التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

وتسأل : ولم هذه الانتفاضة الكونية لكلمة تفوه بها من تفوه عن جهل وضعف عقل؟.

الجواب : ان هذه الانتفاضة أو الغضبة الإلهية ليست على فرد أو على جماعة معدودين ، وانما هي على هذا الشرك الذي أصبح دينا وعقيدة تدين بها مئات الملايين جيلا بعد جيل .. على هذه التماثيل للإله الطفل والإلاهة الأم .. (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) ـ ٧٥ المائدة.

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً). لأن الولد شبيه بوالده ، والله ليس كمثله شيء ، ولأن اتخاذ الولد انما يكون لحاجة الوالد اليه ، والله غني عن العالمين. (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً). ما من كائن سفلي أو علوي إلا هو عبد لله يملك منه ما لا يملكه العبد من نفسه .. وبديهة ان المملوك غير الولد ، والمالك غير الوالد (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً). ضمير أحصاهم وعدّهم يعود إلى من في السموات والأرض ، وضمير آتيه إلى الله ، والمعنى ان الله لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء ، وان كل مسؤول يأتي الى الله يوم المحشر وحيدا لا ناصر له ولا معين ولا يملك من أمر نفسه كثيرا ولا قليلا فضلا عن أمر غيره ، ومن يأتي الله كذلك فكيف يكون ولدا له.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا). ان الله سبحانه يحدث في قلوب عباده مودة لأهل الايمان والإخلاص لا لشيء إلا تقديرا للفضيلة والخلق الكريم. قال محمد بن أحمد الكلبي صاحب (التسهيل) : قيل : ان هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب. وقال الشيخ المراغي ، وهو أحد شيوخ الأزهر : «اخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء ان رسول الله (ص) قال لعلي : قل اللهم اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي في صدور المؤمنين ودا ، فنزلت الآية».

النصارى وبنو هاشم :

وقال أبو حيان الأندلسي في تفسيره البحر المحيط : «ذكر النقاش ان هذه

٢٠١

الآية نزلت في علي بن أبي طالب ، وقال محمد بن الحنفية : لا تجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا .. ومن غريب هذا ـ الكلام لأبي حيان ـ ما أنشدنا الإمام اللغوي رضا الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الانصاري الشاطبي لزبينا ابن اسحق النصراني الرسغي :

عديّ وتيم لا أحاول ذكرهم

بسوء ولكني محب لهاشم

وما تعتريني في علي ورهطه

إذا ذكروا في الله لومة لائم

يقولون ما بال النصارى تحبهم

وأهل النهى من أعرب وأعاجم

فقلت لهم اني لأحسب حبهم

سرى في قلوب الخلق حتى البهائم

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا). المراد باللد الذين يتشددون في الخصومة والجدل ، والمعنى ان الله أنزل القرآن بلغة العرب ليسهل عليهم معرفته وفهم معانيه ، ويكون بشيرا لمن آمن واتقى ، ونذيرا لمن كفر وبغى. ومر نظيره في سورة يوسف الآية ٢ ج ٤ ص ٢٨٦.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً). أي هل تسمع لهم صوتا ، والقصد ان الله قد أبادهم عن آخرهم ، وتقدم مثله في الآية ٧٤ من هذه السورة ، والآية ١٧ من سورة الإسراء.

٢٠٢

سورة طه

مكية عدد آياتها ١٣٥.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه الآة ١ ـ ٨ :

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

اللغة :

لتشقى لتتعب. والعلى جمع العليا والمذكر الأعلى ، ومثله الدنا جمع الدنيا. والثرى التراب الندي والمراد به هنا الأرض. والمراد بالأخفى هنا حديث النفس.

٢٠٣

الإعراب :

الا تذكرة استثناء منقطع أي لكن أنزلناه تذكرة. تنزيلا منصوب على المصدرية أي نزلناه تنزيلا. له ما في السموات مبتدأ وخبر وما بعده عطف عليه.

المعنى :

(طه). اختلفوا في المراد بطه ، فقيل : هو اسم من أسماء الله. وقيل : هو في معنى رجل ، واختاره الطبري ، حيث قال : هذا هو الأولى بالصواب لأن معنى يا طه في لغة عكّ يا رجل .. وذهب أكثر المفسرين الى ان كلمة طه في الآية حروف تهجّى مثل ألم وكهيعص ، وفي تفسير الرازي ان الامام جعفر الصادق (ع) قال : «الطاء طهارة أهل بيت رسول الله (ص) والهاء هدايتهم». وغير بعيد أن يكون هذا التفسير المنسوب الى الإمام الصادق هو السبب لقول القائلين : ان طه من أسماء النبي (ص) لأنه هو المصدر الأول لطهارة أهل بيته وهدايتهم.

