). المراد بالحق هنا الجد والحقيقة في قبال اللهو الذي نفاه تعالى عنه ، والمراد بالباطل اللهو واللعب .. بعد ان قال ، جلت عظمته ، لا نتخذ لهوا قال : كل أفعاله وأقواله جد وحقائق ، لا عبث فيها ولا لهو ، بل إذا جاء العبث واللهو من أي مصدر فانه يبطله ويمحقه فكيف يرتضي لنفسه ما لا يرتضيه لغيره؟. (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) الله به ، وتنسبون اليه من صفات المصنوعين.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يعيون ولا يكلّون. وقال المفسرون : المراد ب (من عنده) الملائكة .. والذي نفهمه نحن ان المراد بهم كل من له مكانة ووجاهة عند الله ملكا كان أو بشرا (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) أي لا يسأمون بل هم دائبون على الطاعة له في الأقوال والأفعال ، ولا يتوهمونه بالتصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ). جملة هم ينشرون صفة للآلهة ، والمعنى ان كل معبود للمشركين فإنه لا يحيي الأموات ، ولا يبعثهم من قبورهم ، بل الله وحده هو الذي يحيي ويميت (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ). انظر ما كتبناه بعنوان دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة عند تفسير الآية ٤٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٤٤.

٢٦٨

من علم حجة على من لا يعلم :

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ). استدل البعض بهذه الآية على ان الله لا يقبح منه شيء ، ولا يجب عليه شيء ، فله ان يعاقب المطيع ، ويثيب العاصي .. وهذا يتنافى مع عدل الله وحكمته ورحمته .. والصحيح في معنى الآية ان الله سبحانه لما كان عادلا بذاته فلا يجوز لأحد ان يعترض على قوله وفعله لأنه لا يقال للعادل : لما ذا عدلت؟ وللصادق : لما ذا صدقت؟ تماما كما لا يجوز للجاهل بالطب ان يقول للطبيب الماهر : لما ذا وصفت هذا الدواء؟ إن مثل هذا السؤال انما يجوز ويصح من الند الى الند ، من العالم الى مثله ، اما الجاهل فغاية جهده ان يبحث عن العالم ، ويتأكد من علمه بما يراه من العلامات والدلائل ، فإذا صار على يقين منها وجب عليه ان ينقاد ويستسلم للعالم فيما هو عالم به ، تماما كما يستسلم المريض للطبيب .. وقديما قيل : من علم حجة على من لا يعلم ، وإذا كان هذا هو شأن المخلوق مع مخلوق مثله فكيف به مع خالق السموات والأرض؟

قال تلميذ لاستاذه : لما ذا وجدنا ولما ذا نعيش؟

فقال الأستاذ : ولما ذا يا بني تجازف بنفسك في متاهات لا أول لها ولا آخر؟ لما ذا لا تؤمن بالدين فتريح نفسك وتستريح ، وتدع ما لا تستطيع الى ما تستطيع؟ أنت واحد من آلاف الملايين ، وبلدك الذي تعيش فيه واحد من آلاف البلاد ، والكرة الأرضية التي تعيش عليها كوكب من ملايين الكواكب ، والكون الذي يشمل هذه الكواكب جميعا من يدرينا ان له نظائر وأشباها تفوقه ، وهل يستطيع الجزء أن يحيط بالكل؟ وهل تستطيع النقطة في البحر أن تتساءل عن البحر؟

لا أقول لك يا بني : كف عن البحث والتطلع والتأمل ، فان نشد أن الحقيقة سبب من أسباب وجود الإنسان ، ولكن حيث يقصر عقلك عن الفهم والإدراك توقف الى ان تزداد فهما وإدراكا ، فإذا عجزت آخر الأمر سلّم بما هو واقع لأن قصورك عن الفهم لا يعني ان ما هو واقع عبث من العبث ، ولكنه يعني انك لم تفقه بعد حكمة الوجود ، فدعها لخالق الوجود.

٢٦٩

هاتو برهانكم الآية ٢٤ ـ ٢٩ :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

الإعراب :

هاتوا اسم فعل بمعنى ائتوا. هذا ذكر من معي مبتدأ وخبر ، ومعي صلة لمن. وعباد خبر لمبتدأ محذوف أي هم عباد. فذلك مبتدأ ، وجملة نجزيه خبر. وكذلك الكاف بمعنى مثل ، وهي في محل نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي جزاء مثل ذلك.

