التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

بين الدول الغنية الكبرى ، والدول الضعيفة «النامية» ، بين الشعب الذي يملك أسباب التطور ، والشعب الذي لا يملكها.

وقوة الولايات المتحدة تشبه الى حد بعيد قوة ذي القرنين من حيث ان كلا منهما لا تضارعها قوة في عصرها ، ولكن الفرق بعيد جدا من حيث النتائج ، فإن ذا القرنين كان بكل ما يملك من قوة ملكا لخير البشرية واسعادها ، أما قوة الولايات المتحدة فهي لحماية الشر والصهيونية ، وللسيطرة على المقدرات والأسواق والأفكار لمصلحة الاستعمار والرجعية بشتى صورها وأشكالها ، والشواهد على ذلك لا يبلغها الإحصاء ، فمن مناصرة الصهاينة ضد العرب الى تغذية العنصرية في بلادها وفي روديسيا ، ومن الانقلابات العسكرية في افريقيا وغيرها الى ضرب القوى التحررية في الكونغو وفي كل مكان ، أما فيتنام فقد حشدت لتدميرها الجيوش ، وعبأت كل ما لديها ، ولكن صمود الشعب الفيتنامي لقّن الولايات المتحدة درسا في الهوان والذل لا تنساه مدى الحياة .. وكل ما حققته الولايات المتحدة من النجاح فهو جزئي مؤقت يذهب مع نضال الشعوب الذي يزداد يوما بعد يوم.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ). ضمير جعله للسد ، ودكاء أي مستويا مع الأرض ، والمعنى أنه متى دنا الوقت الذي يخرج فيه يأجوج ومأجوج من وراء السد هيأ الله أسباب هدمه وزواله (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) لا ريب فيه ، قال الشيخ المراغي : «وقد جاء وعده تعالى بخروج جنكيز خان وسلائله فعاثوا في الأرض فسادا». وفي تفسير الرازي ان وعد الله هنا يوم القيامة ، وفي تفسير الطبرسي ان هذا الوعد يأتي بعد قتل الدجّال ، أما نحن فنميل إلى قول المراغي لأنه أقرب الى قوله تعالى :

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ). فانّا نفهم منه ان يأجوج ومأجوج ينتشرون في الأرض بعد خراب السد ، ويفسدون على الناس حياتهم ، قال تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) ـ ٩٦ الأنبياء». هذا ، الى أنه لو كان المراد بمجيء وعده تعالى يوم القيامة أو بعد الدجال لكان السد موجودا الآن كما هو .. ومن الواضح انه لو كان لبان ، بخاصة وقد جعل العلم الكرة الأرضية وسكانها أشبه بالأسرة الواحدة يضمها بيت واحد (وَنُفِخَ فِي

١٦١

الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً). وهذا اليوم هو خاتمة المطاف للأولين والآخرين. وفي تفسير الطبري ان رسول الله (ص) سئل عن الصور؟. فقال : هو قرن ينفخ فيه. وبعد ، فإن الذي قلناه عن يأجوج ومأجوج ، أو نقلناه عن الغير إنما هو على التقريب ، لا على التحقيق ، لأنّا لم نجد مصدرا يركن اليه ، ومن أجل هذا نكتفي بما دل عليه ظاهر القرآن الكريم ، ونترك التفاصيل إلى غيرنا.

جهنم والاخسرون أعمالاً الآية ١٠١ ـ ١٠٧ :

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧))

اللغة :

نزلا ما يهيّؤ للنزيل ، وهو الضيف. وأيضا يطلق على المنزل.

١٦٢

الإعراب :

حسب تتعدى إلى مفعولين ، والمصدر من ان يتخذوا سادّ مسدهما. وأعمالا تمييز. والذين ضل خبر لمبتدأ محذوف ، فكأنه قيل : من هم الأخسرون؟ فقيل : هم الذين ضل الخ. ووزنا مفعول نقيم أي فلا نجعل لهم ثقلا ، وقال أبو البقاء : تمييز أو حال. وذلك مبتدأ وجزاؤهم خبر ، وجهنم بدل من «جزاؤهم».