(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى). كان النبي (ص) يجهد نفسه ويتعبها بالعبادة ، وأيضا كان يجهدها ويتعبها تأسفا وحسرات على كفر الكافرين وعدم هدايتهم : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ـ ٨ فاطر. فعاتبه الله على هذا الإجهاد ، وقال له : لم تشقّ على نفسك وتحمّلها ما لا تطيق من كثرة العبادة ومن التوجع لإعراض من أعرض عن دعوتك؟ فما لهذا اصطفيتك وأنزلت عليك القرآن ، اني أنزلته عليك لتهتدي به انت ومن اتبعك من المؤمنين ، وتذكر به الكافرين ويكون حجة لله عليهم ، فهو نعمة ورحمة على من آمن ، ونقمة على من أعرض وتمرد.

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى). الذي نزل القرآن هو الذي خلق الكون ، والكون كتاب الله الناطق بلسان الحال ، والقرآن كتابه الناطق بلسان المقال ، وكل منهما لخير الناس وسعادتهم فعلى م تتخذ يا محمد من نزول القرآن عليك وسيلة لتعبك واجهادك؟.

٢٠٤

وتسأل : ان القرآن نزل على رسول الله (ص) ليعمل به ويرشد اليه ، وقد جاء فيه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ـ ٧٨ الحج. وأيضا قال تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ـ ٤٠ الرعد. فكيف أتعب النبي نفسه بالعبادة وبالحسرات؟

الجواب : ان العظيم يستصغر الخير من فعله وان عظم ، ويستعظم الحقير من ذنبه وان صغر ، ويتهم نفسه بالتقصير مهما اجتهد .. والنبي (ص) أعظم خلق الله على الإطلاق ، ويستمد عظمته من علمه بالله وطاعته له وجهاده للدعوة الى سبيله ، ومن أجل هذا يتهم نفسه ، ويراها متوانية في حق الله مهما بالغ في التعبد له والدعوة الى الحق بخاصة إذا لم تثمر دعوته التي يبتغيها من هداية عشيرته قريش.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) هذا كناية عن الاستيلاء والتدبير ، وسبق مثله في سورة الأعراف الآية ٥٤ ج ٣ ص ٣٣٩ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) هذا بيان وتفسير لقوله تعالى : خلق الأرض والسموات ، وقوله : على العرش استوى لأن الخالق والمدبر هو المالك ، ولا أحد يملك معه شيئا إلا من ملكه (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى). والأخفى هو الذي يمر بخيالك دون ان تتفوه به ، وأوضح تفسير للأخفى قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ـ ١٥٤ آل عمران (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). كل أسماء الله حسنة لأنها تعبّر عن أحسن المعاني وأكمل الصفات. أنظر فقرة «هل أسماء الله توقيفية أو قياسية» ج ٣ ص ٤٢٥.

حديث موسى الآية ٩ ـ ١٦ :

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ

٢٠٥

الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

اللغة :

آنست أبصرت. والقبس شعلة من نار على رأس عود. والوادي سفح الجبل ، ويقال لمجرى الماء. وطوى اسم لذلك الوادي. وتردى تهلك.

الإعراب :

إذ ظرف يتعلق بحديث موسى. وفي نودي ضمير مستتر يعود الى موسى ، وهو نائب فاعل. وانا تأكيد. وطوى بدل من الوادي. ولذكري متعلق بأقم. ولتجزى متعلق بآتية. وفتردى في محل نصب بجواب النهي.

