التّفسير الكاشف - ج ٥

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٥

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٣٤

١
٢

٣
٤

الجزء الخامس عشر

سورة الأسراء

٥

٦

سورة الأسراء

مكية ، وعدد آياتها ١١١ إلا ٥ وقيل إلا ٨.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الاسراء الآة ١ :

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

اللغة والإعراب :

سبحان منصوب على معنى أسبح تسبيحا ، ومعنى التسبيح التنزيه ، وفيه معنى التعجب ، والاسراء يكون بالليل ، وليلا ظرف لأسرى ، وجيء به هنا للتوكيد ، وقيل : للاشارة إلى ان الاسراء كان في بعض الليل ، لا في كله ، والمراد بعبده محمد (ص) ، والمسجد الحرام البيت العتيق بمكة ، وقال صاحب روح البيان وغيره : «أصح الروايات ان الاسراء كان من بيت ام هاني أخت علي بن أبي طالب». والمسجد الأقصى هيكل سليمان ، وسمي مسجدا لأنه محل للسجود ، وهو أقصى لبعده عن مكة. وحوله ظرف لباركنا ، وهو محفوف ببركات الدين والدنيا ، أي بموطن الأنبياء ، وبالأنهار والأشجار. وضمير انه هو السميع البصير يجوز ان يعود الى الله تعالى على معنى انه يعلم من يؤمن ومن يكفر بحديث الاسراء ، ويجوز ان يعود الى محمد (ص) على معنى انه يعلم جلال الله وعظمته. أما زمن

٧

الاسراء فقيل : انه ليلة ٢٧ من رجب ، وقيل : ليلة سبع عشر من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة.

الاسراء بالروح والجسد :

يطلق كثير من العلماء كلمة الإسراء على رحلة النبي (ص) من المسجد الحرام في مكة الى المسجد الأقصى في بيت المقدس ، ويطلقون كلمة المعراج على رحلته من بيت المقدس الى السموات العلى ، لأن كلمة المعراج تومئ الى الارتقاء والصعود .. والبعض منهم لا يفرق بين الكلمتين ، فيستعمل الاسراء في الصعود الى السماء ، والمعراج في الإسراء الى بيت المقدس.

وقد اتفقوا على وقوع الاسراء والمعراج لوجود النص عليهما في الكتاب والسنة ، واختلفوا : هل كان ذلك بالروح دون الجسد أو بهما معا ، ونحن مع الذين قالوا : انه بهما معا ، ونتكلم هنا عن الاسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أما المعراج إلى السماء فيأتي الحديث عنه في سورة النجم. واستدل القائلون بأن الاسراء كان بالروح والبدن بالأدلة التالية :

١ ـ ان الاسراء بالبدن ممكن عقلا ، وقد دل عليه ظاهر الوحي ، حيث قال تعالى : اسرى بعبده ، ولم يقل بروح عبده ، وكلمة العبد تطلق على مجموع الروح والبدن ، كما قال تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) ـ ١٠ العلق. ومن الأصول المقررة في الإسلام ان كل ما دل عليه ظاهر الوحي ، ولم يعارض بحكم العقل وجب الايمان به.

٢ ـ لو كان الاسراء بالروح فقط لما كان فيه أي شيء من العجب ، ولم يبادر المشركون الى تكذيبه ، فلقد جاءت الروايات ان أم هاني قالت للرسول الأعظم (ص) : لا تخبر قومك بذلك ، فأخشى أن يكذبوك .. ولكنه لم يسمع لتخوف أم هاني ثقة منه بالحق الذي جاء به ، وصارح قومه بما رأى ، فدهشوا وأنكروا ، ولو كان مناما لما دهشوا وأنكروا.

٣ ـ ان الاسراء بالروح والبدن يرمز إلى أن على الإنسان أن يعمل لحياته

٨

المادية والروحية ، لا لإحداهما دون الأخرى.

