التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

الواصب الدائم ، وإذا كان الله خالق كل شيء ومالك كل شيء وجب الثبوت والاستمرار في طاعته دون سواه.

٣ ـ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) لأنه خالق كل شيء مباشرة وبكلمة كن ، أو بالواسطة.

(ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ). المؤمن الحق يثق بالله ويعتمد عليه في جميع الأحوال : أما التاجر فيلجأ اليه ساعة العسرة ، ويتجاهله عند الميسرة ، ومر نظير هذه الآية مع التفسير في سورة يونس الآية ١٢.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ). المراد بالكفر هنا كفران النعم ، ومنها كشف الضر ، واللام في ليكفروا للعاقبة مثل لدوا للموت وابنوا للخراب ، والمعنى ان الله أنعم عليهم ، فكانت نتيجة انعامه وتفضله كفرانهم بأنعمه (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبتكم الوخيمة ، وتندمون حيث لا ينفع الندم.

ويجعلون لله البنات الآة ٥٦ ـ ٦٠ :

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠))

٥٢١

اللغة :

يستعمل القرآن كلمة البشارة في الخبر السار والخبر المؤلم ، قال في الآية ٢٥ من سورة البقرة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ). وقال في الآية ٣ من سورة التوبة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ). وكظم غيظه حبسه ، والكظيم المغموم الممتلئ غيظا ، ولكنه لم يبده. ويتوارى يستخفي. والهون الهوان والذل. والمثل الصفة.

الإعراب :

ولهم ما يشتهون (لهم) خبر مقدم ، وما يشتهون مبتدأ مؤخر. وظل من أخوات كان ترفع الاسم ، وتنصب الخبر ، ووجهه اسمها ، ومسودا خبرها. وهو كظيم حال من الوجه أو من صاحبه. وعلى هون متعلق بمحذوف حالا من فاعل يمسكه.

المعنى :

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ). واو الجماعة في يجعلون للمشركين. ولما لا يعلمون (ما) اسم موصول ، والمراد بها الأصنام ، والواو في لا يعلمون تعود الى الأصنام تنزيلا لها منزلة العاقل ، كالواو و (هم) في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ـ ٢٠ النحل» ، وجاء هذا التنزيل والاستعمال وفقا لعقيدة المشركين ، والمعنى ان المشركين جعلوا نصيبا من أموالهم للأصنام التي هي جماد لا علم له ولا شعور ، ويجوز أن تكون واو يعلمون للمشركين مثل واو يجعلون ، ويكون المعنى ان المشركين جعلوا نصيبا من أموالهم للأصنام ، وهم يجهلون ان الأصنام لا نصيب لها في أموالهم ولا في غير أموالهم .. ولكن في ارادة هذا المعنى شيء من التكلف لحاجته الى تقدير كلام محذوف .. ومر نظير هذه الآية في سورة الأنعام الآية ١٣٦ ج ٣ ص ٢٦٩.

٥٢٢

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ). سمعوا ان لله ملائكة ، فتوهموها إناثا بل بناتا لله تعالى عما يصفون ، فأضافوا اليه ما يكرهونه لأنفسهم ، ولهم البنون الذين يحبون ، قال تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) ـ ٤٠ الاسراء». وفي بعض التفاسير ان العرب الذين اعتقدوا هذا هم خزاعة وكنانة.

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). هذا كناية عن شدة همه وحزنه بالبنت ، وتقول العرب لمن لقي مكروها : اسود وجهه. وعلى الرغم من ان هذه عادة جاهلية ، وقد ندد بها القرآن وسفّه أهلها ـ فإن كثيرا من المسلمين يكرهون البنات ، وتسود وجوههم إذا بشروا بالأنثى.

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ). كان الرجل في الجاهلية إذا ظهرت آثار الطلق بامرأته اختفى الى أن يعلم بالمولود ، فإن كان ذكرا ظهر وابتهج وان كان أنثى حزن ، وفكّر ما ذا يصنع بهذا المولود المشئوم : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ)؟. فيبقيه متحملا المذلة والمهانة (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) حيا؟. ويروى ان بعض العرب كانوا يدفنون البنات وهن أحياء ، وبعضهم كانوا يرمونها من شاهق ، وآخرون يذبحونها ، ومنهم من كانوا يغرقونها ، إما للغيرة والحمية ، وإما خوفا من الفقر والاملاق كما أشارت الآية ١٥١ من سورة الأنعام : «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم». أنظر ج ٣ ص ٢٧١ و ٢٨٣.