المعنى :

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً). يشاهد المجرمون غدا منازلهم في جهنم قبل ان يقادوا اليها ، ليكتووا بنارين : نار الرعب ، ونار الحريق (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي). الذكر يسمع بالأذن ، ولا يرى بالعين ، وعليه يكون غطاء العين هنا كناية عن حقد الكافرين على رسول الله (ص) والمؤمنين ، وانهم كانوا لا يطيقون النظر اليه (ص) واليهم (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) لذكر الله من رسوله الكريم. وبكلمة ان المجرمين لا يطيقون سماع الحق ، ولا النظر الى أهله .. وهذا ما نشاهده بالعيان ، وهو نتيجة حتمية للصراع بين الحق والباطل ، والخير والشر.

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ). المراد بعبادي هنا المخلوقات التي اتخذها المشركون أنصارا من دون الله ، وفي الكلام حذف أي أفحسب هؤلاء انّا غافلون عنهم؟ .. كلا (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً). هيأنا لهم مكانا في جهنم يليق بشأنهم .. وهذا تماما كقولك لمن تستخف به وتحتقره : أتحسب اني لا أقدرك ، كيف وأنت كهذا الحذاء؟

قيمة الإنسان

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ

١٦٣

أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً). ويتلخص المعنى بأن أخسر الناس صفقة ، وأخيبهم سعيا هو الجاهل المركب الذي يرى جهله علما ، وشره خيرا ، وإساءته إحسانا .. وليس من شك ان هذا خائب خاسر في الدنيا لأنه يعيش في غير واقعه ، وهو كذلك في الآخرة لأنه يلقى الله غدا بالجهل والغرور وسوء الأعمال.

وتومئ الآية الى ان قيمة الإنسان الحقيقية لا تقاس بنظرته الى نفسه ، لأن الخصم لا يكون حكما ، ولا بنظرة الناس اليه ، لأنهم يسعون الخائبين والمنافقين عمليا ، وان ضاقوا بهم نظريا ، وانما تقاس قيمة الإنسان بقيم القرآن ومبادئه ، والالتزام بتعاليمه وأحكامه ، تقاس بالصدق والعدل ونصرة الحق وأهله ، والتضحية في سبيل ذلك بالنفس والمال ، والقرآن الكريم مليء بهذا النوع من التعاليم ، مثل قوله تعالى : (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ .. كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ .. كُونُوا أَنْصارَ اللهِ .. كُونُوا رَبَّانِيِّينَ .. جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ). وفي قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ، غنى عن كل شاهد.

وتسأل : ان المخطئ يرى نفسه مصيبا ، وانه قد أحسن صنعا باصابة الواقع ، فينبغي أن يكون من الأخسرين أعمالا ، مع انه لا عصمة إلا لمن له العصمة؟. الجواب : ان المخطئ على قسمين : الأول أن يخطئ بعد البحث والتدقيق ، تماما كما يفعل الأكفاء بحيث تكون النتيجة التي توصّل اليها هي غاية ما يمكن أن يتوصل اليها العالم المجد .. وليس من شك ان هذا المخطئ ليس من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وان خطأه لا عيب فيه ، بل ان صاحبه مأجور على ما بذل من جهد ، كما جاء في الحديث الشريف ، على شريطة أن يكون على نية الرجوع عن خطئه متى انكشف له الصواب.

القسم الثاني : أن يخطئ لأنه جزم وحكم بمجرد الحدس والوهم ، وقبل أن يبحث ويلاحظ ، لأنه يجهل أصول البحث والملاحظة العلمية ، أو يعرفها ولم يستعملها إطلاقا ، أو استعملها ناقصة ، فحكم قبل أن يستكمل ويستوعب جميع الملاحظات ، وهذا المخطئ من الأخسرين أعمالا ، ما في ذلك ريب ، لأن الله سبحانه أمر بالتدبر والتثبت ، ونهى عن التسرع والقول بغير علم.