٤ ـ اشتهر عن الرسول (ص) انه قال : اسري بي على دابة يقال لها البراق. ومن الواضح ان الاسراء بالروح فقط لا يحتاج إلى الدابة ولا إلى غيرها. وبهذه المناسبة نشير إلى مقال نشرته جريدة «الجمهورية» المصرية لمحمد فتحي أحمد بعنوان «المضمون العلمي للاسراء والمعراج» جاء فيه :

«امتطى الرسول الكريم راحلة يقال لها البراق ، وهي على ما ذكر الحديث دابة فوق الحمار ودون البغل ، وفي ذلك تلقين إلهي لنا بوجوب التعلق بالأسباب ، فلم يكن عزيزا على ربنا أن ينقل رسوله من مكة إلى القدس دون وسيلة من وسائل النقل بحيث يجد الرسول نفسه فجأة على أبواب المسجد الأقصى ، ولكنه جلت حكمته قضى بأن يجري كل شيء على قوانين لا تتبدل ولا تتحول .. وفي استخدام هذه الراحلة التي قطعت المسافة الطويلة في سرعة مذهلة تحريض للعقول على النظر في ابتداع وسائل جديدة تقطع المسافات البعيدة في مدة وجيزة .. ثم نسأل الذين يعلمون : ما هي أقصى سرعة تجري في كون الله طبقا لما انتهى اليه العلم؟. ويأتينا الجواب بلا تردد انها على وجه اليقين سرعة الضوء ، وهي ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية الواحدة .. والبراق الذي امتطاه الرسول كان ينطلق بسرعة ضوئية لأن كلمة البراق مشتقة من البرق .. ومن خلال المحاولات العلمية في دراسة الفضاء توصل الإنسان إلى معرفة كثير من الأسرار ، واستطاع بسلطان العلم أن ينفذ من أقطار الأرض إلى عجائب الملكوت ، ولكن العلم المادي وحده ينسي الإنسان خالق الكون ، وحادث الاسراء والمعراج يعطينا درسا بأن المادة والروح متلازمان فقد كان الرسول بعروجه إلى الملأ الأعلى على هيئته بشرا من مادة الكون وقبسا من روح الخالق الأعظم ، وكان جبريل يمثل الدليل الأمين ، ولا مانع من أن نرمز اليه في الرحلة بسلطان العلم الذي يجب أن يقودنا في رحلتنا بهذه الحياة إلى خالق الأكوان».

وأغرب ما قرأته في هذا الباب قول من قال : ان إسراء النبي (ص) كان بروحه ، لا بجسده الشريف مستدلا بما روي عن عائشة ان جسد النبي لم يفارقها تلك الليلة .. مع العلم بأن عائشة كانت صغيرة حين الاسراء ، ولم تكن زوجة لرسول الله (ص) .. فالرواية تكذب نفسها بنفسها.

٩

بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى :

المسجد الأقصى يشبه المسجد الحرام من وجوه :

١ ـ انهما في الشرق.

٢ ـ يرجع تاريخ كل منهما إلى عهد قديم الا ان المسجد الحرام أقدم وأعظم ، لأنه أول بيت وضع للناس ، وقد أوجب الله حجه على من استطاع اليه سبيلا : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ـ ٩٨ آل عمران.

٣ ـ ان كلا من الكعبة ومدينة القدس التي فيها المسجد الأقصى قد أسسها وأنشأها العرب أو شاركوا في بنائها أو تأسيسها ، أما الكعبة فقد بناها ابراهيم وولده إسماعيل (ع) : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ـ إلى قوله ـ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) ـ ١٢٧ البقرة. والمعروف ان إسماعيل أول نبي تكلم باللغة العربية خلاف لغة أبيه ، واليه تنتسب قريش وغيرها من العرب ، وبلغتها نزل القرآن الكريم ، أما القدس فقد نزح إلى أرضها قبيلة اليبوسيين ، وهي من القبائل الكنعانية العربية ، وقد حطت رحالها على الجبل المعروف باسم صهيون سنة ٢٥٠٠ قبل الميلاد بزعامة شيخها سالم اليبوسي ، وهذه القبيلة العربية هي التي وضعت أول لبنة لمدينة القدس التي أصبحت فيما بعد قبلة العالم (١) .. وبعد أن فتح المسلمون القدس بنوا مسجد عمر ، ومسجد قبة الصخرة داخل الحرم القدسي ، والأول أسسه عمر ابن الخطاب ، والمسجد الثاني بناه عبد الملك بن مروان ، وكان المسلمون لا يبيحون لغير المسلم أن يطأ أرضهما.

