التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦))

اللغة :

أعطى كل شيء خلقه : اتقن خلق كل شيء. ما بالك وما حالك وما شأنك بمعنى واحد. وضل أخطأ. وسلك سهل. وأزواجا أصنافا. والنهى العقول ، وواحده نهية بضم النون.

الإعراب :

كل شيء مفعول أول لأعطى ، وخلقه مفعول ثان. فما بال القرون مبتدأ وخبر. وعلمها مبتدأ وخبره في كتاب ، وعند ربي تعلق بما تعلق به في كتاب ، أي علمها ثابت في كتاب عند ربي. والذي جعل صفة لربي أو عطف بيان. وشتى صفة لازواج أو للنبات. وقال صاحب مجمع البيان : تارة منصوبة على المصدر. وفي كتب اللغة : تار الماء يتور تورا أي جرى مرة بعد مرة.

المعنى :

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى). ذهب موسى وهرون الى فرعون ، وقالا كما أمرهما الله تعالى : انا رسولا ربك ، وقد جئناك بالحجة والدليل على صدقنا ونبوتنا ، فان دخلت في دين الله فلك الأمان من غضبه ونقمته ، وإلا فأنت من الهالكين .. وهذه هي المرة الأولى التي يسمع فيها فرعون كلمة ربك ، فهو لا يعترف بأن له ربا لأنه بزعمه هو الرب الأعلى ، ولهذا سأل موسى : من هو هذا الرب الذي أرسلك إليّ؟ ووجه الخطاب في ربكما لموسى وهرون معا لأنهما

٢٢١

قالا له : إنا رسولا ربك ، أما النداء فخصه بموسى لأنه صاحب الدعوة وهرون تابع.

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). قال موسى لفرعون جوابا على سؤاله : ربنا هو الذي خلق الخلائق ، فصورها فأحسن صورها دون أن يستعين على ذلك بأحد ، وهو الذي فطر كل مخلوق على الوظيفة التي تحفظ كيانه وبقاءه ، قال الإمام علي (ع) : «ألا تنظرون الى صغير ما خلق الله كيف خلقه ، واتقن تركيبه ، وخلق السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر». وكأنّ موسى يقول لفرعون : ان الرب هو الذي يخلق الأشياء من لا شيء ، فأين انت من هذا؟ تماما كما حدث لإبراهيم (ع) مع النمرود : (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ـ ٢٥٨ البقرة.

(قالَ ـ فرعون ـ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى). المراد بالقرون الأولى قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية التي كانت تعبد الأصنام من دون الله ، وأراد فرعون بهذا السؤال الرد على موسى بأنه لو كان هناك إله بالأوصاف التي ذكرت لعبدته الأمم السابقة ، مع العلم بأنها كانت تعبد الأصنام .. وهذا الجواب يحمل معه الدليل على نقضه وفساده لأن الاستدلال على نفي الإله الحق بعبادة من عبد الأصنام تماما كالاستدلال بعمى الخفاش على عدم وجود الشمس.

(قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى). أجاب موسى فرعون بأني لست علّام الغيوب حتى أخبرك عن الأمم البائدة ، فالله وحده هو الذي أحاط بكل شيء علما ، وعلمه دائم لا يعتريه التغيير والتبديل : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ـ ٦ المجادلة.

وتسأل : ان موسى يعلم علم اليقين أن عبدة الأصنام كانوا على ضلال ، فلما ذا قال لفرعون : الله أعلم بهم ، ولم يقل : كانوا على ضلال؟

الجواب : لو قال : ان القرون الأولى كانوا ضالين لطالبه فرعون بالدليل الذي يقتنع به السامعون أو يكون حجة دامغة لا يستطيعون إنكارها ، وموسى لا يملك هذا الدليل ، ولذا أجاب فرعون بما لا يطالبه بالدليل عليه.

٢٢٢

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) تقدم الكلام مفصلا عن بسط الأرض ومدها ومهدها في ج ٤ ص ٣٧٤ عند تفسير الآية ٣ من سورة الرعد (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) طرقا تسلكونها لبلوغ مآربكم (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى). تقدم نظيره في الآية ٩٩ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢٣٤.

