التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))

اللغة :

المراد بالشهيد هنا الشاهد لهم أو عليهم. ولا يستعتبون أي لا مجال لهم غدا أن يطلبوا الرضا من الله بقول أو فعل. والسلم الاستسلام والانقياد. والتبيان البيان.

الإعراب :

يوم نبعث (يوم) مفعول لفعل محذوف أي اذكر يوم نبعث. وجملة انكم لكاذبون بدل من القول في قوله : فألقوا اليهم القول. دناهم عذابا (عذابا) تمييز لأنه بمعنى زاد عذابهم. وجئنا بك شهيدا (شهيدا) حال من كاف الخطاب. وتبيانا حال ، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله أي أنزلناه ليبين للناس كل شيء وليهديهم وليرحمهم.

المعنى :

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا). هذا تهديد

٥٤١

ووعيد لمن أشار سبحانه اليهم في الآية السابقة بقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها). ووجه التهديد ان الله يجمع الناس غدا ، ويأتي بكل نبي يشهد على أمته أو لها ، ومتى شهد عليها يأخذ الله بقوله وشهادته ، ولا يؤذن لها بالرد والاعتذار ، قال تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) ـ ٣٥ المرسلات. (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). المراد بالاستعتاب طلب الرضا ، والمعنى لا يطلب من المشركين أن يسترضوا الله بقول أو فعل ، لأن الآخرة دار حساب وجزاء لا دار أعمال واسترضاء.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). المراد بالذين ظلموا كل ظالم ، سوا أظلم خالقه بالجحود أو الشرك ، أم ظلم غيره بالاعتداء ، أم ظلم نفسه بتعرضها للتهلكة ، فإنه يعذب على ظلمه وذنبه جزاء وفاقا بلا زيادة أو نقصان ، وبلا تأخير أيضا.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ). ضمير ألقوا يعود الى آلهة المشركين ، وضمير اليهم يعود الى المشركين أنفسهم ، وتدل الآية بظاهرها على ان الله يحشر معبود المشركين صنما كان أو غيره لالقاء الحجة على من اتخذه إلها ، وان المشركين حين يرون آلهتهم التي كانوا يعبدون يقولون لله : هؤلاء الذين كنّا ندعوهم شركاء لك ، وان الآلهة ترد عليهم بلسان الحال أو بلسان المقال : انكم أيها المشركون لكاذبون ومفترون في جعلنا شركاء لله. وغير بعيد أن تكون هذه الحكاية لقول المشركين وآلهتهم كناية عن تكشف الحقائق غدا ، وانه لا مجال للكذب والتدليس.

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ). ضمير ألقوا يعود الى المشركين وآلهتهم وانهم يستسلمون وينقادون لأمره تعالى (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ). وكل مفتر في هذه الحياة تعود عليه مفترياتهم بالخزي والعذاب في اليوم العصيب.

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ). فسدوا بكفرهم بالحق ، وأفسدوا بصدهم الغير عن الحق ، فاستحقوا عقابين : أحدهما على الفساد والثاني على الإفساد : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) ـ ١٢ العنكبوت».

٥٤٢

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ). تقدم هذا المعنى في الآية ٨٤ واعاده في الآية ٨٩ تهديدا للذين كذبوا محمدا (ص). (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ). الخطاب لمحمد (ص) ، وهؤلاء اشارة الى أمته.

وتسأل : ان محمدا (ص) رسول الله الى الناس أجمعين بنص الآية ٢٧ من سبأ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). فإذا كانت رسالة محمد في الدنيا عامة للجميع فينبغي أن تكون شهادته في الآخرة على الناس عامة أيضا ، وإذا كانت شهادته في الآخرة على أمته فقط فينبغي أن تكون رسالته خاصة بأمته فقط؟.

الجواب : لا تلازم بين عموم رسالته في الدنيا وعموم شهادته في الآخرة ، لأن رسالة الإسلام تبلغها أمة محمد (ص) من بعده لكل الأمم في كل زمان ومكان والنبي يشهد على أمته انها أهملت ولم تبلغ الرسالة للأجيال.

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ). الخطاب من الله لنبيه محمد ، والمراد بالكتاب القرآن ، وفيه بيان كل شيء يتصل بالعقيدة والشريعة والأخلاق والعبر والعظات (وَهُدىً وَرَحْمَةً) لمن طلب الهداية والرحمة (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). المراد بالبشرى الجنة ، وبالمسلمين كل من استسلم للحق وعمل به.

