التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣))

اللغة :

يقال : رجل اذن ، أي يسمع كل ما يقال له ويصدقه. والمحادة المخالفة.

الإعراب :

اذن خير لكم (اذن) خبر لمبتدأ محذوف أي هو اذن خير ، و (خير) مجرور بالاضافة مثل رجل صدق. ويؤمن للمؤمنين اللام زائدة ، لأن يؤمن بمعنى يصدق المؤمنين. والله مبتدأ والخبر محذوف أي الله أحق بالرضا. ورسوله أحق مبتدأ وخبر. والمصدر المنسبك من أن ترضوه مجرور بالباء المحذوفة متعلقا بأحق. والهاء في انه ضمير الشأن اسم ان ، وخبرها الجملة من من يحادد ، والمصدر المنسبك من ان وما بعدها سد مسد المفعولين ليعلموا. وفأن له بفتح الهمزة ، والمصدر منها واسمها وخبرها خبر لمبتدأ محذوف أي فجزاؤه ان له نار جهنم.

المعنى :

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ). كان النبي (ص) يعامل كل انسان بظاهره ، ولا يبحث عن باطنه عملا بمبدإ الظاهر للناس ، والباطن لله ، وهذا اصل من أصول الشريعة الإسلامية يبتني عليه كثير من الأحكام ، وقد استغله المنافقون ، فكانوا يفلتون من طاعة الله ورسوله ، ويعتذرون فيقبل منهم الرسول ويعفو .. والغريب انهم اتخذوا من هذه الفضيلة وسيلة للطعن فيه ، ونسبوه الى سرعة التصديق والتأثر بكل ما يسمع ، دون ان يتدبر ويميز بين ما هو جدير

٦١

بالقبول ، وما هو جدير بالرفض .. ولو انه (ص) واجههم بكذبهم ونفاقهم ، وعاملهم بما يستحقون من العقوبة لكان شرا لهم ، ولقالوا : فظ غليظ .. لقد عابوه فيما يعود عليهم بالخير والنفع ، وهنا مكان الغرابة .. لكن اللئيم لا يكثر عليه شيء ، لأنه ينظر الى كل شيء بمرآة نفسه السوداء ، حتى الى من يحسن اليه .. وصدق الذي قال :

من تكن نفسه بغير جمال

لا يرى في الوجود شيئا جميلا

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) هذا رد من الله على أولئك المنافقين ، ويتلخص الرد بأن النبي اذن خير ، لا اذن شر .. يقبل منكم ما لا ضرر فيه على انسان ، ويرفض ما فيه الضرر ، كالغيبة والنميمة (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يصدق الصادقين منهم تصديق تسليم واقتناع ، أما المنافقون فيصدقهم فيما لا ضرر فيه تصديق ملاطفة ومجاملة (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ). رحمة معطوف على اذن خير ، وهو من باب عطف العام على الخاص لأن اذن الخير رحمة أيضا (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لأن من آذى رسول الله فقد آذى الله.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ). كما يزعمون ، والضمير في يحلفون عائد إلى الذين قالوا : هو أذن. والخطاب في لكم وفي ليرضوكم للنبي والمؤمنين ، فلقد أخبرهم الله تعالى في هذه الآية ان المنافقين حين علموا باطلاعكم على ما قالوه في حق النبي (ص) خافوا منكم فالتجأوا إلى اليمين الكاذبة ليرضوكم ، وكان الأولى بهم أن يرضوا الله ورسوله بالتوبة والإخلاص. وفي الحديث من حلف على يمين ، وهو يعلم انه كاذب فقد بارز الله بالمحاربة .. وفي التعبير بيرضوه دون يرضوهما اشعار بأن إرضاء الرسول هو عين إرضاء الله ، كما أن ايذاءه عين إيذائه.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ). يحادد أي يخالف. وهذه الآية تأكيد لقوله في الآية السابقة : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم. قال الشيخ إسماعيل حقي في تفسيره روح البيان ، وهو يشرح هذه الآية :