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى). المراد بالآيات الدلائل على وجود الله تعالى ، وأولو النهى أهل العقول والبصائر ، وخصهم الله سبحانه بالذكر لأنهم يدركون الحقائق إذا كانوا مجردين عن الأهواء والأغراض ، وفي الحديث ان رسول الله (ص) قال : ان خياركم أولو النهى. فقالوا : ومن أولو النهى يا رسول الله؟ قال : أولو الأخلاق الحسنة ، والأحلام الرزينة ، والمتعاهدون للفقراء واليتامى والجيران ، يطعمون الطعام ، ويفشون السلام في العالم.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى). الإنسان ابن الأرض بجسمه ، فهي المادة الأولى لتكوينه ، ومنها طعامه وشرابه ، وعليها ذهابه وإيابه ، قال رسول الله (ص) : «الأرض أمكم ، وهي برة بكم». أجل ، هي أمنا لأنّا منها ولدنا ، وهي برة بنا لأنها تغذينا كما ترضع الأم وليدها. ثم نعود الى الأرض بعد الموت ، ونصير ترابا كما كنا من قبل ، ثم نحيا ثانية للحساب والجزاء.

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى). الهاء في أريناه لفرعون ، والمراد بالآيات المعجزات التي أظهرها الله سبحانه على يد موسى ، ودلت دلالة واضحة على صدقه ونبوته ، ولكن أية جدوى من الآيات والنذر إذا اصطدمت بالمنافع والمصالح؟.

فرعون مجمع السحرة ٥٧ ـ ٦٤ :

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ

٢٢٣

مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤))

اللغة :

موعدا اسم زمان أي ميعادا معينا. وسوى مستوى الأرض أي في مكان لا انخفاض فيه ولا ارتفاع. ويوم الزينة يوم العيد. والمراد بكيده أصحاب كيده وهم السحرة. والويل الخزي والهوان. ويسحتكم يستأصلكم. وأسرّوا النجوى تناجوا سرا. والطريقة المثلى الدين ، والمثلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل. واستعلى غلب.

الإعراب :

موعدا مفعول أول لاجعل ، وبيننا وبينك متعلق بمحذوف مفعولا ثانيا. وجملة لا نخلفه صفة لموعد. ومكانا متعلق بمحذوف صفة ثانية لموعد أي كائنا في مكان ، وسوى صفة لمكان. وموعدكم يوم الزينة مبتدأ وخبر. والمصدر من ان يحشر الناس عطف علي الزينة أي ويوم حشر الناس. ويلكم منصوب على إضمار الفعل أي الزموا الويل ، لأنه مضاف ، فإذا لم يضف مثل ويل لكم فمبتدأ

٢٢٤

وخبر. وإن هذان لساحران (إن) مخففة مهملة ، وهذان مبتدأ وساحران خبر ، واللام هي الفارقة بين ان النافية والمخففة. والمصدر من يخرجاكم مفعول يريدان. وصفّا حال من واو ائتوا.

المعنى :

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى). اضطرب فرعون ، وأسقط في يده حين جابهه موسى بالحجة الدامغة التي لا رد عليها .. كيف؟ وهي آية من آيات الله تعالى .. ان فرعون على علم اليقين من ان السحر أبعد ما يكون عن موسى وهرون ، وان الساحر أحقر من أن يخرجه من أرضه وملكه ، ولو كان للسحرة هذا السلطان لكانوا أولي الأمر في كل زمان ومكان .. ولكن فرعون لما شعر بالعجز عن مجابهة الحجة بالحجة لجأ الى الاحتيال والمراوغة ، والكذب والافتراء ، تماما كما يفعل اليوم المستعمرون وأذنابهم ، حيث يصفون الأحرار بالهدامين ، والمخلصين بالفوضويين.

(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً). طلب فرعون من موسى أن يعين موعدا للمباراة بينه وبين السحرة على أن تكون في مكان مكشوف ، لا شيء فيه يحجب أعين النظّارة عن مشاهدة المباراة ومتابعتها (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى). اختار يوم العيد للمباراة بينه وبين السحرة ، حيث يترك الناس أعمالهم ، ويجتمعون فيه بالأماكن العامة ، واختار وقت الضحى من يوم العيد لأنه أنسب الأوقات للحشد والتجمع ، وموسى يريد أن يحق الحق ، ويبطل الباطل على رؤوس الأشهاد.