الله يأمر بالعدل والاحسان الآية ٩٠ ـ ٩٣ :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى

٥٤٣

مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))

اللغة :

كل ما يلتزمه الإنسان باختياره من فعل أو ترك فهو عهد عند أهل العرف ، ولا يكون عهدا يجب الوفاء به شرعا الا إذا كان العهد لله ومقرونا باسمه تعالى : مثل عاهدت الله ، وعليّ عهد الله. ونقض اليمين الحنث بها. والمراد بتوكيدها هنا عقدها ، ويجوز تأكيدها بالألف ، ولكن بالواو أولى لأنها الأصل. وكفيلا ضامنا الوفاء. وأنكاثا بفتح الهمزة جمع نكث بكسر النون بمعنى منكوث أي محلول ومنقوض. والدخل في كلام العرب كل ما هو غير صحيح كما في تفسير الطبري. وأربى أكثر وأوفر.

الإعراب :

أنكاثا حال مؤكّدة من غزلها. وقيل : منصوب على المصدرية. ودخلا مفعول من أجله لتتخذون. والمصدر من أن تكون أمة مجرور بباء محذوفة أي بكون أمة.

المعنى :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). أمرت هذه الآية بثلاث خصال حميدة ، ونهت عن ثلاث خصال قبيحة ، أما الثلاث الحميدة فهي :

٥٤٤

العدل ، والإنسان العادل هو الذي ينصف الناس من نفسه ، ويعاملهم بما يجب أن يعاملوه.

والإحسان ، وهو جامع لكل خير ، والناس يفهمون من كلمة محسن من يتبرع بماله أو بسعيه في سبيل الخير.

وإيتاء ذي القربى ، وهو من الإحسان ، وخصه تعالى بالذكر تنويها بفضله وعظمته.

أما الخصال الثلاث القبيحة فهي الفحشاء كالزنا واللواط والخمر والميسر والكذب والبهتان ، وأظهرها الزنا ، قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) ـ ٣٢ الاسراء». والخصلة الثانية من الخصال القبيحة هي المنكر ، وهو كل ما ينكره العقل والشرع. والخصلة الثالثة البغي ، وهو الاعتداء على الناس بالفعل أو القول ، وحكمه عند الله غدا حكم الشرك بالله ، بل أشد ، لأن الشرك اعتداء على حق الله فله إسقاطه ، أما البغي فهو اعتداء على حق الله وحق الناس. ويطلق المنكر على الفحشاء ، والفحشاء على المنكر ، وهما معا على البغي.

(يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). المراد بوعظه سبحانه أمره بالخصال الحميدة الحسنة ، ونهيه عن الخصال القبيحة السيئة ، والغرض من هذا الوعظ أن نكون مؤمنين أتقياء ، وطيبين أصفياء. ونقل الرواة عن ابن مسعود ان هذه أجمع آية للخير والشر في كتاب الله.

وقال عثمان بن مظعون : أسلمت استحياء من رسول الله ، وما قرّ الإسلام في قلبي حتى نزلت هذه الآية ، فآمنت بمحمد (ص) وأتيت عمه أبا طالب ، فأخبرته بأمري ، فقال : يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا ، فإنه لا يأمركم الا بمكارم الأخلاق.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ). إعطاء العهد لله يكون على نحوين : الأول أن يقطع الإنسان على نفسه عهدا لله تعالى ان يفعل شيئا معينا أو يتركه ، كما لو قال : أعاهد الله أن أفعل كذا ، أو أترك كذا. النحو الثاني أن يؤمن بالله ، لأن من آمن به فقد أعطاه عهدا أن يأتمر بأمره ، وينتهي بنهيه ، وكل من العهدين يجب الوفاء به ، والمراد هنا بعهد الله العهد الأول.

(وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها). الايمان جمع يمين ، والمراد بتوكيدها عقدها ، لأن اليمين تنعقد إذا لم تكن على معصية ، ولا تنعقد بحال إذا كانت

٥٤٥

على معصية. وقيل : ان المراد بتوكيدها تشديدها وتغليظها ، وهذا اشتباه ، حيث يصير المعنى على هذا ان اليمين التي لا تشدد فيها لا يجب الوفاء بها .. مع العلم بأن كل يمين متى تمت يجب الوفاء بها سواء أتشدد الحالف وأغلظ بيمينه وعزمه ، أم لم يتشدد ويغلظ.

(وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً). كل من حلف بالله فقد جعل الله كفيلا وضامنا الوفاء ، فإن أخلف فقد خان الله بالذات ، واستحق العقاب والعذاب (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) فمن وفي بعهده ويمينه أثابه ثواب المطيعين ، ومن نكث وخان عاقبه عقاب العاصين.

وتجدر الاشارة الى ان كلا من العهد واليمين ينحل بطبعه إذا كان تركه خيرا من فعله ، فمن حلف بالله أو عاهده أن لا يأكل اللحم ـ مثلا ـ وكان في الترك منفعة صحية له ، إذا كان كذلك انعقد العهد واليمين ، فلو طرأ على صحته ما يستدعي أكل اللحم ينحل العهد واليمين ، ويأكل اللحم ولا شيء عليه ، وقد جاء في الحديث : «إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها».

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً). بعد قوة أي بعد ابرامه .. وكل شيء ينقض بعد فتله وابرامه فهو نكث ، غزلا كان أو حبلا ، وقد شبه سبحانه ناقض العهد والايمان بناقضة الغزل بعد ابرامه. وقيل : كان بمكة امرأة حمقاء تغزل صوفها في الصباح ، وتنقضه في المساء ، وان الله شبه بها ناقض اليمين ، ومهما يكن فإن الآية توكيد لقوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها).

(تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ). حذف من الكلام همزة الاستفهام الانكاري ، والتقدير أتتخذون الخ. والدخل هو الشيء الفاسد والمفسد ، ومنه المكر والخديعة ، وأربى أي أكثر ، والمعنى لا تجعلوا ايمانكم وسيلة للغدر والخيانة ، وذلك بأن تحلفوا للذين هم أكثر منكم وأقوى ليطمئنوا إليكم ، ويثقوا بكم ، وأنتم في نفس الوقت تضمرون أن تنقضوا الايمان ، وتتركوا الذين حلفتم لهم متى رأيتم أقوى منهم عدة ، وأكثر عددا ، ويتلخص المعنى بكلمة واحدة : لا تغدروا.

(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ). ضمير به يعود الى أمره بالوفاء بالعهد واليمين ،

٥٤٦

والمعنى ان الله تعالى يكلف العباد بتكاليف ليطيع من أطاع مختارا ، ويعصي من عصى مختارا ، ثم يجازي الله كلا بما يستحق ، وتكلمنا مفصلا عن معنى الاختبار من الله عند تفسير الآية ٩٤ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٢٦ (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). يعيد الله العباد يوم القيامة ليتميز المبطل من المحق ، ويكافئ كلا بما يستحق.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً). أي ان الله سبحانه لو أراد أن يكره الإنسان على الايمان لكان الناس كلهم أمة واحدة ، ولكنه ترك الإنسان وما يختار ، إذ لو سلبه الحرية والاختيار لكان شأنه شأن الحيوانات والحشرات ، وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١١٨ من سورة هود ، والآية ٣٤ من سورة الأنعام. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). لا شك ولا ريب عند العقل ان الله لا يضل ولا يهدي أحدا قهرا عنه ، ولو الجأه ألجأه إلى الضلالة والهداية لما صح أن يسأله ويحاسبه ، مع انه قال صراحة ، وبلا فاصل (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، ومعنى الآية ان الله سبحانه يعتبر الإنسان ضالا بعد ان يسلك مختارا طريق الضلال ، ويعتبره هاديا متى سلك سبيل الهداية ، تماما كما يميته إذا انتحر : وينجيه إذا لم يلق بيده الى التهلكة. وسبق الكلام عن الهدى والضلال عند تفسير الآية ٢٦ و ٢٧٢ من سورة البقرة ج ١ ص ٧٠ و ٤٢٦ والآية ٨٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٣٩٩.

ما عندالله خيرالآة ٩٤ ـ ١٠٠ :

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما

٥٤٧

كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

اللغة :

النفاد الفناء ضد البقاء. وإذا قرأت القرآن أي إذا أردت قراءة القرآن مثل إذا أكلت فقل باسم الله. والمراد بالسلطان التسلط. ويتولونه أي يطيعونه.

الإعراب :

فتزل منصوب بأن مضمرة بعد الفاء لأن الفعل وقع جوابا للنهي ، وتذوقوا عطف على فتزل. وانما مركبة من كلمتين : ان التي تنصب الاسم وترفع الخبر ، وما اسم موصول ، وهي اسم ان ، وعند الله صلة الموصول ، وهو ضمير فصل لا محل له من الاعراب ، وخير خبر ان. وما عندكم مبتدأ ، وينفد خبر. وضمير لنحيينه يعود الى من عمل صالحا باعتبار لفظة (من) المفردة ، وضمير نجزينهم يعود اليها باعتبار معناها ، وهو الجمع هنا.