تكرار قصة موسى :

ذكر الله موسى في كتابه مرات ومرات ، والسر ـ كما لا حظنا ونحن نفسر آي الذكر الحكيم ـ ان الله سبحانه ذكر الكثير من مساوئ قومه بني إسرائيل ، وقد كان موسى ينهاهم عنها ، ويحذرهم منها ، فاقتضى ذكره عند ذكرهم .. هذا بالاضافة الى قصته مع شعيب وفرعون ، وصحبته العبد الصالح الذي خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، والى وضعه ، وهو طفل ، في التابوت وقذفه في اليم ، وإلى قتله الفرعوني ، وخروجه خائفا يترقب ـ إلى غير ذلك ، قال بعض

٢٠٦

المفسرين : «كرر الله قصة موسى مع فرعون لأن حكاية موسى منذ انعقاد نطفته الى آخر حياته كلها عبر ونصح وإنذار وتبشير وتسلية للنبي والمؤمنين وفيها آيات دالة على علم الله وقدرته وحكمته وعلى تحمل موسى من قومه الذين هم أشد حمقا من جميع الأمم». هذه هي دنيا موسى : وضع في التابوت وقذف به في البحر ساعة ولادته ، ثم نشأ يتيما في بيت فرعون ، ثم مشردا بائسا يأكل من نبات الأرض ، ثم راعيا للغنم ، ثم نبيا يقاسي من قومه أشد الخطوب والآلام .. فلا بدع إذا تكرر ذكره وحديثه في كتاب الله ما دامت حياته كلها وقصته قصة العظات والعبر .. والآيات التي نحن بصددها تتحدث عن ابتداء نزول الوحي على موسى وتكليم الله إياه.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى)؟. هذا مثل قولهم : هل بلغك كذا وكيت؟ والقصد ان يتنبه السامع ويصغي الى الحديث. وهذا هو حديث أول الوحي الى موسى : (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً). في الآية ١٤ وما بعدها من القصص ذكر سبحانه ان موسى لما بلغ أشده رأى رجلين يقتتلان : أحدهما فرعوني ، والآخر عبري ، وان هذا استغاث بموسى ، فوكز موسى الفرعوني ، فقضى عليه ، وهرب موسى من مصر الى مدين ، فزوجه شعيب احدى بنتيه على ان يرعى ماشيته ثماني سنوات او عشرا : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ـ ٣٠ القصص.

خرج موسى من مدين قاصدا مصر ، ومعه زوجته ، وفي الطريق احتاج الى النار .. قال الرواة : ان موسى ضل الطريق في ليلة شاتية باردة مظلمة ، وان الطلق فاجأ زوجته في هذه الحال ، وان زنده لم ينقدح .. وبينا هو حائر في أمره لا يدري ما ذا يصنع؟ ضياع وبرد وظلمة ومخاض امرأة وعدم انقداح الزند ، بينا هو كذلك إذ رأى نارا من بعد ، فاستبشر وقال لأهله : ربما يأتي الفرج من قلب الضيق .. الزموا مكانكم ، فاني ذاهب الى مكان النار لعلّي آتيكم بجذوة تصطلون بها او أجد عندها من يخبرني بما يفرج عني.

٢٠٧

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ). دنا موسى (ع) مما ظنه نارا ، فإذا هو نور عظيم أبهى من نور الشمس ، وإذا بصوت رهيب يقول : (أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) تأدبا وتواضعا (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) في المكان المطهر المبارك ، حيث تجلى فيه النور الإلهي ، وارتفع في سمائه صوت الجلال والكمال .. رأى موسى نورا ، سمع صوتا ، ولا شيء سواهما .. قال الامام علي (ع) : ان الله سبحانه لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس .. الذي كلم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما بلا جوارح ولا أدوات.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى). والله سبحانه لا يختار لوحيه إلا صفوة الأمناء عليه ، وتقدم نظيره في الآية ١٤٣ من سورة الاعراف ج ٣ ص ٣٩٢. ثم بيّن سبحانه ان الدين الذي أوحى به الى موسى يقوم على أسس ثلاثة : الأول الوحدانية (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا). الأصل الثاني الإخلاص لله في العبادة (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي). الأصل الثالث البعث (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى). المراد بأكاد أخفيها انا أخفيها ، والمعنى ان الله سبحانه أخفى علم الساعة عن عباده ليترقبوا مجيئها في كل وقت ، فيخافوا منها ويعملوا لها ، ثم يستوفوا جزاء عملهم ، ولا يظلموا شيئا.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى). ضمير عنها يعود إلى الساعة لأنها أقرب من الصلاة ، ويجوز أن يعود عليهما معا ، والمعنى عليك يا موسى أن تؤمن بالبعث والحساب والجزاء ، وتعمل له ، ولا تتبع أهواء الجاحدين فتهلك كما يهلكون ، وقلنا فيما تقدم : ان للأعلى أن ينهى من هو دونه عما يشاء حتى لو كان المخاطب بالنهي معصوما .. هذا ، إلى ان النهي عن الشيء لا يدل على إمكان فعله ممن نهي عنه.