وروي ان رجلا قال : يا رسول الله : ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت ، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة ، فأمرت امرأتي أن تزينها ، فأخرجتها إليّ ، فانتهيت بها الى واد بعيد القعر ، فألقيتها فيه ، فقالت : يا أبتي قتلتني ، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء ..

وقد يظن ان الدافع على هذه القسوة الجهل وتخلّف البيئة عن الحضارة والمدنية ، ولكن نحن الآن في عصر الفضاء ، ومع هذا يلقي المستعمرون والصهاينة قنابل النابالم في فيتنام وفلسطين على الشيوخ والأطفال والنساء .. يلقونها لا للغيرة والحمية ولا خوفا من الفقر والاملاق ، بل لزيادة الأرباح ، وتكديس الثروات وتراكمها ، فأي الفريقين أقبح وأسوأ؟ أهل الجاهلية ، أو المستعمرون والصهاينة في عصر

٥٢٣

العلم والاشعاع؟. (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ويخترعون ويفعلون. ونحن على يقين ان كل من لجّ وتمادى في الغي ستدور عليه في النهاية دائرة السوء.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). المثل الصفة ، وللطغاة صفة السوء ، وهي الظلم والسلب والفساد ، وقتل الأطفال والأبرياء ، ولله الصفة العليا ، وهي الوحدانية والعدل والعظمة ، وجميع صفات الجلال والكمال. وتجدر الاشارة الى أن الغرض من ذكر الله تعالى مع ذكرهم هو الرد على قولهم : لله البنات ولهم البنون.

انما يعجل من يخاف الموت الآية ٦١ ـ ٦٤ :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

اللغة :

مفرطون بفتح الراء مع تخفيف الطاء أي معجلون ، وبكسر الراء مع التخفيف من الافراط أي متجاوزون الحد ، وبكسر الراء مع التشديد من التفريط أي مقصرون.

٥٢٤

الإعراب :

ضمير عليها عائد الى الأرض ، وهي مفهومة من سياق الكلام ، ولفظ دابة يشعر بها. والكذب مفعول تصف. والمصدر من ان لهم بدل من الكذب فكأنه قال : وتصف ألسنتهم ان لهم الحسنى ، ويجوز أن يكون مجرورا بباء محذوفة أي بأن لهم الحسنى. والمصدر من ان لهم النار مجرور بفي محذوفة أي لا شك في ان لهم النار. ولتبين منصوب بأن مضمرة والمصدر المجرور متعلق بأنزلنا ، وهو بمعنى المفعول من أجله ، وهدى ورحمة مفعول من أجله ، أي وأنزلنا عليك الكتاب هدى ورحمة.

المعنى :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ). ظلم الإنسان خالقه بجحوده له ، وبنسبة الشريك والولد اليه ، وأيضا ظلم الإنسان القوي أخاه الضعيف ، فاستعبده وسلبه قوته ومصدر حياته ، وأيضا ظلم نفسه بالكبرياء والطغيان والغرور ، ومع هذا لم يعاجل الله العاصين بالعقوبة ، ولما ذا يعاجل؟. هل يخشى الفوت ، أو يتعجل التشفي ، أو يخاف التوبة من العصاة ، وهو الذي أمرهم بها ، وحثهم عليها؟. وقيل : إنما أخرهم ليراجعوا التوبة. وليس هذا ببعيد عن حلمه وكرمه ، وفي معنى الآية قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) ـ ٥٨ الكهف».

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). تقدم تفسيره في ج ٢ ص ١٧١ فقرة : «الأجل محتوم».

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) لأنفسهم من البنات والشركاء في الرياسة (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) وهو قولهم : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي الجنة. وافتروا على الله بأن له شركاء وبناتا ، ثم كذبوا بأن لهم عنده الجنة فكذبّهم سبحانه بقوله : (لا جَرَمَ) لا شك في (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي معجلون اليها.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا) ـ رسلا ـ : (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد ، فلم يستجيبوا

٥٢٥

لرسلهم ، وأعرضوا عنهم وآذوهم ، كما أعرض عنك وآذاك مشركو قريش ، فهوّن عليك ولا تحزن (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) وهي كفر وضلال ، وطغيان وفساد (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). لقد تولى الشيطان أمور الطغاة في الحياة الدنيا بعد أن أسلموه الزمام ، فقادهم إلى المآثم والمهالك ، وكان جزاؤه وجزاؤهم عند الله جهنم وساءت مصيرا. قال الامام علي (ع) : «ان أجل الإنسان مستور عنه ، وأمله خادع له ، والشيطان موكل به ، يزين له المعصية ليركبها ، ويمنيه التوبة ليسوفها ، حتى تنجم منيته عليه أغفل ما يكون عنها» أي يموت على الضلال والمعصية ، وهذه هي ميتة السوء بالذات.