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى). هذه الآية بينة الاعجاز ، فهي على ايجازها تحمل الكثير من المعاني .. تولى .. فجمع .. ثم أتى .. وكلمة تولى تعبّر عن انصراف فرعون الى حاشيته وأنصاره وتشاوره معهم لوضع الخطط وإحكامها ، وكلمة جمع تعبّر عن إرساله الرسل في أنحاء البلاد للبحث عن السحرة والإتيان بهم ، فقد أشار عليه مستشاروه ان يرسل في المدائن حاشرين يأتوه بكل ساحر

٢٢٥

عليم ، كما في الآية ١١٢ من سورة الأعراف ، وكلمة ثم أتى تعبّر عن مجيئه بموكبه وابهته الى مكان المباراة في الموعد المعين.

(قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى). تقدم موسى الى السحرة بالنصح والانذار قبل أن يباشروا أي عمل من أعمال السحر ، وحذرهم من عذاب الاستئصال ان أصروا على مخادعة الناس بالتمويه والأكاذيب ، وأفهمهم ان فرعون مهما بلغ من السلطان فانه أضعف من أن يملك لهم نفعا أو ضرا.

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى). ضمير فتنازعوا وما بعده يعود الى السحرة ، وتومئ هذه الآية الى ان بعض السحرة قد تأثر بكلمة موسى (ع) أو بعثت في نفسه الشك ـ على الأقل ـ وفي تفسير الطبري ان بعض السحرة قال عن تحذير موسى لهم : ما هذا القول بقول ساحر ، ولا بدع فان الكلام إذا خرج من القلب المخلص أخذ طريقه الى القلوب المخلصة .. تأثر البعض من السحرة بموعظة موسى ، وعارضه البعض الآخر ، وبطبيعة الحال دار الحوار والجدال فيما بينهم : هل يمضون في تحدي موسى بالسحر ، أو ينسحبون من المباراة ، وقد دار هذا الحوار في الخفاء والكتمان عن فرعون وموسى أيضا .. ولكن في النهاية تغلب رأي من أصر على التحدي بدليل ما حكاه الله عن السحرة بقوله :

(قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى). هذا الكلام كله للسحرة ، فضمير قالوا وما بعده يعود اليهم وحدهم ، وهذان اشارة الى موسى وهرون ، ومرادهم بالطريقة المثلى الدين الذي كانوا عليه بدليل ما جاء في الآية ٢٦ من سورة غافر : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ). والمعنى ان بعض السحرة قال لبعض : ان موسى وهرون ماهران في فن السحر ، وهما يحاولان التغلب علينا والقضاء على ديننا لتكون لهما السيادة في البلاد ، ويكون أهلها لهما عبيدا وأتباعا ، فعلينا أن نكون يدا واحدة ضدهما ، ونبذل كل جهد لنفوز عليهما ، وتكون الرفعة والمكانة لنا من دونهما في هذا اليوم المشهود ، وإلا فلن تقوم لنا بعده قائمة.

٢٢٦

بين موسى والسحرة الآية ٦٥ ـ ٧٦ :

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

٢٢٧

اللغة :

فأوجس أحس وأضمر. تلقف تأخذ أو تبتلع بسرعة. وكبيركم معلمكم وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ان تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، والعكس بالعكس. ونؤثرك نختارك. وفطرنا خلقنا ، واقض أحكم. والعدن الاقامة. وتزكى تطهر من دنس الذنوب.

الإعراب :

إما بالكسر ، ومعناها هنا التخيير ، وهي مركبة من ان وما ، ويجب تكرارها ، والمصدر من ان تلقي مفعول لفعل محذوف أي اختر اما القاءك ، والمصدر من ان نكون معطوف على المصدر من ان تلقي. وإذا للمفاجأة ، وحبالهم مبتدأ ، وعصيهم عطف على حبالهم ، وجملة يخيل وما بعدها خبر. والمصدر من انها تسعى مفعول يخيل. وخيفة مفعول أوجس. وتلقف مجزوم جوابا لألق. انما صنعوا كيد (انما) مركبة من كلمتين : (ان) المشددة ، و (ما) الموصولة ، وهي اسم إنّ ، وصنعوا صلة الموصول ، وكيد خبر إنّ ، والعائد محذوف ، والتقدير ان الذي صنعوه كيد ساحر. وسجدا حال أي ساجدين. وفي جذوع النخل (في) هنا بمعنى على. وأينا مبتدأ ، وأشد خبر ، وعذابا تمييز. والذي فطرنا عطف على ما جاءنا. فاقض ما أنت قاض (ما) اسم موصول مفعول لاقض ، وأنت مبتدأ وقاض خبر ، والجملة صلة الموصول والعائد محذوف أي فاقض ما أنت قاضيه. انما تقضي هذه (انما) مركبة من كلمتين : ان المشددّة وما الكافّة عن العمل ، وتقضي فعل مضارع والفاعل ضمير المخاطب أي انت والمراد فرعون ، وهذه مفعول تقضي ، والحياة عطف بيان من هذه ، والدنيا صفة للحياة. وما أكرهتنا عطف على خطايانا. والضمير في انه للشأن ، ومحله النصب اسم إنّ. ومن يأت (من) شرطية ، والجملة من الشرط وجوابه خبر إنّ. وجنات عدن بدل من الدرجات العلى. وخالدين حال.