وما تلك بيمينك يا موسى الآية ١٧ ـ ٣٥ :

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ

٢٠٨

بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

اللغة :

اتوكأ اعتمد. أهش بها على غنمي أي أضرب بها الشجر فيتساقط ورقه فتأكله الغنم. والمآرب الحوائج. وسيرتها حالها أو طريقتها. وجناحك جيبك ، وهو استعارة من جناح الطير. من غير سوء من غير عاهة. ويفقهوا يفهموا. وبصيرا عالما.

الإعراب :

ما تلك مبتدأ وخبر ، وبيمينك متعلق بمحذوف حالا من تلك. وسيرتها بدل اشتمال من هاء سنعيدها ، أو منصوبة بنزع الخافض أي الى سيرتها. وبيضاء حال من ضمير تخرج. ومن غير سوء متعلق بمحذوف صفة لبيضاء. وآية بدل من

٢٠٩

بيضاء. ويفقهوا مجزوم بجواب الأمر. وأخي بدل من هرون. وكثيرا صفة لمفعول مطلق محذوف أي نسبحك تسبيحا كثيرا ، ونذكرك ذكرا كثيرا.

المعنى :

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى)؟ الله يسأل موسى ان يخبره عما في يده ، وهو أعلم به من موسى .. اذن هناك سر .. أجل ، وهو سر عظيم يكمن في هذه العصا ، وقد أراد سبحانه أن يظهره لموسى ، وهو تحوّل العصا الى حية .. وإذا كانت نطفة الإنسان تحمل خصائصه ، والبيضة تحمل خصائص الدجاجة ، والبذر خصائص النبات فان هذه الخشبة اليابسة لا تحمل شيئا من خصائص الحية ، ومع ذلك تحولت اليها .. وهذا هو سر الاعجاز ، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ـ ٩٥ الانعام.

وقال الرازي : من أراد أن يخرج الشيء العظيم من الشيء الحقير يعرضه أولا على الحاضرين ، ويقول لهم : ما هذا؟ فيقولون : هو كذا. وعندها يخرج منه الشيء العظيم .. وهكذا فعل سبحانه مع موسى ، سأله عن العصا ولما أقر بأنها خشبة يابسة قلبها الله ثعبانا ، ثم ضرب بها البحر حتى انفلق ، والحجر فانفجرت منه العيون.

والغريب ان الشيخ المراغي نقل عبارة الرازي هذه دون ان يشير الى مصدرها كعادته في تفسيره من أوله الى هذه الآية ، واحسب ان اللاحق لا يختلف عن السابق ، ومثله تماما نظام الدين النيسابوري في تفسيره غرائب القرآن ورغائب الفرقان.

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى). قرأنا علم المعاني والبيان في كتاب المطول للتفتازاني ، ولما وصلنا إلى باب الإيجاز والإطناب والمساواة ذكر صاحب المطول للاطناب فوائد ، منها الإيضاح ، ومنها التأكيد بالتكرار ، ومنها لذة العلم ، ثم ضرب الأستاذ مثلا للكلام مع الحبيب برواية عن بعض الثقات ، وتتلخص بأن هذا الراوي رأى في منامه محمدا (ص) وموسى بن

٢١٠

عمران (ع) ، وسمع موسى يعاتب محمدا ، ويقول له : لقد قلت فيما قلت : ان علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل .. أهذه منزلتنا عندك يا أبا القاسم ، تماما كعلماء أمتك؟ وأراد محمد أن يثبت له ذلك بالعيان ، فقال لموسى : الآن أجمعك بعالم من علماء أمتي لتختبره وترى صحة ما قلت. قال موسى : أجل. فجمعه رسول الله (ص) بعالم يعرف بالمقدس الاردبيلي ، فقال له موسى : ما اسمك؟ قال : أنا أحمد وأبي اسمه محمد ، وبلدي أردبيل ، ودرست في النجف ، واستاذي الشهيد الثاني. فقال له موسى : ولم هذا التطويل والاطناب؟ فقد سألتك عن اسمك ، فأجبت عنه وعن اسم أبيك واسم أستاذك وبلدك .. فقال له المقدس الاردبيلي : وأنت سألك الله عما في يمينك فقلت له : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى). وكان يكفي أن تقول : هي عصاي وتسكت. وعندها التفت موسى الى محمد وقال له معتذرا : أنت أدرى بما قلت.