«كل نبي أوذي بما لا يحيط به البيان ، وكان محمد (ص) أشدهم في ذلك كما قال: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت. ولما كانت الاذية سبب التصفية كان

٦٢

المعنى ما صفى نبي مثل ما صفيت .. وانما كان الحسن مسموما ، والحسين مذبوحا رضي الله عنهما بسبب ان كمال تعينهما كان بالشهادة ، وكان النبي (ص) قادرا على تخليصهما بالشفاعة من الله ، ولكنه رأى كمالهما في رتبتهما راجحا على الخلاص ، حتى انه دفع قارورتين لواحدة من أزواجه المطهرة ، وقال لها : إذا اصفر ما في إحداهما يكون الحسن شهيدا بالسم ، وإذا احمر ما في الأخرى يكون الحسين شهيدا بالذبح .. فكان كذلك».

حذر المنافقون الآية ٦٤ ـ ٦٦ :

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

اللغة :

مخرج أي مظهر. والخوض في الشيء الدخول فيه.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ان تنزل مفعول يحذر ، ويجوز جره بمن محذوفة. أبا لله متعلق بيستهزئون.

٦٣

المعنى :

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ). لم يحذر المنافقون حقيقة وواقعا من نزول الوحي في شأنهم ، وإنما أظهروا الحذر على وجه الاستهزاء والسخرية .. كانوا يطعنون في النبي (ص) فقال بعضهم لبعض ساخرا : احذروا ان تنزل في شأنكم سورة .. والدليل على ان هذا هو المراد قوله تعالى مهددا : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا). هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ان المنافقين لا يؤمنون بالوحي فكيف يحذرون منه على وجه الحقيقة؟.

وذهب أكثر المفسرين إلى أن الضمير في عليهم وفي تنبئهم يعود الى المؤمنين ، وان الضمير في قلوبهم يعود الى المنافقين.

ويلاحظ أولا : ان المؤمنين لم يرد لهم ذكر في الآية ، وان المذكورين فيها صراحة هم المنافقون ، كما ان الآية التي قبلها تحدثت عن المنافقين ، دون غيرهم .. ثانيا يلزم من هذا التفسير التفكيك بين الضمائر ، مع عدم الدليل على ذلك.

ومن أجل هذا نرجح الرأي القائل بأن الضمائر كلها تعود الى المنافقين ، وان على في (عليهم) بمعنى في كما هي في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي في ملكه ، ومثلها أيضا فيما يقال : كان هذا على عهد مضى ، وعليه يكون المعنى يحذر المنافقون ـ تهكما ـ ان تنزل سورة تكشف عما يضمرون من العداء للإسلام والمسلمين. فتوعدهم الله سبحانه بأن السورة التي سخروا من نزولها نازلة لا محالة ، وانها تقابلهم وجها لوجه ، فيعتذرون حيث لا تنفعهم المعاذير.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ). تكلم قوم من المنافقين بما لا ينبغي في حق رسول الله (ص) ، ولما سألهم قالوا : كنا هازلين لا جادين .. واختلف المفسرون في أسماء من قالوا هذا ، ونوع ما قالوا .. والآية لا تشير الى شيء من ذلك ، ونحن نسكت عما سكت الله عنه (قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ). ان قولهم : كنا نخوض ونلعب أقبح من الذنب الذي اعتذروا منه .. فهل الله جلت عظمته لعبة للتسلي والتلهي؟. وهل أرسل أنبياءه للسخرية

٦٤

والاستهزاء؟ .. وتدل الآية ان كل من استهزأ بالدين وأحكامه الثابتة بالبداهة فهو كافر.

(لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ). وتسأل : ان هذا يدل على انهم كانوا مؤمنين قبل الاستهزاء ، وان السبب الموجب هو الاستهزاء ، مع العلم بأنهم كانوا كافرين من قبل في سرهم وواقعهم ، وان كفرهم هو السبب الموجب للاستهزاء؟.