٤ ـ ان المسلمين يقدسون كلا من المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، حيث توجهوا اليه في صلاتهم ثلاثة عشر عاما بمكة وبضعة أشهر بالمدينة ، وإذا أضفنا

__________________

(١). من تحقيق نشره الأستاذ ميخائيل خليل في جريدة «أخبار اليوم» عدد ٢٥ ـ ٥ ـ ١٩٦٨.

١٠

إلى ذلك أسراء النبي (ص) اليه لم يكن عجبا ان يتخذه المسلمون مكانا مقدسا لهم وان يكون عندهم بالمنزلة الثانية من الحرم المكّي والمدني من حيث القداسة والصيانة والرعاية.

وقد جاء في كثير من الروايات ان رسول الله قيّد البراق بالصخرة المقدسة حين بلغ به الإسراء الى بيت المقدس وحتى الآن يسمى الجدار الغربي للحرم القدسي بجدار البراق ، وجاء في الروايات أيضا ان النبي (ص) صلى على أطلال هيكل سليمان اماما لإبراهيم وموسى وعيسى ، وانه عرج الى السماء بعد ذلك متخذا من صخرة يعقوب مركزا لمعراجه الى السماء. ومن أجل هذا وغيره كانت مأساة القدس سنة ١٩٦٧ م. على أيدي الصهيونية والاستعمار الأمريكي والانكليزي هي مأساة المسلمين والمسيحيين أيضا .. فلقد لوثت تلك الأيدي القذرة الأماكن المقدسة عند الديانة الاسلامية والمسيحية ، واستهانت بها ، فأحيت فيها الليالي الحمراء مع الفاجرات ، وأقامت حفلات الرقص والخلاعة.

وغريبة الغرائب ان يدعي الامريكان والانكليز انهم حماة الأديان وأعداء الإلحاد .. وفي نفس الوقت يناصرون الصهاينة الذين لا يؤمنون بالقيم ، ولا يحترمون الأخلاق ، ولا يقيمون وزنا لدين من الأديان ، ولا يعترفون بحق من حقوق الإنسان. لقد ناصر الامريكان والانكليز إسرائيل وأمدوها بالمال والسلاح ، وآزروها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، وشجعوها على انتهاك المقدسات الدينية عند المسلمين والمسيحيين ، وتحدوا بموقفهم هذا العالم بأسره .. ولسنا نشك في ان دائرة السوء ستدور على المستعمرين وحلفائهم الصهاينة بأيدي الثائرين الأحرار ، تماما كما دارت الآن على رؤوس الأمريكان بيد الفيتناميين ، ودارت من قبل على اليهود بيد بخت نصر والرومان والنبي (ص) والخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، وهذه الصحف والاذاعات في الشرق والغرب لا تخلو يوما من أخبار المقاومة الفلسطينية وعملياتها الفدائية التي جعلت كل اسرائيلي يعيش في كابوس من الخوف والرعب.

