التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

أرضنا بأسلحة الاستعمار ، وأموال الصهيونية ليسوا من نسل إسرائيل بن اسحق ، ولا على دينه ودين موسى ، وإنما هم مخلوق جديد .. عجيب غريب .. لم يسبق له مثيل ، لأنه مكون من أشتات لا يربط بينها رابط ، ولا يجمعها جامع من وطن أو لغة ، أو أي مبدأ إلا مبدأ العمالة لقوى الشر والاستعمار.

هذا ، إلى أن تفسير قوله تعالى : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تفسيره بأن الله قضى وقدر بطرد الصهاينة من فلسطين يؤدي بنا من حيث نريد أو لا نريد إلى التواكل وطرح أسباب النصر الطبيعية التي بيّنها الله في كتابه ، وعلى لسان نبيه ، وحثنا عليها بكلمة الجهاد تارة ، والتعاون تارة ، وإعداد العدة أخرى ، وعدم اليأس حينا ، والصبر والمثابرة أحيانا ، وبذل المال واسترخاص كل غال في سبيل الذود عن الدين والوطن ، تماما كما فعل محمد وصحابة محمد (ص) والذين اتبعوهم بإحسان ، وكما يفعل الفدائيون الآن.

وبعد ، فإن الله لا ولن يتولى عنا حرب إسرائيل ، ولا حرب الاستعمار والصهيونية ، وان صلينا له ورجوناه ، لأن أفضل أنواع العبادة عنده هي التضحية بكل القدرات والطاقات ضد الظلم والطغيان ، والفساد والعدوان .. ونحن نملك القدرة الكافية الوافية على طرد العدو من أرضنا السليبة ، نملك هذه القدرة بعددنا وديننا وتراثنا ومواردنا ، وما علينا إلا أن نستعملها .. ولا بد أن نستعملها في يوم من الأيام إن عاجلا أو آجلا ، لأن حب البقاء يحتم ذلك .. فلقد وضعنا الاستعمار والصهيونية أمام أمرين لا ثالث لهما : إما الموت ، وإما الحياة .. ولا أحد يفضل الموت على الحياة ، والاستعباد على الحرية ، والهوان على الكرامة.

القرآن هدي التي هي أقوم الآية ٩ ـ ١٢ :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا

٢١

لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

اللغة :

مبصرة أي تبصر بها ، مثل ليل نائم أي نائم فيه. ومحونا طمسنا.

الإعراب :

للتي هي أقوم أي للملة التي. والمصدر من ان لهم أجرا مجرور بباء محذوفة أي يبشر المؤمنين بأن لهم. وان الذين معطوف على ان لهم. واعتدنا أصلها أعددنا. ودعاءه قائم مقام المفعول المطلق أي يدعو بالشر دعاء مثل دعائه بالخير. وكل شيء مفعول لفعل محذوف دل عليه الموجود أي وفصلنا كل شيء فصلناه.

المعنى :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً). للتي هي أقوم أي للملة أو الطريقة التي هي أقوم ، ومعنى يهدي يرشد ويوجب ، وكلمة أقوم تعني الأصلح والأنفع ، وهي بتعميمها تشمل الأصلح في كل شيء ، وفي كل زمان ومكان ، ولكل انسان من غير استثناء.

وهذه الآية دعوى صريحة وواضحة يسجلها القرآن ، ويؤمن بها كل مسلم ..

٢٢

وملخصها ان الإسلام هو خير الأديان كلها ، أما الدليل على صحة هذه الدعوى وصدقها فهو القرآن بعقيدته وشريعته وسائر تعاليمه بالاضافة الى سيرة صاحب الرسالة محمد بن عبد الله (ص) الذي ملأ الأرض علما وإيمانا وبرا وعدلا بعد ما ملئت جهلا وكفرا وفسادا ، وقد أثبت العلماء هذه الحقيقة ، ووضعوا لذلك مئات الاسفار في تفسير كلام الله ، وحديث رسول الله وسيرته ، وفي العقيدة والشريعة والأخلاق الاسلامية ، وفيما حققه الإسلام في شتى الميادين ، وذكرنا طرفا من ذلك في المجلدات السابقة من هذا التفسير. وفيما يلي نشير الى بعض المبادئ على سبيل المثال :

الإسلام دين الفطرة :

١ ـ ان كل أصل من عقيدة الإسلام ، وكل فرع من شريعته ، وكل حكم من أحكامه ـ يرتكز على الفطرة النقية الصافية : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ـ ٣٠ الروم. فهذه الآية تقرر بصراحة ووضوح ان الإسلام يستجيب لمطالب الفطرة الانسانية ، ويبسط ذراعيه لكل جديد مفيد ، سواء أجاء من الشرق أو الغرب. قال الإمام علي (ع) : «الحكمة ضالة المؤمن ، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق» وقال : انظروا الى القول ، لا الى من قال ، وفي هذا المعنى كثير من الأحاديث.