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). الخطاب لمحمد (ص) والكتاب القرآن ، وهو هدى لمن طلب الهداية ورحمة لمن أرادها ، وهو الحكم الفصل في كل عقيدة وشريعة ، وكل قول وفعل .. اللهم اجعلنا من المستمسكين بعروته ، والمهتدين بهدايته.

والله أنزل من السماء ماء الآة ٦٥ ـ ٦٩ :

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

٥٢٦

اللغة :

العبرة العظة. الفرث ما يبقى من المأكول في الكرش بعد الهضم ، ويسمى بالثفل أيضا. السائغ ما سهل مروره في الحلق. وللسكر معان منها الخمر. ويعرشون يرفعون من الكروم والسقوف. والذلل جمع الذلول ، وهو الطائع المنقاد.

الإعراب :

أعاد سبحانه على الأنعام ضمير التأنيث في الآية ١٣٨ من سورة الأنعام : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا). فكيف أعاد سبحانه الضمير على الأنعام هنا مذكرا حيث قال : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ)؟. وأجابوا عن ذلك بأن الضمير هنا يعود الى بعض الأنعام وهو الإناث لأن الذكور لا لبن فيها. أما في سورة الأنعام فإن الضمير يعود اليها جميعا ، لا الى بعضها دون بعض. ومن ثمرات النخيل على حذف مضاف أي عصير ثمرات النخيل والأعناب ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف أي نسقيكم من عصير ثمرات النخيل ، وضمير منه في «تتخذون منه» يعود الى العصير. أن اتخذي (أن) مفسرة بمعنى أي. وذللا حال من السبل ، أو من ضمير اسلكي العائد الى النحل.

المعنى :

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تدبر وتعقل للماء وفوائده ، وهذه الآية والتي بعدها من الآيات الكونية التي كررها القرآن بقصد التنبيه الى دلائل التوحيد والبعث ، ومرت هذه الآية بسورة البقرة الآية ٢٢ و ١٦٤ ، وسورة الأنعام الآية ٩٩ ، وسورة الرعد الآية ١٩ ، وسورة ابراهيم الآية ٣٢ ، وبالسورة التي نفسرها الآية ١٠.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ). ذكر سبحانه بعض فوائد الأنعام في الآية ١٤٢ من سورة الأنعام : «ومن الأنعام حمولة وفرشا» وقال في الآية ٨٠ من سورة النحل ،

٥٢٧

وهي السورة التي نفسرها : «وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم اقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا الى حين». وأجمع الآيات لفوائد الأنعام ما مر مع التفسير في أول هذه السورة ، وهو قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ).

وذكر ، جلت حكمته ، هنا من فوائد الأنعام اللبن بالخصوص ، وقال : انه يخرج من بطون بعض الأنعام أي الإناث ـ أنظر فقرة «الإعراب» ـ وانه مستخلص من بين فرث ودم ، والفرث ما يبقى في الكرش بعد الهضم ، ويقول العارفون : ان الحيوان يأكل النبات ، وبعد الهضم تطرد امعاؤه الفضلات الضارة الى الخارج ، وتمتص العصارة النافعة التي تتحول الى دم يسري في العروق والغدد حتى إذا وصل بعض هذا الدم الى الغدد التي في الضرع تحوّل الى لبن خالص سائغ للشاربين.

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). الظاهر من السكر هنا كل شراب مسكر خمرا كان أو غيره .. ولكن الآية لا تومئ من قريب أو بعيد الى حكم المسكر ، وانه كان حين نزول هذه الآية حلالا أو حراما ، وانما حكت الآية عن عادة الناس من انهم يتخذون من ثمرات النخيل والأعناب شرابا مسكرا ، أما الرزق الحسن فالمراد به التمر والرطب والزبيب والعنب والخل والرب ، وما إلى ذلك. وجاء في بعض الروايات ان المقصود بالسكر في الآية ما كان حراما وبالرزق ما كان حلالا .. وتكلمنا مفصلا عن الدليل على تحريم الخمر عند تفسير الآية ٢١٩ من سورة البقرة ج ١ ص ٣٢٨. وفي الجزء الرابع من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق ، باب الأطعمة والأشربة.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) المراد بالوحي هنا الفطرة التي منحها الله للنحل (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي مما يرفع الناس من الكروم ، قال الرازي : النحل نوعان : نوع يسكن في الجبال والغياض ، ولا يتعهده أحد من الناس ، وهو المراد بقوله : «ان اتخذي من الجبال بيوتا ومن

٥٢٨

الشجر» ونوع يسكن بيوت الناس ، ويكون في تعهدهم ، وهو المراد بقوله «ومما يعرشون».

