التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

مفعول لفعل محذوف أي وجعلنا في آذانهم وقرا. وإذا حرف جواب وجزاء. وتلك مبتدأ والقرى عطف بيان ، وأهلكناهم خبر ، ويجوز ان تكون تلك مفعولا لفعل محذوف يفسره الفعل الموجود أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم.

المعنى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ). أوضح سبحانه الدلائل على وجوده ووجوب طاعته بشتى الأساليب ، وضرب الكثير من الأمثال على ذلك ، وأمر الإنسان بالخير ونهاه عن الشر ، وان يتوب مما أسلف من الذنوب ، وحذره من مخالفة الأمر والنهي والإصرار على الذنب ، ولكنه أعرض ونأى بجانبه ، وأهلك نفسه بفساده وعناده (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً). تقدم نظيره مع التفسير في الآية ٢٥ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٧٦ والآية ٤٦ من سورة الإسراء.

(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً). وكيف يهتدون؟ وعلى قلوبهم أغطية ، وفي آذانهم صمم. وكل من لا ينتفع بالموعظة الحسنة فهو وأعمى القلب والعين والأصم سواء.

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ). تقدم نظيره مع التفسير في الآية ٦١ من سورة النحل ج ٤ ص ٥٢٥ (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي ملجأ ، والمراد بالموعد هنا وقت اللقاء عند الله الذي لا خلف له ، ولا مفر عنه ، قال الإمام علي (ع) مخاطبا ربه : «انت الأبد لا أمد لك ، وانت المنتهى لا محيص عنك ، وأنت الموعد لا ملجأ منك إلا اليك ، بيدك ناصية كل دابة ، واليك مصير كل نسمة».

(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً). المراد بالقرى قرى عاد وثمود وغيرهما من الأمم الخالية ، والمهلك الهلاك ، والمعنى ان الله جعل لهلاك الظالمين وقتا معينا ، فإذا جاء لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

١٤١

موسى ومجمع البحرين الآة ٦٠ ـ ٦٤ :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤))

اللغة :

فتاه صاحبه أو خادمه. لا أبرح لا أزال. والحقب بضم الحاء والقاف ، وبضم الأولى وسكون الثانية الدهر والزمان. ومجمع البحرين المجمع المكان الذي يلتقي فيه البحران ، ويصيران بحرا واحدا ، وفي البحرين أقوال ، منها انهما البحر الأبيض والبحر الأحمر ، ولو كنت من علماء الجغرافيا لقارنت بين الأقوال واخترت الصحيح أو الأصح منها. والسرب المسلك. والنصب التعب. فارتدا على آثارهما قصصا أي رجعا في طريقهما يتبعان أثرهما الأول.

الإعراب :

لا أبرح من أخوات كان ترفع الاسم وتنصب الخبر ، واسمها ضمير مستتر وخبرها محذوف أي لا أبرح سائرا. وحقبا ظرف منصوب بأمضي. وسربا مفعول ثان لاتخذ ، أو في البحر يتعلق بمحذوف مفعولا ثانيا ، وسربا منصوب على

١٤٢

المصدرية أي سرب الحوت سربا. وهذا عطف بيان من سفرنا. والمصدر من ان اذكره بدل اشتمال من هاء أنسانيه أي ما انساني ذكري إياه إلا الشيطان. وعجبا صفة لمفعول مطلق محذوف أي اتخاذا عجيبا. وقصصا منصوب على المصدرية أي يقصان الأثر قصصا أو في موضع الحال أي مقتصين.

المعنى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً). اختلفوا في موسى بطل هذه القصة : هل هو موسى بن عمران أو غيره؟. نقل الرازي عن اليهود انه موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب ، وهو أقدم من موسى بن عمران واكثر العلماء والمفسرين على انه ابن عمران الشهير ، وهو الظاهر. أما فتاه فالمعروف انه يوشع بن نون ابن اخت موسى بن عمران وتلميذه المقرب وخليفته من بعده على بني إسرائيل ، أما الذي قال له موسى : هل أتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا .. فالمعروف بين الناس انه الخضر ، ولكن الله سبحانه سكت عن اسمه ، واسم فتى موسى ، فيجمل بنا نحن ان نعبر عن هذا بفتى موسى ، وعن ذاك بصاحبه.