ايمان الإسلام بالعلم :

٢ ـ يؤمن الإسلام بالعلم ، وبتركيز الحياة عليه في شتى مظاهرها ، قال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ـ ٣٦ الإسراء» : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ ١١١ البقرة : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ـ ٤٣ النحل. وقال الرسول الأعظم (ص) : «مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدم

٢٣

الشهداء». وقال الإمام علي (ع) : «العلم دين يدان به». ومعنى الايمان بالعلم الايمان بالتطور ، وبالعمل من أجل حياة أفضل وأكمل.

اطلاق العقل :

٣ ـ الإسلام يدعو العقل الى التأمل والتفكر والملاحظة لهذه الطبيعة باحثا ومنقبا عن أسرارها وفوائدها ومنافعها ، وعن علاقتها بالخالق وبالإنسان ، ويدعو الى تركيز الدين والعلم والفلسفة على هذه المشاهدة والمعرفة الحسية التي سار عليها المسلمون من قبل ، والتي انتقلت منهم الى الأوروبيين ، فكانت أساس العلم التجريبي عندهم : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ـ ١٨٥ الأعراف.

حرية الفكر :

٤ ـ لقد أطلق الإسلام الحرية في القول والتفكير إلى حد سمح الله فيه لعبيده الملائكة أن يراجعوه ويقولوا له : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) ـ ٣٠ البقرة. وأيضا سمح لإبراهيم (ع) أن يجادله في قوم لوط ، كما في الآية ٧٤ من سورة هود ، بل سمح لإبليس أن يحتج لديه ويقول : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ـ ١١ الأعراف.

الشمول والعموم :

٥ ـ كل تعاليم الإسلام تقوم على الشمول والعموم لا تختص بفرد ولا فئة ولا بعنصر: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) .. كلكم من آدم ، وآدم من تراب.

الجهاد :

٦ ـ فرض الإسلام الجهاد بالنفس والمال ضد الظلم والفساد على كل قادر ،

٢٤

قال تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ـ ٤١ التوبة. ويقول الإمام علي (ع) : «والله لو لا ما أخذ الله على العلماء من الميثاق ألا يقاروا على كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه عندي أهون من عفطة عنز» (١). قال الأستاذ محمد سعاد جلال في مجلة «الكاتب» المصرية عدد ٦٣ معلقا على هذا القول ما نصه بالحرف :

«ومراد الإمام انه لو لا عهد الله على العلماء أن لا يقبلوا بين الناس التفاوت الفاحش في أكل لقمة العيش بحيث يتخم بعضهم ليجوع البعض الآخر لما جاهد في الإبقاء على حقه الثابت في الخلافة التي هي أداة لتحقيق العدل المانع من التفاوت المذكور ، فما كان جهاده لأجل شهوة الحكم ، ومنفعة نفسه ، وإنما كان من أجل تنفيذ حكم العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة بين المسلمين بحيث لا يبقى فيهم مترف متخم ، ولا كادح سغب».

المال لله :

٧ ـ كل ما في الكون هو ملك لله ، والإنسان وكيل على ما في يده ، وعليه أن لا يتصرف إلا بإذن الأصيل وأمره : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) ـ ٦ طه : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) ـ ٧ الحديد. أنظر تفسير الآية ١٨٠ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢١٧.

الإسلام مع الحياة :

٨ ـ الإسلام يستهدف أن يعيش الإنسان في اتزان وتناسق كامل مع نظام الكون ومتطلبات الحياة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما

__________________

(١). ألا يقاروا أن لا يوافقوا والكظة هي الشبع لحد التخمة. والسغب شدة الجوع. وعفطة عنز بعض حشائشها أو ما تنثره من أنفها.

٢٥

يُحْيِيكُمْ) ـ ٢٤ الأنفال. أنظر ج ٣ ص ٤٦٥. وصدر كتاب جديد بقلم «ويلفريد سميث» جاء فيه «إن المسلمين قادرون بحسب دينهم على التكيف الحضاري مع متطلبات العلم الحديث ، والأسهام في خلق مجتمع يسوده التقدم الاجتماعي والعدل والكرامة».