٢٢٨

المعنى :

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى). تقدم نظيره في الآية ١١٣ وما بعدها من سورة الاعراف ج ٣ ص ٣٧٨.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى). قال أكثر المفسرين أو الكثير منهم : ان موسى خاف على نفسه كما هو مقتضى الطبيعة البشرية .. والصحيح انه ما خاف على نفسه ، كيف وهو يعلم ان السحرة مفترون ، وان الله قال له ولأخيه : اني معكما ، وانما خاف موسى ان يلتبس الأمر على الناس ، وينخدعوا بأباطيل السحرة (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى). لا تخف ان يلتبس الحق على الناس .. كلا ، فسيتضح للعيون والعقول انك المحق وهم المبطلون ، وسيعترف السحرة أنفسهم بأنك الصادق الأمين ، وانهم أصحاب تزوير ، ومكر ، وخداع ، وان فرعون هو الذي أكرههم على الكذب والافتراء.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) انا أو موسى. وتقدم مثله في الآية ١١٧ وما بعدها من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٧٨. انظر تلخيص قصة موسى مع فرعون واسم أم موسى في ج ٣ ص ٣٧٢.

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا). أراد فرعون من السحرة ان يتركوا الله ، ويتبعوه بعد ان اتضح لهم غيه وضلاله ، فقالوا له : على أي شيء نختارك ونؤثرك ، أرغبة في دنياك التي أنت تاركها وظاعن عنها ، أم رهبة من عذابك ، وعذاب الله أشد وأعظم؟ (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) احكم وافعل ما شئت يا فرعون فلا نبالي ببطشك وتنكيلك ما دمنا على يقين من ربنا (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) حلوة كانت أو مرة ، وما نحن من أبنائها وانما نحن من أبناء الآخرة ، وهي باقية ببقاء الله تعالى ، ولا سلطان لك فيها حتى على نفسك.

٢٢٩

وهكذا كل مخلص لا يبالي بسيف الجلاد من أجل دينه ومبدئه .. ومحال أن يعيش دين من الأديان أو مبدأ من المبادئ إذا لم يجد أنصارا من هذا الطراز.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أي وليغفر لنا أيضا ما أكرهتنا عليه من السحر ، وهو من باب عطف الخاص على العام (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) منك ومن ثوابك يا فرعون .. كانت المباراة بين موسى والسحرة في ظاهرها ، وبين حزب الله وحزب الشيطان في واقعها ، ومن الشوط الأول أيقن كل من شاهد المباراة حتى فرعون والسحرة أنفسهم ، أيقنوا جميعا بأن حزب الله هم الغالبون ، وأعلن السحرة ان يقينهم هذا عن علم لا يقبل الشك ، وانهم كانوا على ضلال في تحديهم لموسى ، وان فرعون هو الذي ألجأهم اليه ، وأكرههم عليه ، وسألوا الله سبحانه العفو والصفح عما مضى .. وفي اعتراف السحرة هذا دلالة واضحة على ان السحر لا واقع له ، وانه تمويه وتضليل ، تماما كما قال تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى).

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) هذا كناية عن دوام العذاب ، ومثله : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ـ ٣٦ فاطر ، وكلمة مجرم تتناول كل من أفسد وأساء في قول أو عمل كافرا كان أو غير كافر ، والدليل على ان المراد بالمجرم من هو أعم من الكافر قوله تعالى : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى). حيث قرن سبحانه الايمان بالعمل الصالح ، ومعنى هذا ان الايمان بلا عمل لا يجدي صاحبه شيئا. وبكلام آخر : ان المؤمنين هم الصالحون في مقاصدهم وأعمالهم ، أما الذين يسعون في الأرض فسادا فهم في زمرة المجرمين ، وان ملأوا الدنيا تهليلا وتكبيرا.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى). الجنات والدرجات عند الله هي للذين زكت أنفسهم بالحب والإخلاص للناس كل الناس ، وتطهرت من شوائب الخيانة والطمع والكراهية ، ومئات الآيات من آي الذكر الحكيم تتضمن هذا المعنى تصريحا أو تلويحا.