وقيل : ان الخضر لقب ، أما اسمه فبليا بن ملكان ، واختلفوا : هل هو نبي أو ولي؟. وأيضا قيل : انه من المعمرين الأحياء الى يوم يبعثون ، أما نحن فنلتزم السكوت عن نبوته وحياته إذ لا دليل قاطع للشك من الكتاب أو السنة على واحدة منهما ، ولا يمتان الى عقيدتنا وحياتنا بصلة. وقال البعض : انه من الملائكة. وهذا أبعد الأقوال.

وفي رواية ان سائلا سأل موسى : أي الناس أعلم؟ قال : أنا .. فأراد الله سبحانه ان يعلمه التواضع ، وانه فوق كل علم عليم ، فأوحى الله اليه ان في مجمع البحرين رجلا يعلم أشياء لا تعلمها. فقال له موسى : وكيف لي به؟ قال : تحمل معك حوتا لا حياة فيه ، فحيث تفقد الحوت فالعالم هناك ، فحمل موسى الحوت ، واصطحب معه فتاه ، وجدّا في السير حتى بلغا مجمع البحرين

١٤٣

إذ أخذت موسى سنة فنام ، وفي أثناء نومه انتفض الحوت وقفز الى البحر ، فكانت هذه آية من آيات الله لموسى.

وسواء استند الراوي الى العيان أو الاستنتاج فإن روايته هذه تلقي ضوء على ما ذكرناه من كلام الله بين قوسين في صدر هذا الكلام.

(فَلَمَّا جاوَزا قالَ ـ موسى ـ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً). بعد أن استراح موسى وفتاه قليلا عند مجمع البحرين استأنفا السير الى أن أدركهما التعب ، وأحسا بالجوع ، فطلب موسى من فتاه الغداء ، وكان الفتى قد شاهد انتفاضة الحوت وقفزته الى البحر ، ولكنه نسي أن يخبر موسى بأمره ، ولما طلب منه أن يأتي بالغداء تذكر و (قالَ ـ لموسى ـ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً). ولما سمع هذا موسى لاحت له دلائل الفوز ببغيته ، و (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) رجع موسى وفتاه الى المكان الذي قفز منه الحوت الى البحر ، وسارا على الطريق الذي جاءا منه يتبعان أثرهما الأول.

موسى يلتقي بصاحبه الآة ٦٥ ـ ٧٠ :

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠))

١٤٤

اللغة :

الخبر بضم الخاء المعرفة. والذكر البيان.

الإعراب :

تعلّمن أصلها تعلمني ، ورشدا مفعول لتعلمن. وخبرا تمييز لأنه بمعنى الفاعل أي لم يحط خبرك به ، أو مفعول مطلق لأن لم تحط بمعنى لم تخبر. وعليه يكون المعنى لم تخبر به خبرا.

المعنى :

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً). من في قوله تعالى : (مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) للتبعيض ، والمراد بالعلم هنا علم الغيب أي آتيناه شيئا من علم الغيب ، ويومئ بذلك الى خرقه السفينة ، وقتله الغلام ، ويعتمد الصوفية على هذه الآية لصحة مذهبهم القائل بالعلم اللدني أي العلم تلقائيا وبلا واسطة.

والمعنى ان موسى وفتاه حين وصلا الى المكان الذي كانا فيه وجدا رجلا من عباد الله الصالحين ، رحمه الله وأنعم عليه بعلم وافر نافع ، فحياه موسى فرد التحية بأحسن منها .. قال له موسى : انت بغيتي ، فهل تصحبني معك ، وتعلمني ما أسترشد به وانتفع؟. وقد استدل القائلون بنبوة هذا الرجل الصالح ، استدلوا بقوله تعالى : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) لأن الرحمة هي النبوة .. ويلاحظ بأن الرحمة أعم من النبوة ، ووجود العام لا يدل على وجود الخاص ، فإذا قلت : أكلت فاكهة فان قولك هذا لا يدل على انك أكلت عنبا ، لأن كلمة الفاكهة تشمل العنب وغيره من الفواكه.

