التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

واللام على الغفور الرحيم ، ولما ذكر العذاب لم يقل : (اني) و (أنا) ، بل قال :

ان عذابي هو الخ.

ضيف ابراهيم الآية ٥١ ـ ٦٠ :

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

اللغة :

الوجل الخوف والقنوط اليأس. وما خطبكم؟ ما شأنكم؟. وقدرنا قضينا ، أو علمنا ، والغابر الباقي والماكث ، وقد يستعمل فيمن ذهب ومضى. والمراد بالغابرين هنا ان امرأة نوح من الباقين في المدينة مع المهلكين.

الإعراب :

قالوا سلاما منصوب على المصدر أي سلمنا سلاما. وعلى ان مسني متعلق

٤٨١

بمحذوف حالا من الياء في بشرتموني أي أبشرتموني كبيرا. ومن يقنط (من) مبتدأ ويقنط خبر. آل لوط منصوب على الاستثناء المنقطع من قوم مجرمين. وامرأته على الاستثناء المتصل من ضمير «لمنجوهم».

المعنى :

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ). الخطاب الى محمد (ص) ، وضمير (هم) يعود الى عباد الله المذكورين في الآية السابقة. وضيف ابراهيم هم الملائكة الذين دخلوا عليه (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) سلّموا عليه ، فرد عليهم ، كما في الآية ٦٩ من سورة هود : «قالوا سلاما قال سلام».

(قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) لأنه قدّم لهم الطعام فامتنعوا عنه ، فأنكرهم وأوجس منهم خيفة (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ذي شأن ، وفي الآية ١١٢ من سورة الصافات : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ).

(قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ). لم يقل هذا ابراهيم شكا في قدرة الله ، ولا يأسا من رحمته ، بل ليتأكد ويطمئن (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) ظن الملائكة من سؤال ابراهيم انه قانط ، فصحح ظنهم ونفى عنه القنوط (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ). وفي قوله هذا دلالة قاطعة على انه لم يسأل شاكا ولا يائسا ، بل متأكدا ومتثبتا على طريقة (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) ما هي المهمة التي أرسلتم من أجلها ـ غير التبشير ـ؟. (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) وهم قوم لوط (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) وهم خاصته وأتباعه المؤمنون (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أهلكها الله مع من أهلك لأنها كانت منافقة تتآمر على زوجها لوط مع أعدائه المشركين ، وسبق نظير هذه الآيات في سورة هود الآية ٦٩ وما بعدها.

آل لوط الآية ٦١ ـ ٧٢ :

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ

٤٨٢

جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢))

اللغة :

الاسراء السير في الليل. والقطع من الليل طائفة منه. واتبع ادبارهم أي كن على أثرهم. وقضينا اليه أوحينا اليه.

الإعراب :

الأمر عطف بيان أو بدل من ذلك. والمصدر من ان دابر هؤلاء بدل من ذلك الأمر ، أو مجرور بالباء المحذوفة أي وقضينا بأن دابر هؤلاء. ومصبحين حال من هؤلاء. وجملة يستبشرون حال من أهل المدينة. وعن العالمين على حذف مضاف أي عن ضيافة العالمين. ولعمرك مبتدأ والخبر محذوف أي لعمرك قسمي.

المعنى :

يكرر الله سبحانه قصص الأنبياء وما حدث ممن عاندهم وقاوم رسالتهم ، يكرر

٤٨٣

ذلك لنتعظ ونعتبر كيف كان عاقبة المكذبين بالحق ، وكل ما جاء في هذه الآيات التي نحن بصددها قد سبق ذكره مفصلا في سورة هود ، وكذا جاء في المقطع السابق المتعلق بإبراهيم (ع) ، ومن أجل هذا نختصر في تفسير هذه الآيات كما اختصرنا في تفسير الآيات السابقة.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ). خرج الملائكة من عند ابراهيم وتوجهوا الى لوط ، فلما دخلوا عليه ظنهم ضيوفا ، فضاق بهم ذرعا خوفا عليهم من قومه الفجرة (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ). لا أعرفكم ولا أعرف ما ذا تريدون .. وكيف دخلتم هذا البلد ، وأهله مشهورون بما يفعلون؟.

(قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ). كشف الملائكة للوط عن حقيقتهم ، وعن المهمة التي جاءوا من أجلها ، وهي إهلاك قوم لوط ، فقد كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ، وكان نبيهم لوط يحذرهم وينذرهم بعذاب من السماء ، فيشكون ويسخرون .. فقال الملائكة للوط : لقد جئناك بالعذاب الذي حذرتهم منه ، وكذبوك فيه ، وانه واقع لا محالة (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ). بعد ان أخبروه بوقوع العذاب أمروه أن ينجو بنفسه وأهله ، وذلك بأن يسير بهم قبل الصبح على ان يكون هو في مؤخرتهم يرعاهم ويتفقدهم ، ولا يدع أحدا يلتفت الى الوراء لئلا يرى العذاب فيجزع ويفزع. (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ). أوحى الله الى لوط بأنه سيستأصل الكافرين وقت الصباح عن آخرهم ، ولا يبقى منهم عينا ولا أثرا.

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ). قصد الفسقة الفجرة أضياف لوط فرحين يبشر بعضهم بعضا بهذه الغنيمة الباردة ، واسودت الدنيا في وجه لوط ، حيث لم يكن قد عرف حقيقة أضيافه بعد ، فخاطب قومه برفق (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ). خوّفهم من الله ، ولا شيء أهون عليهم منه ، واستنجد بمروءتهم ان يفضحوه ويخزوه في ضيفه ، وهم أبعد الخلق عن المروءة والانسانية.

(قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ). أرأيت الى هذه الصلافة والوقاحة؟. أصبحوا

٤٨٤

هم الأبرياء الأتقياء ، ولوط هو المذنب المجرم .. ولما ذا؟. لأنهم نهوه عن معاشرة الناس واستقبال الضيوف فلم ينته! .. ألم ننهك؟ .. وهذا المنطق اللوطي هو منطق كل معتد أثيم لا يقيم وزنا الا لرغبته ومنفعته. فالفيتناميون دعاة حرب وسفاكو دماء عند الأمريكيين لأنهم يرفضون أن تتحكم بهم الولايات المتحدة كما تشاء ، والعرب وحوش مفترسون عند الولايات المتحدة وانكلترا لأنهم يقولون : فلسطين للفلسطينيين لا للصهاينة ، ودول الاستعمار تردد شعارات السلام والحرية في نفس الوقت الذي تضرب فيه الشعوب المستضعفة بالمدافع وقنابل النابالم.

(قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ). عبّر عن نساء قومه ببناته لأن رسول الأمة كالأب لجميع أفرادها ذكورا وإناثا. وقد عرض لوط على قومه أن يتركوا الذكور ، ويتزوجوا الإناث حلالا طيبا. ولكن نفوسهم لا تطيب الا بالحرام ، ولا تميل الا الى الخبائث والآثام. (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ). قال كثير من المفسرين : ان الخطاب في لعمرك من الله الى محمد (ص). وقال آخرون : انه من الملائكة للوط ، وربما كان هذا أقرب لظاهر السياق. ومهما يكن فإن المعنى ان قوم لوط يتردون في الهوى والضلالة ، ولا يؤوبون الى الرشد والهداية مهما جد الهادي ونصح المرشد.

أخذتهم الصيحة الآية ٧٣ ـ ٨٦ :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ

٤٨٥

الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

اللغة :

المراد بالصيحة هنا العذاب. ومشرقين أي داخلين في وقت شروق الشمس. والسجيل طين متحجر. وللمتوسمين جمع متوسم ، وهو صاحب الفراسة الصائبة ، والمراد به هنا العاقل الذي ينتفع بالعظات والعبر. والمراد بأصحاب الأيكة قوم شعيب ، والأيكة الشجر الملتف الكثيف. وللإمام معان شتى ، والمراد به هنا الطريق. واصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح ، والحجر اسم المكان الذي كانوا فيه ، وقيل كل مكان أحيط بالحجارة يسمى حجرا ، والصفح الجميل العفو من غير عتاب ، كما جاء عن الإمام علي (ع).