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). لا فرق بين من كفر بالله ، ومن كفر باليوم الآخر ، لأن الكفر بإعادة الخلق بعد فنائه معناه ان الله عاجز عن ذلك ، وهذا عين الكفر بالله. قال الإمام علي (ع) : عجبت لمن شك في الله ، وهو يرى خلقه ، وعجبت لمن أنكر النشأة الآخرة ، وهو يرى النشأة الأولى.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ). في هذه الحياة حزن وفرح ، ولذة وألم ، ولا شيء منهما بدائم ، ومن هنا قيل : الدهر يومان : يوم لك ويوم عليك. ولكن بعض الناس إذا تألموا من شيء انهارت أعصابهم ، وظنوا انهم في مشكلة لا تحل ، فيدعون بالشر على أنفسهم ، كما يدعون لها بالخير .. وهذا ضرب من الجهل والحمق ، ولو صبروا قليلا لذهبت آلامهم مع الأيام (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) في دعائه بالشر على نفسه من غير صبر وترو .. وتجدر الاشارة إلى أن المراد بالإنسان بعض أفراده. وفي نهج البلاغة : «لا تستعجلوا ما هو كائن مرصد ، ولا تستبطئوا ما يجيء به الغد ، فكم من مستعجل بما أدركه ودّ أنه لم يدركه».

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) دالتين على وجود الله ، لأن تناسقهما وتعاقبهما وفقا لقوانين ثابتة ، ونظام دائم ، من ألوف السنين لا يختلف سنة عن سنة ، كل ذلك وما اليه دليل قاطع على وجود مدبر حكيم ، ومهندس عليم.

وتجدر الاشارة الى أن الله سبحانه يدعو العلماء وأهل الفكر الى الايمان به عن طريق التدبر والتفكر في خلق السموات والأرض ، وما فيهما من نظام ودقة واحكام ، كتعاقب الليل والنهار وغيره من المظاهر الكونية ، أما البسطاء السذج فيدعوهم إلى الايمان عن طريق التذكير بنعمته وإفضاله عليهم ، كقوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) ـ قريش. نقول هذا مع علمنا بأنه لا مانع من الجمع.

٢٦

(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ). اضافة الآية الى الليل بيانية ، مثل نفس الشيء ، والمسجد الجامع أي الآية التي هي الليل ، والمسجد الذي هو الجامع.

وتسأل : الظاهر من كلمة المحو هو الذهاب والازالة من الأساس ، مع العلم بأن الليل موجود بالحس والعيان؟.

الجواب : المراد بالمحو هنا عدم الأثر من حيث العمل ، لأن الناس تسكن فيه ولا تعمل على عكس النهار. قال تعالى : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) ـ ٩٦ الأنعام. وقال : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ـ ١١ النبأ.

(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) نيرة تكشف كل شيء للأبصار (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) .. الليل للسكون والراحة ، والنهار للعمل وطلب الرزق بكد اليمين وعرق الجبين ، لا بالغش والاحتيال ، ولا بالخيانة والعمالة لتبتغوا فضلا من ربكم ، لا من السفارات ومكاتب الاستخبارات .. وفضل الله مبذول لكل طالب وراغب ، وهو خير وأبقى ، واطهر وأزكى .. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك.

(وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ). تكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٣٦ من التوبة ، فقرة الأشهر القمرية هي الأشهر الطبيعية ج ٤ ص ٣٩ (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً). فأبان لنا سبحانه الحلال والحرام ، وأقام علينا الحجة بالدلائل والمواعظ ، والسعيد من نزع عن شهوته ، وقمع هوى نفسه.

طائرة في عنقه الآية ١٣ ـ ١٥ :

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))

٢٧

اللغة :

المراد بالطائر هنا عمل الإنسان من الخير والشر ، وكان العرب يتيمنّون بالطير السانح ، وهو الذي يأتي من جهة اليمين لأن الرامي يتمكن من رميه ، ويتشاءمون بالطير البارح ، وهو الذي يأتي من جهة اليسار ، لأن الرامي لا يتمكن من رميه ، فاستعير الطائر لعمل الخير والشر. وفي عنقه كناية عن انه لازم له لزوم القلادة لجيد الفتاة. والكتاب صحيفة العمل. والوزر الإثم والذنب.

الإعراب :

وكل انسان مفعول لفعل محذوف أي الزمنا كل انسان ألزمناه. وبنفسك الباء زائدة اعرابا ، ونفسك فاعل كفى. واليوم ظرف منصوب بكفى. وحسيبا تمييز.

المعنى :

هذه الآيات الثلاث تختلف في اللفظ ، وتتشابه في المعنى ، فقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) كناية عن انه وحده المسئول عن عمله. وقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) معناه ان الإنسان غدا لا يملك إخفاء شيء من عمله : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) ـ ٣٠ آل عمران. انظر ج ٣ ص ٤٤.