وبعد ، فإن الدرس الذي يجب أن نستفيده من هذه الآية هو أن نكون صادقين مع أنفسنا ، فلا نصفها بغير ما هي فيه ، ولا نخدعها بالقول الكاذب .. وأيضا

١٦٤

يجب أن نحاسبها حين توحي إلينا بالغرور والتعاظم قبل أن يحاسبنا الله والناس ، وأن لا نتخذ موقفا نتمسك فيه بآرائنا وأقوالنا ، فنعتقد انها مقدسة لا يمكن الارتياب فيها بحال .. ان الخطأ جائز على الجميع بل ومكتوب أيضا .. والغريب ان الأدعياء يسلّمون بهذا المبدأ ، ولكنهم ينكرون نتيجته الحتمية.

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ). أولئك اشارة للأخسرين أعمالا ، وقرينة السياق تدل على ان المراد بالذين كفروا بآيات ربهم ولقائه هم (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) سواء أكفروا بالبعث ، أم آمنوا به ، فالعبرة عند الله بالايمان والعمل معا ، لا بمجرد الايمان (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي قدرا لأنه لا كرامة عند الله إلا لمن اتقى.

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً). كفرا بالله ، وسخروا من الحق وأهله ، وهذا منتهى الفساد والضلال ، والنار هي الغاية لكل ضال فاسد.

الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآة ١٠٨ ـ ١١١ :

(خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

اللغة :

الفردوس البستان. والحول التحول. والمراد بالمداد هنا الحبر.

١٦٥

الإعراب :

خالدين حال. ومددا تمييز.

المعنى :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً). بعد أن توعد سبحانه الكافرين بجهنم وعد المؤمنين بالجنة ، والفردوس من المنازل العليا في الجنة ، قال الرسول الأعظم (ص) : إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً). والحول التحول ، والمعنى ان الله سبحانه يجزي المؤمنين الصالحين بما لا يرضون عنه بديلا ، فهو كاف واف بجميع ما يبتغون ، وتومئ الآية الى انه لا طمع في الآخرة ، وإلا فإن الطامع لا يقنعه شيء.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً). البحر اسم جنس يشمل كل البحار ، والمداد الحبر ، ونفد انقطع وفني ، والمراد بقبل أن ينفد ان كلماته تعالى لا تنفد إطلاقا ، وجئنا بمثله مددا أي زدنا عليه ما يماثله في الكثرة ، والمعنى لو فرض ان البحار بكاملها حبر يكتب به كلمات الله لأنتهي الحبر ، وبقيت كلماته الى ما لا نهاية ، وفي معنى الآية قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) ـ ٢٧ لقمان.

وليس المراد بكلمات الله هنا الألفاظ المؤلفة من الحروف الهجائية ، ولا الأمر الفعلي الذي هو عبارة عن قوله كن فيكون ، لأن هذا الأمر واحد لا تعدد فيه : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ـ ٥٠ القمر ، وإنما المراد بكلماته هنا القدرة على إيجاد الكائنات متى شاء ، سواء أقال لها كوني بالفعل ، أم يقول في المستقبل القريب أو البعيد ، وهذه القدرة لا آخر لها ولا نهاية ، أما البحار والأشجار ومثلها معها فهي متناهية ، وكل متناه إلى نفاد.

وبكلام آخر ان كل شيء موجود أو سيوجد ـ ما عدا الله ـ فهو بائد ومنقطع ، أما قدرته تعالى على إيجاد الأشياء فهي باقية ببقائه .. ونوضح الفكرة بهذا المثال :

١٦٦

رجل يعرف اصول الزراعة ، فمعرفته بهذه الأصول تلازم ذاته ، ولا تفارقها ، أما زرعه وغرسه فيفنى ويزول ، وقدرة الله سبحانه لا تشح ولا تنضب لأنها أزلية أبدية ، أما خلقه فحادث ، ولكل حادث بداية ، ولكل بداية نهاية.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لا أمتاز عنكم بشيء إلا انه (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) قال ابن عباس : «علّم الله نبيه التواضع بهذه الآية ، فأمره ان يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره سوى ان الله أكرمه بالوحي» ونعطف نحن على قول ابن عباس : ولئلا يقول المسلمون في محمد (ص) ما قاله النصارى في عيسى (ع).