(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) والزهر والنبات التي تشتهين (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) ادخلي الطرق التي ذللها وعبدها الله لك (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) وهو العسل تلقيها من الفم كالريق (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) بياضا وحمرة وصفرة تبعا للمرعى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) كفقر الدم ، وسوء الهضم ، والتهاب الفم والرئة والمثانة ، وأمراض الكبد ، وما إلى ذلك مما ذكره الأطباء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في خلق الله وما فيه من بدائع وعجائب تدل على وجود حكيم عليم.

وقد وضع أهل الاختصاص المؤلفات في تدبير النحل وتعاونها ونظامها المحكم في عيشها وبناء بيوتها والدفاع عن نفسها ، وأشرنا فيما سبق الى أنه اكتشف مؤخرا ان النحل عند ما ترتفع درجة الحرارة يبدأ البعض منها بنقل الماء في خراطيمه بينما يقوم البعض الآخر برشه داخل الخلية ، ويهز البعض الآخر أجنحته ليصنع تيارات من الهواء ، فيتبخر بسرعة ، ومع التبخر تنخفض درجة الحرارة. وهذا المثال وحده يعني عن كل ما كتب في هذا الباب.

فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية ٧٠ ـ ٧٤ :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ

٥٢٩

ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

اللغة :

أرذل العمر أخسه وأحقره ، وهو الهرم. وما ملكت ايمانهم العبيد والمماليك. والحفدة جمع حافد مثل كفرة وكافر ، والحافد والحفيد ابن الابن ، والسبط يكون ابن الابن وابن البنت ، ولكنه غلب على ابن البنت مقابل الحفيد. ورزق السماء المطر ، ورزق الأرض النبات. وفلا تضربوا لله الأمثال أي لا تجعلوا له أشباها ونظائر في شيء.

الإعراب :

فهم فيه سواء مبتدأ وخبر. وشيئا بدل من «رزقا» ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من الملك أو شيئا ملكا.

المعنى :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). للإنسان أدوار وأطوار يمر بها من الطفولة الى المراهقة والشباب ، ومن الشباب الى الشيخوخة والهرم ، ولكل دور سببه الطبيعي المباشر ، ويسند اليه تعالى لأنه خالق الطبيعة والكون .. وأرذل العمر هو الهرم الذي يضعف معه الجسم والعقل والذاكرة ، وبقية الحواس الظاهرة والباطنة ، ومتى ضعف عضو من أعضاء الشيخ أو حاسة من حواسه انتهى أمرها ، ولا يرجى عودتها الى الحال السابقة ، بل تزداد ضعفا ووهنا مع الأيام ، وبالخصوص الذاكرة ، حيث يفقدها

٥٣٠

تماما ، ويرجع الى ما كان أيام الطفولة ، حتى كأنه لم يتعلم شيئا من الدروس ، ولا مر بشيء من التجارب.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ). لقد توهم البعض ان ظاهر الآية يدل على ان الرزق هو بقضاء الله وقدره ، وانه تعالى هو الذي جعل هذا غنيا ، وذاك فقيرا .. ولكن الآية بعيدة كل البعد عن هذا المعنى ، لأنها قد جاءت للرد على المشركين ، وتوضيح ذلك ان المشركين جعلوا لله شركاء. فرد عليهم سبحانه بأنكم لا ترضون أيها المشركون أن يكون عبيدكم شركاء لكم في أموالكم ، وأن تكونوا وإياهم سواء في أرزاقكم وأملاككم ، وإذا لم ترضوا لأنفسكم المساواة بينكم وبين عبيدكم فيما تملكون ، فكيف صح في افهامكم أن يكون عبيد الله شركاء له في خلقه؟. فهل شأن الله تعالى دون شأنكم في ذلك؟.

وبكلام آخر ان الله سبحانه احتج عليهم بمنطقهم ومقاييسهم ، وقال لهم : أنتم سادة بزعمكم ، ولكم عبيد لا يملكون معكم شيئا ، لأن العبد لا يملك مع سيده شيئا .. إذن ، بأي منطق قلتم : ان الأصنام أو غيرها من عبيد الله تملك معه أو عنده شيئا؟.

وتسأل : ان قوله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ظاهر في ان التفضيل في الرزق بقضاء الله وقدره؟.

