التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

القبر للدعاء عبادة مشروعة». ولا يختلف احد من فقهاء المسلمين في ان الدعاء للأموات يجوز شرعا ، تماما كالدعاء للأحياء ، بل الأموات أحوج ، ما دمنا نعتقد بالبعث وحسابه وعقابه ، ولا فرق بين أن يكون الدعاء على القبور ، أو على غيرها.

أما زيارة القبور فقد أجمع الفقهاء على جوازها ما عدا أئمة الوهابية .. وقد روى السنة في ثلاثة كتب من صحاحهم أحاديث تنطق صراحة بالجواز ، قال مسلم في صحيحه القسم الثاني من الجزء الأول ، باب استئذان النبي (ص) ربه في زيارة قبر أمه : «زار النبي (ص) قبر أمه ، وقال : استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر بالموت». وقال ابن حجر العسقلاني في ج ٣ من كتاب فتح الباري بشرح البخاري ، باب زيارة القبور : «أخرج مسلم عن النبي (ص) انه قال : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها» .. وزاد أبو داود والنسائي ـ وهما من أصحاب الصحاح ـ فإنها تذكرة الآخرة ، وللحاكم من حديث عن النبي : وترق القلب ، وتدمع العين ، فلا تقولوا هجرا .. وتزهد في الدنيا».

وتكلمنا عن ذلك في كتاب : هذه هي الوهابية. ثم عقدنا فصلا بعنوان زيارة القبور في كتاب ، من هنا وهناك. أما حساب القبر فقد تكلمنا عنه في المجلد الأول من هذا التفسير ص ٤٠٧ عند تفسير الآية ٢٥٩ من سورة البقرة. وقد نعود ثانية الى هذا الموضوع عند الاقتضاء.

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ). تقدم نظيره في الآية ٥٥ من هذه السورة ، وقال المفسرون : إنما أعاد سبحانه تأكيدا للتحذير من الإعجاب بالمال والولد والاشتغال بهما ، وقلنا أكثر من مرة : ان التكرار في القرآن غير عزيز.

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ). وأولو الطول هم الطغاة المترفون الذين يتفادون كل ما يمس مصالحهم من قريب أو بعيد .. والإيمان بالله معناه المساواة بينهم وبين سائر الناس ، والجهاد مع رسوله معناه الجهاد ضد البغي والفساد ،

٨١

أي ضدهم .. وإذا كان الإيمان بالله ، والجهاد مع رسوله يعرضان مصالحهم للخطر فهم حرب على الله ورسوله فوق ألّا يؤمنوا بالله ويجاهدوا مع رسوله .. ولكن قد اعترضتهم مشكلة ، وهي كيف يرفضون دعوة الرسول للجهاد معه ، وفي الوقت نفسه يزعمون الإيمان بنبوته ، وأخيرا وجدوا الحل ، وهو أن يستأذنوه في القعود .. ولكن هذا الاستئذان قد فضحهم وكشف عن كفرهم ونفاقهم ، وانهم يتسترون باسم الإسلام خوفا على أنفسهم.

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) وهم العجزة والصبيان والنساء ، وكفى بذلك خزيا وهوانا (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) طبع مبني للمجهول ، أي ان الأغراض والأهواء قد أعمت قلوبهم عن الحق ، وصدتهم عن اتباعه.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ). أي إذا تخلّف المنافقون عن الجهاد فقد قام به النبي ، والذين أخلصوا لله في ايمانهم ، فهو نظير قوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ـ ٨٩ الانعام». (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) والخيرات والفلاح دنيا وآخرة نتيجة حتمية للايمان بالله والجهاد في سبيل الحق والعدل ، ولا تختص كلمة الخيرات بالخير المادي فقط ، بل تشمل المادي والمعنوي معا ، وطريف قول بعض المفسرين : ان المراد بالخيرات هنا الحور العين دون غيرهن معبّرا بذلك عن أحب الأشياء الى قلبه ، كما يبدو.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) تقدم نظيره في الآية ٧٢ من هذه السورة ، والسورة ١٥ من آل عمران.