الجواب : كانوا قبل اعترافهم بالاستهزاء بالدين كافرين واقعا مسلمين حكما ، لأنهم أظهروا الإسلام ، فجرى عليهم ما يجري على المسلمين من الأحكام التي تبنى على الظاهر ، لا على الواقع ، وبعد أن اعترفوا بالاستهزاء صاروا كافرين واقعا وحكما يجري عليهم أحكام المرتدين.

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) كان المنافقون صنفين : الرؤساء المتبوعين الذين يتربصون بالإسلام ، ويكيدون لنبيه ، ويسخرون منه ، والضعاف التابعين ، فأمر الله سبحانه نبيه الأكرم بالعفو عن هؤلاء لضعفهم وبعقاب أولئك لأنهم علة العلل .. وقيل : ان الله سبحانه عفا عمن تاب منهم ، وعاقب من أصر على الكفر والنفاق.

المنافقون والمنافقات الآية ٦٧ ـ ٧٠ :

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا

٦٥

بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

اللغة :

نسوا الله تركوا طاعته فنسيهم ترك ثوابهم. والخلاق النصيب. وخضم دخلتم في الباطل. وأصحاب مدين قوم شعيب. والمؤتفكات جمع مؤتفكة من ائتفكت بهم الأرض أي انقلبت. والمراد بالمؤتفكات هنا قرى قوم لوط.

الإعراب :

المنافقون والمنافقات مبتدأ أول ، وبعضهم مبتدأ ثان ومن بعض خبر ، والجملة خبر الأول. كالذين من قبلكم الكاف بمعنى مثل في محل نصب صفة لمفعول مطلق محذوف أي وعد الله المنافقين وعدا مثل وعد الذين من قبلكم. ومثله كما استمتع ، وكالذي خاضوا ، أي استمتعتم بخلاقكم استمتاعا مثل استمتاع الذين من قبلكم ، وخضتم خوضا مثل خوض الذي خاضوا ، والذي هنا اسم جنس بمعنى الذين. وقوم نوح بدل من الذين المجرور بإضافة نبأ. والمصدر المنسبك من ليظلمهم متعلق بمحذوف خبرا لكان أي : فما كان الله مريدا لظلمهم.

٦٦

المعنى :

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) كناية عن تشابههم وصفا وعملا ، ثم بيّن وجه التشابه بقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ). والمنكر الذي أمروا به هو الكفر والنفاق ، والمعروف الذي نهوا عنه هو الإيمان وطاعة الله ورسوله ، أما أيديهم فإنهم قبضوها عن الإنفاق في سبيل الله ، ونسيانهم لله تركهم لطاعته ، ونسيانه لهم حرمانهم من رحمته (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الناكبون عن سبيل الرحمن الى سبيل الشيطان.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها). بعد ان بيّن سبحانه مساوئ المنافقين توعدهم وتوعد كل كافر بنار الجحيم (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي جزاء كاف واف على أعمالهم (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم عن رحمته (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) لا يخف ولا ينقطع.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا). يقول سبحانه : أنتم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد (ص) مثل المنافقين الذين خلوا استمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا ، وكانوا أقوى منكم وأكثر مالا وأولادا ، فاستمتعتم أنتم أيضا بنصيبكم من حطام هذه الحياة ، وخضتم في الباطل كما خاض الأولون (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي بطلت حسناتهم ، ان كان لهم حسنات كالعيش بكد اليمين وعرق الجبين .. وبطلانها في الآخرة بعدم الثواب عليها ، أما بطلانها في الدنيا فلأنها لا ترفع من شأن الكافر والمنافق عند أهل الوعي والإيمان (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم أتبعوا أنفسهم في تدبير الدسائس والمؤامرات على المؤمنين الطيبين ، ثم دارت عليهم الدائرة دنيا وآخرة.

والخلاصة ان الله سبحانه قال للمنافقين المعاصرين للرسول الأعظم (ص) ، اتركوا الكفر والنفاق ، واتعظوا بالذين خلوا قبلكم من أمثالكم قبل أن يتعظ بكم من يأتي بعدكم.

