التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

هي انقلاب العصا ثعبانا آمنوا بالله وبموسى ، وتحملوا من أجل ايمانهم العذاب الشديد في الدنيا ، ولم يرجعوا عن الايمان ، أما بنو إسرائيل فقد رأوا ما رآه السحرة ، وأيضا رأوا اعتراف السحرة وايمانهم بموسى ، ثم رأوا الآيات التسع مدة مديدة ، ثم رأوا انفلاق البحر اثني عشر طريقا سلكوها بأنفسهم ، ورأوا هلاك عدوهم بأعينهم ، ومع هذا كله لما خرجوا من البحر ورأوا قوما يعبدون البقر قالوا لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، وما إن سمعوا صوتا من عجل حتى عكفوا على عبادته».

وكم تمنيت ، وأنا أفسر الآيات التي نزلت في بني إسرائيل ، وحكت شذوذهم وغرائبهم ، كم تمنيت أن تتألف لجنة من العلماء بالإنسان وغرائزه لدراسة الاسرائيليين وطبيعتهم في ضوء سيرتهم وتاريخهم القديم والحديث لنعلم هل هم من البشر ظاهرا وواقعا ، أو انهم لا يشبهون الناس في شيء ، ولا أحد من الناس يشبههم في شيء إلا في الشكل والصورة؟ كما يومئ الى ذلك الكثير من آي القرآن الكريم. أنظر ج ١ ص ١٢٢ وج ٢ ص ٣٣٧ وص ٣٨٩.

كذلك نقص عليك الآية ٩٩ ـ ١١٢ :

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها

٢٤١

عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

اللغة :

ذكرا يعني القرآن. ومن أعرض أي من كذّب. والوزر في اللغة الثقل ، والمراد به هنا العذاب. والصور قرن ونحوه ينفخ فيه. وزرقا أي متغيري الألوان بالزرقة أو غيرها. يتخافتون بينهم أي يتسارّون ويتحدثون بصوت خفي. وأمثلهم أفضلهم. ينسفها يجعلها كالغبار ثم يفرقها. ويذرها يتركها. والقاع أرض ملساء ، والصفصف المستوي من الأرض. والعوج الانخفاض. والأمت الارتفاع اليسير. والهمس الصوت الخفي. وعنت خضعت وذلت. والقيوم القائم بتدبير الأمور. والهضم البخس والنقص.

الإعراب :

خالدين حال من ضمير يحمل على معنى الجماعة. وحملا تمييز أي ساء الحمل حملا. ويوم ينفخ بدل من يوم القيامة. وزرقا حال. وجملة يتخافتون حال ثانية. وعشرا نصب على الظرفية بتقدير مضاف أي مدة عشر ليال أو ساعات. وطريقة تمييز. وقاعا حال. ولا عوج له (لا) نافية للجنس وعوج اسمها وله

٢٤٢

خبرها. الا من اذن (من) في محل رفع بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من اذن الخ.

المعنى :

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ). أشار سبحانه بذلك الى قصة موسى (ع) وأخباره ، والخطاب الى رسول الله (ص) ، ومن للتبعيض ، والمعنى نقص عليك ـ يا محمد ـ بعض انباء الأمم السابقة ، كما سمعت ، وهي عبرة وعظة للناس ، وفي الوقت نفسه تدل على صدقك ونبوتك لأنها من أنباء الغيب (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) أي قرآنا ، وسمي القرآن ذكرا لأن فيه ذكر الله وصفاته ، والأنبياء وأخبارهم ، والآخرة وشئونها ، والايمان والكفر ، والخير والشر ، والحلال والحرام ، وخلق السموات والأرض ، الى غير ذلك.

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً). ضمير عنه يعود الى القرآن ، وكل من جحد القرآن بالقول والفعل ، أو بالفعل دون القول فقد أعرض عنه ، وحمّل نفسه ما تنوء بثقله ، قال رسول الله (ص) : ما آمن بالقرآن من استحل محارمه. ويأتي الكلام عن ذلك عند تفسير الآية ١٢٤ وما بعدها من هذه السورة.