الدرس العملي في الاسراء :

ان هذا القرآن المكتوب الذي نتلوه ونستمع اليه هو دروس ألقاها الخالق ،

١١

جلت عظمته ، على رسوله الكريم ليبلّغها بدوره الى الناس كافة ، وهذه الدروس على انواع ، منها في الأحكام ومعرفة الحلال والحرام ، ومنها الأمر بالجهاد في سبيل الله والإخلاص والمثابرة والصبر على الشدائد من أجل الحق ، وأهمها جميعا الايمان بالله وعظمته إيمانا صحيحا مبنيا على العلم ، لا على التقليد ، وقال ويقول ، ولا على الأوهام والشطحات .. وقد أرشد سبحانه الى طريق العلم واليقين به ، وهو التفكر في خلق الكون بأرضه وسمائه ، وما فيهما من تدبير وإحكام وتنسيق بين أجزائه وكلياته : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) ـ ٨ الروم.

وبعد أن أوحى الله الى عبده ورسوله بتلك الدروس في عظمة الكون وخلق السموات والأرض ـ خصه من دون الخلق أجمعين برحلة أرضية من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، ورحلة سماوية من المسجد الأقصى الى السموات العلى .. أما الغرض من هاتين الرحلتين فهو ان يتلقى الرسول الكريم (ص) درسا عمليا بعد أن تلقى درسا نظريا في الكون ، وان يشاهد من عوالمه وعجائبه ما لا تدركه العقول ، ولا تبلغه الأوهام .. وهذه هي الطريقة المتبعة في التربية الحديثة ، حيث يهيء الأساتذة لتلاميذهم الرحلات ونحوها من الدروس العملية بعد الدروس التي يتلقونها في المدارس والمعاهد .. وبالتالي ، فان الدرس البليغ في رحلتي الرسول الأرضية والسماوية هو حض العقول على النظر في ملكوت السموات والأرض للتعرف على قدرة الخالق وعظمته : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ـ ١٨٥ الأعراف .. وقال الامام علي (ع) : عجبت لمن شك في الله ، وهو يرى خلق الله!.

وآتنا موسى الكتاب الآة ٢ ـ ٣ :

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

١٢

الإعراب :

ان لا تتخذوا (ان) بمعنى أي مفسرة لما في الكتاب كما لو قلت : كتبت اليه ان افعل كذا ، وتتخذوا تتعدى إلى مفعولين : الأول وكيلا ، والثاني دوني ، ومن زائدة اعرابا أي لا تتخذوا وكيلا غيري. وذرية منادى أي يا ذرية من حملنا.

المعنى :

(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً). المراد بالكتاب التوراة ، وباسرائيل يعقوب بن اسحق بن ابراهيم (ع) ، والمعنى ان الله أنزل التوراة على موسى ليهتدي بها بنو إسرائيل إلى الحق والصواب ، وليتكلوا على الله وحده ، ولا يتخذوا من دونه وليا ولا نصيرا. ولكنهم حرّفوا كلام الله ، وعبدوا العجل ، وقتلوا الأنبياء ، وملأوا الدنيا شرا وفسادا ، وسخروا لهذه الغاية جميع ما يملكون من طاقات.

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ). حمل نوح معه في السفينة أولاده الثلاثة ، وهم حام وسام ويافث ، ونساءهم ، ومنهم تناسل الناس بعد الطوفان ، ومنهم الاسرائيليون في عهد موسى ، وفي هذا النداء تذكير لبني إسرائيل بأنعم الله التي جحدوها وكفروا به وبها. (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً). ضمير انه يعود إلى نوح (ع) أي كونوا أيها اليهود شاكرين ذاكرين كما كان نوح .. ولكن لا يشكر النعمة إلا أهل الصدق والوفاء ، وما عرف الاسرائيليون منذ كانوا إلا الكذب والغدر والخيانة.

وروي عن الإمام جعفر الصادق (ع) ان نوحا كان إذا أصبح أو أمسى قال : اللهم اني أشهدك ان ما أصبح وأمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فهو منك لا شريك لك ، لك الحمد ، ولك الشكر بها عليّ حتى ترضى.