وعلق الأستاذ على هذه الرواية بقوله : وهكذا الإنسان يطيل الحديث مع من يحب ، لا لشيء إلا للانبساط والانشراح ، ومن ذلك قول المتنبي :

وكثير من السؤال اشتياق وكثير من رده تعليل

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى). خاف موسى من هذا المنظر الرهيب وولى مدبرا كما دلت الآية ١٠ من سورة النمل : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) مما أمرتهم به لأنهم يعلمون اني لا آمر إلا بالخير ، ولا أنهى إلا عن الشر ، وما ان وضع موسى يده على الحية حتى عادت عصا كما كانت.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى). في هذه الآية قال سبحانه : واضمم يدك الى جناحك ، وفي الآية ١٢ من سورة النمل قال : وأدخل يدك في جيبك ، فالمراد ـ اذن ـ من الجناح الجيب ، وهو القميص أو طوقه كما في كتب اللغة ، ومن غير سوء أي

٢١١

من غير آفة وعاهة ، وكانت يد موسى سمراء لأنه كان أسمر ، ولما أدخل يده في جيبه وأخرجها سطع منها نور كضوء الشمس. وتقدم نظيره في سورة الأعراف الآية ١٠٧ ج ٣ ص ٣٧٥.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى). أمر الله موسى أن يردع فرعون عن ظلمه وطغيانه ، وهو صاحب الحول والطول الذي قال : أنا ربكم الأعلى .. ما علمت لكم من إله غيري .. والذي قال لموسى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) ١٨ ـ الشعراء. نشأ موسى في قصر فرعون كيتيم ، ثم مشردا يأكل بقلة الأرض «ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفاف صفاف بطنه لهزاله ، وتشذّب لحمه» كما قال الإمام علي (ع) (١) حتى استغاث بالله ، وسأله لقمة العيش : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ـ ٢٤ القصص. قال الإمام : والله ما سأله إلا خبزا يأكله .. وقد استجاب الله دعاءه ، فوجد الخبز عند شعيب على أن يعمل راعيا لماشيته .. هذه هي دنيا موسى بن عمران : وضع في تابوت وقذف به في البحر ساعة ولادته ، ثم نشأ يتيما في بيت فرعون ، ثم مشردا بائسا يجوب الفلوات ، ويقتات من نبات الأرض ، ثم راعيا للغنم.

أهذا الضعيف الذي لا يملك شيئا من حطام الدنيا يذهب الى فرعون صاحب الحول والطول ليصده عن غيه وجبروته؟ ولكن هذا ما حصل ، فلقد ذهب موسى الى فرعون وملئه بعصاه فلقفت ما يأفكون ، وبيده البيضاء فشهدت له بصدقه ونزاهته عن كل تهمة .. وقد سأل موسى ربه أشياء أخرى عن العصا واليد ، فأتاه سؤله ، وهي :

١ ـ (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي). المعروف عن موسى انه كان عصبي المزاج سريع الغضب مما يكره ، وهذا ما نطق به القرآن ، فقد أخبر عنه انه أخذ بلحية أخيه هرون ورأسه حين عكف بنو إسرائيل على عبادة العجل ، ووكز الفرعوني فقضى عليه ، وعصى أمر العبد الصالح بعد ان قال له : ستجدني ان شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا .. وليس من شك ان للخطوب والآلام التي

__________________

(١). الصفاف الجلد الأسفل تحت الجلد الذي عليه الشعر ، والتشذب التفرق.

٢١٢

قاساها موسى في حياته ـ أثرا فعالا في هذا الضيق والغضب السريع .. ولما كانت الرسالة الى الخلق تستدعي الصبر على المكاره والمتاعب سأل ربه رباطة الجأش ، وسعة الصدر.

٢ ـ (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي). مدّني منك يا إلهي بالعون والتوفيق لأداء ما كلفتني به ، وحملتني إياه .. ولا يتم شيء للإنسان من الخير مهما توافرت له الأسباب إلا بتوفيق الله وعونه.