٦٧

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ). أصحاب مدين قوم شعيب ، والمؤتفكات قوم لوط. (انظر فقرة اللغة) .. لقد ذكّر الله سبحانه المنافقين بهؤلاء الأقوام ، لأن بلادهم كانت قريبة من بلاد العرب ، وكانوا في كثرة من المال والولد ، وقوم ابراهيم أهلكوا بسلب النعمة ، وعاد بالريح ، وقوم نوح بالغرق ، وثمود بالصيحة ، ومدين بعذاب الظلة ، والمؤتفكات بجعل عاليها سافلها ، وتقدم الكلام عن ذلك في سورة الأعراف (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإصرارهم على الخطايا والذنوب.

والمؤمنون والمؤمنات الآية ٧١ ـ ٧٢ :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

اللغة :

العدن الاقامة والخلود ، والرضوان مصدر رضي.

٦٨

المعنى :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) المراد بالولاية هنا النصرة ، بعد ان ذكر سبحانه المنافقين برذائلهم ذكر المؤمنين بفضائلهم ، وان بعضهم يناصر بعضا ، ومن ادعى الايمان بالله ورسوله ، ولم يناصر إخوانه في هذا الايمان فهو منافق ، تشمله الآيات السابقة التي نزلت في المنافقين (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) على عكس المنافقين الذين يأمرون بالمنكر ، وينهون عن المعروف (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) حقيقة لا رياء كالمنافقين (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ولا يبخلون بها كما يبخل المنافقون (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ويستمرون على هذه الطاعة مهما كانت النتائج (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أما المنافقون فقد لعنهم وأعد لهم نار جهنم خالدين فيها (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) قادر على إعزاز المؤمنين ، وإذلال الكافرين والمنافقين.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) وعدن الاقامة ، وكل من أرضى الله في أعماله ومقاصده فالله يرضى عنه (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك اشارة الى الجنات والمساكن الطيبة والرضوان. وتقدم نظيره في ج ٢ ص ٢٣ عند تفسير الآية ١٥ من سورة آل عمران.

جاهد الكفار والمنافقين الآية ٧٣ ـ ٧٤ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً

٦٩

أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

اللغة :

الغلظة الخشونة في المعاملة. وهمّ بالشيء إذا أراده ، والهم دون العزم الا ان يبلغ نهاية القوة في النفس.

الإعراب :

المصدر المنسبك من ان أغناهم مفعول نقموا ، أي ما كرهوا الا إغناء الله إياهم. ومن ولي (من) زائدة وولي مبتدأ.

المعنى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). استعمل النبي (ص) اللين مع المنافقين فما أجدى ، بل جرّ أهم التسامح على الطعن فيه والقول بأنه أذن ، فأمره الله سبحانه ان يغلظ عليهم ويجاهدهم .. ولكنه لم يبيّن نوع الجهاد : هل هو بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر؟. ومعنى هذا ان الله قد ترك ذلك الى تقدير النبي (ص) فيجاهدهم بما يراه من الحكمة والمصلحة.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ). الضمير في يحلفون وقالوا عائد الى قوم من المنافقين ، فإنهم نطقوا بكلمة الكفر في حق رسول الله (ص) ، ولما سألهم خافوا وحلفوا ، فكذبهم الله ، وثبت صحة ما نسب اليهم .. ولم يذكر جلّ وعز أسماء الذين حلفوا اليمين الكاذبة ، ولا كلمة الكفر التي نطقوا بها ، كيلا يتعبد المسلمون بتلاوتها. وقال الشيخ المراغي في تفسيره :

«وأصح ما روي ان رسول الله (ص) كان جالسا في ظل شجرة فقال :

٧٠

انه سيأتيكم انسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلّموا ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه الرسول ، فقال له : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل ، فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، فتجاوز عنهم ، فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا الخ».

(وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ). هذا مثل قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) ومر تفسيره في الآية ٦٦ من هذه السورة.

(وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا). في تفسير الرازي والبحر المحيط والمنار والمراغي وغيره : ان جماعة من المنافقين اتفقوا على الفتك بالرسول ، فأخبره الله بذلك ، فاحترز منهم ، ولم يصلوا الى مقصودهم. وفي الجزء الثاني من كتاب «الأعيان» للسيد محمد الأمين :

«رجع رسول الله (ص) من تبوك الى المدينة ، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه ، فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق ، فأخبر رسول الله (ص) خبرهم».

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ). ضمير نقموا وأغناهم يعود الى المنافقين ، وقد كان كثير منهم في ضنك من العيش يقاسون مرارة البؤس والفقر قبل أن ينطقوا بكلمة الإسلام ، وبعد أن قالوها بأطراف ألسنتهم تدفقت عليهم الأرزاق ، لأن النبي (ص) كان يساويهم في الغنائم بسائر المسلمين ، ووفى ديون بعضهم ، فكان جزاؤه منهم ان قالوا عنه ما قالوا : ثم همّوا باغتياله .. فوبخهم سبحانه على عقوقهم وكفران النعم بهذا الأسلوب ، وهو مثل قولك لمن عقّك بعد إحسانك اليه : ما لي عندك ذنب الا الإحسان اليك.

(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ). ان باب الله مفتوح على مصراعيه لكل طارق ، والسبيل اليه سهل يسير ، حتى على الكافرين والمنافقين ، لا يكلفهم سوى الاعتذار عما سلف ، والصدق فيما يأتي.

(وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أما عذابهم في الآخرة فمعلوم ، واما عذابهم في الدنيا فلأن المنافقين في خوف دائم ان يفتضح أمرهم ،

٧١

وينتهك سترهم ، ومن أجل هذا يرهبون كل شيء ، ويحسبون كل صيحة انها عليهم ، لا على غيرهم ، كما وصفهم تعالى بقوله : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) ـ ٤ المنافقون». (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). ومن ينصر أو يجرأ ان ينصر من تكشفت عوراته وسيئاته على عيون الملأ.

ومنهم من عاهد الله الآية ٧٥ ـ ٧٨ :

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))

اللغة :

أعقبهم أورثهم. والنجوى الكلام الخفي.

الإعراب :

فلما آتاهم (لما) هنا حرف وجود لوجود أي لما وجد الفضل وجد البخل ، وتختص لما بالماضي ، ومن فضله سد مسد المفعول الثاني لآتاهم. ولنصدقن أصله لنتصدقن ، فأدغمت التاء بالصاد. وفاعل أعقبهم ضمير مستتر يعود الى البخل ،

٧٢

وهو مصدر متصيد من بخلوا. والهاء في يلقونه تعود إلى الجزاء على البخل ، والمعنى انهم يموتون على النفاق.

المعنى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ). قال أهل التفاسير : «ان هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار ، اسمه ثعلبة بن حاطب ، قال لرسول الله (ص) : ادع الله ان يرزقني مالا. فقال له : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، أما لك في رسول الله اسوة حسنة ، والذي نفسي بيده لو أردت ان تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت .. ولكن ثعلبة لم يقنع ، فأعاد على النبي وألح ، وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال النبي : اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ ثعلبة بعض غنيمات ، فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها إلى واد من أوديتها ، ثم كثرت ، حتى تباعد عن المدينة وأوديتها ، وانقطع عن الجمعة والجماعة .. وبعث اليه رسول الله (ص) من يأخذ الزكاة منه ، فأبى وبخل وقال : ما هذه إلا أخت الجزية. فقال رسول الله : يا ويح ثعلبة ، وأنزل الله هذه الآيات».