١٣

بنو اسرائيل والافساد مرتين الآية ٤ ـ ٨ :

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

اللغة :

للقضاء معان ، منها فصل الأمر ، ومنها الخلق والأحداث كقوله تعالى : فقضاهن سبع سموات ، ومنها الإيجاب كقوله : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، ومنها الإخبار والاعلام ، وهو المراد بقوله : وقضينا الى بني إسرائيل. والمراد بالعلو هنا الطغيان. والجوس خلال الديار وطؤها والتردد بينها. والكرة العودة والرجعة. والمراد بالنفير هنا العدد من الرجال. والتتبير الإهلاك ، والتبار الهلاك. والحصير يستعمل في البساط والسجن ، وكل من المعنيين جائز في الآية.

الإعراب :

قضينا تضمنت معنى الإيحاء ، ولذا تعدت بإلى. واللام في لتفسدن جواب

١٤

قسم محذوف أي والله لتفسدن. ومرتين نائبة مناب المفعول المطلق ، أي إفسادا بعد افساد ، أو إفسادتين. والوعد هنا اسم مفعول أي الموعود. وخلال ظرف مكان متعلق بجاسوا. وكان وعدا اسم كان ضمير مستتر يعود الى الجوس ووعدا خبر. ونفيرا تمييز. فإذا جاء وعد الآخرة جواب إذا محذوف دل عليه جواب إذا الأولى أي فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم عليكم. وليسوءوا واو الجماعة عائد الى المبعوثين ، ويسوءوا منصوب بان مضمرة بعد اللام ، والمصدر المنسبك مجرور بها ، ويتعلق ببعثنا المحذوفة. وأول مرة منصوب على الظرف. وما علوا (ما) مفعول ليتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من البلاد.

المعنى :

المعنى الجملي لهذه الآيات ان الله أخبر بني إسرائيل انهم يفسدون في الأرض أولا ، فيسلط عليهم من يذلهم بالقتل والأسر والسلب والنهب ، ثم يستردون قوتهم ، ولكن يعودون الى الإفساد ثانية ، فيسلط عليهم أيضا من يضربهم الضربة الثانية ، وفيما يلي التفصيل :

١ ـ (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ). المراد بالقضاء هنا الاعلام والإيحاء ، لا القضاء بمعنى الحكم والأمر لأن الله لا يقضي بالفساد : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ـ ٢٨ الأعراف ، والمراد بالكتاب التوراة التي أنزلت على موسى بدليل قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ). والمعنى ان الله سبحانه أخبر بني إسرائيل ان خلفهم سيفسدون في الأرض مرتين.

٢ ـ (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ). وليس المقصود بافسادهم هنا الإفساد بمعناه العام الذي يشمل الكفر والكذب وأكل الربا ، وتدبير المؤامرات ونحوها .. فان هذا هو دينهم ودينهم في كل عصر وجيل ، وكل طور من أطوار حياتهم ، فلقد قال تعالى فيما قال عنهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا ـ الى قوله ـ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) ـ ٦٤ المائدة. ليس المقصود الإفساد العام ، وانما المقصود

١٥

الإفساد الخاص ، وهو الحكم والسيطرة ، وان حكمهم هو الإفساد بالذات بدليل قوله تعالى مخاطبا بني إسرائيل :

٣ ـ (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً). والقرآن الكريم يستعمل العلو في الطغيان والإفساد قال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) ـ ٤ القصص. وقال : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ٨٣ القصص. والمعنى انكم يا بني إسرائيل ستحكمون مرتين ، وتتخذون الحكم وسيلة للفساد الكبير الخطير الذي لا يقاس به أي فساد .. فتستبيحون المقدسات ، وتنتهكون الحرمات ، وتستهينون بالقيم والأخلاق ، وبكل حق لله وللإنسان.