وجاء المعذرون الآية ٩٠ ـ ٩٣ :

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ

٨٢

وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣))

اللغة :

المعذرون جمع معذر بفتح العين وتشديد الذال ، وله معنيان : الاول المعتذر من اعتذر ، سواء أكان له عذر أم لم يكن. الثاني من التعذير ، وهو التقصير أي يريك العذر ، ولا عذر له. والأعراب سكان البادية. ونصحوا أخلصوا.

الإعراب :

حرج اسم ليس مؤخر ، وعلى الضعفاء خبر مقدم. وإذا ظرف متعلق بمحذوف أي لا يخرجون. ولتحملهم أي على الإبل أو غيرها. وحزنا مفعول لأجله لتفيض. والمصدر المنسبك من ألا يجدوا مجرور بحرف جر محذوف أي لعدم وجود النفقة.

المعنى :

بعد ان بيّن سبحانه أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة تعرّض هنا للمتخلفين عن الجهاد من أهل البادية ، وانهم صنفان : الأول قصد النبيّ (ص) واعتذر اليه

٨٣

واستأذنه في التخلف ، وهذا الصنف هم المعنيون بقوله تعالى : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ). الصنف الثاني : قعدوا كاذبين على الله ورسوله ، واليهم أشار بقوله: (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ). وتقسيم المتخلفين إلى معذرين وكاذبين يدل على ان المراد بالمعذرين من تخلف لعذر صحيح ، ولذا سكت الله عن المعذرين ، ولم يهددهم بالعذاب الأليم ، كما هدد الكاذبين بقوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وتسأل : ان سياق الآية يقتضي حذف (منهم) لأن الكاذبين على الله ورسوله كلهم كافرون ، لا بعضهم؟.

وأجاب الرازي بأنه تعالى كان عالما ان البعض منهم سيؤمن ، ويتخلص من العقاب ، فذكر لفظة (من) للدلالة على التبعيض .. والذي نراه نحن في الجواب : ان الذين قعدوا كاذبين على الله ورسوله على صنفين : منهم من كذبوا في اعتذارهم طلبا للراحة وفرارا من أعباء الجهاد ، مع إيمانهم بالله ورسوله ظاهرا وباطنا ، وهؤلاء ليسوا بكافرين بل متهاونين. وصنف اعتذروا مع إنكارهم باطنا نبوة محمد (ص). وهؤلاء كافرون مستحقون للخلود في العذاب. فجاءت كلمة منهم للدلالة على ان الكافرين هم الذين تخلفوا منكرين الرسالة ، دون الذين تخلفوا تهاونا ، لا جحودا.

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ). استنفر النبي (ص) الناس للجهاد ، فبادر اليه قوم ، وتخلف آخرون ، ومن هؤلاء المنافقون والكاذبون على الله ورسوله ، وتقدم الحديث عنهم ، ويأتي أيضا ، ومنهم اصحاب الاعذار الحقيقية ، وهؤلاء لا أثم عليهم ولا لوم ، وهم ثلاثة أصناف :

١ ـ الضعفاء العاجزون عن القتال لشيخوخة ، أو لعلة في أصل تكوينهم ، كمن خلق ضعيفا في بدنه لا يطيق القتال بحال.

٢ ـ المرضى ، والفرق بين المريض والضعيف ان علة المريض غير ملازمة لخلقه وتكوينه ، مع العلم بأن كلا منهما يجوز إطلاقه على الآخر.

٣ ـ الفقراء الذين لا يجدون النفقة ولا من يضمنها لهم .. فإن وجود مثل هؤلاء بين المقاتلين يخلق لهم مشكلة تعوقهم عن بلوغ الهدف المطلوب.