(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً). قال الرجل الصالح لموسى : لو صحبتني لرأيت عجبا يثقل عليك السكوت عنه

١٤٥

وعدم الاعتراض عليه لأنه منكر في ظاهره ، وواقعه مجهول لديك ، وأنت لا تستطيع صبرا على المنكرات (قالَ ـ موسى ـ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً). استثنى موسى في الصبر بقوله ان شاء الله خشية أن لا يملك نفسه على السكوت وعدم الاعتراض كما حدث بالفعل (قالَ ـ صاحب موسى ـ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً). اشترط الرجل الصالح على موسى أن لا يسأله عما يفعل كائنا ما كان ، وقبل موسى الشرط لأنه انطلق معه كما يتضح مما يلي :

فانطلقا حتى اذا ركبا في السفينة الآة ٧١ ـ ٨٣ :

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)

١٤٦

وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢) وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣))

اللغة :

المراد بالإمر هنا بكسر الهمزة المنكر الفظيع. ولا ترهقني لا تحملني. والعسر ضد اليسر ، والمعنى عاملني باليسر. واستطعما طلبا الطعام. ويريد أن ينقض أشرف على السقوط. وأقامه سوّاه. والتأويل التفسير. وزكاة طهارة. والمراد بالرحم هنا الرحمة. والكنز المال المدفون. ويبلغا أشدهما يكبرا ويعقلا.

الإعراب :

عسرا مفعول ثان لترهقني لأنها بمعنى تحملني. وبغير نفس متعلق بقتلت. وعذرا مفعول بلغت. والمصدر من أن ينقض مفعول يريد أي يريد الانقضاض. وهذا مبتدأ وفراق خبر ، وبيني وبينك بمنزلة الكلمة الواحدة أي فراق بيننا. ومساكين ممنوعة من الصرف لأنها على وزن مفاعيل. وغصبا مصدر في موضع الحال أي يأخذها غاصبا ، أو قائم مقام المفعول المطلق أي أخذا غصبا. وزكاة تمييز ، ومثله رحما ، وقال أبو حيان الأندلسي : ان رحما مفعول له لأقرب.

الوقوف عند الشبهة :

تدل هذه الآيات ان هناك أمورا ظاهرها الرحمة ، وباطنها العذاب ، وأخرى

١٤٧

بالعكس ، وان الحكم فيها هو التوقف عن الحكم إيجابا وسلبا حتى ينكشف الواقع ، وقد تواتر عن الرسول الأعظم (ص) انه قال : «حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم الحرام؟. فمن تركها استبراء لدينه وعرضه فقد سلم ، ومن واقع شيئا منها يوشك أن يقع في الحرام». وفي حديث ثان : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».

وروي ان لقمان الحكيم دخل على داود ، وهو يصنع الدروع ، ولم يكن قد رآها من قبل ، وهمّ أن يسأله ، ثم رأى الصبر أجمل ، ولما فرغ داود لبس الدرع ، وقال : نعم لباس الحرب. ففهم لقمان ان الدرع وقاية من الطعن والضرب ، فقال : الصمت حكمة ، وقليل فاعله .. وقدم العبد الصالح ثلاثة شواهد على هذه الحقيقة ، وهي :

١ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها). سار موسى وصاحبه على ساحل البحر ، ولما وجدا سفينة طلبا من صاحبها أن يحملهما معه ، فاستجاب .. ولكن ما ان توسطت في لجة البحر حتى خرقها العبد الصالح في مكان يمكن أن يتسرب الماء منه ، ويتعرض من فيها للغرق ، فذعر موسى من هذا المنكر و (قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) أي فظيعا ، وأخذ موسى ثوبه وحشا به الخرق على عهدة المفسرين (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً). يذكره بالشرط ، وهو أن لا يسأله عن شيء ، فاعتذر اليه موسى و (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) لأن النسيان لا يقتضي المؤاخذة (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) لا تضيق عليّ في صحبتي لك.