الجواب : لقد كررنا القول : ان اضافة الرزق وغير الرزق الى الله تعالى انما هو من باب اسناد الشيء الى سببه الأول ، ولتنبيه الأذهان الى ان الله هو خالق الكون وما فيه ، وتكلمنا عن الرزق وفساد الأوضاع في ج ٣ ص ٩٤ ، وأيضا تكلمنا بعنوان : «هل الرزق صدفة» في ج ٣ ص ١٣١ ، وبعنوان : «الإنسان والرزق» عند تفسير الآية ٢٦ من سورة الرعد.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً). من جنسكم ، لا من جنس أدنى أو أرفع ، ليتم الانس للجانبين ، ويحصل التعاون والمشاركة في الحياة من كل الجهات ، وأوضح تفسير لهذه الجملة قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) ـ ٢١ الروم».

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً). بعد أن ذكر سبحانه نعمة الزواج

٥٣١

ذكر نعمة الأولاد ، وهم كالأموال زينة الحياة الدنيا (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا ، كل أولاء بالاضافة إلى الأزواج والأولاد وبعد هذه النعم كلها (أفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ). المراد بالباطل هنا الشركاء ، والايمان بها نسبة النعم اليها بالانفراد أو الاشتراك مع الله (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) حيث يأكلون رزقه ويعبدون غيره.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ). رزق السماء الغيث ، ورزق الأرض النبات والمعادن ، والمراد بما لا يملك رزقا الأصنام ، ومعنى لا يستطيعون ان الأصنام لا تملك بالفعل : وليس لها القدرة والقابلية للتملك. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) بجعل الأشباه له والنظائر : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ـ ١٠ الشورى» (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). ومن أجل علمه تعالى وجهلكم يجب أن لا تفعلوا ولا تقولوا شيئا لا ما علمكم الله بلسان أنبيائه ورسله.

القادر والعاجز الآية ٧٥ ـ ٧٧ :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))

٥٣٢

اللغة :

الأبكم الأخرس. والكل الثقل أي ان هذا الرجل لا يكسب شيئا ، بل هو ثقل وحمل على من يعوله ويتولى أمره. والمراد بالساعة هنا الوقت الذي تقوم فيه القيامة.

الإعراب :

عبدا بدل من «مثلا». ورزقا مفعول به لرزقناه لأن المراد بالرزق هنا المال المرزوق ، وليس الحدث الذي هو المصدر بدليل اعادة ضمير منه عليه. ورزقنا بمعنى أعطينا ولهذا تعدت الى مفعولين. وسرا وجهرا مصدران مكان الحال أي مسرين وجاهرين ، أو مكان المفعول المطلق أي إنفاقا سرا وإنفاقا جهرا. ورجلين بدل من «مثلا» واحدهما مبتدأ وابكم خبر ، والجملة مستأنفة. وأين للاستفهام عن ظرف المكان ، وقد تتضمن معنى الشرط فتجزم فعلين مجردة من (ما) مثل أين تذهب أذهب ، أو ملحقة بها (ما) كما في هذه الآية. وأو هو أقرب أي بل هو أقرب.

المعنى :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ). بعد أن ذكر سبحانه في الآية السابقة ان المشركين جعلوا لله أشباها وأندادا ـ ذكر هنا مثالين يقرب بهما الى افهام المشركين ان الله لا ند له ولا ضد ، وخلاصة المثال الأول الذي تضمنته هذه الآية ان مثلكم في مساواة هذه الأصنام مع الله أيها المشركون تماما مثل من سوّى بين عبد لا يملك شيئا ، ويعجز عن كل شيء ، وبين حر غني كريم ينفق سرا وعلانية ولا يخشى أحدا على الإطلاق .. وإذا رفض العقل والفطرة هذه المساواة بين هذا الحر القادر وبين ذاك العبد العاجز فكيف صح في افهامكم ان تساووا بين الله القادر على كل شيء ، وبين الأصنام التي ما هي بشيء؟. (الْحَمْدُ لِلَّهِ) جملة معترضة

٥٣٣

القصد منها انه لا أحد يستحق الحمد والشكر والعبودية الا الله وحده (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان الحمد لله لا لسواه.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا هو المثل الثاني ، وخلاصته ان الأخرس العاجز الكل لا يكون مساويا للناطق القادر ـ اذن ـ فكيف ساويتم أيها المشركون في العبادة بين الله الجامع لجميع صفات الجلال والكمال وبين الأحجار التي ليست بشيء؟.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). كل سر عنده تعالى علانية ، وكل غيب عنده شهادة ، ونحوه قوله تعالى في الآية المتقدمة ٧٤ (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) .. (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ). هذا تعبير ثان عن قوله : انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .. وفيه تهديد لمن خالف وعاند (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ولا أحد يملك معه شيئا ان أراد أن يهلك المشركين والخلق أجمعين.