المعنى :

قال سبحانه في الآية ٩١ : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها). وقال في الآية ٩٢ : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ

٥٤٨

دَخَلاً بَيْنَكُمْ). وقال في الآية ٩٤ ، وهي التي نفسرها : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ). فما هو الغرض من هذا التكرار؟. هل هو التأكيد والاهتمام بالوفاء ، أو هناك غرض آخر؟.

نقل الرازي عن المفسرين ان الله سبحانه نهى أولا عن نقض اليمين الناس أجمعين ، دون أن يقصد جماعة معينين ، ثم نهى جماعة بالخصوص ، وهم الذين بايعوا محمدا (ص) على الإسلام.

وهذا التفصيل بعيد عن مدلول الآيات ، لأن النهي فيها عن نقض اليمين ورد مطلقا غير مقيد ببيعة أو بغيرها .. والأولى في الجواب ان تكرار النهي هنا انما ساغ وحسن ، لأن الله سبحانه عقّب بعد كل نهي بجملة أفادت معنى جديدا ، فقال بعد النهي الأول : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) فذكّر بقوله هذا الحالفين بأنهم جعلوا الله ضامنا للوفاء بايمانهم ، فعليهم أن لا ينكثوا ، والا فقد خانوا الله بالذات .. وقال بعد النهي الثاني : «انما يبلوكم به» وهذا تذكير للحالفين أيضا بأنه يمتحنهم ويختبرهم ليستحقوا الثواب الذي يريده لهم. وقال بعد النهي الثالث : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) وهذا تهديد ووعيد لمن ترك الحق الى الباطل والهدى الى الضلال.

(وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). كل من صدّ عن سبيل الله والحق وجب ردعه بالوعظ والإرشاد أولا ، فإن تاب وأناب فذاك والا وجب جهاده وساغ أسره وقتله ، هذا في الدنيا ، أما في الآخره فله عذاب عظيم.

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) عهد الله هو الالتزام بالحق والعمل به ، ومنه الوفاء بالعهد واليمين ، والمراد بالثمن القليل المنفعة الدنيوية ، وان كثرت ، والمعنى لا تؤثروا منافعكم الخاصة على الحق ، فتبيعوه بالمال أو الجاه أو بأي متاع من هذه الحياة ، فإن الدنيا بما فيها ليست بشيء في جنب ما أعده الله للمطيعين والمحسنين (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ) من المنافع الدنيوية بالغة ما بلغت كيفا وكما (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الفرق البعيد بين المنفعة الأخروية والدنيوية ، ثم بيّن سبحانه وجه الفرق بينهما بقوله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ). وليس من شك ان الدائم أفضل وأشرف من الزائل .. وفوق هذا فإن المنفعة الدنيوية ترافقها الآلام

٥٤٩

والمنغصات .. إذا احلولى منها جانب أمرّ منها جانب ، أما المنفعة الاخروية فخالصة من كل شائبة.

(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). ان الدعوة الى الحق ، والثبات عليه وعليها يستدعيان الأذى من المبطلين بطبيعة الحال .. فمن صبر على البلاء في سبيل الحق ، وثبت على جهاد أعدائه الى النهاية أثابه الله ثواب الصابرين المجاهدين.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). ان قوله هذا يومئ الى انه تعالى يجزي الصابرين بالثواب على أحسن أعمالهم ، أما أعمالهم الحسنة والسيئة فإنه لا يجزيهم عليها بشيء ، فهل هذا المعنى هو المراد من الآية؟.

الجواب : ان أعمال الإنسان تنقسم الى طاعات واجبة ومستحبة ، ومعاص ، ومباحات ، وليس من شك ان أحسنها الطاعات ، وأقبحها المعاصي ، والله سبحانه يثيب الصابرين على جميع ما يفعلونه من الطاعات ، ومنها الصبر في طاعة الله ، وهو أفضلها وأشرفها ، أما المباحات فلا يستحق فاعلها ثوابا ولا عقابا .. فالمراد بأحسن ما كانوا يعملون الطاعات بشتى صورها وأشكالها ، وليس المراد الصبر فقط. أجل ، ان الله سبحانه صرح بأنه يجزي الصابرين على حسناتهم ، وسكت عن سيئاتهم ، وفي هذا السكوت وعد أو شبه وعد بأنه تعالى يغفرها برحمته وفضله.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). في هذه الآية جهات :

١ ـ لقد دلت على ان كلا من الذكر والأنثى يقاس بعمله عند الله ، وانه لا فضل للرجل على المرأة إلا بالتقوى ، فان اتقت هي وأطاعت ، وعصى هو ولم يتق فهي خير منه وأكرم عند الله .. وتقدم الكلام عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ٢٢٨ من سورة البقرة بعنوان : «بين الرجل والمرأة» ج ١ ص ٣٤٣.