(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) وحسابه وثوابه وعقابه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). وكل من عمل لغير الله فقد أشرك بعبادته ، سواء أقال بتعدد الآلهة ، أم لم يقل ، والفرق ان القول شرك علني ، والرياء شرك خفي ، وفي الحديث : «من صلى رياء فقد أشرك ، ومن صام رياء فقد أشرك» وعلى هذه الصلاة ، وهذا الصيام فقس ما سواهما.

١٦٧

سورة مريم

مكية ، وآياتها ٩٨.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

زكريا الآية ١ ـ ٦ :

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

اللغة :

الوهن الضعف. واشتعل الرأس شيبا استعارة من اشتعال النار للشيب. والمراد بالشقي هنا الخائب أي ما خيبتني من قبل في دعائي إياك. والموالي أقارب الرجل من جهة الأب. ومن ورائي من بعدي. ووليا أي وارثا. ورضيا مرضيا عندك.

الإعراب :

ذكر خبر لمبتدأ محذوف أي هذا ذكر. وعبده مفعول لرحمة لأن المعنى ان

١٦٨

ربك رحم عبده أو مفعول لفعل محذوف أي أعني عبده. وزكريا بدل من عبده. وشيبا تمييز محول عن فاعل ، لأن المعنى اشتعل شيب الرأس.

المعنى :

(كهيعص) تقدم نظيره مع التفسير في أول سورة البقرة (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا). في هذه الآيات يقص سبحانه على نبيه محمد (ص) : كيف رحم عبده ونبيه زكريا ، وأنعم عليه بولده يحيى .. وزكريا من نسل سليمان ابن داود ، وكان متزوجا بخالة مريم ، وكان كافلا لها ، وتقدمت الاشارة الى ذلك عند تفسير الآية ٣٨ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٥٣. وقيل ان زكريا كان نجارا (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا). دعا الله بينه وبينه :

و (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). تقدم السن بزكريا دون أن يرزق ولدا ، ولذا تضرع الى الله شاكيا ضعفه وشيخوخته ، وقال فيما قال : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ـ ٨٩ الأنبياء». أدعوك يا إلهي ، وأنا غير يائس من فضلك ورحمتك : كيف؟ ولم تخيب من قبل رجائي فيك ، وحاشاك ان توجهني في حاجتي الى سواك.

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا). زكريا شيخ كبير ، وامرأته عجوز عقيم ، فخاف ان جاء أجله ان يرثه بنو عمومته ، وهم من بني إسرائيل ، وقيل : انهم كانوا من شرار الناس .. وليس هذا ببعيد على إسرائيل .. فإذا ورثوه أساءوا الى الناس ، وأفسدوا عليهم دينهم ودنياهم ، ورغم شيخوخة زكريا وعقم زوجته فإنه كان عظيم الثقة بخالقه ، ولذا دعاه أن يجبر كسره ، ويقضي حاجته.

١٦٩

البشارة بيحيى الآة ٧ ـ ١١ :

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

اللغة :

عتيا أي بلغ من الكبر الى حال يبست معها مفاصله وعظامه. والآية العلامة. وسويا صحيحا سليما من كل آفة. والمحراب المصلّى.

الإعراب :

اسمه يحيى مبتدأ وخبر ، والجملة صفة لغلام. وانّى خبر مقدم ليكون. وسويا حال من ضمير تكلم. وان سبحوا (ان) مفسرة بمعنى أي.