٨٤

لقد أباح الله سبحانه لهؤلاء الأصناف الثلاثة أن يتخلفوا عن الجهاد (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن يكونوا مخلصين في إيمانهم قائمين ببقية ما عليهم من الواجبات ، كحراسة المدينة ، والمحافظة على عيال المجاهدين وأموالهم ، وما إلى ذلك.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وكل من قام بواجبه كاملا فهو محسن في نظر الإسلام أيا كان نوع الواجب ، وكل من أخل به فهو مسيء. وقد أسقط الله الجهاد عن المرضى والفقراء ، فإن قاموا بما عليهم من الواجبات الأخر فهم محسنون ، وليس لأحد عليهم من طريق لمؤاخذتهم. وقد اتخذ الفقهاء من هذه الآية أصلا شرعيا فرعوا عليه كثيرا من الأحكام ، منها إذا استودع انسان مالا عند غيره ، فتلف المال فلا يضمن الوديع إلا إذا قصّر في حفظ المال أو تعدى عليه ، ومنها ان الحاكم الجامع للشروط إذا أخطأ في الحكم فلا شيء عليه إذا كان قد بذل الجهد لمعرفة الحق ، ومنها إذا رأى انسان مال غيره معرضا للهلاك المؤكد ، بحيث إذا تركه لم يبق منه شيء ، فأتلف بعضه بقصد ان يسلم البعض الآخر لصاحب المال ، إذا كان كذلك فلا يضمن المتلف شيئا في مثل هذه الحال ، لأنه محسن ، وما على المحسنين من سبيل ، إلى غير ذلك من الأحكام.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ). اتفق الرواة والمفسرون على ان هذه الآية نزلت في جماعة من المسلمين أتوا النبي (ص) وهو يتهيأ لغزوة تبوك ، وقالوا له : يا رسول الله لا نملك راحلة للذهاب معك الى الجهاد ، وطلبوا منه مركبا يحملهم. فقال : لا أجد ما أحملكم عليه ، فسحّت أعينهم بالدمع لحرمانهم من الجهاد بين يدي الرسول الأعظم (ص) .. ثم اختلف المفسرون في أسماء هؤلاء وعددهم .. وليس ذلك بالشيء المهم ، ما دامت الآية واضحة الدلالة على الواقعة ، ولا قائل بنفيها.

وتسأل : ان هؤلاء يدخلون في صنف الفقراء المشار اليهم بقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) فما الفائدة من الاعادة؟.

وأجاب بعض المفسرين بأن الفقراء لا يجدون مأكلا ولا محملا ، والبكاؤون يجدون المأكل دون المحمل .. وقد تكون الفائدة التنويه بصدق البكائين وإخلاصهم ومكانتهم عند الله .. وعلى أية حال ، فإن الله سبحانه نفى المسئولية عن كل

٨٥

من تخلّف عن الجهاد لعجزه عنه ، سواء أتمثل هذا العجز في المرض أم في عدم المأكل ، أم المحمل.

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). ومعنى هذه الآية يتفق مع مضمون الآيتين السابقتين ٨٦ و ٨٧ .. وخلاصة المعنى المقصود ان الله سبحانه بعد أن نفى المسئولية عن الفقراء والمرضى أثبتها على الأغنياء الأصحاء الذين يتخلفون عن الجهاد ، ومحال أن يعمل هؤلاء للصالح العام ، ويتعاونوا مع المخلصين فيما يمس بمصالحهم من قريب أو بعيد ، وهم على استعداد في كل حين أن يبيعوا دينهم ووطنهم للشيطان إذا ضمن لهم الربح والاستغلال .. وهكذا منذ القديم يناضل المستضعفون في بسالة لتحطيم الكفر والبغي ، ويقود أصحاب الطول والحول الثورة المضادة ان سنحت لهم الفرصة ، والا قبعوا في الزوايا يتربصون الدوائر بالمجاهدين.

٨٦

الجزء الحادي عشر

٨٧
٨٨

يعتذرون اليكم الآية ٩٤ ـ ٩٦ :

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦))

الإعراب :

نبأنا بمعنى عرفنا تتعدى إلى مفعولين الأول ضمير (نا) والثاني محذوف أي طرفا ومن اخباركم صفة للمفعول المحذوف. وجزاء مفعول لأجله لمأواهم لأنه بمعنى تحرقهم جهنم.