(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً). فلا يحتاج الإنسان غدا إلى شاهد أو حسيب ، لأنه هو يشهد ويحاسب نفسه بنفسه ، قال الطبرسي : «وانما جعله محاسبا لنفسه لأنه إذا رأى أعماله يوم القيامة كلها مكتوبة ، ورأى جزاءها مكتوبا أيضا بالعدل لم ينقص من ثوابه شيء ، ولم يزد على عقابه شيء أذعن عند ذلك وخضع واعترف ، ولم تتهيأ له حجة ولا انكار ، وظهر لأهل المحشر انه لا ظلم ، قال الحسن : يا ابن آدم لقد أنصفك من جعلك حسيب نفسك».

٢٨

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها). تقدم نظيره في سورة الأنعام الآية ١٠٤ ج ٣ ص ٢٣٨ ، وفي سورة هود الآية ١٠٨ ج ٤ ص ١٩٩ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). تقدم في سورة الأنعام الآية ١٦٥ ج ٣ ص ٢٩٣ (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). أنظر فقرة «قبح العقاب بلا بيان» في ج ١ ص ٢٤٧.

أمرنا مترفيها ففسقوا فيها الآية ١٦ ـ ٢١ :

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

اللغة :

المترفون الذين يتنعمون كما يشاءون. وأمرناهم أي بالطاعة. وفسقوا عصوا وتمردوا. وفحق عليهم أي وجب لهم العذاب. والتدمير الإهلاك. والقرون جمع

٢٩

قرن ، ويعبر به عن أهل عصر انقضى أكثرهم. والعاجلة دار الدنيا. ويصلاها يقاسي حرها. ومدحورا مطرودا. ومحظورا ممنوعا.

الإعراب :

كم هنا خبرية ، ومحلها النصب بأهلكنا. ومن القرون تبيين لابهام (كم) وتمييز لها. وبربك الباء زائدة إعرابا وربك فاعل ، وخبيرا بصيرا تمييز ، وبذنوب عباده متعلق بخبير أو ببصير. ولمن نريد بدل من الضمير في (له) مع إعادة حرف الجر. وجملة يصلاها حال من الضمير في (له) وليس من جهنم كما قال أبو البقاء في كتاب «الاملاء». ومذموما حال من الضمير المستتر في يصلاها. وكلا نمد (كلا) مفعول مقدم لنمد. وهؤلاء بدل من (كلا) ، والمعنى نمد كل واحد من هؤلاء وهؤلاء. وكيف مفعول لفضلنا ، وليس لأنظر ، لأن الاستفهام لا يعمل ما قبله فيه.

المترفون :

حين بلغت بالتفسير إلى قوله تعالى : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) الخ.» تذكرت سؤالا وجّهه إليّ أحد خطباء العراق قائلا : لما ذا تصب جام غضبك على المترفين في كتاباتك ومؤلفاتك؟. فقلت له : ولما ذا أنت تدافع عنهم؟. ألأنك منهم ، أو لأنهم أولياء نعمتك؟. فتراجع عن سؤاله واعتذر .. وهذا ما دعاني أن أعرض تفسير الآية على النحو التالي :

١ ـ وردت كلمة المترفين ومشتقاتها في القرآن بثماني آيات ـ كما في المرشد ـ وجاءت في نهج البلاغة في العديد من الموارد .. هذا عدا عن كلمة الغنى ، وما يتفرع منها ، وما ذكرت كلمة الترف في كلام الله وأوليائه إلا مقرونة بالذم.

٢ ـ قال أهل اللغة : ترف الرجل تنعم ، وأترفه المال أبطره وأفسده ، واستترف بغى وتغطرف. هذا هو تعريف المترفين في اللغة ، أما صفاتهم كما

٣٠

جاءت في كتاب الله وغيره فغفلة عن الله ، وبغي على عباد الله ، واستكبار على أمر الله ، وحرب لأولياء الله .. حديثهم التكاثر والتفاخر ، وطبعهم الجفاء والتهاتر .. إلى كثير من ألقاب الذم .. إلا من رحم الله ، ورحم نفسه.