٢ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ). ففزع قلب موسى من القتل و (قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً). ما ذا جنى هذا المسكين؟ أتقتله متعمدا دون أن يأتي بجناية؟ ان هذا هو المنكر بعينه. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً). مرة ثانية يذكره بالشرط ، وأيضا مرة ثانية يعتذر موسى (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي). من قبل اشترط العبد الصالح على موسى أن لا يسأله ، والآن يشترط موسى على نفسه

١٤٨

أن يجعله في حل من صحبته ان سأله ، والمؤمنون عند شروطهم ، فكيف الأنبياء؟. (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً). قطعت عليّ كل عذر أتعلل به.

٣ ـ (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ). قيل : هي انطاكية ، وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق (ع) : انها الناصرة (اسْتَطْعَما أَهْلَها) طلبا منهم الطعام ضيافة (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما). قال المفسرون : انما قال : فأبوا أن يضيفوهما ولم يقل : فأبوا أن يطعموهما ـ للاشارة الى ان أهل القرية كانوا لئاما ، لأنه لا يرد الضيف إلا لئيم ، بخاصة إذا كان الضيف غريبا (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ). ضمير فيها للقرية ، وضمير فأقامه للعبد الصالح ، ويريد هنا بمعنى يكاد ، وكلّ من أراد وكاد تستعمل بمعنى الثانية ، والمعنى ان موسى وصاحبه رأيا في القرية حائطا أوشك على السقوط ، فسوّاه الثاني وأصلحه بلا مقابل ، فعجب موسى من ذلك و (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً). أتصلح الجدار بالمجان لقوم أبوا ضيافتنا ، ونحن في أمس الحاجة اليها؟ هلا طلبت أجرا على عملك لننفقه في ثمن الطعام؟.

وخرق السفينة ، وقتل الغلام مثالان على ما يبدو شرا في ظاهره دون باطنه ، وإقامة الجدار مثال على العكس.

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً). اشترط العبد الصالح على موسى ان لا يسأل ، وقبل موسى الشرط ، ومع ذلك سأل ، ولما ذكّر بالشرط اعتذر ، ولكنه سأل بعد الاعتذار ، ولما ذكّر ثانية قطع على نفسه عهدا أن يجعل العبد الصالح في حل من صحبته ان سأل بعدها .. ولكنه سأل ، وهو الحريص على ان يتخذه العبد الصالح صاحبا .. وموسى (ع) معذور في كل ما سأل لأن نفسه تصبر على الخير والمعروف ، أما ما تراه منكرا فلا ولن تستطيع عليه صبرا ، حىّ ولو أدى ذلك الى مخالفة الوعد والشرط ، وأي وزن للوعود والشروط إذا أدت الى ترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .. ان الغرائز النفسية وغيرها لا تصدها وتقاومها إلا قوة أقوى منها وأصلب ، ولا شيء أصلب من الايمان الصحيح. انه يتغلب على جميع الأهواء والشهوات ، ومن تغلب عليه شيء منها فما هو من الايمان الصحيح في شيء ، وان صلى وصام وحج إلى بيت الله الحرام.

١٤٩

هذا فراق بيني وبينك .. لك طريق ، ولي طريق .. هكذا قال لموسى صاحبه. وقبل ان يفترقا أخبره العبد الصالح بحكمة ما أنكر (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً). والعاقل يتحمل الضرر لدفع ضرر أكبر ، كما قال الشاعر «تحملت بعض الشر خوف جميعه». ومن هنا اتفق الفقهاء على ان الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف ، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ، واستخرجوا من هذه القاعدة الكثير من الأحكام ، منها جواز قطع العضو الفاسد إذا عرض صاحبه للهلاك.

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي أرحم بهما وأبر ، وروي عن الامام جعفر الصادق (ع) ان الغلام كان في سن البلوغ ، وكان كافرا ، وانه كان يعمل جاهدا لحمل أبويه على الكفر ، تماما كما يفعل الآن بعض الشباب من غلمان هذا العصر .. وقد أدركنا أكثر من واحد من كبار العلماء بالدين كانوا محل الثقة والتقديس في جميع الأوساط ، حتى إذا بلغ غلمانهم هدموا كلما بناه الآباء في السنين الطوال .. واشتهر عن الإمام علي (ع) انه قال : «ما زال الزبير معنا حتى أدرك فرخه عبد الله». ويقول أحمد أمين المصري في كتاب حياتي : ها أنا ذا في شيخوختي قد أقبل ما كنت أرفض ، وقد أتنازل عن بعض المبادئ التي كنت ألتزم ، للواسطة وأحاديث الناس وكثرة الأولاد .. ويعجبني قول القائل :