المغني :

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا). استجاب الله دعاء زكريا ، وبشره بأنه سيولد له ذكر ، وان الله سبحانه سماه بحبي ،

١٧٠

وهو في صلب أبيه ، وما سمي أحد من قبله بهذا الاسم. وقيل : ان يحيى هو يوحنا المعروف بالمعداني عند المسيحيين.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا). ليس هذا استبعادا ، بل تعظيما وشكرا لأنعم الله وقدرته التي تخطت السنن والعادات ، فهو شيخ كبير ، وزوجته عجوز عقيم ، ومع هذا قد منّ الله بالعطاء ، وأنعم بالولد.

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً). قائل القولين واحد ، وهو الله أي ان الله قال لزكريا : قال ربك الخ ، وقد جرى كثير من المؤلفين المسلمين على ذلك ، فيقول أحدهم : «قال محمد هو ابن مالك» يعني نفسه ، ومثله قول الطبري عن نفسه : قال ابو جعفر محمد بن جرير الطبري .. ولا شيء صعب على الله ، فالأشياء لديه سواء لا يحتاج وجودها إلا الى كلمة «كن».

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا). المراد بأوحى اليهم أومأ اليهم بيده أو كتب. لأنه ممنوع عن الكلام. وتقدم التفصيل عند تفسير الآية ٤١ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٥٤.

يحيى الآية ١٢ ـ ١٥ :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

١٧١

اللغة :

المراد بالكتاب هنا التوراة. والحنان العطف والرحمة. والزكاة الطهارة. والتقوى طاعة الله. والجبار المتعالي الذي لا يخضع لشيء. والعصي العاصي. والسلام الأمان.

الإعراب :

بقوة متعلق بمحذوف حالا من يحيى. وصبيا حال. وحنانا عطف على الحكم. وبرا عطف على «تقيا».

المعنى :

(يا يَحْيى) اكتفى سبحانه بهذا النداء عن القول : ان يحيى قد ولد ، وانه أصبح يعقل ويفهم ما يقال له ، وقادرا على العمل بالتوراة ، وهي الكتاب الذي عناه الله بقوله : (خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) ومعنى أخذه بقوة التزام العمل به بجد واخلاص. ثم وصف سبحانه يحيى بالأوصاف التالية :

(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا). المراد بإيتاء الحكم صبيا التفقه بالدين في سن مبكرة ، وهذه نعمة من الله خص بها يحيى ، كما خصه بالولادة من أبوين كبيرين ، والله سبحانه يختص برحمته من يشاء ، وفي بعض الروايات ان الغلمان قالوا يوما ليحيى : هيا بنا نلعب. فقال : ما للعب خلقنا ، اذهبوا بنا للصلاة. والحنان الرحمة بالعباد ، والزكاة الطهارة والقداسة ، والتقوى طاعة الله ، والبر بالوالدين ضد العقوق ، وقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) عطف تفسير ، لأن الزكي التقي غير الجبار العصي.

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا). هذا كناية عن أن يحيى مرضي عند الله دنيا وآخرة ، ومن الواضح ان رضاه تعالى نتيجة طبيعية للنعوت التي نعت الله بها يحيى (ع).

١٧٢

وتسأل : لما ذا خص الله يحيى بهذه الصفات الجلى ، وهو صبي؟.

الجواب : ان لله شئونا في خلقه ، فقد يمنح الفضل للصغار ، ويمنع الكبار منه ، ولكلّ من عطائه ومنعه حكمة قد تدركها العقول ، وقد تعجز عن إدراكها .. ولكنها تحاول ، وغير بعيد أن يكون القصد من اتصاف يحيى بهذه الصفات في مثل سنه هو إلقاء الحجة على بني إسرائيل إذا اختلفوا فيه ، ولم يستجيبوا لنصحه ودعوته ، وقد خلق الله عيسى من غير أب (لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) وتأتي هذه الآية في المقطع التالي.