المعنى :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ). كل الناس تقول : البينة على من ادعى ، حتى ولو كان المدعى به حقيرا تافها .. فكيف إذا كان شريكا

٢٧٠

لله في خلقه؟ فأين الدليل؟ (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) القرآن (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) الكتب السماوية الأخرى كلها تأمر بالتوحيد ، وتنهى عن الشرك ، وإذا انتفى الدليل على الشرك من العقل والنقل تعين أن يكون مصدره العمى والجهل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ). هذا تقريع وتوبيخ على جهلهم وضلالهم.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). هذه الآية بيان وتفسير للآية التي قبلها ، فالأولى تقول : لا أثر للشرك في كتب الله ، وهذه تقول: ما أرسل رسولا إلا بالتوحيد ، والإخلاص لله في العبادة. (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ). قال اليهود أو طائفة منهم : عزير ابن الله. وقالت النصارى : المسيح ابن الله. وقالت بعض قبائل العرب : الملائكة بنات الله .. فرد الله على الجميع بأن هؤلاء الذين ذكرتم هم عباد ، لا أولاد ، ولهم عند ربهم منزل كريم. ومن الطريف ما جاء في تفسير الطبري نقلا عن الذين قالوا : الملائكة بنات الله : «ان الله تزوج الجن فأولدهم الملائكة» والى هذا يومئ قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) ـ ١٥٨ الصافات.

ثم بيّن سبحانه السبب لمنزلة عزير والمسيح والملائكة عند الله ، بيّن السبب بقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) انهم لا يعملون بالرأي والقياس (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ). ما بين أيديهم كناية عن أعمالهم الحالية ، وما خلفهم كناية عن أعمالهم الماضية ، والمعنى انه تعالى قد أحاط علما بجميع أعمالهم الخيرة ، ومقاصدهم الحسنة ، وهو يجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى). هذا رد على من عبد نبيا أو وليا أو ملكا طمعا في ان يشفع له عند الله ، ووجه الرد ان العباد المكرمين يشفعون للموحدين المرضيّين عند الله ، لا للمشركين المغضوب عليهم.

(وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) على أنفسهم مع إخلاصهم ومكانتهم عند الله (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ). فهؤلاء العباد المكرمون لو ادعى أحدهم انه إله من دون الله أو شريك له فجزاؤه عذاب الحريق ، تماما كجزاء غيره من المشركين من دون تفاوت.

٢٧١

وجعلنا من الماء كل شيء حي الآة ٣٠ ـ ٣٦ :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

اللغة :

الرتق الالتئام والالتحام ، وضده الفتق أي الفصل والانفصام ، يقال : رتق فتقهم أي أصلح أمرهم. والرواسي الجبال. وتميد تضطرب. وفجاج بكسر الفاء جمع فج ، وهو السعة والانفراج. والفلك كل شيء دائر. ونبلوكم نختبركم. والفتنة الابتلاء.

الإعراب :

المصدر من ان السموات والأرض مفعول ير. ورتقا على حذف مضاف أي

٢٧٢

ذواتي رتق. وحي صفة لشيء. والمصدر من أن تميد مفعول من أجله لجعلنا ، وجعلنا هنا بمعنى خلقنا. وسبلا مفعول ، وفجاجا حال من سبل ولو تأخر فجاج لكان وصفا ، وقال صاحب مجمع البيان فجاجا مفعول ، وسبلا بدل منه ، والمعنى صحيح على الإعرابين. وكلّ مبتدأ وجملة يسبحون خبر وفي فلك متعلق بيسبحون. وفتنة مفعول مطلق لنبلوكم مثل قمت وقوفا ، وان يتخذونك (ان) نافية ، وهزوا مفعول ثان. وهم الأولى مبتدأ ، وكافرون خبر ، وبذكر الرحمن متعلق بكافرين. وهم الثانية تأكيد لفظي لهم الأولى.

المعنى :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما). في أول سورة البقرة ج ١ ص ٣٨ عقدنا فصلا مطولا بعنوان «القرآن والعلم الحديث» وقلنا : ان القرآن كتاب دين يهدي الإنسان الى سعادته في دنياه وآخرته ، وليس كتاب نظريات في الفلسفة والعلم والفلك وغيره ، وان كل آية من آيات القرآن الكونية أو التاريخية كقصص الأنبياء فان الغرض منها أن نتعظ ونعتبر ، أو نسترشد بها الى وجود الله ، فنؤمن به وبعظمته ، ومن الآيات الكونية هذه الآية التي نحن بصددها ، وقد ذكر فيها سبحانه شيئين : الأول ان المجموعة الشمسية ، وهي الشمس والأرض والمريخ والمشتري وزحل وعطارد وغيرها كلها كانت متلاصقة متلاحمة كالشيء الواحد ، ثم فصل الله بعضها عن بعض ، وجعل كلا منها كوكبا مستقلا .. وأقر العلماء الجدد نظرية انفصال الأرض عن الشمس ، ولكنهم اختلفوا في التفاصيل ، وسكت القرآن عن كيفية الفتق والانفصال ، ونحن نسكت عما سكت الله عنه.