عصيت هوى نفسي صغيرا وعند ما

رماني زماني بالمشيب وبالكبر

أطعت الهوى عكس القضية ليتني

ولدت كبيرا ثم عدت الى الصغر

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً). المراد بالأشد الحلم والرشد ، ويتلخص المعنى بأن الجدار هو لصغيرين ، وتحته مال مدفون ، فأراد الله سبحانه أن يحمي

١٥٠

لهما هذا المال ، ويحفظه من الضياع ببقاء الجدار قائما حتى يكبرا أو يعقلا ، فيستخرجا المال بأنفسهما ، وقد كان أبوهما من أهل الصلاح «والله يصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده» فأمرني ربي أن أصلحه ففعلت ، هذا هو تفسير ما ثقل عليك فهمه والسكوت عنه.

ومكان العظة في هذه القصة ان لا يعجب المرء بنفسه ، ولا يبادر الى الحكم على الشيء حكما مطلقا ، وهو لا يعرف إلا جهة واحدة من جهاته ، بل لا بد من ملاحظة جميع الجهات بدقة ، ومقارنة بعضها مع بعض ، تم ملاحظة الأفضل منها ، فإن المصالح والمضار متشابكة .. فما من أمر نافع إلا وفيه بعض الضرر ، وما من أمر ضار إلا وفيه بعض النفع ، والعبرة دائما بالأكثر.

١٥١
١٥٢

الجزء السّادس عشر

١٥٣
١٥٤

ذو القرنين الآة ٨٤ ـ ٩٢ :

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢))

اللغة :

الذكر الخبر ، ومكّنا له جعلنا له قوة وسلطانا. وآتيناه من كل شيء سببا أي مهدنا وهيأنا له السبب الذي يوصله الى ما يبتغي ويريد. ومغرب الشمس مكان غروبها في رؤية البصر أي المغرب. والحمأ الطين الأسود ، وعين حمئة ذات طين أسود. ونكرا فظيعا. ومطلع الشمس مكان شروقها بحسب الرؤية أي المشرق.

الإعراب :

حمئة صفة لعين على حذف مضاف أي ذات حمأ. والمصدر من أن تعذب

١٥٥

مبتدأ والخبر محذوف. ومثله أن تتخذ أي إما التعذيب واقع منك وإما اتخاذ الأمر الحسن واقع منك. وجزاء الحسنى قرئ برفع جزاء من غير تنوين ، وعليه فجزاء مبتدأ مؤخر والحسنى مجرورة بالاضافة وله خبر مقدم ، وقرئ بنصب جزاء مع التنوين ، وعليه فالحسنى مبتدأ وله خبر وجزاء حال من ضمير له مثل : في الدار قائما زيد. وكذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك.

المعنى :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً). اختلفوا في ذي القرنين هذا من هو؟. قيل : انه كان ملكا من الملائكة ، وهذا غريب. وقيل : بل هو نبي. وعن الإمام علي (ع) انه عبد صالح. ولا ريب في صلاحه ، لأن أفعاله وأقواله التي سجلها الله في كتابه تشهد له بالفضل والصلاح. وقيل : هو إسكندر المقدوني تلميذ أرسطو ، وكان قبل الميلاد بنحو ٣٣٠ سنة .. وهذا أغرب الأقوال لأن إسكندر المقدوني وثني يعبد الأصنام ، وذو القرنين يؤمن بالله واليوم الآخر ، ونقل الرازي وأبو حيان الأندلسي عن أبي الريحان البيروني ان ذا القرنين عربي يمني من قبيلة حمير ، واسمه أبو بكر.