وبرغم هذه الحجة الدامغة فقد عصوا يحيى وتمردوا عليه ، وأخيرا قتلوه وقتلوا أباه ، لا لشيء إلا لنهيهما عن المنكر .. ولا يكثر هذا على من قال عن الله : يداه مغلولتان .. هو الفقير ونحن الأغنياء.

وفي قصص الأنبياء ان هيرودوس حاكم فلسطين آنذاك عشق هيروديا بنت أخيه لجمالها ، وعزم على الزواج منها ، ولما أنكر ذلك يحيى سخطت عليه هيروديا ، واشترطت على عمها أن يكون رأس يحيى مهرا لها ، فذبحه وأهداها الرأس .. واشتهرت الرواية عن علي بن الحسين بن علي (ع) : ان أباه حين توجه الى العراق كان يكثر من ذكر يحيى ، ويقول: من هوان الدنيا على الله ان رأس يحيى بن زكريا اهدي الى بغي من بغايا بني إسرائيل.

مريم الآية ١٦ ـ ٢١ :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ

١٧٣

وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))

اللغة :

انتبذت اعتزلت. ومكانا شرقيا الى جهة الشرق. وروحنا جبريل. وسويا كامل البنية. وأعوذ اعتصم. ومقضيا محتوما.

الإعراب :

مريم على حذف مضاف أي خبر مريم. ومكانا ظرف منصوب بانتبذت أي في مكان شرقي. وبشرا سويا حال لأن المعنى تمثل كائنا على صورة البشر السوي. وأنّى خبر مقدم ليكون. وكان أمرا اسم كان محذوف أي وكان خلقه أمرا مقضيا.

المعنى :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً). يدل ظاهر الآية ان مريم اعتزلت عن أهلها ، وخلت بنفسها في مكان شرقي ، وانها جعلت بينهم وبينها سترا ، بحيث لا تراهم ولا يرونها. ولما ذا اعتزلت مريم؟ ألأنها رأت ما تكره ، أو لتنصرف الى العبادة أو لغير ذلك؟ وهل المراد بالمكان الشرقي المكان الذي تشرق عليه الشمس ، أو المكان الذي يقع شرقي بيت المقدس ، أو شرقي دار أهلها؟. وأيضا ما هو نوع الحجاب الذي اتخذته من دونهم هل هو حائط أو كوخ؟ .. لا شيء في الآية يشير الى الجواب عن هذه التساؤلات ، لأنها لا تمت الى العقيدة ولا الى الحياة بسبب. وغير بعيد أن

١٧٤

يكون الله سبحانه قد ألهمها الى هذه الخلوة ليعلمها جبريل بولادة عيسى (ع) ، وهي في معزل عن الناس.

(فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا). المراد بروحنا جبريل ، وقد تمثل أمامها في صورة انسان تام الخلقة. وفي بعض التفاسير انه جاءها في صورة الإنسان لتأنس به ، وفي تفسير ثان انها خافت منه وذعرت لهذه المفاجأة .. غريب يقتحم عليها من غير استئذان ، وهي في عزلتها؟. ان هذا لشيء مريب .. وهذا القول أرجح وأصح بدليل انها فزعت و (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا). استجير بالله من شرك ان كنت تؤمن به وبحسابه وعذابه ، خوّفته من الله لأنها لا تملك وسيلة لردعه في مقامها هذا سوى التخويف من الله ، وإلا فهي مستجيرة بالله متوكلة عليه ، سواء أكان الذي خافته تقيا ، أم شقيا.

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا). تبشرني بغلام؟. كيف؟. ومن أين؟. ولا زوج لي ، ولا اقدم على الخيانة والفجور .. (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا). قال لها الروح الأمين : ان أسباب الولادة لا تنحصر عند الله بالمضاجعة والمواقعة ، فكما أوجد الأشياء بأسبابها المألوفة فانه يوجدها أيضا بكلمة «كن» تماما كما أوجد الكون من لا شيء ، وآدم من غير أب وأم .. وقد شاء سبحانه أن يجعل مولودك دليلا واضحا على عظمة الخالق ، ونبوة المولود ، وان يكون رحمة للانسانية ، وحجة دامغة على بني إسرائيل الذين حاولوا قتله. وشرحنا ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٤٥ وما بعدها من سورة آل عمران ج ٢ ص ٦١.