٣ ـ (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً). المأمور به محذوف أي أمرنا مترفيها بالعدل والطاعة ، وذكر أهل التفاسير أربعة أقوال في معنى هذه الآية ، أرجحها ان الله سبحانه أطلق كلمة المترفين على جميع أهل القرية ، من باب استعمال الجزء في الكل ، ومثل هذا الاستعمال كثير في كلام العرب إذا كان الجزء عضوا رئيسيا في الكل ، كالعين بالنسبة إلى جسم الإنسان ، فقد استعملوها في طليعة الجيش ، لأن للعين مزية على سائر أعضاء الجسم ، ولما كان المترفون أقدر وأسرع إلى الفسق ، وأجرأ على المعصية من غيرهم ، وهم في الوقت نفسه متبوعون تقلدهم العامة فيما يفعلون ، لما كان كذلك ـ صح اطلاق كلمة المترفين على جميع أهل القرية كما صح اطلاق كلمة العين على الإنسان.

وعلى هذا يكون معنى الآية ان الله لا يهلك أهل قرية إلا إذا استحقوا الهلاك والدمار ، وهم يستحقون ذلك بعد ان تقوم عليهم الحجة بإرسال الرسل ، يأمرونهم بالخير ، وينهونهم عن الشر ، ويحذرونهم من المخالفة والعصيان ، فإذا فسقوا وخرجوا عن الطاعة حقت عليهم كلمة العذاب ، وأنزل الله بهم الهلاك والدمار.

ومع العلم بأن هذا المعنى يحتمه اللفظ ، ولا يأباه العقل فإننا نذهب في تفسير الآية مذهبا آخر ، وهو ان أي مجتمع يوجد فيه مترفون بالمعنى الذي ذكرناه فهو مجتمع يعيش في ظل نظام فاسد جائر ، لأن وجود المترفين فيه تماما كوجود السرطان في الجسم ، والمسئول الأول عن وجود الفاسدين في المجتمع هو المجتمع بالذات ، حيث لم يقف منهم موقف المقاوم ، أو المستخف بشأنهم ـ على الأقل ـ بل أضفى عليهم ألقاب الشرف والسيادة ، وأحاطهم بالتكريم والتعظيم ، ومنحهم ثقته أيام الانتخاب ، واختارهم لمنصب الحكم والقيادة ، وبهذا يكون المجتمع الذي عبر عنه سبحانه بالقرية ـ شريكا للمترفين الفاسقين في جميع جرائمهم وآثامهم ، ومستحقا للهلاك والدمار تماما كالمترفين .. فقد جاء في الحديث الشريف : «الراضي

٣١

بالظلم كفاعله .. الساكت عن الحق شيطان أخرس» فكيف إذا كان مناصرا للباطل؟ وقال السيد الافغاني : «أيها الفلاح الذي تشق الأرض بمحراثك ، لما ذا لا تشق به قلب من يستعبدك؟». انظر ما قلناه عند تفسير الآية ١١ من سورة الرعد : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

وتجدر الاشارة إلى ان الهلاك على أنواع ، فيكون بالطوفان أو الخسف والزلازل والصواعق ، وأيضا يكون بالاذلال وتسليط الأشرار ، وهذا أوجع وأفظع. وقد عاقب الله به أمة محمد (ص) لما تركوا الجهاد ، وتغاضوا عن أهل الشر والفساد ، ورضوا لأنفسهم المذلة والهوان ، قال الإمام علي (ع) : «ان في سلطان الإسلام عصمة لأمركم ، فأعطوه طاعتكم .. والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام ، ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز ـ يرجع ـ الأمر الى غيركم». أي إذا اطعنا الإسلام عشنا في حصن حصين من المناعة والكرامة ، والا انتقل عنا الحكم والسلطان الى أعدائنا ، ثم لا يرجع إلينا أبدا .. وما قرأت هذا الانذار إلا اعترتني رعدة هزتني من الأعماق.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ). هذا تهديد ووعيد للذين كذبوا محمدا (ص) بأن الله سبحانه قادر أن يجعل مصيرهم كمصير الذين كذبوا أنبياءهم في القرون الخالية كعاد وثمود : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) ـ ٩٨ الأعراف. قال الإمام علي (ع) : «ان رضا الله فيما بقي واحد ، وسخطه فيما بقي واحد ، واعلموا انه لن يرضى عنكم بشيء سخطه على من كان قبلكم ، ولن يسخط عليكم بشيء رضيه ممن كان قبلكم» ... (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) بإساءة من أساء فيعاقبه بما يستحق. قال رسول الله (ص) لأبي ذر : «ان المؤمن يرى ذنبه تحت صخرة يخاف ان تقع عليه ، وان الكافر يرى ذنبه كأنه ذبابة تمر على أنفه».