وسواء أنزلت هذه الآيات في ثعلبة ، أم في غيره فإن هذه الحادثة أو الحكاية تبين المراد من هذه الآيات بأوضح أسلوب ، وتكلمنا عما يتصل بذلك في ج ٢ ص ١٦٧ ، فقرة تغير الأخلاق والأفكار عند تفسير الآية ١٤٣ من آل عمران.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ). جاء في تفسير البحر المحيط : ان الحسن وقتادة وأبا مسلم قالوا : ان فاعل أعقبهم ضمير مستتر يعود الى البخل .. واختار هذا الطبرسي والمراغي ، وعليه تعود الهاء في يلقونه الى جزاء البخل ، والمعنى ان البخل أورثهم نفاقا لا يفارقهم حتى الموت ، وذكر تعالى لذلك سببين :الأول (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ). والثاني (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ). وهذان

٧٣

الوصفان أي الخلف بالوعد ، والكذب في الحديث من أخص أوصاف المنافقين ، قال الرسول الأعظم (ص) : «آيه المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان».

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). السر ما تنطوي عليه الصدور ، والنجوى الكلام الخفي يتناجى به اثنان أو أكثر ، والغيوب جمع غيب ، وهو ما غاب عن جميع الخلق ، والمعنى كيف تجرأ هؤلاء المنافقون على إضمار الكفر ، والتناجي به؟. ألم يعلموا ان الله مطلع على ما تخفي صدورهم وما يدور على ألسنتهم ، وانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

الذين يلمزون المطوعين الآية ٧٩ ـ ٨٠ :

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

اللغة :

لمزه عابه. والمطوع أصله المتطوع ، فأدغمت التاء في الطاء ، والمراد به هنا من يؤدي ما يزيد على الوجوب في أمواله. والجهد بفتح الجيم وضمها الطاقة.

الإعراب :

الذين يلمزون مبتدأ وخبره سخر الله منهم ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون.

٧٤

وسبعين قائم مقام المفعول المطلق ، لأن المعنى سبعين استغفارا.

المعنى :

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ). اللمز العيب ، والمراد بالتطوع هنا بذل المال تفضلا لا وجوبا. وما زال الحديث عن المنافقين ، وهاتان الآيتان تعرضان لونا آخر من آثامهم وأذاهم المتصل للنبي والمؤمنين .. في ذات يوم حث النبي (ص) على البذل في سبيل الله ، فاستجاب المؤمنون من صحابته ، وتطوع بعضهم بالآلاف. وبعضهم بصاع من تمر ، كل حسب طاقته ، فعابهم المنافقون ، وقالوا عن المكثر : انه يبذل رئاء ، وعن المقل : انه يذكّر بنفسه .. ان شأن المنافقين الرياء فيما يقولون ويفعلون ، فقاسوا الغير على أنفسهم ، ووصفوه بوحي من واقعهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) يشير الى الفقراء الدين تصدقوا بالقليل لأنه مبلغ طاقتهم (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) استخفافا بما بذلوه. ومن كلام الإمام علي (ع) : لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه. (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ومعنى سخرية الخالق جل وعلا انه يجازي الساخر بالعذاب الأليم على سخريته.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) سبعين مرة كناية عن الكثرة ، وما زال العرب يبالغون بالسبعة والسبعين. وقال قائل : ان الله سبحانه ترك الخيار للتنبيه في ان يستغفر للمنافقين أو لا يستغفر لهم لأن (أو) في الآية للتخيير بزعمه .. وهذا اشتباه ، فإن قوله تعالى : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) دليل قاطع على انه لا سبيل لهم الى العفو والمغفرة. وعليه تكون (أو) للتسوية .. وفي رواية ان الله سبحانه حين أنزل في المنافقين (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) طلبوا من النبي أن يستغفر لهم ، فأنزل الله عليه (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وتسأل : ان الله يحب التوابين ، ويغفر لهم ذنوبهم مهما عظمت ، فما هو السر في قوله : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)؟.

٧٥

وقد أجاب سبحانه عن هذا في الآية نفسها ، حيث قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). انهم اعتذروا ، وطلبوا من النبي (ص) ان يستغفر لهم ، ولكن نفاقا ورياء ، أما في واقعهم فإنهم مصرون على الكفر والعناد .. وانما يتقبل الله من المتقين ، لا من المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون.