(خالِدِينَ فِيهِ). ضمير فيه يعود الى الوزر ، والمراد به العذاب بدليل خالدين ، واطلاق الوزر على العذاب من باب اطلاق السبب على المسبب (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً). بئس ما حملوا أنفسهم من الآثام بسبب إعراضهم عن القرآن (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ). هذا كناية عن بعث من في القبور (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً). وأيضا هو كناية عن خزيهم وسوء حالهم آنذاك .. ومن أطرف ما قرأت في تفسير هذه الآية ما جاء في البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ، قال المؤلف : «الظاهر أن المراد بالزرق زرقة العيون ، والزرقة أبغض ألوان العيون الى العرب ، لأن الروم أعداؤهم ، وهم زرق العيون». وهذا المفسر كان قريب العهد من الحروب الصليبية.

٢٤٣

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً). من صفات المجرمين يوم القيامة انهم لشدة ما يعانون من الأهوال يذهلون عن مدة مكثهم في الحياة الدنيا ، ويقول بعضهم لبعض بلسان المقال أو الحال ، وبصوت خافت : ما لبثنا الا عشر ليال أو ساعات أو لحظات.

وتسأل : حكى سبحانه عن المجرمين في هذه الآية قولهم : لبثنا عشرا ، وفي الآية ١٩ من سورة الكهف : (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) وفي الآية ٥٥ من سورة الروم : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ). فما هو وجه الجمع بين هذه الآيات؟.

وأجاب الرازي بأن بعض المجرمين خطر بباله ان المدة عشرة أيام ، والبعض الآخر انها يوم واحد .. والذي نراه نحن ان كلمة العشر واليوم والساعة ليست حكاية لقول المجرمين بالحرف ، وانما هي كناية عما تخيلوه من قلة المكث ، وقصر الأمد ، وانه تعالى عبّر عن ذلك بالعشر تارة ، وباليوم تارة ، وبالساعة أخرى ، والى هذا يومئ قوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) ـ ٥٢ الاسراء.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً). أمثلهم طريقة هو أفضلهم سيرة ، وأعرفهم بحقائق الأمور ، والمعنى ان هذا الأمثل قال لهم ، وهم يتسارون بينهم ما لبثنا إلا عشرا ، قال : ان الحياة التي كنتم فيها ، وتنافستم على حطامها ما هي في حقيقتها إلا حلم لا يعد بالزمان والأيام .. والحياة الحقة هي هذه التي نحن فيها الآن ، حيث لا أمد لها ولا نهاية.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً). سأل سائل رسول الله (ص) : كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فقال سبحانه لنبيه الكريم : قل مجيبا عن هذا السؤال : ان الله يقتلعها من أصولها ، ويصيّرها غبارا منتشرا في الفضاء ، ويدع أماكنها من الأرض ملساء ، لا شيء فيها ، ولا ارتفاع ، ولا انخفاض.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ). يومئذ هو يوم القيامة ، وضمير يتبعون يعود الى الخلائق ، والداعي هو الذي يدعوهم الى المحشر والحساب والجزاء ،

٢٤٤

وضمير له يعود الى الداعي بلحاظ دعوته ، والمعنى ان دعوة الداعي حق ، ومستجابة عند الجميع ، ولا أحد يستطيع التخلف عنها : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) ـ ٨ القمر.

(وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً). خشعت خضعت وذلت ، والأصوات على حذف مضاف أي أصحاب الأصوات ، لأن الصوت لا يحس ولا يشعر ، والهمس الكلام الخفي ، وهو يدل على الخشوع والخضوع. (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً). هذا بمعنى قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ـ ٢٨ الأنبياء». وتكلمنا عن الشفاعة مطولا عند تفسير الآية ٤٨ من سورة البقرة ج ١ ص ٩٧ (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً). تقدم نظيره في الآية ٢٥٥ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٩٤.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ). المراد بالوجوه أصحابها ، والمعنى ان الخلائق كلها تنقاد غدا لأمر الحي الذي لا يموت ، والقائم على كل شيء ، ولا يقوم شيء إلا به (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً). ان أخسر الناس غدا من ظلم الناس ، واعتدى على كرامتهم وحريتهم ، والرابح عند الله من عمل لخير الناس وصلاحهم لوجه الخير والانسانية (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً). هذا مثل قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٩٧ النحل. ج ٤ ص ٥٥٠.