والله أخرجكم من بطون امهاتكم الآية ٧٨ ـ ٨٣ :

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ

٥٣٤

سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

اللغة :

يطلق الجو على ما بين الأرض والسماء ، وعلى البر الواسع ، وفي كتب اللغة ان جو كل شيء بطنه وداخله. وسكنا أي السكون والاستقرار في البيت واليه أيضا ، والمراد باليوم الوقت ، وبالظعن السفر ، وبالاقامة الحضر ، والأصواف من الغنم ، والأوبار من الإبل ، والأشعار من المعز ، والأثاث هنا متاع البيت كالفرش والثياب وغيرها ، ولا واحد له من لفظه ، والمتاع ما يتمتع به الى حين. وظلال جمع ظل ، وهو الفيء ، وكان في بلاد العرب من أعظم النعم لشدة حرها. والأكنان جمع كن ، قال الطبرسي : وهو الموضع الذي يستتر صاحبه فيه ، ويقال : كننت الشيء في كنه أي صنته ، وأكننته أي أخفيته ، وكل ما لبسته من قميص أو درع ونحوه فهو كن. والسرابيل واحدها سربال ، وهو القميص. والبأس الشدة ، والمراد به هنا الحرب ، ولباس الحرب الدرع.

الإعراب :

أمهات أصلها أمات لأنها جمع أم ، وزيدت الهاء للتأكيد كما قال الطبرسي ، أو للفرق بين من يعقل وما لا يعقل كما قال غيره. وجملة لا تعلمون شيئا حال من ضمير المخاطب في أمهاتكم. وشيئا مفعول مطلق أي علما ، ويجوز أن يكون مفعولا به ، ويكون تعلمون بمعنى تعرفون. وأثاثا مفعول لفعل محذوف أي وجعل لكم أثاثا ومتاعا. فإن تولوا جواب الشرط محذوف أي فإن تولوا لم يلزمك شيء لأن الذي عليك هو البلاغ ، وقد أديته وقمت به.

٥٣٥

المعنى :

ذكر سبحانه في هذه الآية طرفا من الدلائل على وجود الخالق الحكيم لهذا الكون ، وهذه الدلائل هي في نفس الوقت من نعم الله تعالى على عباده ، منها :

مع الماديين :

١ ـ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) يخرج الإنسان من بطن أمه جاهلا لا يعلم شيئا بطبيعة الحال ، ولكن الله سبحانه زوّده بأداة المعرفة الحسية ، وهي السمع والبصر ، وأداة المعرفة العقلية أيضا ، وهي العقل والفطرة التي عبّر عنها بالأفئدة.

وقال الماديون : ان المادة الصماء العمياء هي التي أنشأت لنفسها بنفسها أسماعا وأبصارا وأفئدة ، ونجيبهم أولا بأن فاقد الشيء لا يعطيه ، وثانيا إذا كانت الحياة والإدراك من خصائص المادة ولوازمها وجب أن يكون لكل مادة سمع وبصر وفؤاد لأن عموم السبب يستدعي عموم المسبب.

وإذا قالوا : ان في المادة نوعا من الأجسام وجد على نحو خاص بحيث يلزمه حتما أن يكون الجسم سميعا مبصرا مدركا ، إذا قالوا هذا قلنا لهم : إما أن تقولوا ان المادة بما هي هي تنشئ الحياة والإدراك ، وإما أن لا تقولوا ذلك ، وعلى الأول يجب أن لا يكون شيء في المادة الا وهو وحي مدرك ، وعلى الثاني يجب أن لا توجد الحياة في المادة على الإطلاق .. وكل من الفرضين أو الالزامين باطل بالحس والوجدان ، لأن المشاهد بالعيان ان بعض المادة جامد ، وبعضها حي غير مدرك ، وبعضها حي ومدرك .. وهذا التقسيم والتفاوت دليل قاطع على ان وراء المادة قوة عليمة حكيمة وهي التي منحت الحياة والإدراك لبعض أفراد المادة دون بعض وأوجبت التمييز والتفاوت فيما بينها.

الكون اكبر من الصواريخ :

٢ ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَ

٥٣٦

فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). المراد بمسخرات مهيئات للطيران ، وبالإمساك عدم السقوط على الأرض ، ومثله قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) ـ ١٩ الملك» .. ومن الواضح ان الله سبحانه يجري الأمور على أسبابها ، وقد اشتهر على كل لسان ان الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه ، فمعنى قوله تعالى : ما يمسكهن الا الله .. والا الرحمن انه تعالى خلق للطير جناحين ، وزوده بجميع المعدات اللازمة للطيران بين السماء والأرض ، قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ـ ٢ الفرقان» .. وقال : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) ـ ٤٩ القمر». وهذا الخلق والتقدير والتدبير دليل واضح وقاطع على وجود الخالق المدبر.