المعنى :

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) يدل سياق الآية على انها نزلت في أثناء عودة جيش المسلمين من غزوة تبوك ، حيث أخبرهم الله سبحانه أنهم حين يصلون إلى المدينة يستقبلهم المنافقون معتذرين اليهم عن تخلفهم وقعودهم .. انهم يعتذرون ، ولكن بالكواذب والأباطيل ، ولذا قال الله لنبيه :

(قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ). هذا نهي منه تعالى أن يقبلوا عذرا من المنافقين ، وأمر للنبي (ص) أن يقول لهم : لا أصدقكم في

٨٩

شيء مما تعتذرون ، لأن الله قد أوحى إليّ بما تخفي صدوركم من الشر والنفاق (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي لا نقبل اعتذاركم ، حتى تثبتوا ـ فيما سيأتي ـ بالأفعال لا بالأقوال انكم صادقون في نواياكم وأهدافكم ، ومخلصون في الإيمان بالله ورسوله ، كما تزعمون.

(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). الغيب ما غاب علمه عن غير الله ، والشهادة ما نعرفه ونشاهده. والمعنى انكم ستقفون غدا بين يدي الله الذي لا تخفى عليه خافية ، فيخبركم بأعمالكم ، ويجازيكم عليها ، ان خيرا فخير ، وان شرا فشر.

(سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ) أي رجعتم من غزوة تبوك (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) المراد بالإعراض هنا السكوت عن نفاقهم وعدم توبيخهم عليه (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) والمراد بهذا الإعراض إهمالهم احتقارا وازدراء ، وفي بعض الروايات ان النبي أمر المسلمين أن يقاطعوهم ، ثم بيّن سبحانه علة إهمالهم واحتقارهم بقوله : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الرجس القذر ، وفي الحديث : أحكم الناس من فر من جهال الناس. وفي حديث آخر : إياكم ومجالسة الموتى. فقيل : من هم يا رسول الله؟ قال : كل ضال عن الايمان ، جائر عن الأحكام.

(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) حلفوا أولا ـ كما في الآية السابقة ـ طلبا للصفح وعدم مؤاخذتهم على الذنب ، كما دل قوله : (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ). وحلفوا ثانية طلبا للرضا وحسن المعاملة ، كما جاء في هذه الآية (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) .. ومن علامات المنافق كثرة الحلف لشعوره بأنه متهم بالكذب : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ـ ١٤ المجادلة». ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله :

(فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ). هذا التلطف في النهي أبلغ الاساليب على الإطلاق (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) .. ان رضا المؤمن من رضا الله ، والله لا يرضى عن الفاسقين ، فكيف يرضى المؤمن عنهم؟ ومن ادعى الايمان بالله ، وهو راض على من غضب الله عليه فإنه منافق .. ما في ذلك ريب.

٩٠

الأعراب أشد كفراً ونفاقاً الآية ٩٧ ـ ٩٩ :

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

اللغة :

العربي عام ، والأعرابي خاص بمن يسكن البادية. والمغرم الغرامة. والتربص الانتظار. والدائرة المصيبة. وقربات جمع قربة ، وهي طلب الثواب والكرامة من الله بحسن الطاعة. والمراد بالصلاة هنا الدعاء.

الإعراب :

كفرا ونفاقا تمييز. والمصدر المنسبك من ألا يعلموا مجرور بالباء المحذوفة أي أجدر بعدم العلم. وما ينفق مفعول أول ليتخذ ، وقربات مفعول ثان ، وصلوات الرسول معطوف على قربات ، وقيل : على ما ينفق. وألا أداة تنبيه.

البدوي والحضري :

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ

٩١

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ليس هذا تقسيما للناس على أساس البداوة والحضارة ، وتفضيلا للحضري على البدوي ، كيف؟. وقد أخبر سبحانه في الآية الآتية ان قوما من الأعراب قد أخلصوا في إيمانهم وأعمالهم .. ولو كانت البداوة إثما بما هي لحرمها الله ، تماما كما حرم الظلم والبهتان .. ان القرآن يقسم الناس على أساس التقوى أي الايمان بالله والعمل الصالح ، وقد بيّن هذه الحقيقة وأكدها بشتى الأساليب ، بل هي الغاية الأولى من انزال القرآن ودعوته وتعاليمه وشريعته.