أنزلناه قرآنا عربا الأية ١١٣ ـ ١٢٢ :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى

٢٤٥

آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))

اللغة :

صرفنا كررنا وفصلنا. والمراد بالذكر هنا العظة والعبرة. ولا تضحى لا تبرز للشمس ، والمراد به عدم الجد والكد من أجل العيش. وطفقا أخذا وشرعا. ويخصفان أي جعلا يلصقان ورقة على ورقة. واجتباه اصطفاه.

الإعراب :

قرآنا حال ، وعربيا صفة. وعلما تمييز لأنه بمعنى زاد علمي ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا لزدني على ان تكون زدني متضمنة معنى العطاء. والمصدر من ان لا تجوع اسم ان ولك خبر. والمصدر من أنك لا تظمأ عطف على المصدر من ان لا تجوع.

٢٤٦

المعنى :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً). أنزل سبحانه القرآن على عبده محمد (ص) بلغة العرب ، وخوّف العباد بأساليب شتى من حسابه وعذابه ليتقوه ويطيعوه في جميع أحكامه ، أو يتذكروه إذا أذنبوا فيتوبوا اليه ويسألوه العفو والصفح ، وأو هنا للاباحة ، مثلها في : كن عالما أو زاهدا ، لأن التقوى تجتمع مع التذكر كما يجتمع العلم والزهد ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة يوسف الآية ٢ ج ٤ ص ٢٨٦ ، وأجبنا هناك مفصلا عن سؤال السائل : لما ذا نزل القرآن بلغة العرب مع ان محمدا (ص) ما أرسل إلا للناس كافة.

أوصاف القرآن :

ذكر سبحانه في كتابه العزيز الكثير من أوصافه ، منها :

١ ـ العربي : كما في هذه الآية ، والآية ٢ من سورة يوسف.

٢ ـ الذكر : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ـ ٩ الحجر. و (ذِي الذِّكْرِ»وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ـ ٢ ص.

٣ ـ النور : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) ـ ١٥ المائدة.

٤ ـ القول الفصل : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) ـ ١٣ الطارق.

٥ ـ الهدى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ـ ٢ البقرة.

٦ ـ الحكيم : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ـ ٢ يس.

٧ ـ المجيد : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ـ ٢ ق.

٨ ـ الروح : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) ـ ١٥ غافر.

٩ ـ الحق : (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ـ ١٧ هود.

١٠ ـ النبأ العظيم : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ـ ٦٨ ص.

٢٤٧

١١ ـ الشفاء : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) ـ ٤٤ فصلت.

١٢ ـ الرحمة : (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ـ ٧٧ النمل.

١٣ ـ التنزيل : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ ٨٠ الواقعة.

١٤ ـ البشير النذير : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً) ـ ٤ فصلت.

١٥ ـ العزيز : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) ـ ٤١ فصلت.

١٦ ـ العظيم : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ـ ٨٧ الحجر.

١٧ ـ المبين : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ـ ٢ الزخرف.

وأولى الحقائق التي تدل عليها هذه الصفات ان الله سبحانه انما أنزل القرآن على نبيه الكريم لهداية الناس وسعادتهم وأمنهم واستقرارهم.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ). قال الإمام علي (ع) مناجيا ربه : سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك! وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك! وما أهول ما نرى من ملكوتك! وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك! وما أسبغ نعمك في الدنيا! وما أصغرها في نعم الآخرة!.

(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). جاء في الحديث ان النبي (ص) كان إذا ألقى عليه جبريل القرآن يتابعه قراءة خوفا أن يفوته شيء منه ، فأمره تعالى ان يصغي ولا يتابع ، وان يطمئن ولا يخشى النسيان ، ويدل على صحة هذا الحديث الآية ١٧ من سورة القيامة : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ).