وتسأل : لقد اخترع الإنسان طائرة تفوق سرعتها سرعة الصوت ، بل اخترع صواريخ تقطع بالساعة آلاف الأميال ، وتنطلق الى القمر والمريخ ، واخترع الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض والقمر ، وتتحدث من هناك الى العلماء بلغتهم عما تسمع وترى ، فأين الطيور من هذه المخترعات؟.

وغريب ان يسأل عاقل مثل هذا السؤال ، ويدهش لهذه المخترعات ، ويذهل عن العقل الذي اخترعها وأوجدها .. وبالأصح يذهل عن خالق هذا العقل الذي أوجد هذه المخترعات .. ولو أنصف الإنسان لنظر الى نفسه وعقله ، فإنه أعظم من اختراع الصواريخ والأقمار الصناعية ، لأنه هو مخترعها ومبدعها .. بل لو أنصف لنظر الى خلق الكون فهو أعظم من خلق الإنسان الذي اخترع الصاروخ والقمر الصناعي ، قال تعالى في الآية ٥٧ من غافر : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). وخلق الإنسان أكبر من خلق الصاروخ والأقمار الصناعية بملايين المرات.

هذا ، الى ان الحديث منذ بدايته انما هو عن الطير ، والطير من الأحياء ، والطائرة والصاروخ والقمر الصناعي من الجماد ، فالنقض بشيء منها في غير محله .. ومن الواضح المؤكد ان علماء الصواريخ ومعهم علماء الانس والجن لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابة ، ولا خلية من جناح ذبابة : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) ـ ٧٣ الحج».

وتجدر الاشارة الى ان الله سبحانه أسند اليه إمساك الطير في الجو لأنه تعالى

٥٣٧

هو السبب الأول الذي خلق الطير وزوده بمعدات الطيران .. وأنكر الأشاعرة وجود الأسباب الطبيعية بشتى أنواعها وأشكالها ، وقالوا : كل الأفعال تسند الى الله مباشرة وبلا واسطة ، سواء أظهرت هذه الأفعال من طير أم حشرة أم حيوان أم انسان أم من الطبيعة .. فلا علاقة على الإطلاق بين الإحراق والنار ، ولا بين الري والشرب ، ولا بين الشبع والأكل .. ولكن الله يوجد الإحراق عند مماسة النار للجسم ، ويوجد الري عند شرب الماء ، والشبع عند أكل الطعام .. ويكفي لرد هذا القول انه يخالف الحس والوجدان ، وان اللازم له أن يكون الإنسان تماما كالحيوان والجماد ، لا يوصف بطيب أو خبيث ، وبمجرم أو بريء ، وانه لا يستحق مدحا ولا ذما ، ولا ثوابا ولا عقابا ، لأن المفروض ان الله هو الفاعل والإنسان ظرف للفعل ، تماما كالإناء الذي يوضع فيه ماء.

٣ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً). والمراد بالسكن هنا الفعل والاستقرار في البيوت ، والمقصود من هذه البيوت ما يؤخذ من الحجر والخشب والحديد والاسمنت وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ). تستخفونها أي حملها خفيف عليكم ، والظعن السفر ، والاقامة الحضر .. بعد أن ذكر البيوت الثابتة ذكر البيوت المتنقلة مع الإنسان من مكان الى مكان كالخيم ، وذكر سبحانه الجلود ، ولم يذكر الكتان والقنب ونحوه ، لأن الجلود كانت هي الغالبة في بلاد العرب .. ومهما يكن فإن قوائم البيت من أي نوع كانت فإنها تدل على وجود خالقها وصانعها .. وأعجبتني هنا عبارة لفقيه يتفاصح ، أنقلها بالحرف الواحد ، قال : «كل ما علاك فأظلك فهو سقف ، وكل ما أقلك فهو أرض ، وكل ما سترك من جهاتك الأربع فهو جدار ، فإذا انتظمت واتصلت فهو بيت».

احترام البيت في الشريعة :

والبيوت بشتى أنواعها من نعم الله تعالى على عباده ، ولا يعرف قدرها إلا الذين لا بيوت لهم ، وللبيت حرمته في الشريعة الاسلامية ، من ذلك أن لا يدخل الإنسان بيتا حتى يستأذن أهله ، قال تعالى : (فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) ـ ٢٨ النور.