والآية التي نحن بصددها تومئ الى ذلك ، فإن قوله تعالى : الأعراب أشد كفرا ونفاقا الخ .. يشعر بأن سبب الذم هو الكفر والنفاق ، والجهل بأحكام الله التي أنزلها على نبيه .. وليست البداوة بما هي سببا للذم .. أجل ، ان حياة البادية وبعدها عن أسباب الحضارة والمعرفة توجب غلظة الطبع وجفوته ، والتجاوز عن الحد .. فالذنب ـ اذن ـ هو ذنب الظروف والبيئة .. وليس ذنب البدوي المسكين. وفي بعض الروايات : «تفقهوا في الحلال والحرام وإلا فأنتم أعراب» أي مثيلهم في الجهل والبعد عن الحضارة ، وفي رواية ثانية : «من لم يتورع في دين الله ابتلاه بسكنى الرساتيق» أي مع أهل الجهل والغلظة.

وبعد هذا التمهيد نعود إلى الآية. والمعنى المقصود منها ان في أهل البادية كفارا ومنافقين ، تماما كما في أهل الحضر ، ولكن كفار البادية ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم المتحضرين. هذا محصل المعنى الظاهر من الآية ، ونعطف عليه وإذا كان السبب الموجب هو الجهل والطبع الغليظ فينبغي أيضا أن يكونوا أشد إيمانا إذا آمنوا ، وإخلاصا إذا أخلصوا ، لأن السبب واحد.

وبهذه المناسبة نشير إلى ما جاء في ميزان الشعراني باب الشهادات : «ان الحنابلة لا يقبلون شهادة البدوي على الحضري مطلقا ، والمالكية يقبلونها في الجراح والقتل خاصة ، ولا يقبلونها فيما عدا ذلك من الحقوق» .. وقد فهمنا وجه الدليل لقول من قال : لا تقبل شهادة غير المسلم على المسلم ، أما مساواة البدوي المسلم لغير المسلم في الشهادة فلا نعرف لها وجها .. قال تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ـ ٢ الطلاق» .. ولم يقل من أهل الحضر .. ان العبرة من قبول الشهادة بالعدالة ، لا بالحضارة وغيرها.

٩٢

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً). بعد أن ذكر سبحانه ان في الأعراب منافقين ذكر ان هؤلاء ينفقون من أموالهم ، ولكن يرون هذا الإنفاق غرامة ظالمة ، لا شيء وراءها غير الخسران. وان الثواب والجزاء عليها يوم القيامة حديث خرافة. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) ينتظرون أن يتغلب أعداء الإسلام على المسلمين ، ويتمنون القضاء عليه وعليهم ، ليستريحوا من هذه الغرامة الظالمة الخاسرة في عقيدتهم (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) قال جماعة من المفسرين : هذا دعاء على المنافقين أن يصيبهم ما تمنوه للمؤمنين. ويجوز أن يكون إخبارا عن الحال التي يكون عليها المنافقون يوم القيامة من العذاب والوبال (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ما يقولون ، ويعلم ما يكتمون.

(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ). ان أهل البادية كغيرهم ، منهم المنافق الذي يظهر خلاف ما يضمر ، ويرى ما ينفق مغرما ، لا واجبا ، كما أشارت الآية السابقة ، ومنهم المؤمن المخلص الذي ينفق لوجه الله وثوابه ، ورغبة في دعاء الرسول له بالبركة والاستغفار ، كما أشارت هذه الآية (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ضمير انها يعود إلى النفقة المدلول عليها بينفق ، وقربة أي ان هذه النفقة تقربهم من الله زلفى ، والمعنى ان الذين آمنوا وأنفقوا تقربا الى الله فإنه يقبل نفقتهم ، ويدخلهم بسببها في جنته ، ويغفر لهم ما فرط منهم من الزلل والخطيئات.