ولم ينص القرآن الكريم على مكان وزمان افسادهم الكبير بسبب الحكم مرتين ، ولكن المؤرخين وجماعة من المفسرين قالوا : ان بني إسرائيل أغاروا على فلسطين بعد التيه بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى بن عمران ، واحتلوها واستولوا على جميع ما فيها من خيرات وثروات بعد أن أبادوا معظم أهلها الكنعانيين ، واستعبدوا من بقي منهم ، وكانت سيرتهم مع يوشع تماما كسيرتهم مع موسى : العصيان والعناد .. وهذه هي المرة الأولى ، أما المرة الثانية فمن قائل : انها لم تقع بعد ، وانها ستقع في المستقبل على أيدي العرب والمسلمين في فلسطين ، ويأتي البيان ، ومن قائل : انها وقعت ومضى أمدها. وهذا القول هو الأرجح.

وفي كافة الأحوال فان القرآن الكريم ينص صراحة على ان بني إسرائيل إذا حكموا وسيطروا طغوا وبغوا وأفسدوا في الأرض وعلوا علوا كبيرا .. اذن ، فلا بدع أن تبقر الدولة الصهيونية الاستعمارية بطون الحبالى في فلسطين ، وتدفن الشباب أحياء ، وتطلق النار على المساجين ، وتلقي قنابل النابالم على الآمنين ، وتهدم البيوت على أهلها ، وتكم الأفواه بالأموال والضغط العنيف .. ثم تتباكى وتتظلم من الاعتداء عليها .. نقول هذا مع العلم بأن

القرآن لا يشير إطلاقا الى هذه العصابة المرتزقة التي باعت نفسها لكل من قاد ويقود قوى الشر والاستعمار .. ولكن جاءت الاشارة اليها لأن هذه العصابة تحمل اسم إسرائيل ، وتدعي الانتماء إلى بنيه مسخة القرود والخنازير.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما). ضمير أولاهما يعود إلى المرتين من افساد بني

١٦

إسرائيل ، والوعد هنا بمعنى الموعود أي إذا جاء الوقت الموعود لإفساد بني إسرائيل في المرة الأولى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). الخطاب في عليكم لبني إسرائيل ، وبعثنا سلطنا ، ولا يشرط في العباد أن يكونوا مؤمنين ـ كما زعم البعض ـ بل قد يكونون كافرين بدليل قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ـ ٣٠ يس ، وأولي بأس شديد أصحاب شوكة وقوة ، وهم البابليون بقيادة بخت نصر أو أبيه سنحاريب ، الذين قتلوا اليهود ، وأحرقوا التوراة ، وسبوا منهم عددا كبيرا رجالا ونساء وأطفالا ، وكان ذلك سنة ٥٨٦ قبل الميلاد ، وقيل : ٥٩٦ (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) لم يأت في القرآن لفظ جاسوا إلا في هذه الآية ، والجوس طلب الشيء بالاستقصاء والتردد أي ان أولي البأس كانوا يترددون وسط ديار اليهود ذهابا وإيابا يبحثون عن اليهود ليقتلوهم (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) نافدا لا خلف فيه ، ولا مرد له.

وخلاصة المعنى من مجموع هذه الآية ان بني إسرائيل حين أفسدوا في المرة الأولى بعث الله عليهم قوما أقوياء أشداء قتلوا وأسروا وشردوا رجالهم ، وسبوا نساءهم ، ونهبوا أموالهم ، وخربوا ديارهم .. ونخلص من هذا ان الافسادة الأولى وضربتها من الله على يد قوم أشداء قد مرت قبل الإسلام.

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً). الخطاب لبني إسرائيل ، والضمير في عليهم للبابليين ، والمعنى ان بني إسرائيل يكرّون ويتحررون من أسر البابليين وإذلالهم .. والمعروف ان بني إسرائيل لم يحاربوا البابليين في ديارهم ، ولم ينتصروا عليهم ، ولكن في سنة ٥٣٨ قبل الميلاد فتح ملك الفرس بلاد بابل ، وحرر من فيها من الأسرى الاسرائيليين ، وعليه تكون الكرة من بني إسرائيل على البابليين بواسطة ملك الفرس ، قال أبو حيان الأندلسي في تفسيره «المحيط» : «إن ملكا غزا أهل بابل ، وكان بخت نصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ، وأبقى منهم بقية عنده ببابل في الذل ، فلما غزاهم ذلك الملك ، وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل ، فطلبت منه أن يرد قومها إلى بيت المقدس ، ففعل (١).