الإعراب :

مشرقين حال من الضمير في أخذتهم ، ومثلها مصبحين. وآمنين حال من واو ينحتون. وان كان أصحاب الأيكة (ان) مخففة من الثقيلة ومهملة ، واللام بعدها للفصل بينها وبين ان النافية.

المعنى :

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ). ضمير (هم) يعود الى قوم لوط ، والمعنى ان العذاب نزل بهم في وقت شروق الشمس (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ). ضمير عاليها وسافلها يعود الى مدينة لوط ، وتقدمت هذه الآية بالحرف الواحد مع التفسير في سورة هود الآية ٨٢.

٤٨٦

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) المراد بالمتوسمين هنا العقلاء الذين يعتبرون وينتفعون بالعظات (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ضمير انها يعود الى مدينة أو قرى لوط التي جعل الله عاليها سافلها. والسبيل الطريق ، والمقيم الموجود الثابت ، والمعنى ان آثار مدينة لوط التي أهلكها الله ما زالت قائمة الى عهد محمد (ص) والطريق اليها موجود ومسلوك يمر عليه الرائح والغادي ، ويشاهد الدمار والآثار .. قال المفسرون : كانت تعرف هذه المدينة باسم سدوم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ). أي ان المؤمنين بالله واليوم الآخر يعتقدون بأن ما حل بقوم لوط من العذاب كان جزاء على كفرهم وضلالهم ، أما الملحدون فيقولون : هي حوادث كونية ، وأسباب طبيعية.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ). الأيكة الشجر الملتف الكثيف ، والمراد بأصحابها قوم شعيب .. بعد أن ذكر سبحانه هلاك قوم لوط أشار الى قوم شعيب وانه تعالى أهلكهم لكفرهم وتمردهم على الحق ، وسبق الكلام عن شعيب وقومه عند تفسير الآية ٨٥ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٥ ، ويأتي أيضا في سورة الشعراء (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ). ضمير منهم يعود الى أصحاب الايكة ، وهم قوم شعيب ، وضمير انهما يعود الى مدينة لوط وأصحاب الأيكة ، والمراد بالإمام هنا الطريق ، والمعنى ان الدلائل والآثار على هلاك مدينة لوط وبلد شعيب ما زالت قائمة ، والطريق اليها واضح يسلكه كل من أراد أن يشاهد آثار الهلاك والعذاب.

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ). أصحاب الحجر هم ثمود ، ونبيهم صالح صاحب الناقة ، والحجر اسم المكان الذي كانوا فيه ، وهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا هو صالح ، وانما قال سبحانه كذبوا المرسلين بصيغة الجمع لأن من كذب رسولا واحدا لله فقد كذّب جميع الرسل (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) مع انها كافية وافية في الدلالة على الحق ، ولكنها لا تتفق مع أهوائهم وتقاليدهم الفاسدة (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ). وكانت السكنى في بيت حجر مع الامان من الغزو دليلا على الحضارة في ذاك العصر .. ومن جملة الآيات التي آتاهم الله على يد الرسل الناقة فعقروها وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي وقع عليهم العذاب وقت الصبح (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) وقع عليهم العذاب،

٤٨٧

ولم يجدهم ما جمعوا من ثروات ، وما نحتوا وبنوا من دور وقصور. وسبق الكلام عن صالح وقومه عند تفسير الآية ٧٣ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٥٠.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ). ما من شيء في الكون إلا وجد لحكمة ومنه هلاك الكافرين من الأمم الماضية. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ ٢٧ ص» (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) المراد بالساعة القيامة ، وفيها يجازي الله كلا بما يستحق (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ). الخطاب من الله لمحمد يأمره فيه بالاعراض عن المشركين والجاهلين ، وان لا يشغل نفسه بهم ، وفي معنى الآية قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) ـ ١٠ المزمل».