زدني علما :

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً). والعلم الذي أمر الله نبيه أن يستزيده منه هو العلم الذي ينتفع به صاحبه ، وينفع به غيره .. فلا القيم والعقائد ، ولا الفلسفة والشرائع ولا الأدب والفن ، كل هذه ليست بشيء عند الله إلا إذا كانت وسيلة لحياة طيبة كريمة لا مشاكل فيها ولا تعقيد ، حتى الحياة الآخرة ترتبط ، وتلتحم

٢٤٨

التحاما كليا بالعمل النافع في الحياة الدنيا ، قال رسول الله (ص) : خير الناس عند الله أنفع الناس للناس ، وليس من شك ان أنفع الناس هو الذي يعمل من أجل حياة أفضل ، ومجتمع أرقى.

وكل شيء في هذا العصر يدل بوضوح على انه لا حياة فاضلة للإنسان إلا بالعلم .. من غير فرق بين حياته المادية والاجتماعية والثقافية ، فكما ان المجتمع ، أي مجتمع ، لا يمكنه أن يحيا حياة طيبة بلا مطابع ولا مصانع تنتج الملابس ووسائل النقل والأدوات المنزلية وغيرها من الضرورات ، كذلك لا يمكنه أن يعيش حرا كريما بلا علم السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من العلوم التي لها أثرها الفعال في القضاء على استغلال الإنسان للإنسان.

هذا هو العلم الصحيح ، وهو المقصود من كلمة العلم في قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ، وقول الرسول الأعظم : «من سلك طريقا الى العلم سلك به طريقا الى الجنة». ومن فسر العلم بحفظ المتون والحواشي فهو من الذين يؤمنون بأن العلم ألفاظ وكلمات ، والدين تكبير وتسبيحات.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً). والعهد الذي عهده الله لآدم هو ان لا يقرب من الشجرة المعهودة ، ولا يستجيب لدعوة إبليس ووسوسته ، والمراد بنسي خالف ، وبالعزم الثبات (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى). تقدم في الآية ٣٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٨٢ والآية ١٠ من سورة الاعراف و ٣٠ من سورة الحجر و ٦١ من سورة الإسراء و ٥١ من سورة الكهف.

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) أي لا تكدح في حر الشمس ، وخص الضحى بالذكر حيث يكون الحر فيه على أشده .. حذر سبحانه آدم من وسوسة إبليس ، وقال له : انت بين أمرين : إما ان تطيعني وتعصي إبليس ، فجزاؤك عندي هذه الجنة ، وهي ـ كما رأيت ـ هناء وصفاء .. لا جوع فيها ، ولا ظمأ ، ولا عري ، ولا مرض .. لا آلام وأحزان ، لا موت ودماء ودموع ، ولا كدح في حر ولا برد .. لا شيء إلا الأمن والأمان

٢٤٩

والراحة والجنان. واما ان تعصيني وتطيع إبليس ، فتخرج من الجنة الى دنيا كلها متاعب ونوائب ، وطغيان وأسقام .. فنسي آدم هذا التحذير ، وتراكمت المحن والخطوب عليه وعلى نسله ، ابتداء من قتل قابيل هابيل الى جرائم إسرائيل ... الى ما لا نهاية.

وغير بعيد ان يكون إخراج آدم من الجنة درسا وعظة لمن يتبع الأهواء والشهوات ، وان جزاءه عند الله العذاب والشقاء. انظر ما قلناه بعنوان : ضعف الارادة وسيلة للحرمان ج ١ ص ٨٥.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ). تقدم مثله في سورة الأعراف الآية ١٩ وما بعدها ج ٣ ص ٣١١.

(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى). وتسأل : ان آدم نبي ، والنبي معصوم عن الخطأ والخطيئة ، فكيف نسب سبحانه اليه المعصية والغواية؟.

وأجابوا عن ذلك بأجوبة ، منها ان المراد بالمعصية هنا مخالفة الندب دون الوجوب ، وهذه المعصية لا تتنافى مع العصمة ، ومنها ان آدم حين كان في الجنة كان في الدار الآخرة ، وهذه الدار لا تبليغ فيها ولا تكليف كي تحتاج الى أنبياء .. ونبوة آدم كانت في الدنيا ، لا في الجنة .. وعلى أية حال فان آدم تاب وطلب الصفح من ربه (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى). تكلمنا عن ذلك مفصلا بعنوان عصمة الأنبياء ج ١ ص ٨٦.