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ). ليس المراد ان كل ما يطلبه الإنسان يحققه له الله .. كلا ، فإننا نريد أشياء وأشياء ، ولا نرى منها شيئا ، بل في كثير من الأحيان لا نرى بعض ما نريد ، وإنما المقصود من الآية ان من يعمل للدنيا فقط غير مؤمن بشيء إلا بمنفعته فإنه يستثمر نتيجة عمله

٣٢

وجهده .. هذا مع مشيئة الله وارادته ، وإلا فإن العبد لا يصل إلى شيء إذا أبى الله ذلك حتى ولو عمل ليله ونهاره .. إن الله لا يعطي ما أردنا إلا إذا أراد ، وهذا معنى قوله تعالى : (ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) .. (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) لأنه لا يؤمن إلا بمصلحته ، ولا يهتم إلا بنفسه ، ولا يعمل إلا لها.

(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً). وسعى لها سعيها أي أراد الخير وفعله وآمن به لا لشيء إلا لوجه الله والخير ، وهذا هو الذي يستحق الدرجات العلى عند الله وعند الناس ، أما من يعمل للربح والتجارة فإن له نار جهنم يصلاها مذموما مدحورا. قال الرسول الكريم (ص) : «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر اليه». ونخلص من هذا ان للإسلام منهجا يوجه الإنسان إلى فعل الخير وهجر الشر لذاتيهما ، فيلتزم الصدق ـ مثلا ـ لأنه يجب أن يلتزم ، ويلتزم اجتناب الكذب لأنه يجب أن يجتنب ، وهكذا سائر الفضائل والرذائل ، وقد عبّر الرسول الأعظم (ص) عن هذا المنهج بأبلغ تعبير ، حيث قال : «انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ومن الواضح ان الخلق لا يكون كريما إلا إذا كان خالصا من كل شائبة.

(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) اشارة إلى كل من الفريقين ممن يعمل لنفسه وحدها ، وممن يعمل لوجه الله والخير (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً). وعطاء الله للإنسان يبتدئ بخلقه وإيجاده الذي لا يعطى إلا منه ، ثم بأسباب بقائه ونموه ، وهذا العطاء يعم الصالح والطالح ، أما عطاؤه في الآخرة فيختص بالصالحين المتقين.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ). إن الله سبحانه لا يقسم الناس إلى طبقات ، ولا يعطي امتيازا في الحقوق الانسانية لفرد ، دون فرد ، أو فريق دون فريق ، كيف وهو القائل : إن أكرمكم عند الله أتقاكم؟. وعلى هذا يكون التفضيل بين الناس في الدنيا في غير الحقوق الانسانية ، كالصحة ، والعمر ، والرزق عن طريق العمل أو الإرث أو غيره ، من الأسباب التي أحلها الله سبحانه ، أما

٣٣

الثروات التي تأتي بالغش والاحتيال والسلب والنهب فهي من الشيطان ، ولا يجوز نسبتها اليه تعالى بحال.

(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً). بعد أن ذكر سبحانه ان الناس يتفاوتون في الدنيا قال : انهم كذلك في الآخرة أيضا .. ولكن الفرق كبير وعظيم بين تفاوتهم هنا ، وتفاوتهم هناك ، فالصفات التي يفترقون بها في الدنيا هي الغنى والفقر ، والعلم والجهل ، والصحة والمرض ، والعمر الطويل والعمر القصير ، ثم ينتهون جميعا إلى الموت الذي يساوي بين الجميع ، حتى بين الأشرار والأخيار ، أما الصفات التي يفترقون بها في الآخرة فهي الحريق بنار السموم ، والخلود في النعمة والمسرة ، وأين تلك من هذه؟.

فلا تقل لهما اف الآة ٢٢ ـ ٢٥ :

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))

اللغة :

مخذولا أي غير منصور. وقضى أمر وأوجب. وأف كلمة تدل على التضجر.

٣٤

وخفض الجناح كناية عن التواضع والتذلل. والأوّاب الراجع الى الله في شئونه وأموره.

الإعراب :

فتقعد منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لأنه جواب للنهي. وقضى ربك أن لا تعبدوا. أي بأن لا تعبدوا وبالوالدين عطف عليه ، أو متعلق بمحذوف أي وبأن تحسنوا للوالدين إحسانا. وإما مركبة من كلمتين : ان الشرطية ، وما الزائدة. وأف اسم فعل لا محل له من الإعراب ، والمعنى لا تقل لهما : كفّا. وكما ربياني الكاف بمعنى مثل قائمة مقام المفعول المطلق اي ارحمهما رحمة مثل رحمة تربيتهما. وصغيرا حال.