__________________

(١). ويشهد هذا الزواج على اليهود بأنهم منذ القديم يتوصلون الى غاياتهم عن طريق الرقيق الأبيض.

١٧

ولما عاد بنو إسرائيل إلى فلسطين أمدهم الله بالمال والبنين ، وجعلهم أكثر عددا مما كانوا ، ولكن ما ان استردوا قوتهم حتى عادوا إلى أسوأ مما كانوا عليه من الإفساد والانحراف عن الدين ، وقتلوا زكريا ويحيى ، وهمّوا بقتل السيد المسيح (ع).

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها). وفي هذا المعنى قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ـ ٤٦ فصلت. وقوله: (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ـ ٢٨٦ البقرة.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ). بعد أن مضى الإفساد الأول من بني إسرائيل ، ومضت محنتهم الأولى جاء الإفساد الثاني ، وحل محله وقت المحنة الثانية ، فبعث الله على بني إسرائيل قوما (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) الخطاب لبني إسرائيل ، وضمير يسوءوا راجع إلى المبعوثين لكي ينزلوا المحنة بالاسرائيليين .. ومساءة الوجوه كناية عن محنتهم وإذلالهم ، لأن الأعراض النفسية يظهر أثرها في الوجه فرحا كانت أو حزنا ، ومثله قوله تعالى : (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ ٢٧ الملك.

(وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً). المراد بالمسجد هنا مدينة القدس ، لأن فيها هيكل سليمان ، وسمي مسجدا لأنه محل للسجود ، والمراد بالتتبير الإهلاك ، وما علوا أي ما أخذه الفاتحون وتغلبوا عليه ، والمعنى ان بني إسرائيل حين أفسدوا في المرة الثانية سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، ويجعل مصيرهم في هذه المرة تماما كمصيرهم في المرة الأولى من القتل والأسر والتشريد والتخريب والتدمير .. ونخلص من هذا ان الافسادتين والمحنتين قد مضتا جميعا قبل الإسلام.

وفي مجمع البيان ان الذي أغار على بني إسرائيل أولا ، وخرب بيت المقدس هو بخت نصر ، والذي أغار عليهم ثانية هو ملك الروم ، فخرب بيت المقدس وسبى أهله ، ويتفق هذا مع ما نقله المراغي عن تواريخ اليهود ، وقال : كان بين الاغارتين نحو من خمسمائة سنة.

(عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) على شريطة أن تتوبوا وترحموا ، لأن من لا يرحم لا يرحم ، كما جاء في الحديث الشريف (وان عدتم) إلى الإفساد والتعالي والاستكبار على أمر الله (عدنا) إلى عقابكم وإذلالكم ، وقد عادوا وأفسدوا ،

١٨

فكذبوا محمدا (ص) ، وهموا بقتله ، كما هموا بقتل المسيح (ع) من قبل ، فسلط الله عليهم المسلمين ، فقتلوا بني قريظة ، وأجلوا بني النضير ، واستولوا على خيبر ، وطردوا اليهود من الجزيرة العربية.

(وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً). قيل : الحصير هنا بمعنى البساط ، وقيل : بمعنى الحصر والحبس ، ومهما يكن فإن المراد ان جهنم محيطة بهم ، ولا رجاء لهم بالخلاص منها ، تماما كقوله تعالى : (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) ـ ١٢١ النساء.