قال اهبطا منها الآية ١٢٣ ـ ١٢٩ :

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي

٢٥٠

أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩))

اللغة :

الضنك الضيق. وأسرف تجاوز الحد. أفلم يهد لهم : أفلم يبين لهم. والنهى العقول. ولزاما لازما.

الإعراب :

إما كلمتان : ان الشرطية وما الزائدة. وأعمى حال من هاء نحشره. وفاعل يهد محذوف أي أفلم يهد الله لهم. وكم في موضع نصب بأهلكنا. وأجل مسمى عطف على كلمة ، أي ولو لا كلمة وأجل مسمى.

المعنى :

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى). ضمير قال لله تعالى ، واهبطا لآدم وزوجه ، والمراد ببعضكم لبعض ذرية آدم وإبليس ، وبالهدى أمر الله ونهيه ، ومن أطاع الله في أمره ونهيه فهو من الهادين المهتدين في الدنيا ، ومن السعداء الآمنين في الآخرة. ومر مثله في الآية ٣٦ من سورة البقرة.

٢٥١

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً). وتسأل : ان ظاهر الآية يدل على ان الله قضى وقدر ان يعيش العصاة الطغاة في حرج وضيق من العيش ، مع ان الذي نراه انهم كلما ازدادوا عصيانا وطغيانا ازدادوا جاها ومالا؟

وأجاب المفسرون بأن المراد بالضنك والضيق هنا قلق النفس واضطرابها على ما في اليد وحذرها من العواقب والمفاجئات ، ومن الضراء بعد السراء.

ويلاحظ بأن هذا القلق شامل لكل من في يده شيء من حطام الدنيا مطيعا كان أو عاصيا ، لأن الطبيعة عمياء لا تميز بين الطيب والخبيث ، وحوادثها لا ترحم صغيرا ولا ضعيفا ، ولا تبالي بمصير الأخيار والأولياء.

والأرجح في الجواب ما ذكرناه في ج ٣ ص ٩٤ بعنوان : الرزق وفساد الأوضاع ، وفي ص ١٣١ من المجلد المذكور بعنوان : هل الرزق صدفة أو قدر؟ ومجمله ان الفقر من حكم الأرض ، لا من حكم السماء ، مما كسبت ايدي الناس الذين أماتوا الحق والعدل .. ولو انهم أقاموا شريعة الله لما وجد على ظهرها فقير.

(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى). قال بعض المفسرين ، المراد بالعمى هنا العمى عن الحجة والدليل. وقال آخر : بل العمى عن الجنة .. والصحيح ان المراد به المعنى الظاهر ، وهو ذهاب البصر بدليل قوله : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً). ولا موجب للتأويل (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى). انك تهمل اليوم كما أهملت العمل من قبل ، وبالاختصار من ساء عمله في الدنيا ساء مصيره في الآخرة ..

وهذه الآية من أوضح الأدلة على ان العمل في الدنيا أصل ، وثواب الآخرة فرع ، وانه لا سبيل الى نعيمها إلا العمل الصالح .. وعلى الرغم من ان القرآن الكريم يربط الإسلام بالحياة ، والجزاء بالعمل فان كثيرا من شبابنا يقولون : الدين خرافة وأساطير .. وعذرهم في ذلك جهلهم بالإسلام ، وبعدهم عن معرفة حقائقه وأسراره.

(وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) في طلب الدنيا ، وأخذها من غير حل (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) الدالة على وجوده ، ونبوة أنبيائه ، وانزال كتبه ، أو يؤمن بذلك كله ، ولكنه لا يلتزم بالعمل. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) ومنه سرابيل القطران