المعنى :

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً). الخطاب هنا للإنسان ، كل انسان ، وليس للنبي (ص) بدليل قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) ، ومعلوم ان النبي (ص) عاش يتيم الأبوين.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر بالإخلاص في العبادة اليه وحده ، وليس المراد بالعبادة مجرد الصوم والصلاة ، فكل من أطاع إنسانا في معصية الله فقد عبده ، قال رسول الله (ص) : من أصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله ، وان كان الناطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان.

البر بالوالدين :

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً). قرن الله سبحانه شكر الوالدين بشكره ، وأوجب

٣٥

البر بهما والإحسان اليهما. وجاء في الحديث : «ان رجلا جاء الى النبي (ص) يستأذنه بالجهاد معه ، فقال له : أحيان والداك؟. قال : نعم. قال : ففيهما جاهد».

وقوله تعالى : كما ربياني صغيرا يشير الى انهما عند صغره آثراه على أنفسهما ، فسهرا الليالي كي ينام ، وجاعا كي يشبع ، وتعريا كي يكتسي ، وهذا دين في عنقه ، عليه أن يفي به حين يقوى ويضعفان ، وان يعاملهما عند كبرهما تماما كما عاملاه عند صغره ، ولهما فضل السبق والتقدم.

قال الإمام زين العابدين (ع) يدعو لوالديه : «يا إلهي أين طول شغلهما بتربيتي؟

وأين شدة تعبهما في حراستي؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ؟ هيهات ما يستوفيان مني حقهما ، ولا أدرك ما يجب علي لهما ، ولا أنا بقاض وظيفة خدمتهما».

يضحي كل من الأب والأم بالنفس والنفيس في سبيل الولد ، ثم لا يبتغي منه جزاء ولا شكورا ، وكل ما يتمناه أن يكون ولده شيئا مذكورا .. وقد ابتلاني الله بأن أكون أبا ، ولكن أبوي لم يبتليا بي ، لأني عشت يتيم الأب والأم ، وأقول : ابتلاني لأني لا أرى السعادة في شيء من أشياء هذه الحياة إلا في هناء ابني وابنتي .. فابتسامة واحدة من أحدهما تعادل عندي الدنيا بما فيها ، وما تألم أحدهما إلا أحسست بأن يدا تنتزع نفسي من بين جنبي.

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً). ان الله سبحانه يعلم النوايا تماما كما يعلم الأقوال والأفعال ، ويجازي كلا حسب نيته ، ومن أساء ثم تاب وأناب فان الله غفور رحيم ، وهذا تحذير من الله سبحانه لمن عق والديه ، وكان وجودهما ثقيلا عليه ، كما انه تحذير على ترك الإخلاص في جميع الأقوال والأفعال.

الوصايا العشر الآية ٢٦ ـ ٣٩ :

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ

٣٦

الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

٣٧

اللغة :

التبذير وضع المال في غير موضعه قليلا كان أو كثيرا. والمراد باخوان الشياطين من سلك طريقهم. والميسور السهل اللين. والمغلولة المقيدة والمراد بها هنا الإمساك عن الإنفاق ، وضدها البسط فيه. والمحسور المنقطع الذي لا شيء عنده. والخطء كالاثم لفظا ومعنى. والفاحشة الفعلة القبيحة. والإسراف تجاوز الحد. والمراد بالسلطان هنا التسلط. والقسطاس المستقيم العدل. ولا تقف لا تتبع. والمرح بفتح الراء الكبر. والمدحور المبعد من رحمة الله.

الإعراب :

اما تعرضن (اما) كلمتان ان الشرطية وما الزائدة إعرابا. وابتغاء مفعول من أجله. وجملة ترجوها صفة لرحمة أو حال من فاعل تعرضن. وكل البسط مفعول مطلق لأن كل مضافة اليه. وملوما محسورا حال ، وخشية إملاق مفعول لأجله. وساء سبيلا فاعل ساء ضمير مستتر أي ساء سبيل الفاحشة ، وسبيلا تمييز ، ومثله تأويلا. وكل مبتدأ ، والخبر كان عنه مسؤولا ، وأولئك في محل جر باضافة كل ، ويشار بها إلى العقلاء وغيرهم. ومرحا مصدر في موضع الحال أي لا تمش في الأرض متكبرا ، مثل جاء زيد ركضا أي راكضا ، ومثله طولا. وملوما مدحورا حال.

المعنى :

١ ـ (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً). نقل الطبرسي في مجمع البيان عن السدي ، وهو من كبار المفسرين ان المراد بذي القربى قرابة الرسول (ص) ، ونقل أبو حيان الأندلسي عن الإمام علي بن الحسين (ع) انه قال : هم قرابة رسول الله (ص) أمر الله بإعطائهم حقوقهم من بيت المال. وقال أبو بكر المعافري المالكي في أحكام القرآن : «ويدخل في

٣٨

ذي القربى قرابة الرسول دخولا متقدما وبطريق أولى من جهة ان الآية للقرابة الأدنين بالرجل ، فأما قرابة رسول الله فقد أبان الله على الاختصاص حقهم ، وأخبر ان محبتهم هي أجرة النبي على هداه لنا».