٢ ـ دلت الآية أيضا على ان الايمان مع العمل الصالح سبب للأجر والثواب ، أما أحدهما دون الآخر فلا يستحق صاحبه الثواب .. ولكن الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) يقتضي ان الله سبحانه يعوض على الكافر المحسن بالصحة أو المال أو الجاه أو طول العمر في الدنيا ،

٥٥٠

أو بتخفيف العذاب عنه في الآخرة. وسبق الكلام عن ذلك بعنوان : «الكافر وعمل الخير» عند تفسير الآية ١٧٨ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢١١.

٣ ـ اختلفوا في الحياة الطيبة التي ذكرها سبحانه بقوله : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً). اختلفوا : هل تحصل هذه الحياة في الدنيا أو في الآخرة؟ .. وغريب ان يختلف المفسرون في ذلك ، وهم يشاهدون بالحس والعيان ان الدنيا جنة الكافر ، وسجن المؤمن ، ويتلون بل يشرحون قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) ـ ٣٥ الزخرف». ومن أجل هذا نرجح ان المراد بالحياة الطيبة هنا الجنة ، وان قوله : ولنجزينهم أجرهم الخ عطف تفسير على قوله : فلنحيينه وتأكيد له ، ومثله قوله تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ـ ١٠٥ النحل».

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ). الخطاب للنبي (ص) ، والتكليف للعموم ، والمعنى ان من أراد ان يقرأ القرآن فليقل قبل القراءة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وفي تفسير الرازي ان مالكا وداود الظاهري قالا : الاستعاذة بعد قراءة القرآن ، لا قبلها جمودا على ظاهر اللفظ ، ومهما يكن فان الاستعاذة من الشيطان قبل القراءة أو بعدها مستحبة ، وليست واجبة بالاتفاق.

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ). ضمير انه ليس له يعود الى الشيطان ، أما ضمير به مشركون فيجوز أن يعود على ربهم لتقدم ذكره ، ويجوز أن يعود على الشيطان ، على معنى انهم أشركوا بسبب طاعتهم للشيطان ، والمعنى ان الشيطان لا سبيل له على الإنسان إلا بالوسوسة والإغراء بفعل الحرام ، ولا يستجيب له الا ضعاف القلوب والايمان. وتقدم نظيره مع التفسير في الآية ٢٢ من سورة ابراهيم والآية ٣٩ وما بعدها من سورة الحجر.

آة مكان آة الآة ١٠١ ـ ١٠٥ :

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ

٥٥١

أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

اللغة :

التبديل رفع شيء مع وضع غيره مكانه ، وروح القدس جبريل ، والمراد باللسان هنا اللغة. والإلحاد الميل. والفرق بين الأعجم والعجمي ان الأعجم من لا يفصح وان كان عربيا ، والعجمي هو المنسوب الى العجم.

الإعراب :

قالوا جواب إذا ، وجملة والله أعلم معترضة بين إذا وجوابها. ولسان الذي يلحدون اليه مبتدأ ، وخبره أعجمي.

المعنى :

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). ضمير قالوا يعود الى المشركين الذين كذبوا محمدا (ص) ، وضمير أنت موجه منهم اليه .. ان الله سبحانه خلق الخلق ، وهو العليم الحكيم بما يصلحهم ويفسدهم ، وقد تستدعي الحكمة والمصلحة ان يشرّع سبحانه لعباده حكما لأمد معين ، فيفعل ، حتى إذا انتهى الأمد ارتفع الحكم المحدود به ، وشرّع ـ جلت حكمته ـ حكما آخر مكانه على وفق المصلحة أيضا .. وهذا هو

٥٥٢

المراد من قوله : «وإذا بدلنا آية مكان آية». وكان المشركون ، حين يرون هذا التبديل ، يقولون لمحمد (ص) : انك تفعل ذلك من تلقاء نفسك ، وتنسبه الى الله كذبا وافتراء ، والله سبحانه يعلم بأنه هو الذي أنزل هذا التبديل على رسوله الصادق الأمين ، ويعلم انهم هم المفترون بقولهم للرسول الأعظم : «انما انت مفتر».