٣ ـ (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي). وإذا عطفنا هذه الآية على قوله تعالى : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) ـ ٣٤ القصص وقوله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) ـ ٥٢ الزخرف. إذا جمعنا هذه الآيات الثلاث في كلام واحد كانت شاهد صدق بصحة قول من قال : انه كان في لسان موسى ثقل ولكنة ، اما ان هذه اللكنة خلقة ، أو من جمرة أدخلها فاه وهو طفل ، حين امتحن فرعون رشده وتمييزه بين التمرة والجمرة ، أما هذا فعلمه عند ربي .. وتجدر الاشارة الى ان هذه الآية تشعر بأن فصاحة اللسان ، وبلاغة البيان من أجلّ الصفات ونعم الله الكبرى على الإنسان ، وقد امتن سبحانه عليه حيث قال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) ـ ٣ الرحمن. وقال الإمام علي (ع) : «ما الإنسان لو لا اللسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة».

٤ ـ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً). جاء في مجمع البيان : ان هرون كان أخا لموسى من أمه وأبيه ، وكان يكبره بثلاث سنين ، وكان أتم طولا ، وأبهى جسما ، وأكثر لحما ، وأفصح لسانا ، ومن أجل هذه الصفات سأل موسى ربه أن يجعل أخاه هرون شريكا له في النبوة .. وقال صاحب المجمع : انه مات قبل أخيه موسى بثلاث سنين.

حقيقة النبوة :

ومهما يكن فلا بد لصاحب الرسالة من التعاون مع من يخلص لها ، ويضحي

٢١٣

في سبيلها ، فان النبوة في حقيقتها مجرد خبر ونبأ عن الله ينقله من يستحيل في حقه الكذب والخطأ ، وما هي بقوة تنفيذية تقول للشيء كن فيكون ، ان النبي بشر لا يملك لنفسه نفعا ، ولا يدفع عنها ضرا ، ويستعمل لتنفيذ مقاصده نفس الوسائل التي يستعملها المؤمن والجاحد ، ولا يمتاز إلا بهذا النبأ عن الله ، وانه أخذ من الانسانية أكرم ما فيها ، واستصفى أجلّ صفاتها ، ولكن الصفات الجلى لا تجعل صاحبها في المكان الذي يستغني معه عن الأسباب العادية والسنن الطبيعية .. كلا ، ان الأنبياء وغير الأنبياء سيّان في الحاجة والافتقار الى الأخذ بالعلل والأسباب.

فالنبي يحتاج الى التطبيب إذا أصابته علة تماما كما يحتاج اليه من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وأيضا يحتاج الى القوة الرادعة كما يحتاج اليها أي انسان .. فكل الأنبياء أوذوا ، وكثير منهم قتلوا .. وبهذا يتبين الغلو في قول من قال : ان محمدا (ص) هو الحقيقة التي خلق الله منها الوجود ، والروح التي سرت في جميع الكائنات علويها وسفليها : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ـ ١٨٧ الأعراف.

هذه هي حقيقة النبوة : إنذار وتبشير ، ومتى وجد البشير النذير ومعه المؤازر المناصر كان الإرشاد أبلغ في الحجة ، وأدعى لبلوغ الغاية ، ومن أجل هذا طلب موسى من ربه أن يشد أزره بأخيه.

وبهذه المناسبة نذكر ما قاله «و. ل. ديورانت» عن محمد (ص) في موسوعته التاريخية «قصة الحضارة في العالم» : «كانت المساكن التي أقام فيها محمد كلها من اللبن لا يزيد اتساعها عن ١٢ قدما ، ولا يزيد ارتفاعها عن ٨ أقدام ، وسقفها من جريد النخل ، وأبوابها من شعر الماعز ، أو وبر الجمل ، أما الفراش فلم يكن أكثر من حشية تفرش على الأرض ، ووسادة من ليف ، وكان يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، وينفخ النار ، ويكنس أرض الدار ، ويحلب العنزة ، ويبتاع طعامه من السوق ، ويأكل بيده ويلعق أصابعه ، وكان طعامه الأساسي التمر وخبز الشعير ، وكان اللبن وعسل النحل هما كل ما يستمتع به من الترف في بعض الأحيان».

٢١٤

علي وهرون :

ونفس الشيء حدث لرسول الله (ص) ، قال السيوطي في الدرّ المنثور عند تفسير قوله تعالى : رب اشرح لي صدري : «أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر ان رسول الله (ص) قال : اللهم اني أسألك بما سألك أخي موسى ان تشرح لي صدري وان تيسر لي أمري وان تحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي ، (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً).