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ). هذا هو الشيء الثاني الذي تضمنته الآية ، وبيانه ان الماء مصدر الحياة لكل نام ، إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا ، وجاء في الآية ٧ من سورة هود : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) وقلنا في تفسيرها ج ٤ ص ٢١٠ : ان المراد بعرشه

٢٧٣

تعالى ملكه واستيلاؤه ، وان الآية تدل على ان الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض. وفي أقوال أهل البيت (ع) ان الماء أول ما خلق الله. وإذا كان العلم لم يتوصل بعد الى هذه الحقيقة ، فمن الجائز أن يتوصل اليها في الغد القريب أو البعيد.

ونقل أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط ان حميدا قرأ وجعلنا من الماء كل شيء حيا بنصب حي مفعولا ثانيا لجعلنا ، وهذه القراءة تؤيد القول : ان الله سبحانه أول ما خلق الماء ، وانه المصدر الأول الذي تكونت منه الموجودات ، وان كل كائن هو حي في حقيقته وواقعه ناميا كان أو غير نام ، وان بدا جامدا في ظاهره (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بعد هذه الدلائل والبينات.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ). وفي الآية ٢٠ من سورة نوح : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) بتقديم سبل على فجاج ، والمعنى واحد ، وهو ان الله سبحانه جعل في الأرض طرقا واسعة ليسلكها الناس الى مقاصدهم. وتقدم نظيره في الآية ١٧ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٠٠.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ). السقف على حذف كاف التشبيه أي كسقف ، ثم حذفت الكاف وانتصب سقف بنزع الخافض. والمراد بالحفظ هنا بقاء الكواكب في أماكنها بفعل الجاذبية ، قال تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) ـ ٦٥ الحج. وأسند الإمساك اليه سبحانه لأنه سبب الأسباب ، والمعنى ان هذا النظام الدقيق في خلق السموات دليل قاطع عند أولي الألباب على وجود الخالق ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته ، ولكن أكثر الناس معرضون عن آيات الله ودلائله منصرفون الى أهوائهم وملذاتهم.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). لكل من الليل والنهار والشمس والقمر صلة وثيقة بحياة الإنسان ، فالنهار لكده وعمله ، والليل لراحته وهدوئه ، والشمس والقمر للضياء والحساب وغيره من الفوائد ، وفي ذلك نعمة كبرى على جميع عباد الله وحجة بالغة على عظم سلطانه (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). كل كوكب يدور على قدر ، ويتحرك بحركة تلائمه.

٢٧٤

وتسأل : ان كان تقدير الكلام كل واحد منهما فينبغي أن يقول يسبح ، وان كان التقدير كلاهما فينبغي ان يقول يسبحان ، فما هو الوجه في قوله يسبحون بضمير الجمع؟.

وأجاب المفسرون بأجوبة أرجحها ان لكل من الشمس والقمر منازل ومطالع ، وقد أعاد سبحانه ضمير الجمع على كل منهما باعتبار منازله.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ). قال الطبرسي : لما تضايق مشركو قريش من محمد (ص) قالوا : نتربص به الموت. فنزلت هذه الآية لتجيبهم بأنه لا نجاة لأحد من الموت ، وهل إذا مات رسول الله (ص) تخلدون بعده أيها المشركون؟ وسياق الآية لا يأبى ما قاله الطبرسي (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) فهو طالب حثيث لا يفوته المقيم ، ولا يعجزه الهارب ، وأكرم الموت الاستشهاد من أجل احقاق الحق وإبطال الباطل.