٢٣٠

فاضرب لهم طريقا في البحر الآية ٧٧ ـ ٨٢ :

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢))

اللغة :

السرى والاسراء بمعنى واحد ، وهو السير ليلا. ويبسا يابسا لا ماء فيه. والدرك اللحوق أي لا تخف أن يدركك فرعون. وغشي غطى ، والمراد ان الماء غمرهم. وأضل قومه صرفهم عن طريق الرشد والهداية. وذكر الطور الأيمن في الآية ٥٢ من سورة مريم. والمن والسلوى في الآية ٥٧ من سورة البقرة.

الإعراب :

طريقا مفعول اضرب ويبسا صفة له لأنه بمعنى يابسا. فيحل منصوب بإضمار أن في جواب النهي.

٢٣١

المعنى :

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى). أصر فرعون على عناده ، وأبى إلا الكبرياء والجبروت ، والا ان ينعت موسى بالخارجي ، ومعجزاته بالسحر ، ووجد من يظاهره على ذلك ويناصره : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ـ ١٢٧ الأعراف. وصمم فرعون على قتل موسى ، فأوحى الله اليه أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ليلا ، وأن يضرب البحر بعصاه ، فينشق الى قطع بينها طرق وشعاب ، يسلكها الاسرائيليون الى الجانب الآخر ، وهم آمنون على أنفسهم من الغرق ومن فرعون وشره : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى ، وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) ـ ٦٤ الشعراء.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ). اتبعهم وتبعهم بمعنى واحد ، وغشيهم ما غشيهم فيه تعظيم للأمر .. وفي الكلام حذف كثير ، ولكنه مألوف في القرآن لأن السياق يدل عليه ، والتقدير خرج موسى ليلا بقومه ، ولما وصل الى البحر ضربه بعصاه ، فانشق الى طرق لا ماء فيها ، فسلكها الاسرائيليون ، ولحق بهم فرعون وجنوده ، وسلك في أثرهم ، ولما وصل آخر اسرائيلي الى الجانب الثاني من البحر ، ودخل آخر جندي في البحر من جنود فرعون انطبق البحر عليهم فغرقوا جميعا ، كما سلم الاسرائيليون جميعا (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى). أضلهم عن الحق ، وأضلهم في البحر أيضا ، وكان من قبل يقول لهم : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) ـ ٢٩ غافر.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون الذي كان يسومكم سوء العذاب يذبح أبناءكم ، ويستحيي نساءكم (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ). يشير سبحانه الى الوعد الذي وعده موسى بعد أن أغرق فرعون ، وهو أن يأتي موسى الى جانب الطور فينزل الله عليه التوراة ، فيها بيان الشرائع والأحكام (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) تقدم بنصه الحرفي في الآية ٥٧ من سورة البقرة ج ١ ص ١٠٦.

٢٣٢

(وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى). ضمير فيه يعود الى الرزق المفهوم من الكلام ، والطغيان فيه ان يؤخذ ، أو ينفق في غير طريقه المشروع ، والمعنى ان من كسب المال من غير حل ، أو أنفقه في غير حل فجزاؤه عند الله الهلاك وعذاب الحريق ، تماما كجزاء فرعون وغيره من العصاة الطغاة.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى). يغفر الله الذنوب بشروط أربعة : الأول التوبة ، وهي الندم على ما كان من المعاصي مع طلب الصفح عنها. الشرط الثاني الايمان بالحق أينما كان ويكون ، سواء أوافق الأهواء والأغراض ، أم خالفها. الشرط الثالث العمل بالحق ، لأن الايمان بلا عمل كاللفظ بلا معنى. الشرط الرابع الاهتداء ، والمراد به هنا الاستمرار على اتّباع الحق حتى الموت. وبهذا نجد الجواب عن سؤال من سأل : ان المهتدي هو الذي آمن وعمل صالحا ، فما هو الوجه في عطف الأول على الثاني بثم.