السبع المثاني والقرآن العظيم الآية ٨٧ ـ ٩٩ :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

٤٨٨

اللغة :

السبع المثاني سورة الفاتحة لأنها سبع آيات ، وبقراءتها يثنى في الصلاة ، وقيل هي السور السبع الطوال في أول القرآن : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس كما في تفسير الطبري. أو الأنفال مع التوبة بدلا عن يونس كما في بعض التفاسير. ولا تمدن عينيك أي لا تنظر. والمراد بالأزواج الأصناف ، والتوضيح في فقرة المعنى. وخفض الجناح كناية عن التواضع ، والمراد بالمقتسمين هنا اليهود والنصارى بالنظر إلى أنهم جعلوا القرآن عضين أي أجزاء ، حيث آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض. فاصدع بما تؤمر أي اجهر به وأنفذه. والمراد باليقين هنا الموت.

الإعراب :

سبعا من المثاني (من) بيانية أي سبعا هي المثاني ، ومثلها : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ـ ٣٠ الحج» أي الرجس هي الأوثان. وأزواجا مفعول متعنا به. وكما أنزلنا الكاف بمعنى مثل صفة لمفعول مطلق محذوف أي أنزلنا عليك القرآن العظيم إنزالا مثل ما أنزلنا على المقتسمين. وهذا الاعراب فيه شيء من التكلف ، ولكنه أهون من بقية الأوجه التي ذكرها المفسرون. والذين جعلوا القرآن عضين صفة للمستهزئين أو عطف بيان.

المعنى :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ). اختلفوا في المراد بالسبع المثاني ، وذكر المفسرون خمسة أقوال ، أرجحها ـ فيما نرى ـ انها سورة الفاتحة ، فهي سبع آيات ، ويثنى بها في الصلاة ، وتجمع بين ذكر الربوبية والعبودية. اذن ، هي سبع بآياتها ، ومثاني بصفاتها.

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ). يستعمل الزوج بالصنف ،

٤٨٩

ومنه قوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) ـ ٥٢ الرحمن» أي صنفان. وقوله : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) ـ ٥٨ ص» أي أصناف. وقوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) ـ ٣٦ يس». وعلى هذا يكون المراد بالأزواج في الآية التي نفسرها أصناف الكفار المشركين وأهل الكتاب ، وبكلمة ثانية الكفار بجميع أصنافهم ، وضمير منهم يعود الى الكفار ، ومحصل المعنى لا تنظر يا محمد أو لا تحفل بما تراه من الزينة التي يتمتع بها أصناف الكفار من المشركين وأهل الكتاب (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) كان النبي (ص) يحزن ويتألم لنفور المشركين وعدم ايمانهم ، فأمره المولى جل وعلا بأن لا يهتم ولا يكترث ، ومثله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) ـ ٨ فاطر» (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). تواضع للطيبين المخلصين لأن التواضع لهؤلاء تواضع لله ، والتكبر على الخونة المفسدين جهاد في سبيل الله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ـ ٥٤ المائدة».

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ). دعا محمد (ص) الناس دعوة الحق بالحجج والبينات ، وما زالت دعوته قائمة بأدلتها وبراهينها حتى اليوم والى آخر يوم ، وعلى كل عاقل أن ينظرها ويتدبرها ، فإن آمن بها آمن عن بينة ، وان رفضها رفض عن بينة ، أما من ينفر دون أن ينظر فهو ملام ومؤاخذ (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ). المراد بالمقتسمين اليهود والنصارى لأنهم هم الذين جعلوا القرآن عضين أي فرّقوه وقسّموه أعضاء وأبعاضا ، حيث آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، كفروا بما يصطدم مع مصالحهم وتقاليدهم ، وآمنوا بما عدا ذلك ، ومحصل المعنى ان الله أنزل القرآن على محمد كما أنزل التوراة على اليهود ، والإنجيل على النصارى الذين آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعض. فأي عجب أن ينزل على محمد كتاب من ربه ما دام قد نزل من قبله أكثر من كتاب!.