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ). ان الله سبحانه يبتلي عباده بما يحبون وما يكرهون ، ليظهر كلّ على حقيقته ، فمن شكر عند الرخاء ، وصبر عند الشدة فهو من المخلصين المؤمنين ، وله أجرهم وثوابهم ، ومن كفر وبطر فهو من الذين حقت عليهم كلمة العذاب. وقيل : ان أمير المؤمنين عليا مرض ، فعاده أصحابه ، وقالوا : كيف أنت يا أمير المؤمنين؟ قال : بشرّ. قالوا : ما هذا كلام مثلك. قال : ان الله تعالى يقول : ونبلوكم بالشر والخير فتنة ، فالخير الصحة والغنى ، والشر الفقر والمرض. وقال أيضا : من وسّع عليه في دنياه ، ولم يعلم انه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله .. وكلمة فتنة في الآية تأكيد لنبلوكم لأن معنى الفتنة هنا الابتلاء والاختبار ، يقال : فتن الصائغ الذهب إذا أذابه ليختبر جيده من رديئه.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ). كفروا بالله ، وآمنوا بالأحجار فدعاهم النبي (ص) الى الايمان بالله وحده ، ونبذ الأحجار ، فسخروا منه ومن دعوته الى الحق الواضح ، ومن قوله : ان أصنامهم وأحجارهم لا تضر ولا تنفع .. وقال بعض المفسرين : «وهذا أمر عجيب جد عجيب» .. ولا عجب فهذا شأن كل من استهوته

٢٧٥

المنافع والمصالح الشخصية ، ونشأ وترعرع على تقاليد البيئة والآباء والأجداد ، سواء أكانت تلك التقاليد عبادة حجر ، أم تعصبا لرأي من غير علم ولا هدى ، وسواء أكان الغرض مالا أم جاها أم أي شيء غير الحق والعدل.

خلق الانسان من عجل الآة ٣٧ ـ ٤٤ :

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤))

اللغة

الفرق بين العجلة والسرعة ان العجلة تقديم الشيء قبل أوانه ، أما السرعة فهي

٢٧٦

الإتيان بالشيء في أول أوقاته ، والسرعة الى الخير محمودة. قال تعالى : ويسارعون في الخيرات ، والعجلة مذمومة. واشتهر : العجلة من الشيطان. لا يكفون أي لا يدفعون ، تقول كففته عني أي دفعته ومنعته. وتبهتهم تحيّرهم. وينظرون يؤخّرون. وحاق نزل. ويكلؤكم يحرسكم. ويصحبون يجارون ، تقول العرب : أنا صاحب لك من فلان أي مجير لك منه.

الإعراب :

حين مفعول به ليعلم أي يعلم الوقت. وجواب لو محذوف أي لو يعلم الكافرون .. لانتهوا. وبغتة مصدر في موضع الحال من مفعول تأتيهم أي تأتيهم مبغوتين. وام لهم (ام) منقطعة بمعنى بل ، وجملة تمنعهم صفة للآلهة ، وجملة لا يستطيعون مستأنفة لا محل لها من الإعراب. والمصدر من أنّا نأتي مفعول يرون أي أفلا يرون إتياننا الأرض.

المعنى :

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ). حذر النبي (ص) الكافرين من عاقبة الكفر ، وأنذرهم بعذاب الله ان أصروا وتمردوا ، فازدادوا عتوا وطغيانا ، واستعجلوا العذاب ساخرين مستهزئين ، فقال لهم سبحانه : مهلا سترون صدق رسولي فيما وعدكم وأنذركم ، فلا تستعجلوا ما هو كائن ، فكم من مستعجل أمرا لو أتاه لضاق به ، وتمنى انه لم يأت .. وقال المفسرون ، وهم يشرحون هذه الآية : ان الإنسان عجول بطبعه وتكوينه ، تماما كما هو من لحم ودم .. ويلاحظ بأنه لو صح هذا ما وجد على ظهرها ذو روية وأناة ، بل وكان كل انسان عجولا في جميع أقواله وأفعاله بلا استثناء ، والصحيح ان نعت الإنسان بالعجول والكفور واليئوس ونحوه هو تفسير لسلوكه في بعض مواقفه ، وليس تحديدا لطبيعته وهويته. وقد بسطنا الكلام في ذلك عند تفسير الآية ٩ من سورة هود ج ٤ ص ٢١٣ وتفسير الآية ٣٤ من سورة ابراهيم ص ٤٤٩ من المجلد المذكور.