٥٣٨

وقال الفقهاء : من تطلع في بيت انسان من ثقب أو شق باب ، ونحوه فلصاحب البيت أن يزجره أولا ، فإن أصر فله أن يضربه ، أو يرميه بحصاة وما أشبه ، فإذا تضرر المتلصص المتجسس فلا شيء على صاحب البيت ، فقد جاء في الحديث النبوي : «من اطلع عليك ، فحذفته بحصاة ، ففقأت عينه فلا جناح عليك». وقال الإمام جعفر الصادق (ع) : عورة المؤمن على المؤمن حرام .. ومن اطلع على مؤمن في منزله فعيناه مباحتان للمؤمن في تلك الحال.

٤ ـ (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي وجعل لكم من أصوافها الخ ، والصوف من الغنم ، والوبر من الإبل ، والشعر من المعز ، والأثاث معناه في الأصل الكثرة ، يقال : أثّ النبت يئث إذا كثر ، والمراد بالاثاث هنا ما يحتاج اليه المرء من فرش أو لباس ونحوه ، والمتاع كل ما ينتفع الإنسان به في مصالحه وقضاء حوائجه ، وقوله : إلى حين اشارة الى ان متع الحياة كلها مؤقتة لا دوام لها ولا قرار.

فكيف بنعمة الذهب الأسود؟

٥ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً). الظلال جمع ظل ، وهو الفيء الذي يقي من حر الشمس.

٦ ـ (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً). الأكنان جمع كن من كهف وثقب ، ونحوه مما يقي من حر الشمس ، وكل ما يحتاج اليه المرء فهو نعمة إذا وجده حتى فيء الغمامة ، والثقب في الجبل.

٧ ـ (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ). وهنا حذف تقديره والبرد ، وانما حذف للعلم به (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ). هذا كناية عن الدرع والمغفرة وغير ذلك (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). والمراد بالإسلام هنا الاستسلام والانقياد للحق والعمل به ، والمعنى انه تعالى أنعم عليهم بالبيوت والأثاث والمتاع والسرابيل والظل وبالكن ليشكروه ويتقوه ، ولا يعثوا في الأرض مفسدين.

وإذا امتن سبحانه على عرب الجاهلية بفيء الغمامة والشجرة ، وبالثقب في الجبل ونحوه ، واعتبر ، جلت عظمته ، هذا الظل ، وهذا الثقب من إتمام النعمة عليهم

٥٣٩

وطالبهم لقاء ذلك بالشكر والانقياد للحق ، وهددهم ان عصوا وتمردوا ، إذا كان الظل نعمة والثقب فضلا فكيف بالذهب الأسود الذي يتدفق أبحرا في البلاد العربية؟. وكيف بالفئة التي تتحكم به ، فتبني بثمنه ناطحات السحاب ، وتقتني الجواري والعبيد ، وتمتلك لرفاهيتها أسطولا من الطائرات والسيارات ، وتملأ الأرض إسرافا وفسادا؟.

لقد امتن الله على الماضين بالأنعام والخيل والبغال والحمير ، وبالبيوت من الحجر والجلد ، وبالاثاث من الصوف والوبر والشعر ، وبالسرابيل تقي من الحر والبرد ، بل امتن عليهم بالظل والثقب ، وطالبهم أن يشكروا ويتذكروا ، فكيف بالمترفين المنحرفين في هذا العصر الذين يسكنون الفيلات ، ويؤثثونها بمئات الألوف ، ويكيفون أجواءها كما يشتهون من دفء أو رطوبة ، وحولهم خيام اللاجئين وأكواخ المشردين؟. ومع هذا يدعون الايمان بالله واليوم الآخر.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يا محمد ، وعلينا الحساب ، وقد أديت أنت الرسالة على أكمل الوجوه ، وسنوفيهم نحن حسابهم وجزاءهم. وتقدمت هذه الآية في سورة آل عمران الآية ٢٠ ج ٢ ص ٣٠ ، وفي الآية ٤٠ من سورة الرعد (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها). المراد بمعرفتهم إياها انهم يتنعمون بها ، وبإنكارهم انهم يسندونها الى غير الله ، أي انهم يأكلون رزق الله ، ويعبدون سواه (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يجوز استعمال كلمة الأكثر في معناها الظاهر ، ويجوز أيضا استعمالها بالجميع. والمراد بها هنا كل من بلغه رسالة محمد (ص) وأنكرها عنادا للحق وتمردا عليه.

نبعث من كل أمة شهيداً ٨٤ ـ ٨٩ :

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ

٥٤٠