وقال مسلم في صحيحه ج ٢ ص ١٠٨ طبعة ١٣٤٨ ه‍ : ان رسول الله قال لعلي : اما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى. وفي الجزء الأول من مسند الامام أحمد بن حنبل ان رسول الله (ص) سمى الحسنين اقتفاء لهارون في تسمية ولديه بشير وشبير أي حسن وحسين.

قد أوتيت سؤلك يا موسى الآة ٣٦ ـ ٤١

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

٢١٥

اللغة :

سؤلك مطلوبك. ومننا أنعمنا. وأوحينا ألهمنا. واقذفيه اطرحيه. واليم البحر. والصنع عمل الخير ، والمراد به هنا التربية. وعلى عيني برعايتي. وفتناك ابتليناك واختبرناك. ومدين كانت مدينة في جنوب بلاد الشام ، وهي بلد شعيب ، ويدعي البعض انها من قرى جبل عامل تعرف بقدس ، ولا دليل على هذه الدعوى. واصطنعتك جعلتك موضع صنيعتي واحساني.

الإعراب :

مرة أخرى ظرف والعامل فيه مننا أي وقتا آخر. وإذ ظرف والعامل فيه مننا. وما يوحى (ما) مصدرية أي أوحينا ايحاء. ان اقذفيه أي اقذفيه تفسيرا للوحي. يأخذه مجزوم بجواب الأمر. ولتصنع المصدر المنسبك متعلق بألقيت. إذ تمشي (إذ) ظرف متعلق بتصنع. وعلى قدر متعلق بمحذوف حالا من الضمير في جئت.

المعنى :

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) من شرح الصدر ، وتيسير الأمر ، وطلاقة اللسان ، وشد الأزر بأخيك ، وإشراكه معك في النبوة. قال الإمام علي (ع) : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فان موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا فكلمه الله ورجع نبيا (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) المن هنا بمعنى الإنعام ، لا بمعنى التعيير والتقريع ، وقد كانت نعم الله سبحانه كثرة على موسى ومتتابعة ، منها ما يلي :

(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي).

٢١٦

ضمير المخاطب في لتصنع لموسى (ع) ومعنى تصنع تربى ، والمراد بعين الله حراسته تعالى ورعايته .. كان فرعون إذا ولدت اسرائيلية ذكرا ذبحه ، وإذا ولدت أنثى استبقاها للخدمة ، ولما وضعت امرأة عمران موسى خافت عليه من فرعون ، وحارت به ، فألهمها الله أن تضعه في صندوق ، وتلقي به في النيل ففعلت ، وثبّت الله فؤادها ، وهدأ روعها ، وقذفه النيل الى الشاطئ .. وقيل : ان جواري آسية امرأة فرعون خرجن للاغتسال ، فوجدن الصندوق فصحبنه معهن ، وما ان فتحته امرأة فرعون ورأت الطفل حتى ألقى الله محبته في قلبها (وَقالَتِ امْرَأَتُ) (فِرْعَوْنَ ـ له ـ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ـ ٩ القصص ، فأبقاه فرعون وتربى في قصره مشمولا بحراسة الله ورعايته.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ). أراد سبحانه ان يرجع موسى الى أمه ، لتأنس به ، وتطمئن عليه ، وإذا أراد الله شيئا هيأ أسبابه ، فحرم المراضع على موسى ، حتى حار به فرعون ، فذهبت أخت موسى الى قصر فرعون متنكرة ، وقالت : أنا أدلكم على من يرضعه ، وجاءت بأمه فقبّل ثديها ، فدفعه فرعون اليها ، وأجرى عليها رزقا.

(وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ). في ذات يوم مر موسى في شارع من شوارع مصر ، فرأى رجلين يقتتلان : أحدهما فرعوني والآخر عبري ، فاستغاث هذا بموسى ، فوكزه بيده ، وهو لا يريد قتله ، ولكنه قضى عليه ، وخاف موسى ان يقتصوا منه ، فخلصه الله من غم القصاص ، وإلى هذا أشارت الآية ١٥ من القصص : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ).

(وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً). ان الله سبحانه يمتحن عباده بالسراء والضراء ، فمن شكر تلك ، وصبر على هذه قرّبه وأثابه ، ومن بطر عند النعمة ، وكفر عند الشدة طرده من رحمته. وقد امتحن سبحانه موسى بأنواع الشدائد والمحن فوجده صابرا ذاكرا ، فشرفه بالنبوة ، ورفعه الى الدرجات العلى (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وذلك حين رعى غنم شعيب عشر سنين ، كما أشارت الآية ٢٧ من سورة القصص :

٢١٧

(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) وقد أتمها عشرا كما في بعض الروايات (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) أتيت الى هذا المكان ، وهو الوادي المقدس طوى ، أتيته في نفس الوقت الذي قدره الله لإرسالك نبيا (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي اخترتك لوحيي ورسالتي ، وفي اضافة موسى الى الله سبحانه غاية التشريف والتكريم ، حيث تومئ الى ان الله سبحانه قد جعله من خواصه.

اذهب أنت وأخوك الآة ٤٢ ـ ٤٨ :

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨))

اللغة :

ولا تنيا لا تقصرا. أن يفرط أي أن يتقدم بالعذاب لأن الفرط معناه التقدم. والمراد بالسلام في الآية السلامة من العذاب.

الإعراب :

أنت توكيد لضمير اذهب. وأخوك عطف على الضمير المستتر. والمصدر

٢١٨

من أن يفرط مفعول نخاف. ويجوز انّي وانني ، وانّا واننا.

المعنى :

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي). المراد بالآيات هنا المعجزات ، وهي العصا واليد البيضاء وغيرهما من الآيات التي أشرنا اليها عند تفسير الآية ١٠١ من سورة الاسراء. ومعنى لا تنيا في ذكري لا تتهاونا في رسالتي والتذكير بأمري ونهيي (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى). اذهبا تأكيد لإذهب أنت وأخوك ، وتقدم نظيره في الآية ٢٣ من هذه السورة.

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى). وإذا تذكر أصحاب الشركات الاحتكارية في هذا العصر يتذكر فرعون ويخشى .. ومهما يكن فان هذه الآية تحدد أسلوب الدعوة الى دين الله ، وبالأصح تحدد أسلوب الاقناع بالحق ، ونظيرها قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ـ ١٢٥ النحل ، والموعظة الحسنة أن يشعر معها المخطئ تلقائيا بخطئه ، والضال بضلاله ، ويرى نفسه بعيدا عن الحق والواقع : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) ـ ١٠ الملك.

والشرط الأول للموعظة الحسنة ان لا يريد الواعظ بموعظته الا الإصلاح ، بحيث يعتقد المقصود بالموعظة أو غيره من أهل الوعي ان الغاية الأولى والأخيرة هي مصلحته وهدايته ، والشرط الثاني أن تكون الموعظة بالقول اللين ، ومما قاله موسى لفرعون : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) ـ ١٩ النازعات. أنظر ج ٤ ص ٥٦٤.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى). انك تعلم يا إلهنا جبروت فرعون وعتوّه ، وانه لا رادع يردعه عن الغدر بنا والأمر بقتلنا قبل أن يستمع الى ما زودتنا به من البينات والدلائل ، فهل لك أن تتفضل علينا بما نأمن معه من غوائله؟ (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى). فأنا الكافل الضامن لسلامتكما من غدره وغوائله. وكفى بالله حافظا ونصيرا.

٢١٩

وتسأل : ان ضمير قالا مثنى يعود الى موسى وهرون ، مع العلم بأن هرون لم يكن مع موسى في موقف المناجاة ، فما هو الوجه لذلك؟.

وأجاب بعض المفسرين بأن هذا القول كان من موسى بلسان المقال ، ومن هرون بلسان الحال ، لأن هرون تابع لموسى ، ويجوز ان يكون هذا القول منهما بعد ذهاب موسى الى مصر واجتماعه بأخيه ، وقبيل ذهابهما الى فرعون .. ومن عادة القرآن أن يطوي كل كلام تدل عليه قرينة حالية أو مقالية.

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالأسر والتسخير وذبح الأبناء واستخدام البنات. وتقدم نظيره في الآية ١٠٤ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٧٤. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) بحجة كافية ، ودليل قاطع على صدقنا (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى). والهدى هو دين الله ، والسلام الأمان من عذابه ، والمعنى ان من دخل في دين الله فقد سلم من عذاب الحريق (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى). هذا تهديد وإنذار لفرعون بالهلاك والدمار ان استهان بشأن موسى وهرون ، وأنكر رسالتهما ، واستمر في غيه وعتوه.

فمن ربكما يا موسى الآية ٤٩ ـ ٥٦ :

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ

٢٢٠