٢٧٧

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تقدم في الآيتين ٧٠ و ١٠٧ من سورة الأعراف والآية ٣٢ من سورة هود. (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). يستعجل الذين كفروا نار العذاب ، وهم أحقر وأضعف من أن يستطيعوا لها ردا أو يجدوا منها مهربا أو لهم ناصرا ، كيف وهي تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم ومن أمامهم وخلفهم؟

(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). الضمير المستتر في تأتيهم يعود الى الساعة ، ولا ريب في إتيانها فجأة من غير إنذار لقوله تعالى : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ـ ٦٣ الأحزاب» ومتى جاءت على هذه الحال وقعوا في الحيرة والدهشة ، فلا هم يملكون لها ردا ، ولا هي تمهلهم ليتدبروا أمرهم ويتوبوا الى ربهم.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). تقدم بنصه الحرفي مع التفسير في الآية ١٠ من الأنعام ج ٣ ص ١٦٥. (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ). مهما احتاط الإنسان ، وبالغ في التحفظ من المخبآت والمفاجئات فلا ينجو منها إلا بعناية الله وتوفيقه ، فكيف يحترس ويسلم من قضائه وقدره؟ (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ). استهزأوا برسل الله ، وأمنوا مكر الله ، وأعرضوا عن ذكر الله .. ولم؟ لأنهم مترفون ، والترف في حسبانهم حصن حصين من كل نازلة وغائلة.

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) فتدفع عنهم بأسنا وعذابنا ان أردنا هلاكهم واستئصالهم (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ). ضمير يستطيعون وما بعده يعودان الى الآلهة ، والمعنى ان المشركين يستجيرون بالأصنام ، وهي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فكيف تملك النصر والاستجارة لغيرها. وفي تفسير الطبري ان أهل التأويل اختلفوا في معنى يصحبون ، وبعد أن نقل الأقوال اختار ان معنى يصحبون يجارون لأن العرب تقول : أنا لك جار من فلان وصاحب أي أجيرك وأمنعك منه. وهذا المعنى يتفق مع قوله تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ـ ٨٨ المؤمنون.

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ). أمهلهم الله ، وأمد في

٢٧٨

حياتهم فاغتروا بالامهال ، وطغوا وبغوا ، وما دروا ان الله لهم بالمرصاد ، وانه يستدرجهم من حيث لا يعلمون (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ). تقدم مع التفسير في الآية ٤٢ من سورة الرعد ج ٤ ص ٤١٦.

أنذركم بالوحي الآة ٤٥ ـ ٥٠ :

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

اللغة :

الصم جمع أصم ، وهو الأطرش. والمراد بالنفحة هنا الشيء الضئيل. والقسط العدل. وحاسبين محصين. والفرقان ما يفرق بين الحق والباطل.

الإعراب :

إذا ما (ما) زائدة إعرابا. والقسط صفة للموازين على حذف مضاف أي

٢٧٩

ذوات القسط. وشيئا مفعول مطلق لتظلم لأنه بمعنى ظلما. والباء في بنا زائدة وضمير (نا) فاعل ، وحاسبين تمييز لأنه بمعنى من حاسبين ، ويجوز أن يكون حالا. والذين يخشون بدل من المتقين.

المعنى :

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ). هذا مثل قوله تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ـ ٨٩ الحجر .. أمر نبيه الكريم ان يقول للمشركين: أتسخرون من قيام الساعة وأهوالها؟ انها من وحي الله لا من وحي الخيال ، واني أحذركم بأمر الله ، لا بأمري ، ولكن كيف تسمعون التحذير والانذار ، وفي آذانكم وقر وصمم؟ وكل من لا يستجيب لنصيحة الله فهو أعمى وأصم ، وان كان له عينان وأذنان.

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ). كانوا من قبل يسخرون ويهزءون إذا ما أنذروا بالعذاب ، حتى إذا مسهم أخفه وأدناه ذلوا وخضعوا وقالوا : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ). وتقدم مثله في الآية ١٤ من هذه السورة.

الميزان يوم القيامة وصاحب الأسفار :

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ). المراد بالموازين هنا احكام الله وشريعته والمعنى ان الله سبحانه يقيس أعمال العباد بأمره ونهيه ، فمن جاءت أفعاله على وفق أمر الله وتروكه على وفق نهيه تعالى فهو ممن ثقلت موازينهم ، والا فهو من الذين خفت موازينهم ، سئل الإمام جعفر الصادق (ع) عن الموازين القسط؟ فقال : هم أنبياء الله وأولياؤه أي احكام الله الذي يبلغها الأنبياء والأولياء لعباده. وعلى هذا الأساس يكون الجزاء ، فلا ينقص من ثواب المحسن مقدار حبة من خردل ، وقد يزاد له ، ولا يزاد في عقاب المسيء حبة كذلك ، وقد ينقص

٢٨٠