الحمل بعيسى الآية ٢٢ ـ ٢٦ :

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها

١٧٥

أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))

اللغة :

قصيا بعيدا. وفأجاءها الأصل جاء فدخلت همزة التعدية على الفعل فصار أجاءها مثل أقامه وأقعده. والمخاض الطلق. والنسي الشيء الحقير الذي لا يؤبه له. وللسري معان في اللغة ، منها الجدول والقائد. والجني من الثمر ما نضج وصلح للاجتناء والقطف.

الإعراب :

ان لا تحزني (ان) مفسرة بمعنى أي ولا ناهية. وبجذع النخلة الباء زائدة اعرابا. وفاعل تساقط ضمير مستتر يعود الى النخلة. ورطبا حال منه. وإما مركبة من كلمتين (ان) الشرطية وما الزائدة .. وترين مضارع خوطبت به المرأة ، ودخلت عليه نون التوكيد.

المعنى :

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) قيل : ان جبريل نفخ في قميصها ، فكانت نفخته سببا للحمل ، ومصدر هذا القول ظاهر الآية ٩١ من سورة الأنبياء : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا). والآية ١٢ من سورة التحريم :

١٧٦

(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا). وقد أشرنا أكثر من مرة الى ان آيات القرآن يفسر بعضها بعضا لأن مصدرها واحد ، وإذا لا حظنا جميع الآيات الواردة بعيسى ومريم (ع) ، إذا لاحظناها على هذا المبدأ فهمنا من مجموعها ان المراد من النفخ الخلق والإلقاء ، وان المراد من الروح عيسى بالذات. والآية ١٧١ من سورة النساء تشعر بذلك ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ). وكلمته هي «كن» التي يخلق بها الأشياء ، ومعنى القائها الى مريم ان مريم أو بطنها هي مكان المخلوق. أنظر ج ٢ ص ٥٠٠. ومهما يكن فإن مريم لما أحست بالحمل ابتعدت عن أهلها حياء وتحرجا.

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ). المخاض الطلق ومقدمات الولادة ، وأجاءها بمعنى جاء بها ، والأصل جاء ، ثم دخلت همزة التعدية فصارت أجاءها مثل أجلسه وأنامه. قال الرازي : «أجاء منقول من جاء إلا ان استعماله تغير الى معنى الإلجاء» وعليه يكون المعنى ان المخاض ألجأها الى جذع النخلة لتستند اليه طلبا لتيسير الولادة (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا). هذه الكلمة وأمثالها ينطق بها كل انسان عند الأزمات واشتداد الأمر عليه ، ينفس بها عن همه وكربه ، وما على قائلها من غضاضة ما لم يكن شاكا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا). المراد بالسري جدول الماء .. وأول ما يتبادر الى الأذهان من سياق الكلام ان المنادي هو عيسى (ع) وليس جبريل ، كما زعم كثير من المفسرين ، وهذا النداء من معجزات عيسى ، تماما كولادته وإحيائه الموتى ، قال عيسى في ندائه لأمه (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا). قيل : لم يكن الفصل فصل الرطب ، وان حمل النخلة له كان من باب المعجزة ، وليس هذا ببعيد لأن اللفظ يشعر به ، وان الوضع الذي كانت فيه مريم معجزات في معجزات.

(فَكُلِي) من الرطب (وَاشْرَبِي) من الجدول (وَقَرِّي عَيْناً) طيبي نفسا بمولودك المبارك (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) وسألك عن المولود (فَقُولِي) بالإيماء والاشارة : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) بالسكوت ، وقد كان صوم

١٧٧

الاسرائيليين آنذاك (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا). ولا شيء لدينا ما نقوله هنا إلا شرح الكلمات شرحا لغويا ، حيث لا مجال للعقل في هذا الموضوع ، ما دام ظاهر اللفظ لا يصطدم مع حكم العقل. انظر فقرة الممتنع عقلا والممتنع عادة ج ٢ ص ٦١.