وأيضا اختلفوا : لما ذا لقب بذي القرنين؟. فقيل : لأنه كريم الأبوين ، وقيل : كانت له ضفيرتان ، وقيل : لأنه ملك الشرق والغرب ، الى غير ذلك من الأقوال والخلافات التي لا تمت الى مقاصد القرآن بسبب .. ومتى اهتم القرآن بالأسماء وأسباب التسمية؟ ولو كان فيها شيء من النفع والخير لما سكت عنها. فغريب من المفسرين أن يشغلوا أنفسهم والناس معهم بما لا خير فيه دنيا وآخرة. ومن أجل هذا نقف عند ظاهر النص ، ونقول : ان أناسا سألوا الرسول الكريم (ص) عن رجل يقال له ذا القرنين ، فأمره الله سبحانه أن يقول للسائلين : سأخبركم بطرف من سيرته.

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً). والمراد بالسبب هنا كل ما يتوصل به الإنسان الى ما يطلبه ويبتغيه ، كالعلم والقدرة والصحة والمال والرجال والآلات ، وفوق ذلك توفيق الله وعنايته ، وقد توافرت هذه القوى

١٥٦

بكاملها لذي القرنين ، وبها أصبح قويا مهابا ، وهذا هو معنى تمكينه في الأرض .. وتدل الآية دلالة واضحة على ان الله سبحانه يوجد الأشياء بأسبابها.

(فَأَتْبَعَ سَبَباً). مهّد الله الأسباب وهيأها لذي القرنين ، فاغتنمها واستغلها في الخير وصالح الأعمال. من ذلك ذهابه الى المغرب الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ). المراد بمغرب الشمس بلاد المغرب ، ومن الواضح ان الشمس لا تدخل العين فتعين ان يكون المراد بالعين الحمئة البحر الذي يتراءى للإنسان ان الشمس تغيب فيه ، وهذا البحر من بحار المغرب ، وكان على شاطئه طين أسود ، ولكن أي بحر هو؟ الله أعلم. ويقول الشيخ المراغي : انه المحيط الأطلنطي.

(وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً). ضمير عندها يعود الى العين ، وظاهر الآية بمفردها يدل على ان الله سبحانه ترك لذي القرنين أمر التصرف في أهل تلك البلاد ، ان شاء عذبهم ، وان شاء أحسن اليهم .. ومن الواضح ان هذا لا يتفق مع عدالته تعالى ، ولكن إذا عطفنا هذه الآية على الآيات الآمرة بقتل الكفار والمشركين ان أصروا على الكفر والشرك ، إذا جمعنا الآيات في كلام واحد دلت بمجموعها على ان القوم الذين وجدهم ذو القرنين في المغرب كانوا كفارا ، وانه عرض عليهم الايمان فامتنعوا.

وتسأل : هل يجوز الإحسان الى الكفار؟.

الجواب : يجوز إذا لم يقاتلونا في الدين ، ولم يخرجوا أحدا من دياره ، قال تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) ـ ٨ الممتحنة.

(قالَ ـ ذو القرنين ـ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً). هذا هو الدستور لحكم ذي القرنين وسلطانه ، ويتلخص بهذه الكلمة : السيف لمن عصى الله ، والحسنى لمن أطاعه .. ان المال والعلم والسلطان نعمة عظمى يمتحن الله بها عباده ، فأما الأشرار فتزيدهم كفرا وطغيانا ، واما الأخيار

١٥٧

فيتخذونها وسيلة الى طاعة الله ومرضاته ، كما فعل ذو القرنين.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) رجع ذو القرنين من المغرب الى المشرق الذي أشار اليه تعالى بقوله: (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً). المراد بمطلع الشمس المشرق ، وضمير وجدها ودونها يعودان الى الشمس ، والمراد بالستر هنا البناء وما اليه كالأكواخ والخيام والكهوف ، والمعنى ان ذا القرنين حين وصل إلى بلاد في الشرق وجد قوما في أرض مكشوفة للشمس ، وحياتهم بدائية كوحوش الفلوات ، ورجح بعض المفسرين ان هذه الأرض تقع على شاطئ افريقية الشرقي .. ولم يذكر سبحانه ما ذا فعل ذو القرنين بهؤلاء : هل أحسن لمن آمن وعمل صالحا منهم ، وعذّب من أصر على الكفر ، أو تركهم وشأنهم لأنهم كالحيوانات غير مسؤولين عن شيء ، أو لسبب آخر؟ الله أعلم. (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أي هذا هو أمر ذي القرنين الذي أحطنا بجميع أخباره وأحواله.