فرح المخلفون بمقعدهم الآية ٨١ ـ ٨٣ :

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣))

اللغة :

المخلفون جمع مخلّف ، وهو المتروك اسم مفعول ، أي ان رسول الله (ص) هو الذي تركهم. وبمقعدهم بصيغة اسم المصدر والمراد به المصدر ، أي بقعودهم. وخلاف تأتي مصدرا بمعنى المخالفة ، وظرفا بمعنى بعد. ورجعك الله ردك الله. فاقعدوا مع الخالفين أي مع القاعدين أو الباقين ، وهم النساء والصبيان والعجزة.

الإعراب :

خلاف رسول الله ان كان بمعنى بعد فهو ظرف منصوب والعامل فيه مقعدهم ،

٧٦

وان كان مصدرا بمعنى المخالفة فهو مفعول لأجله لفرح. وحرا تمييز. واللام في ليضحكوا لام الأمر وعملها الجزم ، ومثلها اللام في ليبكوا. وقليلا صفة لمفعول مطلق محذوف أي ضحكا قليلا. ومثله كثيرا أي بكاء كثيرا. وجزاء مفعول لأجله ليبكوا. وأبدا منصوب على الظرفية ، ومعناه الاستقبال. وأول مرة قائم مقام الظرف ، أي في أول مرة.

المعنى :

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ). حكى الله سبحانه فيما سبق قول بعض المنافقين للنبي ائذن لي في القعود عن الجهاد ، وأخبر في هذه الآية عن فرحهم بهذا القعود مخالفة لرسول الله ، وكراهية للجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله بعامة ، وفي غزوة تبوك بخاصة ، لأن الآيات نزلت فيها.

(وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ). اشفقوا على أنفسهم من حر الدنيا ، ولم يشفقوا عليها من نار جهنم ، وهي أشد حرا ، وأطول أمدا .. هذا ، إلى أن من ترك جهاد الطغاة ألبسه الله ثوب الذل في الدنيا ، وسيم الخسف ومنع النّصفة .. وما غزي العرب والمسلمون في عقر دارهم إلا حين تواكلوا وتخاذلوا ، وآثروا الخزي والمذلة على الاستشهاد من أجل العزة والكرامة.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). الأمر بالضحك والبكاء معناه الإخبار بأن المنافقين ، وان فرحوا بمقعدهم عن الجهاد فان هذا الفرح ليس بشيء بالنسبة الى ما سيلقونه من الخزي والذل في الدنيا ، وهم في الآخرة أذل وأخزى.

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) الخطاب للنبي (ص) ، ومعنى رجعك ردك من غزوة تبوك الى المدينة ، والمراد بالطائفة جماعة المنافقين ، وضمير منهم يعود إلى من تأخر في المدينة عن الغزو ، فإن بعض هؤلاء تأخر لعذر صحيح

٧٧

(فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك الى الغزو أو غير الغزو (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا). لقد تخلفوا عن الجهاد الواجب ، فعاقبهم الله بالحرمان من صحبة النبي (ص) ، والخروج معه الى الحرب وغيرها ، وهذا النوع من العقاب أشد على النفس من وقع السهام ، ويأتي في الآية ٩٥ قوله تعالى : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ) ثم بيّن سبحانه سبب النهي عن إخراجهم مع النبي ، واشراكهم في قتال العدو بقوله : (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) قعدوا عن النبي (ص) في ساعة العسرة فلن يقبلوا بعدها .. ومن اختار لنفسه الهوان يدعه الله وما اختار ، والمراد بالخالفين الصبيان والعجزة والنساء.

ولا تصل على احد منهم الآية ٨٤ ـ ٨٩ :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))

٧٨

اللغة :

الطول بالفتح والتشديد الغنى والقوة. والخوالف النساء لتخلفهن عن الجهاد. وطبع على قلوبهم ختم عليها.

الإعراب :

منهم متعلق بمحذوف صفة لأحد ، وجملة مات صفة ثانية. وأبدا ظرف متعلق بتصلّ. وان آمنوا (ان) للتفسير بمعنى أي.