وقيل : المراد بذي القربى القريب الذي له حق النفقة والميراث. والمسكين المحتاج ، وابن السبيل المنقطع في السفر ، ولا يملك نفقة العودة إلى بلاده ، ولهذين الحق في الزكاة لقوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ـ ٦٠ التوبة.

(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً). عبّر سبحانه عن المبذرين باخوان الشياطين لأن التبذير مكروه عند الله ، وكل ما هو مكروه عند الله فهو محبوب عند الشيطان .. ولا يختلف اثنان في ان التبذير هو انفاق المال في غير وجهه ، ووضعه في غير موضعه قليلا كان أو كثيرا ، وبتعبير أهل المنطق ان التبذير من مقولة الكيف ، لا من مقولة الكم.

وتسأل : ان قولك : في غير وجهه ، وغير موضعه ، أشبه بالكلام المبهم الذي يحتاج إلى التحديد والتوضيح ، فما هو وجهه وموضعه؟.

الجواب : ان كل من أنفق شيئا من ماله فيما يعود عليه بالضرر ، أو لا يعود عليه بأية منفعة فهو مسرف وسفيه عرفا وشرعا ـ وعلى الهامش الا المال الذي يبذل ثمنا للتدخين ـ وأشرنا إلى السفيه والتحجير عليه في التصرفات المالية عند تفسير الآية ٥ من سورة النساء ج ٢ ص ٢٥٣ و ٢٥٦.

أين العدول؟ :

سؤال ثان : رجل أنفق من ماله على شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، وما إلى ذلك من المحرمات التي تعود عليه بالنفع العاجل والضرر الآجل ، فإن. كثيرا من الناس لا يرون هذا مبذرا وسفيها ، فهل توجب الشريعة الاسلامية التحجير عليه في التصرفات المالية لأنه سفيه مسرف؟.

الجواب : ان للإنسان العاقل أن يتصرف في أمواله دون معارض ، مؤمنا كان

٣٩

أو كافرا ، فاسقا أو عادلا ، قال تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) ـ ٥ النساء ، ولم يقل : فإن آنستم منهم دينا أو عدلا ، وتواتر عن الرسول الأعظم (ص) انه قال : «الناس مسلطون على أموالهم» ولم يقل : المؤمنون أو العادلون ، فالشرط الوحيد لصحة هذا التصرف هو الرشد في المال ، لا في الدين ، ولو كانت العدالة والرشد شرطا لصحة تصرف الإنسان في ماله لاختل النظام ، وتعطلت الحياة : لأن أهل الأرض كما نعلم وتعلمون ، فمن أين نأتي بأهل الدين والعدالة.

وعلى رأينا هذا الحنفية والمالكية والحنابلة ، أما الشافعية فقد ذهبوا إلى أن الرشد هو الصلاح في الدين والمال (المغني لابن قدامة).

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً). ضمير عنهم يعود الى ذي القربى والمسكين وابن السبيل ، والقول الميسور هو القول السهل اللين ، والمعنى إذا سألك واحد من هؤلاء الثلاثة شيئا من المال ، ولم تجد ما تعطيه ، ودعوت الله ان يغنيه ويغنيك من فضله ورحمته ، إذا كان كذلك فقل له قولا سهلا لينا ، وذلك بأن تعده عدة حسنة تبعث في نفسه الأمل والرجاء .. وفي الحديث : ان لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم. ويقول الشاعر : فليسعد النطق ان لم يسعد الحال.

الإسلام ونظرية الأخلاق :

٢ ـ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً). التوازن والتعادل أساس كل شيء في الإسلام ، عقيدة وشريعة وأخلاقا .. لا الحاد ، ولا تعدد آلهة .. لا الغاء ملكية ، ولا ملكية طاغية .. لا دكتاتورية للفئات والأفراد ، ولا حكم لكل من شاء وأراد .. لا رهبانية ، ولا اندفاع مع الشهوات. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ـ ٨ الرعد. وقوله : وكل شيء يشمل الخلق والإيجاد ، ويشمل التحليل والتحريم ، وقوله : بمقدار أي بتقدير ونظام موافق للحكمة والمصلحة ، ليس فيه افراط ولا تفريط ، ولا جزاف ولا

٤٠