يأجوج ومأجوج الآية ٩٣ ـ ١٠٠ :

(حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ

١٥٨

وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠))

اللغة :

الخرج بفتح الخاء وسكون الراء الجعل. والردم الحاجز. والزبر بضم الزاء وفتح الباء جمع زبرة وهي القطعة. والصدف جانب الجبل. والقطر النحاس أو الحديد أو الرصاص المذاب. ان يظهروه ان يعلوه. والصور قرن ينفخ فيه.

الإعراب :

ما مكني (ما) اسم موصول مبتدأ ، وخير خبر. وردما مفعول أول لأجعل ، وبينكم وبينهم متعلق بمحذوف مفعولا ثانيا. واسطاعوا أصلها استطاعوا فحذفت التاء تخفيفا. والمصدر من ان يظهروه مفعول لاسطاعوا. وجمعا مفعول مطلق.

المعنى :

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً). رجع ذو القرنين الى بلاد ثالثة تقع شرقي البحر الأسود ، يسكنها الصقالبة ـ كما قيل ـ وإليها أشار سبحانه بقوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً). المراد بالسدين هنا جبلين ، وكان القوم الذين وجدهم ذو القرنين هناك لا يفهمون لغته ، ولا لغة من معه ، ولا هو ومن معه يفهمون لغة القوم ، ولكنه فهم مطالبهم بالاشارة ، أو بواسطة مترجم بدليل قوله تعالى : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا). قال الشيخ المراغي في

١٥٩

تفسيره : «يأجوج هم التتر ، ومأجوج المغول ، وأصلهما من أب واحد يسمى (ترك) وتمتد بلادهم من التبت والصين الى البحر المتجمد ، ومنهم جنكيزخان وهلاكو». ثم نقل المراغي عن مجلة المقتطف لسنة ١٨٨٨ ان سد ذي القرنين يقع وراء جيحون في عمالة بلخ ، واسمه الآن باب الحديد ، وهو بمقربة من مدينة ترمذ ، وان العالم الألماني «سيلد برجر» ذكره في رحلته التي كانت في أوائل القرن الخامس عشر ، وأيضا ذكره المؤرخ الاسباني «كلافيجو» في رحلته سنة ١٤٠٣.

ومهما يكن فقد طلب القوم من ذي القرنين أن يبني لهم سدا يمنع عنهم يأجوج ومأجوج ، فقد كانوا يغزون أرضهم ، ويسومونهم سوء العذاب قتلا وسبيا ونهبا ، واشترطوا على أنفسهم ان يجعلوا لذي القرنين جعلا في أموالهم إذا هو بنى السد (قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) وأعطاني من السلطان والمال (خير) مما آتاكم الله ، فأنتم الى مالكم أحوج ، فأنفقوه في مصالحكم (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) : المراد بالقوة هنا العمال وأدوات البناء ، وبالردم السد والحاجز (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) أي قطعا منه (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ). الصدفان جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يلتقيان ، وفي الكلام حذف ، وتقديره فأتوه بالحديد ، فوضع بعضه فوق بعض حتى سد ما بين الجبلين الى أعلاهما ، ثم آتوه بالوقود ، فأشعل فيه النار ، ووضع المنافخ و (قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) أي نفخوا فصار السد كالنار اشتعالا وتوهجا ، وعندها (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) والقطر هو الصلب المذاب ، فأتوه به فصبه على الحديد المحمي ، فالتصق بعضه ببعض ، وصار جبلا من حديد.

(فَمَا اسْطاعُوا) الضمير ليأجوج ومأجوج (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أن يصعدوا من فوقه لارتفاعه وملاسته (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) لصلابته وكثافته (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي). هذا اشارة الى السد ، وفي قال ضمير يعود الى ذي القرنين ، وقد حمد الله سبحانه على هذه الرحمة والنعمة التي أتمها على يده .. وهكذا المؤمن المخلص يتواضع لله ، ويشكره كلما تتابعت نعم الله عليه.

وبناء هذا السد أصدق مثال على انه قد كان في تاريخ الانسانية تعاون وتعاطف

١٦٠