الصلاة على جنازة المنافق والفاسق :

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ). الخطاب في لا تصلّ للنبي ، وضمير منهم يعود الى المنافقين .. وكان من عادة النبي (ص) إذا مات أحد أصحابه ان يصلي عليه ، ويقف على قبره يستغفر له ويقول لمن حضر : استغفروا لأخيكم ، وسلوا التثبيت له ، فإنه الآن يسأل. وبعد أن نزلت هذه الآية امتنع النبي (ص) عن الصلاة على المنافقين ، لأنها صريحة في النهي عن الصلاة عليهم ، والوقوف على قبورهم للدعاء لهم ، أما سبب هذا النهي فهو إصرارهم على الكفر بالله ورسوله ، وموتهم على هذا الإصرار والعناد الذي عبّر عنه تعالى بقوله ، (وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ). هذا هو المعنى الظاهر من الآية ، وتتصل به المسائل التالية :

١ ـ المنافق قسم من أقسام الكافر ، بل هو أسوأ حالا منه ، لأنه يبطن الكفر ، ويظهر الإسلام ، ومن أجل هذا تحرم الصلاة على جنازته ، وقوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) صريح في ذلك ، وأوضح منه أو مثله في الوضوح قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ـ ١١٤ التوبة». أما الفاسق فهو

٧٩

قسم من أقسام المسلم ، لأنه يؤمن بالله ورسوله ظاهرا وباطنا ، ولكنه يعصي الله في أحكامه ، فتجب عليه الصلاة ، ولا يجوز تركها بحال.

في ذات يوم جاءني أحد علماء جبل عامل ، وقال : دعيت الى الصلاة على جنازة رجل أعلم بفسقه ، فهل تجوز لي الصلاة عليه؟. قلت : بل تجب عليك كفاية. قال : والفسق؟. فرويت له قول الإمام جعفر الصادق (ع) : «صلّ على من مات من أهل القبلة ، وحسابه على الله». قال : ولكن المصلي لا بد أن يدعو للميت بعد التكبيرة الرابعة ، والمعروف أن يقول في دعائه له : اللهم لا نعلم منه إلا خيرا ، فان قلتها كنت كاذبا. قلت له : قل : اللهم نعلم منه خيرا ، واقصد بالخير الإسلام.

٢ ـ اختلف المفسرون تبعا لاختلاف الروايات : هل صلى النبي (ص) على جنازة رأس النفاق عبد الله بن أبيّ؟. والأقوال في ذلك ثلاثة : الأول أنه صلى ، حيث كان يأمل أن يدخل بسبب هذه الصلاة خلق كثير في الإسلام .. وهذا مجرد حدس ، ولا يجوز أن نثبت أو نفسر به شيئا من أفعال المعصوم. القول الثاني : ان النبي (ص) أراد أن يصلي عليه ، فأخذ جبريل بثوبه ، وتلا عليه الآية : ولا تصلّ على أحد منهم. القول الثالث : انه ما صلى عليه. وجاء في مجمع البيان : «والأكثر في الرواية انه لم يصلّ عليه». وخير ما قرأت في هذا الباب ما جاء في تفسير الشيخ المراغي ، قال ما معناه : ان البخاري وغيره رووا ان النبي (ص) صلى على ابن أبيّ ، ولما سئل قال : ان الله خيرني في الصلاة على المنافقين ، لأنه قال لي : استغفر لهم أو لا تستغفر. ثم علّق المراغي على هذا الحديث بأن كثيرا من العلماء قد حكموا بعدم صحته ، لأن آية النهي عن الصلاة على المنافقين نزلت قبل موت ابن أبيّ ، ومحال أن يخالف الرسول الأعظم (ص) كتاب الله ، وأيضا محال أن يقول : ان الله خيرني بقوله : استغفر لهم أو لا تستغفر لأن قوله تعالى : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) دليل قاطع على أن (أو) هنا ليست للتخيير ، فالحديث بنفسه يدل على انه كذب وافتراء على الله ورسوله.

٣ ـ قال الطبرسي في مجمع البيان : «في هذه الآية دلالة على ان القيام على

٨٠