وأوضح تفسير قرأته لهذه الآية ما روي عن ابن عباس انه إذا نزلت آية في شدة ، ثم نزلت آية ألين منها قال كفار قريش : ان محمدا يسخر بأصحابه ، اليوم يأمر بأمر ، وغدا ينهى عنه ، وانه لا يقول هذه الأشياء الا من عند نفسه ، فأنزل الله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية الخ. وتكلمنا عن النسخ عند تفسير الآية ١٠٦ من سورة البقرة ج ١ ص ١٦٩.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). روح القدس هو جبريل ، وسمي بذلك لأنه نزل بالقدس ، وهو القرآن من عند الله على محمد (ص).

ونظير هذه قوله تعالى في الآية ٨٩ من هذه السورة : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). وذكرت الآية هنا للرد على المشركين الذين نسبوا التبديل إلى النبي ، وذكرت هناك بمناسبة قوله تعالى ما معناه ان الله يوم القيامة يبعث من كل أمة شهيدا ، ويبعث محمدا ليشهد على أمته انه قد بلغها القرآن الذي هو تبيان لكل شيء.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). اتهم المشركون محمدا (ص) بأنه تعلم القرآن من غيره ، ونسبه الى الله كذبا وافتراء .. وليس من شك ان هذا من حرب الدعايات الكاذبة يعلنها المفسدون في الأرض على مصلح يثور عليهم وعلى فسادهم وافسادهم .. وقد تطورت اليوم أساليب الدعايات ضد المخلصين والمصلحين ، وبلغت النهاية في الدقة والأحكام ، حتى انخدع بها كثير من الأبرياء الأصفياء.

(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). هذا رد لقول المشركين عن محمد (ص) : «انما يعلمه بشر» ، ويظهر من هذا الرد انهم أضافوا التعليم الى رجل معين ، وان هذا الرجل كان أعجميا يعجز عن الإفصاح

٥٥٣

بالكلام ، ولذا قال تعالى : ان القرآن ذو بيان وفصاحة فكيف يمكن أن يصدر عن أعجمي؟ .. ان فاقد الشيء لا يعطيه.

ردد هذا الافتراء أعداء الإسلام في حياة محمد (ص) ، ورددوه من بعده أيضا ، وما زال كثير من المبشرين النصارى يجترون هذا الافتراء جاهلين أو متجاهلين بأن في القرآن علوما وفنونا وحكما لم يكن لها في ذاك العهد عين ولا أثر .. ولو افترض وجودها فلا يمكن أن يجمعها ويعلمها واحد ، ولو علمها لتجاوزت شهرته شهرة أرسطو الذي أسماه العرب بالمعلم الأول .. مع العلم بأنه ما ادعى أحد ان رجلا كان في عهد رسول الله يجمع علوم القرآن.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). المراد بآيات الله الدلائل الناطقة بوجوده ، والمعجزات الشاهدة بنبوّة الأنبياء ، والأحكام المنزلة من الله عليهم ، أما الهداية فالمراد بها هنا الثواب ، والمعنى ان الله سبحانه لا يثيب ، بل يعاقب من يكفر بآياته بشتى أنواعها.

الكاذب الكافر :

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) ولا بالبعث والحساب والجزاء كالمشركين الذين قالوا لمحمد (ص) ما قالوه (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ). انهم يجرءون على الكذب وعلى جميع المفاسد والآثام لأنهم لا يخشون عقابا على الكذب ، ولا يرجون ثوابا على الصدق.

وتسأل : ان قوله تعالى : «انما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون» يغني عن قوله : «وأولئك هم الكاذبون». فما هو القصد من هذا التكرار؟.

وأجاب المفسرون بأن القصد منه التنبيه الى ان صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة تماما كما تقول لمن عرف بالكذب : كذبت وأنت الكاذب أي ان دأبك وشأنك الكذب.

سؤال ثان : قال سبحانه : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). وهذا حصر للكذب بالكافرين مع ان كثيرا من الكافرين أصدق وأوثق في أحاديثهم من كثير من الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر؟.