والسابقون الأولون الآية ١٠٠ ـ ١٠٢ :

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ

٩٣

مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢))

اللغة :

مردوا على النفاق أي ثبتوا عليه ، وأتقنوا أساليبه ، ويقال : شيطان مارد ومريد أي عات وعنيد.

الإعراب :

السابقون مبتدأ والأولون صفة ، ورضي الله خبر المبتدأ. وممن حولكم خبر مقدم ، ومنافقون مبتدأ مؤخر. ومن أهل المدينة خبر لمبتدأ محذوف ، أي من أهل المدينة قوم مردوا ، وجملة مردوا صفة لقوم. وآخرون مبتدأ ، واعترفوا صفة ، وخلطوا خبر.

المعنى :

ذكر سبحانه في هذه الآيات الثلاث أربعة أصناف من الأمة ، ثم أضاف اليها صنفا خامسا في الآية الآتية ١٠٦ ، ونتكلم عنه حين نصل اليه. أما الأصناف الاربعة فهي :

١ ـ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الأولون صفة للسابقين ، وقد جعلت كلا من المهاجرين والأنصار صنفين : سابق ولا حق ، وليس من

٩٤

شك ان المراد السبق في الهجرة والنصرة ، لان الوصف يشعر بهما ، ولكن الله سبحانه لم يحدد زمن هذا السبق ، ولذا اختلف المفسرون ، فمن قائل : ان المراد الهجرة والنصرة قبل يوم بدر ، وقائل : قبل بيعة الرضوان ، وهي التي حصلت تحت الشجرة يوم الحديبية ، وقال ثالث : من صلى القبلتين .. والذي نراه ان المراد بالسابقين الأولين من سبق في الهجرة والنصرة قبل ان يملك المسلمون القوة الرادعة لمن يعتدي عليهم ، ويفتن ضعيفهم عن دينه ، كما كان يفعل المشركون في بدء الدعوة ، وعلى هذا يكون القول الاول هو الراجح ، لان قوة المسلمين انما ظهرت يوم بدر ، وفيه أحس المشركون بمناعة الإسلام وبأسه.

٢ ـ (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) وهم كل من سار على طريق السابقين المخلصين. قال الطبرسي : «يدخل في ذلك من يجيء بعدهم الى يوم القيامة». وقد جاء تحديد التابعين بإحسان في الآية ١٠ من سورة الحشر : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). ونرجو ان يتعظ بهذه الآية من يدعون الايمان ، وهم غارقون في غل التحاسد الى الآذان.

وهذان الصنفان : السابقون ، والتابعون (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) رضي الله عنهم بطاعتهم وإخلاصهم ورضوا عنه بما أفاض عليهم من نعمه (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) اي لا فوز بالمعنى الصحيح الا بمرضاة الله.

وتسأل : الظاهر من الآية ان مجرد السبق الى الهجرة والنصرة كاف واف في رضوان الله ، وانه حسنة لا تضر معه سيئة ، فهل هذا الظاهر حجة ملزمة ، بحيث يجب علينا ان نقدس كل من سبق الى الهجرة والنصرة ، حتى ولو ثبتت عليه المعصية.

الجواب : ان المراد بالسابقين الأولين من أقام على طاعة الله ، ومات على سنة رسول الله (ص) ، أما من عصى وأساء بعد السبق فلا تشمله مرضاة الله ، كيف؟ وهو القائل : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ـ) ١٢٢ النساء». والقائل : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ـ)

٩٥

٥١ ابراهيم». وروى البخاري في الجزء التاسع من صحيحه ، كتاب الفتن : «ان رسول الله (ص) يقول يوم القيامة : أي ربي أصحابي .. فيقول له : لا تدري ما أحدثوا بعدك .. فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي».