٢٥٢

وطعام الزقوم ، وشراب الحميم ، والضرب بمقامع الحديد أشدّ وأبقى من وقع العمى والنسيان.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ). المراد بيهد يبين ويوجد طرق الهداية ، وضمير لهم يعود الى المشركين ، والمعنى كيف أشرك الذين عاصروا محمدا (ص) ، وأصروا على الشرك بعد ان دعاهم الى التوحيد ، مع ان الله قد بيّن وأوجد طرق الهداية الى التوحيد ، ومنها إهلاك الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود ، فقد كانوا أشد منهم قوة ، وأكثر مالا ، وأعز نفرا ، فبعث الله اليهم رسلا مبشرين ومنذرين ، كما بعث محمدا الى مشركي قريش ، فعصوا وتمردوا ، فأهلكهم الله بكفرهم وتمردهم ، وهم في ديارهم آمنون مطمئنون ، فهل أمن مشركو قريش أن يأتيهم بأس الله على غفلة كما أتى الذين من قبلهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) ان ما حل بالماضين عبرة وعظة لأصحاب العقول من الحاضرين.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى). المراد بالكلمة والأجل المسمى قضاؤه تعالى بتأخير العذاب ، والمعنى لو لا قضاؤه وحكمته جل وعز بتأخير العذاب على مشركي قريش الى أجل مسمى لوقع عليهم لا محالة.

فاصبر على ما يقولون الآة ١٢٩ ـ ١٣٢ :

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢))

٢٥٣

اللغة :

آناء الليل ساعاته ، واحدها إني. وزهرة الحياة زينتها. والفتنة الابتلاء والاختبار.

الإعراب :

زهرة مفعول لفعل محذوف أي جعلناها زهرة الحياة الدنيا ، ويجوز أن تكون عطف بيان من الأزواج. وللتقوى على حذف مضاف أي لأهل التقوى.

المعنى :

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ). كذّب المشركون رسول الله (ص) وقالوا عنه : ساحر وشاعر ، ومفتر ومجنون ، فأمره الله بالصبر ، لأن من صبر انتصر (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) وليس المراد به قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وكفى .. بل مع التوجه اليه والاتكال عليه (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) اشارة الى صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) صلاة المغرب والعشاء (وَأَطْرافَ النَّهارِ) صلاة الظهر ، وأطلق طرف النهار على الزوال بالنظر الى انه الطرف الأخير للنصف الأول من النهار ، والطرف الأول للنصف الثاني منه .. هكذا قيل .. وليس ببعيد أن يكون المراد من هذه الأوقات الأمر بذكر الله في كل آن وحال ، تماما كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ـ ١٩١ آل عمران. (لَعَلَّكَ تَرْضى). وكل من أرضى الله في الدنيا أرضاه الله في الآخرة (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). المراد بلا تمدن عينيك لا تهتم ، وبالأزواج أصناف الكفار مشركين كانوا أو كتابيين ، وزهرة الحياة زينتها ، ونفتنهم نبتليهم ونختبرهم ، والمعنى لا تهتم يا محمد بما تراه من غنى الكفار من أي نوع كانوا مشركين أو نصارى أو يهودا

٢٥٤

لأن الله سبحانه أراد أن يمتحنهم بالمال ليظهروا على حقيقتهم ، ويجازيهم الله على طغيانهم ، قال الإمام علي (ع) : ان الله يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وان كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب. وفي تفسير الطبري ان رسول الله (ص) أرسل الى يهودي يستدين منه ، فأبى الا برهن ، فحزن رسول الله (ص) فنزلت الآية. وسواء أصحت هذه الرواية ، أم لم تصح فإنها أوضح مثال لقوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا).

فقر النبي معجزة كبرى :

نحن الآن في سنة ١٩٦٩ ، ومن حوالى ٣٥ سنة كتب الأديب الشهير مصطفى صادق الرافعي مقالين عن فقر النبي (ص) بعنوان «سمو الفقر» نقتطف منهما الجمل التالية بشيء من التصرف في بعض الألفاظ بقصد الإيضاح :

من تهكم الحياة بأهلها أن يكون الفقير فقيرا ، وهو يعلم ان صناعته في المدنية عمل الغنى للأغنياء ، وأن يكون الغني غنيا ، وهو يعلم ان عمله في المدنية صنعة الفقر لضميره .. ومحمد (ص) عاش فقيرا ، ولكن فقره يعد من معجزاته الكبرى التي لم يتنبه اليها أحد الى الآن .. كان محمد (ص) يملك المال ، ولكنه كان أجود به من الريح ، لا يدعه يتناسل عنده ، بل ولا يستقر إطلاقا.