السامري والعجل الآية ٨٣ ـ ٨٩ :

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ

٢٣٣

وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩))

اللغة :

إذا قلت : جاء في أثره فمعناه جاء بعده في الحال أو الاستقبال ، أما إذا قلت : جاء على أثره فمعناه جاء بعده في الحال ومن غير تأخير. وفتنا اختبرنا. وأضلهم أوقعهم في الضلال ، وانحرف بهم عن الهدى والحق. والأسف الحزن. وموعدي أي ما وعدتموني به من الثبات على الايمان. وبملكنا باختيارنا من ملك الأمر. والأوزار الأثقال. والخوار صوت البقر.

الإعراب :

ما استفهام مبتدأ ، وجملة أعجلك خبر. وهم مبتدأ وأولاء اسم اشارة خبر. وعلى أثري متعلق بمحذوف خبرا بعد خبر أو حالا والعامل فيه معنى الاشارة. وغضبان حال وأسفا حال ثانية. فكذلك الكاف بمعنى مثل ومحلها النصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي ألقى السامري إلقاء مثل القائنا. وجسدا صفة للعجل أي مجسدا ، وقال صاحب مجمع البيان : بدل ، وان لا يرجع (ان) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، وجملة يرجع خبر أي انه لا يرجع اليهم مثل الآية ١٤٨ من سورة الأعراف : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ).

المعنى :

بعد ان هلك فرعون وعد سبحانه موسى ان ينزل عليه التوراة ، وضرب له ميقاتا ، فذهب الى ربه ليأتي بالتوراة بعد ان استخلف أخاه هرون على بني إسرائيل ،

٢٣٤

فاغتنموا غياب نبيهم موسى ، وعبدوا العجل ، وحققوا ما كانوا يحلمون به من قبل ، حيث رأوا قوما (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ـ ١٣٨ الاعراف. وسبقت الاشارة الى ذلك في الآية ٥١ من سورة البقرة و ١٤٨ من سورة الاعراف .. والآيات التي نحن بصددها ، والتي بعدها الى الآية ٩٨ كلها تتحدث عن هذا الموضوع وما يتصل به ، وتعود بنا اليه.

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى). بهذا السؤال تبدأ حكاية العجل .. يذهب موسى الى ربه ليتلقى الوحي ، فيسأله سبحانه عن تعجله ، وهو أعلم بالسبب ، كي يخبره عما أحدث قومه من عبادة العجل (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى). يدل ظاهر الكلام على انه كان المفروض ان يأتي موسى الى الطور ، ومعه جماعة من قومه ، فأتى وحده ، فاتجه السؤال ، وجاء الجواب انهم لاحقون بي بلا تأخير ، وسبقتهم اليك يا إلهي حرصا على مرضاتك .. قال هذا ، وهو لا يعلم ما ذا أحدثوا بعده.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ). المراد بالفتنة هنا التمحيص والاختبار ليظهر الاسرائيليون على حقيقتهم ، يقال : فتنت الذهب بالنار إذا اختبرته ، ووجه الاختبار هنا ان الله سبحانه نهى بني إسرائيل عن عبادة العجل بلسان هرون ، وأمرهم الشيطان بعبادته بلسان السامري ، فعصوا الرحمن ، وأطاعوا الشيطان ، وظهروا بذلك على حقيقتهم من ضعف الايمان ، والاستعداد التام للكفر والجحود ، تماما كما يجترح المجرم المحرمات حين يجد السبيل اليها ، ويفتضح على رؤوس الاشهاد.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً). تقدم في سورة الأعراف الآية ١٥٠ (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً). يشير بهذا الى ان الله قد وعد بإنزال التوراة على نبيهم ، وفيها تفصيل كل ما يحتاجون اليه من معرفة الحلال والحرام ، وانه عز وجل سيملّكهم دار الفاسقين كما في الآية ١٤٥ من سورة الاعراف : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ).

٢٣٥

(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ). يعني بالعهد مدة غياب موسى عن قومه. تقول : عهدي به قريب أي لقائي (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ). أم بمعنى بل ، وأردتم أي أقدمتم على ما يوجب غضب الله ، والمعنى اني لم أغب عنكم طويلا .. فلما ذا أشركتم بالله؟ فهل تريدون أن يحل بكم نكاله وعذابه؟ وفي هذا إيماء الى انهم يؤمنون ما دام موسى قائما على رؤوسهم ، فان غاب انقلبوا على أعقابهم وحرفوا الدين على أهوائهم كما حدث بالفعل.

(فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي). انقلبتم عن دين الله بعد أن وعدتموني بالثبات عليه (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا). هذا اعتراف صريح منهم بأنهم قد كفروا وارتدّوا ونكثوا بالوعد ، وعذرهم الوحيد انهم كالمسيرين لا يملكون أنفسهم عن الكفر والغدر والخيانة ، حتى كأنهم مطبوعون على ذلك .. وهكذا تظهر حقيقة بني إسرائيل في أقوالهم وفلتات ألسنتهم بالاضافة الى أعمالهم.

(وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ). المراد بالأوزار هنا الأحمال ، وزينة القوم هي حلي النساء الفرعونيات. قال كثير من المفسرين : لما علم بنو إسرائيل انهم سيجتازون البحر ، وان الله سبحانه مغرق فرعون وجنوده احتالوا على الفرعونيات ، واستعاروا حليهن للعرس أو لغيره من الأسباب ، وحملوها معهم .. وليس هذا ببعيد على طبيعة الاسرائيليين واحتيالهم لكسب المال وجمعه بكل وسيلة (فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ). قال الطبري في تفسيره : ألقى بنو إسرائيل ما معهم من الحلي في حفرة ، وألقى السامري أيضا ما معه ، وصاغ الجميع على هيئة العجل (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ). تقدم في الآية ١٤٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٩٥.

(فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ). ضمير قالوا يعود الى السامري وأصحابه ، وضمير نسي الى موسى ، والمعنى ان بني إسرائيل قالوا : هذا العجل هو الإله الحقيقي لنا ولموسى وللعالم أجمع ، وقد ذهل عنه موسى ، وذهب يطلبه ويبحث عنه في الطور ، وما درى انه ضيفنا وفي ديارنا .. وتجدر الاشارة الى أن من قال : ان الله جسم فانه يلتقي مع عبدة العجل والأوثان من حيث يريد أو لا يريد.

٢٣٦

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً). كيف يكون العجل ربا لهم ، وهو من صنع أيديهم ، لا يسمع كلامهم ولا يرد جوابهم ، ولا يجلب لهم ولا لنفسه نفعا ، ولا يدفع عنه ولا عنهم ضرا؟ قال بعض المفسرين : «وفوق ذلك هو لا ينطح ، ولا يرفس ، ولا يدير طاحونة ولا ساقية». وفي تفسير الرازي ان يهوديا قال للإمام علي (ع) : ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم. فقال الإمام : انما اختلفنا عنه ، وما اختلفنا فيه. وأنتم ما جفّت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.

ولو جاز لنا أن نفسر القرآن بالرأي والتأويل بالحدس لقلنا : ان صياغة العجل من الذهب ، وتأليه الاسرائيليين له يرمز الى انهم قد فطروا منذ القديم على عبادة المال ، وانه هو إلههم وحده لا شريك له .. وتاريخهم القديم والحديث يدل على ذلك دلالة صريحة واضحة ، وانهم يستحلون كل شيء من أجل المال حتى اراقة الدماء والدعارة والغدر.

موسى يعتب على هرون الآية ٩٠ ـ ٩٨ :

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ

٢٣٧

لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨))

اللغة :

انما فتنتم به أي اتبعتم أهواءكم بعبادة العجل. وعاكفين مقيمين. فما خطبك اي فما شأنك؟ فنبذتها فطرحتها. وسولت زينت. لا مساس لا مخالطة. لن تخلفه لا خلف له. وظلت أصله ظللت أي أقمت. واليم البحر.

الإعراب :

لقد اللام واقعة في جواب قسم محذوف. والا كلمتان ان الناصبة ولا الزائدة ، والمصدر من ان تتبعن مجرور بمن محذوفة أي ما منعك من اتباعي. ويا ابن امّ قرئ بفتح الميم على ان أم وابن بمنزلة خمسة عشر ، وقرئ بكسر الميم على ان يكون الأصل يا ابن أمي ، ثم حذفت الياء ، وكسرت الميم للدلالة على الياء المحذوفة. فما خطبك؟ مبتدأ وخبر. وفي البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ان لا مساس نفي بمعنى النهي أي لا تمسني ، وعليه يكون لا مساس اسم فعل ، وقيل : بل هو مصدر ماسه ، ولا نافية للجنس ومساس اسم لا ، والخبر محذوف أي لا مساس بيننا.