قضاء الله ودولة إسرائيل :

في كانون الثاني «يناير» من هذا العام ١٩٦٩ دار نقاش هادئ على صفحات جريدة الأخبار المصرية حول قضائه تعالى : (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) الخ». واشترك في هذا النقاش عدد كبير من أهل العلم والرأي الغيورين على الحق ، واستمر الحوار والجدال أمدا غير قصير ، ونشرته الجريدة في أربعة أعداد ، وهي أعداد أيام الجمعة من الشهر المذكور ، وقد انقسم المشتركون في هذا الحوار إلى فريقين :

الفريق الأول يقول : ان أولى الضربتين على بني إسرائيل وقعت بيد المسلمين أيام عمر بن الخطاب لأنه فتح القدس ، وجاس هو والمسلمون خلال الديار الفلسطينية ، وفسر هذا الفريق المفسدة الثانية من بني إسرائيل بما فعلته عصابة الصهاينة في حزيران سنة ١٩٦٧ وما تفعله الآن ، وفسر الضربة الثانية بأن الله سيمكّن في المستقبل العرب والمسلمين من رقاب الصهاينة ، فيسترجعون منهم الأرض السليبة التي وثبوا عليها في حمى الاستعمار .. وقال هذا الفريق : ان هذا المعنى هو المراد من قوله تعالى : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي ان العرب والمسلمين يحررون المسجد الأقصى في المستقبل من إسرائيل الحالية كما حرره المسلمون من قبل.

ولا مصدر لهذا التفسير إلا العاطفة والتنبؤات التي يجب تنزيه القرآن عنها ، لأنه كتاب علم ونور من الله يكشف عن السنن والقوانين الكونية التي لا تتغير ولا

١٩

تتبدل ، وتطرد في جميع الكائنات من الذرة الصغيرة الى المجرات الكبيرة .. وفي الوقت نفسه يحمّل القرآن كل فرد مسؤولية العمل والجهاد والحساب عليه أمام الله والضمير والناس أجمعين.

أما الفريق الثاني فيقول : إن الافسادتين من بني إسرائيل قد مضتا ، ومضت معهما الضربتان قبل الإسلام ، وان الضربة الأولى سبقت ظهور الإسلام بنحو ألف عام وانها كانت بيد ملك بابل بخت نصر أو أبيه سنحاريب الذي دمّر القدس ، وأحرق الهيكل ، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة ، وساق من بقي منهم رجالا ونساء وأطفالا سبيا ذليلا إلى بابل.

أما الضربة الثانية فيقول هذا الفريق : انها وقعت على بني إسرائيل سنة ٧٠ للميلاد بيد تيطس الروماني الذي حاصر مدينتهم ، ودك أسوارها ، ثم دخلها فخرب منازلها ، ودمر هيكلها ، وقتل مليون نسمة على ما قرره يوسيفوس الذي شهد الموقعة بنفسه ، عدا من باعه رقيقا في الأسواق ، وهام الباقون على وجوههم مذعورين إلى شتى أنحاء الأرض (١).

وأيضا قال هذا الفريق : إن النص القرآني لا يشير من قريب أو بعيد إلى العصابة الموجودة الآن على أرض فلسطين ، والتي تحمل اسم إسرائيل ، لأنها ليست طائفة دينية ، ولا هيئة سياسية ، ولا دولة حقيقية ، وإنما هي في واقعها عدو جديد للعرب والمسلمين ، وهو الاستعمار الصهيوني ، أو الصهيونية الاستعمارية التي تلبس أثواب داود ، عليها الخريطة المشتهاة ، والمسجلة في التوراة الموضوعة المحرفة «من النيل إلى الفرات». والغرض الأول والأخير هو أن يقضي الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة على الكيان العربي والاسلامي ، ويستنزف موارد الشعوب تحت ستار اليهود.

ونخلص من هذا ان القرآن الكريم لم يشر إطلاقا إلى إسرائيل الحالية ، وان الآيات التي تحدثت عن بني إسرائيل إنما عنت الاثني عشر سبطا من نسل يعقوب ابن اسحق بن ابراهيم الذين كانوا في عهد موسى وهارون .. وهؤلاء الذين اقتحموا

__________________

(١). من كلمة البهي الخولي. «الأخبار» المصرية ٣١ ـ ١ ـ ١٩٦٩.

٢٠