كان ـ وهو سيد أمته وصاحب شريعتها ـ رجلا فقيرا يكدح لعيشه ، يجوع يوما ، ويشبع يوما ، وهدفه الأول من وراء ذلك أن يثبت وحدة الانسانية ، ويقر التوازن بين أفرادها ، وان يعلم كل انسان ان حل مسائله الشخصية وحدها هو تعقيد لمسائل المجتمع ، وان مصلحته في حقيقتها وواقعها هي التي تلد لغيره مصلحة مثلها لتحيا بها ومعها ، لا أن تأكل مصلحة غيره ليهلكا معا.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها). والصبر على الصلاة ان لا يؤثر عليها أي عمل من الأعمال. وفي تفسير الرازي : ان رسول الله (ص) كان بعد نزول هذه الآية يذهب الى فاطمة وعلي (ع) كل صباح ويقول : الصلاة الصلاة ،

٢٥٥

وكان يفعل ذلك أشهرا (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً). لست مسؤولا عن رزق أحد ، وطعامه وشرابه (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ونرزق عيالك أيضا .. وذكر هذا سبحانه بعد الأمر بالصلاة للاشارة الى ان الصلاة لا تزاحم العمل من أجل الرزق ، وان الجمع بينهما سهل يسير ، لأن وقت الصلاة المكتوبة لا يستغرق سوى دقائق معدودات.

(وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) لمن اتقى معاصي الله ومحارمه في السر والعلانية. قال الإمام علي (ع) : لا شرف أعلى من الإسلام ، ولا عز أعز من التقوى ، ولا معقل أحصن من الورع ، ولا شفيع أنجع من التوبة ، ولا كنز أغنى من القناعة .. ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة.

لولا يأتينا الآية ١٣٣ ـ ١٣٥ :

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

اللغة :

المراد بالآية هنا المعجزة التي اقترحها المشركون على النبي (ص) عنادا وتعنتا. والمراد بالبينة البيان والبرهان ، وبالصحف الأولى التوراة والإنجيل. والسوي المستقيم.

الإعراب :

لو لا من أدوات الطلب بمعنى هلّا. والمصدر من انّا أهلكناهم فاعل لفعل

٢٥٦

محذوف أي لو ثبت إهلاكنا إياهم. فنتبع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لوقوع الفعل في جواب الطلب. وكل أي كل واحد. ومن أصحاب الصراط (من) استفهام مبتدأ ، وأصحاب خبر ، والجملة في محل نصب بستعلمون. ومن اهتدى عطف على من أصحاب الصراط.

المعنى :

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ). تقدم مثله مع التفسير في الآية ١١٨ من سورة البقرة ج ١ ص ١٨٩ والآية ٧٣ من سورة الانعام ج ٣ ص ١٨٤ والآية ٢٠ من سورة يونس ج ٤ ص ١٤٤ (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى). إذا كنتم تطلبون المعجزة حقا أيها المشركون ، لا عنادا وتعنتا فهذا القرآن بين أيديكم .. فإنه معجزة المعجزات من عدة جهات ، ومنها انه بيان لما جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب السماوية على حقيقته .. كلا ، لستم من طلاب الحقيقة والهداية ، ولا من أهل الصدق والخير ، وما طلبتم ما طلبتم إلا للمراوغة والتحايل ، والمكابرة والعناد.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى). ضمير أهلكناهم يعود الى مشركي قريش ، وضمير من قبله الى النبي أو القرآن ، والمعنى لو عذبنا المشركين في الدنيا أو الآخرة دون ان نقطع حجتهم بإرسال محمد ونزول القرآن لاحتجوا وقالوا لله : أتعاقبنا قبل ان ترسل إلينا من يخرجنا من الجهل ، وينبهنا من الغفلة ، فيأمرنا بما تحب ، وينهانا عما تكره؟ ولكن الله سبحانه قطع جميع أعذارهم بعد ان أرسل اليهم محمدا (ص) بآيات مسفرة ظاهرة.

(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى). هذا إنذار بأنهم يسلكون طريق الضلالة والهلاك ، وتهديد ووعيد لما ينتظرهم من العذاب المحتوم .. ولكن ما تغني النذر عن قوم لا يؤمنون إلا بمكاسبهم ومنافعهم.

٢٥٧
٢٥٨

الجزء السّابع عشر

٢٥٩
٢٦٠