وليس من شك ان للسابق في الهجرة والنصرة الافضلية على اللاحق ، ولكن هذا شيء ، والسماح له بالمعصية ، أو عدم الحساب عليها شيء آخر.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). ذكر سبحانه المنافقين في العديد من الآيات ، وذكرهم هنا لمناسبة ذكر المؤمنين السابقين واللاحقين ، وليخبر نبيه الأكرم بمكانهم وموطنهم : وانهم محيطون به من كل جانب ، فهم موجودون في المدينة التي يقيم فيها ، وفي البادية التي حولها ، وان منافقي المدينة بوجه خاص قد مهروا في فن النفاق ، وأتقنوه الى أن استطاعوا التكتم به عن الرسول رغم ملازمتهم له ، ومخالطته لهم.

ثم بيّن سبحانه جزاء المنافقين بقوله : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ). وهذا العذاب الأخير الذي يردون اليه معروف ، وهو عذاب جهنم ، أما نوع العذاب وزمنه في المرة الاولى والثانية قبل عذاب جهنم ـ فلم تشر اليه الآية .. وغير بعيد أن يكون العذاب في المرة الأولى عند الموت لقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ـ ٥٠ الانفال». أما العذاب في المرة الثانية فهو عذاب القبر للأحاديث الكثيرة : ان قبر الكافر حفرة من حفر جهنم ، وقبر المؤمن روضة من رياض الجنة.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً). وهؤلاء هم المؤمنون الذين يحسنون أحيانا بدافع من ايمانهم ، ويتغلب الهوى حينا على ايمانهم ، فيسيئون ، وهم الأكثرية الغالبة «ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها» ولا ينتقل من خير الا الى خير .. الا من عصم ربك.

ثم بيّن سبحانه حكم هؤلاء بقوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) لأنهم شعروا بالخطيئة ، واعترفوا بها ، فأصبحوا بذلك محل الرجاء لرحمة الله وغفرانه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وفي مجمع البيان : «قال المفسرون : عسى من الله واجبة ،

٩٦

وإنما قال عسى ، حتى يكونوا بين طمع واشفاق ، فيكون ذلك أبعد عن الاتكال على العفو وإهمال التوبة».

خذ من أموالهم صدقة الآية ١٠٣ ـ ١٠٦ :

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦))

اللغة :

المراد بالسكنى هنا راحة النفس واطمئنانها. والإرجاء التأخير.

الإعراب :

خذ خطاب للنبي ، وكذلك تطهرهم وتزكيهم ، وجملة تطهر خبر لمبتدأ محذوف ، أي فأنت تطهرهم ، ولا يستقيم الكلام إلا بهذا الإعراب مع وجود كلمة (بها) لأن تطهرهم وتزكيهم وردتا بالرفع ، فلو جعلت الجملة صفة للصدقة لكان المعنى صدقة مطهرة ومزكاة بالصدقة لأن ضمير (بها) يعود إلى الصدقة.

٩٧

أما قول من قال : ان التاء في تطهرهم للصدقة وفي تزكيهم للنبي فهو تفكيك بين الكلام الواحد مع عدم الدليل. وهو مبتدأ ويقبل التوبة خبر ، والجملة خبر ان ، ولا يجوز أن يكون هو ضمير الفصل لأن ما بعده فعل.

المعنى :

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها). اتفقوا على أن ضمير (بها) يعود إلى الصدقة ، واختلفوا في ضمير (أموالهم) ، فقيل : يعود الى الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وقيل : بل يعود الى جميع الأغنياء ، لأن الآية نزلت في الزكاة المفروضة. وهذا القول أقرب إلى الاعتبار ، وعليه يكون المعنى خذ يا أيها الرسول الزكاة من أموال الأغنياء فإنها مطهرة لهم من دنس البخل بحق الله. وتكلمنا عن الزكاة عند تفسير الآية ٦٠ من هذه السورة ، وفي ج ١ ص ٤٢٨ عند تفسير الآية ٢٧٤ من سورة البقرة.