المعنى :

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا

٢٣٨

أَمْرِي). حين ذهب موسى الى الطور قال لأخيه هرون : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ـ ١٤٢ الاعراف. وأصلح هرون كما أمره موسى ، فنصح منذرا ومحذرا بني إسرائيل من السامري وعجله ، وقال لهم فيما قال : ما الذي غركم من هذا العجل حتى افتتنتم به هذا الافتتان ، وانصرفتم اليه عن خالق السموات والأرض! فاتبعوني أهدكم سبيل الرشاد ، فما كان جواب قومه إلا ان (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) لنرى رأيه في ذلك .. وكأنهم ينتظرون من موسى ان يسفه هرون في نهيه ، ويصوبهم في عبادة العجل لأنه من ذهب .. وكل من آثر المال على دينه وضميره ، أو اتبع ضالا على ضلاله فهو من أتباع السامري وحزبه .. وقد ابتلى الله عباده في كل عصر بعجل له خوار مصنوع من ذهب ، أو من نسل آدم ، يميز به صفوة خلقه من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق.

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي). هذا في ظاهره لوم أو عتاب لهارون ، أما في واقعه فهو توبيخ وتقريع للذين عبدوا العجل ، لأن موسى على علم اليقين بأن أخاه هرون لم ولن يخالفه في شيء ، وانه قام بواجب الإرشاد على أكمل الوجوه لأنه شريكه في النبوة والعصمة (قال يا ابن أم) (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) تقدم في الآية ١٥٠ من سورة الاعراف.

(إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) قال موسى لهارون : لما ذا لم تترك بني إسرائيل ، وتلحق بي إذ رأيتهم يعصونك ويتبعون السامري؟ فأجابه هرون بأني توقعت إذا تركتهم ان تقع فتنة يسفك فيها الدماء بين الفئة المؤمنة منهم والفئة التي ارتدت عن دينها بعبادة العجل ، وعندها تنعكس الآية ، ويحق لك ان تلومني على تركهم ، وان تقول لي : أتتركهم كي يحدث ما حدث! وخلاصة الجواب ان الذي يراه الشاهد لا يراه الغائب.

فاقتنع موسى وقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ـ ١٥١ الاعراف. ثم اتجه موسى الى السامري و (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ)؟ ما الذي دعاك الى ما صنعت (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) قيل : المراد بالرسول

٢٣٩

هنا جبريل ، وباثره التربة التي وطئها هو برجله ، أو فرسه بحافره. وقيل : بل المراد بالرسول موسى ، وبأثره سنته. وقيل : ان السامري كاذب في قوله ، وانه ما بصر بشيء ، ولا قبض شيئا من اثر الرسول ، وانما أراد التهرب من تبعة ما حدث. وهذا أرجح الأقوال ، وأقربها الى الافهام من رجل جبريل وحافر فرسه .. ومن صنع العجل بيده ، ودعا الى عبادته من دون الله يهون عليه الكذب والافتراء .. أما الخوار فمن الجائز أن يكون السامري صنع العجل على هيئة بحيث يخرج منه صوت الثيران بواسطة الريح أو غيرها ، كما قلنا في ج ٣ ص ٣٩٥.

ومهما يكن فان المعنى الذي دل عليه ظاهر القرآن ان السامري هو الذي أفسد وأضل بني إسرائيل في عبادة العجل ، أما كيف صنعه فنحن غير مكلفين بمعرفة ذلك ، ولا صلة له بعقيدتنا وحياتنا.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ). هذا هو جزاؤك في الدنيا ، الطرد والعزل عن الناس ، كل الناس .. لا تخالط أحدا ، ولا أحد يخالطك في قول أو فعل ، أما عقابك في الآخرة فأدهى وأمر. وقيل : ان السامري عاش مدة حياته في البرية مع الوحوش والسباع (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ). لا محيص عنه ولا مفر منه ، وهو لقاؤك مع الله ، وحسابك على ما أسلفت وافتريت ، وجزاؤك عليه بالعذاب الأليم ، وحريق الجحيم.

(وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً). هذه هي نهاية كل مزيف ماكر .. الخزي والهوان ، والنسف في البحر ، أو الطرح مع القمامة (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً). هو وحده الإله الحق ، ولا معبود سواه ، وسعت رحمته كل شيء ، وأحاط علمه بكل شيء ، وما من شيء إلا يعبده ويسبّح بحمده.

غرائب إسرائيل :

من المفيد ان نختم تفسير هذه الآيات بما جاء في تفسير الرازي :

«قال أبو القاسم الانصاري : كان السحرة مشركين ، ولما رأوا آية واحدة

٢٤٠