الجواب : ان المسلم الكاذب مؤمن بالله نظريا ، وكافر عمليا ، فهو بوصفه

٥٥٤

مؤمنا نظريا وفكريا يعامل في الدنيا معاملة المسلم ، وبوصفه كافرا في عمله وفعله يعامل في الآخرة معاملة الكافر لهذه الآية ، ولما روي عن النبي من انه سئل : هل يكذب المؤمن؟ فقال : لا. ثم قرأ هذه الآية.

وقلبه مطمئن بالايمان الآة ١٠٦ ـ ١١١ :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

اللغة :

شرح بالكفر صدرا أي اعتقده عن طيب نفس. واستحبوا الحياة الدنيا أي آثروها وقدموها ، ولا جرم لا شك. والمراد بفتنوا هنا ابتلوا. وتجادل عن نفسها تدفع عنها وتسعى في خلاصها.

الإعراب :

ذكر الطبرسي وجهين لإعراب (من) في قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ).

٥٥٥

وذكر الرازي أربعة أوجه ، واختار ان محلها النصب مفعولا لفعل محذوف أي أعني من كفر بالله ، أما نحن فنختار ان محلها الرفع بالابتداء ، والخبر محذوف تقديره من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب الله ، وهذه الجملة تدل عليها الجملة الموجودة في نفس الآية ، ومن شرح مبتدأ ، وفعليهم غضب من الله خبر. وصدرا تمييز محول عن فاعل لأن أصله من انشرح صدره للكفر ، وقال الرازي : صدرا مفعول ، وأصله صدره ، وحذف الضمير للعلم به. والمصدر من انهم في الآخرة مجرور بمحذوف أي لا جرم في انهم ، وضمير (هم) فصل والخاسرون خبران. ثم ان ربك للذين هاجروا خبرها جملة ان ربك لغفور رحيم. وان ربك من بعدها توكيد لأن ربك للذين هاجروا الخ.

المعنى :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). تدل هذه الآية على الاذن بالتفوه بكلمة الكفر للنجاة من القتل ، على ان يكون لافظها مؤمنا حقا وصدقا. وجاء في تفسير الرازي : «أكره أناس على كلمة الكفر ، منهم عمار وأبواه ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخباب وسالم ، وقد عذبوا ، فأما سمية فر بطت بين بعيرين ، ووخزت في قلبها بحربة فقتلت ، وقتل ياسر ، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها. فقال بعضهم : يا رسول الله ان عمارا كفر. فقال الرسول الأعظم (ص) ، كلا ، ان عمارا مليء ايمانا من قرنه الى قدمه ، واختلط الايمان بلحمه ودمه .. فأتى عمار رسول الله (ص) وهو يبكي ، فجعل الرسول يمسح عينيه ويقول : «ما لك؟ ان عادوا لك فعد بما قلت». وتقدم الكلام عن التقية عند تفسير الآية ٣٠ من سورة آل عمران.

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بعد أن ذكر سبحانه من آمن واقعا ، وأظهر الكفر للنجاة من القتل ، وانه معذور عند الله ـ بعد هذا ذكر من كفر ظاهرا وواقعا ، لا لشيء الا رغبة في الكفر ، ولا جزاء لهذا الا غضب الله وعذابه الأليم (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى

٥٥٦

الْآخِرَةِ) ذلك اشارة الى غضب الله وعذابه ، واستحبوا آثروا ، والمعنى ان الله سبحانه يطرد الكافرين من رحمته ، ويعذبهم بناره لأنهم آثروا الحياة وزينتها على الآخرة ونعيمها.

وقوله تعالى : ذلك بأنهم استحبوا الخ. صريح في ان العلة لعذابهم وغضب الله عليهم هي استحبابهم الدنيا على الآخرة ، ومعنى هذا ان كل من آثر الهوى على الحق ، والعاجلة على الآجلة فهو عند الله مثل الكافر والمشرك من حيث استحقاقه الغضب من الله والعذاب.

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) بمعنى انه لا يعتبرهم مهتدين بعد ان استحبوا الكفر على الايمان بطبيعة الحال. وأيضا لا يهديهم بمعنى انه لا يثيبهم .. وليس من شك انه قد هداهم بمعنى انه أقام لهم الأدلة الكافية الوافية على وجوده ونبوة أنبيائه : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) ـ ١٦ فصلت».

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ). تقدم نظيره مع التفسير في سورة البقرة الآية ٦.