(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). المراد بالصلاة هنا الدعاء ، والسكن راحة النفس ، والمعنى ادع ايها الرسول لمن يؤدي الزكاة بالبركة والمغفرة فإنه يغتبط بدعائك ، وترتاح نفسه اليه (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ويستجيب دعاءك للمزكين ، ويعلم نية من يؤدي الزكاة عن طيب نفس تقربا إلى الله وحده.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ). ويومئ السياق إلى أن التوبة ذكرت هنا للإشارة إلى ان من منع الزكاة ، ثم تاب وأداها كاملة فإن الله يقبل توبته ، ويأخذ صدقته ، ومعنى أخذه لها انه جلّت كلمته يثيب عليها ، فقد جاء في الحديث : «ان الصدقة تقع في كف الرحمن قبل أن تقع في كف السائل». وكف الرحمن كناية عن قبوله لها (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي يقبل التوبة ، ويرحم التائبين.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ). ذكر هذه الآية محيي الدين بن العربي في الجزء الرابع من الفتوحات المكية ، وشرحها بكلام هذا توضيحه وتلخيصه : ان معنى الرؤية يختلف باختلاف الرائي ، فمعنى الرؤية من

٩٨

الله للشيء ان يحيط به علما من جميع جهاته ، ومعناها من الرسول (ص) ان يعلم الشيء المرئي من وجهة الوحي الذي نزل عليه ، ومعناها من المؤمن العارف أن يعلمه بقدر ما علم وفهم من الوحي المنزل على الرسول (ص) .. وعلى هذا فمن عمل لله فان الله يعلم حقيقة عمله ، ويرضى عنه ، والرسول يعلم أيضا أن هذا العمل مرضي عند الله ، والمؤمن العارف أيضا يعلم انه مرضي عند الرسول ، والنتيجة الحتمية لذلك ان من يعمل صالحا فهو مرضي عند الله والرسول والمؤمنين.

(وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). تقدم نظيره مع تفسيره في الآية ٩٤ من هذه السورة.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ). ذكر سبحانه في الآية ١٠٠ وما بعدها أربعة أصناف : السابقين الى الهجرة والنصرة ، والتابعين لهم بإحسان ، والمنافقين ، والمعترفين بذنوبهم .. وأشار في هذه الآية إلى قوم لم يحددهم بصفاتهم كما فعل في الأصناف الأربعة ، ولم يصرح بحكمهم في هذه الآية ، وانما قال : انهم مؤجّلون الى عذاب الله أو مغفرته ، أي ان أمرهم موكول اليه وحده ، وقد أبهمه عليهم وعلى الناس ، وقد تكون الحكمة في هذا الإبهام ان يترددوا بين الخوف والرجاء ، فلا يطمعوا ولا ييأسوا (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) عليم بما يصلح هؤلاء وغيرهم ، وحكيم في إرجاء النص على حكمهم ، وفي كل ما يفعل.

وقال كثير من المفسرين : ان هذه الآية نزلت في جماعة من المسلمين تخلفوا عن الرسول في غزوة تبوك ، ثم ندموا .. وقد نصت الآية الآتية ١١٨ على ان ثلاثة من الصحابة تخلفوا عن الخروج الى تبوك مع رسول الله (ص) ، ثم تابوا ، وان الله قبل توبتهم ، وأعلن قبولها ، ولم يدعهم في التردد بين الخوف والرجاء .. هذا ما بدا لنا عند تفسير الآية التي نحن بصددها ، ولا ندري ما نجد من المعاني حين يسيطر جو الآية ١١٨. فالى هناك.

مسجد الضرار الآية ١٠٧ ـ ١١٠ :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً

٩٩

لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠))

اللغة :

الضرار طلب الضرر ومحاولته. والارصاد الارتقاب. والشفا الحرف ، يقال : أشفى على كذا إذا دنا منه. والجرف جانب الوادي الذي ينحرف بالماء ، وأصله الاجتراف. وهار من الانهيار.

الإعراب :

ضرارا مفعول من أجله لاتخذوا ، ومثله ما بعده. ولمسجد مبتدأ ، وجملة أسس صفة ، وأحق خبر ، والمصدر المنسبك من أن تقوم مجرور بالباء المحذوفة. وفيه الاولى متعلقة بتقوم ، وفيه الثانية خبر مقدم ورجال مبتدأ مؤخر. وعلى تقوى متعلق بأسس ، ومثله على شفا.

١٠٠