لقد جئت شيئا قرياً الآة ٢٧ ـ ٣٥ :

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥))

اللغة :

فريا من الفرية ، والمراد بها هنا دعوى الولادة بلا أب. والمهد الموضع يهيأ للصبي. والمراد بالكتاب الإنجيل.

١٧٨

الإعراب :

جملة تحمله حال. وكيف نكلم (كيف) حال أي على ايّ حال نكلم ، أو مفعول مطلق على معنى أي كلام نكلم. ومن كان (كان) تامة بمعنى وجد ، وصبيا حال. وأينما (اين) شرط وما زائدة. وما دمت حيا (ما) مصدرية ظرفية أي مدة دوام حياتي.

المعنى :

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ). وضعت مريم وليدها ، فحملته الى قومها ، وهي آمنة مطمئنة لأن الحمل الذي تسبب في اتهامها هو أصدق شاهد على نزاهتها (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) بدعواك الحمل من غير دنس ومواقعة .. انها محض افتراء (يا أُخْتَ هارُونَ) هو أخو موسى ، وهي من نسله ، والقصد تذكيرها بأصلها الطيب ، وانه إذا زكا الأصل يجب ان يزكو الفرع ، فكيف صدر منها ما لم يصدر مثله عن أصلها (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا). فمن تشبهين انت بفعلتك هذه التي لا يقدم عليها إلا من كانت بنتا لرجل سوء ، او بنت امرأة بغي!.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) تستشهده على براءتها ، وهو أصدق الشاهدين ، لأنه ينطق بلسان الله (قالُوا) متعجبين : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا). ولكن الذي في المهد كلمهم قبل ان يكلموه و (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) أي سيجعلني نبيا فيما بعد ، لأن الرضيع لا يكون قدوة للناس ، وحجة عليهم ، كيف وهو غير مسؤول عن أقواله وأفعاله فهل يكون مسؤولا عن تبليغ رسالات الله الى عباده؟. وفيما سبق نقلنا عن الأناجيل ان عيسى بعث في سن الثلاثين ، وانما تكلم في المهد لتبرئة أمه من الزنا والفجور ، لا لأنه نبي مرسل ، انظر عيسى ونبوة الأطفال ج ٣ ص ١٤٤.

(وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ). وكل من ينفع الناس بجهة من الجهات فهو مبارك وميمون ، وكل من يضار بواحد من الناس فضلا عن الجماعة فهو شر

١٧٩

وشؤم وفساد (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي). لقد أقر بهذا على نفسه بالطاعة والعبودية لله ، ونفى أن يكون إلها أو ولدا للإله أو شريكا له كما يزعم النصارى (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) كما يزعم اليهود ، بل هو عبد صالح ، ونبي مرسل كما يعتقد المسلمون (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) سبق نظيره قريبا في الآية ١٥.

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكون ويختلفون. هذه هي كلمة الحق والعلم والعدل في السيد المسيح ، لا هو جبار شقي كما قال اليهود ، ولا هو إله أو ابنه أو شريكه كما قال النصارى .. انه نبي يبلغ رسالات ربه ، وعبد من عباده يصلي ويزكي ، وهو مبارك ينفع الناس ، ومتواضع محسن لأمه وغيرها.

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). ولو كان لله أولاد لاحتكروا لأنفسهم جميع خيراته وبركاته ، ومنعوها عن كل مخلوق ، وأفسدوا ما أصلح الأب ، وملأوا الكون شرا وضلالا تماما كما يفعل بعض أبناء القادة في هذا العصر. وتقدم نظير هذه الآية في سورة آل عمران الآية ٥٩ ، وسورة الإسراء الآية ١١١.

هذا صراط مستقيم الآة ٣٦ ـ ٤٠ :

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

١٨٠