(لا جَرَمَ) لا شك (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ). ولا خسران أعظم من غضب الله وعذابه.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). بعد ان ذكر سبحانه حكم من آمن في الواقع ، وكفر في الظاهر مكرها ، بعد هذا ذكر هنا من كان قد آمن برسول الله ، ولكنه بقي بمكة ولم يهاجر معه الى المدينة ، وأعطى المشركين بعض ما أرادوا منه ، ثم تاب وهاجر وجاهد بين يدي رسول الله ، وصبر على جهاد المشركين والفاسدين ، وقد بيّن سبحانه حكم هذا بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). وضمير بعدها يعود الى فعلتهم التي يدل عليها السياق ، أو الى توبتهم مع الهجرة والجهاد والصبر.

وفي كثير من التفاسير ان هذه الآية نزلت في جماعة من أصحاب رسول الله (ص) كانوا قد تخلفوا بمكة ، ولم يهاجروا مع رسول الله ، فاشتد المشركون عليهم ، حتى فتن البعض منهم عن دينه ، وجاروا المشركين ، ثم ندموا ، وخافوا ان لا تقبل لهم توبة ، فأنزل الله هذه الآية.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها). المراد بالنفس الأولى الإنسان ،

٥٥٧

وبالنفس الثانية ذاته ، والمعنى ان كل انسان يوم القيامة يدفع عن نفسه ، ولا يهتم بغيره : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ـ ٣٧ عبس». (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). ونظيره قوله تعالى : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ـ ٢٢ الجاثية». وقوله : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) ـ ١٥ طه». وقد تكرر هذا المعنى في عشرات الآيات.

قريةكانت آمنة الآة ١١٢ ـ ١١٣ :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

اللغة :

الرزق الرغد الواسع ، وأنعم جمع نعمة.

الإعراب :

قرية بدل من (مثلا). ورغدا حال من رزقها أي واسعا.

المعنى :

اختلف المفسرون في المراد بالقرية المذكورة في الآية : هل هي قرية معينة وموجودة بالفعل ، او انها فرضت على هذه الصورة لضرب المثل بها؟. ونقل

٥٥٨

الرازي عن أكثر المفسرين ان المراد بها مكة المكرمة .. ومهما يكن فإن هذه الأوصاف تنطبق على مكة وأهلها ، فان الناس يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ، ولا يخافون الغزو والسلب والنهب ، كما كان يخاف سائر العرب ، ولا يحتاج أهلها ان ينتجعوا الى البلدان ، لأن الرزق كان يأتيها من كل مكان استجابة لدعوة ابراهيم (ع) : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ـ ٣٧ ابراهيم» وقد كفر أهل مكة بأنعم الله حيث كذبوا محمدا (ص) ، وهموا بقتله ، حتى اضطروه الى الهجرة من بلده.

وأصاب أهل مكة الجوع بدعاء رسول الله (ص) عليهم ، حيث قال : «اللهم أشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف». فاستجاب الله دعوته ، وأصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقراد والوبر معجونا بالدم ، وكان أحدهم ينظر الى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ، أما الخوف فقد زلزلت بهم الأرض سرايا رسول الله (ص).

كلوا واشكروا الآية ١١٤ ـ ١١٩ :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا

٥٥٩

السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

الإعراب :

الكذب مفعول لتصف ، وهو مبالغة في كذبهم لأن المعنى ان ألسنتهم تعرّف الناس بحقيقة الكذب ، فهو تماما مثل قولك : وجهه يصف للناس الجمال. والمصدر المنسبك من لتفتروا بدل من لما تصف مع اعادة حرف الجر لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله. ومتاع قليل خبر مبتدأ محذوف أي بقاؤهم متاع قليل.

المعنى :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). تقدم نظيره مع التفسير في الآية ١٧٣ من سورة البقرة ج ١ ص ٢٦٤ ، والآية ٥ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٨.

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ). كان أهل الجاهلية يحللون ويحرمون من عند أنفسهم ، وينسبون ذلك الى الله تعالى ، من ذلك انهم كانوا يحللون الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله ، ويقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ، وما الى ذلك مما ذكر في سورة الأنعام الآية ١٣٧ وما بعدها ، فنهاهم الله سبحانه عن هذا ، وقال هو كذب وافتراء (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) وكل من أسند الى الله حكما أو قولا أو أي شيء من غير دليل قاطع فقد افترى على الله الكذب (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) كيف وقد غضب الله عليهم وأعد لهم عذابا أليما؟. (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وكل منافع الدنيا لا تعدل أيسر عذاب من عذاب الآخرة فكيف إذا كان أليما عظيما؟. : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) ـ ٢٣ لقمان».

٥٦٠