(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ). قرر القرآن في هذه الآية مسؤولية الإنسان عن أعماله ، وفي الآية ١٨ من سورة ق قرر مسؤوليته عن أقواله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). وفي الآية ١٩ من سورة غافر قرر مسؤوليته عن مقاصده ونواياه : «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور». ومتى أيقن الإنسان بأن عليه رقيبا قادرا عادلا خاف واتقى .. ومحال أن تنتظم الحياة

٤٩٠

الانسانية بدون الشعور بالمسؤولية والالتزام بها.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ادع الى ربك بالحجة والبرهان ، ولا تبال بإعراض من أعرض وادبار من أدبر (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ). ذكر المفسرون ، ومنهم الطبري والرازي والطبرسي : ان جماعة من مشركي قريش لهم قوة وشوكة كانوا يسخرون ويهزءون من رسول الله (ص). فأهلكهم الله سبحانه بأهون الأسباب وأيسرها ، ومن هؤلاء الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ).

من الطبيعي ان يحزن النبي (ص) ويتألم إذا استهزأ به المشركون ، وقالوا عنه : مجنون ومفتر على الله ، من الطبيعي أن يضيق صدره بما يقول عنه الكافرون لأنه انسان من لحم ودم يفرح بما يفرح به الناس ، ويحزن مما يحزنون ، ولكن ما هي العلاقة بين الحزن والعبادة ، حتى أمره الله تعالى بأن يلجأ اليها إذا حزن وضاق صدره؟.

الجواب ، ان الله سبحانه لم يأمر نبيه بالعبادة هنا ليبين له ان ضيق الصدر سبب للأمر بالعبادة ، كلا فإن الأمر بعبادة الله غير مقيد بفرح ولا بحزن ، وانما الأمر بالعبادة هنا كناية عن الاتكال على الله والفزع اليه وحده إذا ألمّ بالنبي (ص) ما يؤلمه ويزعجه ، تماما كقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ـ ٢٠٠ الأعراف». أنظر ج ٣ ص ٤٣٩.

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). المراد باليقين هنا الموت لأنه واقع لا محالة والقصد أن يستمر الإنسان في العبادة والإخلاص لله مدة حياته : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) ـ ٣١ مريم».

٤٩١
٤٩٢

سورة النّحل

٤٩٣
٤٩٤

سورة النّحل

١٢٨ آية.

بعضها مكي ، وبعضها مدني ، واختلفوا في عدد كل من المكي والمدني ، فقيل : أربعون آية من أولها مكية ، والباقي مدني ، وقيل : كلها مكية ما عدا ثلاث آيات في آخر السورة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية ١ ـ ٤ :

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤))

اللغة :

سبحان كلمة تنزيه. وتعالى ارتفع عن كل ما يشين. والمراد بالروح هنا الوحي مثل قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) ـ ٥٢ الشورى». أي وكذلك أنزلنا اليك وحيا.

٤٩٥

الإعراب :

سبحانه منصوب على المصدرية. ومن أمره أي بأمره. وان أنذروا (ان) مفسرة بمعنى أي. وضمير انه للشأن ، وهو اسم ان ، وجملة لا إله إلا الخ خبر ، والمصدر من ان واسمها وخبرها مجرور بالباء المحذوفة. فاتقون أصلها فاتقوني.

المعنى :

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). كان النبي ينذر المشركين ويخوّفهم من عذاب أليم ، وكانوا يجيبونه بالسخرية ويستعجلونه العذاب ، ويقولون له : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ـ ٣٢ الأنفال». فأجابهم سبحانه بأن عذاب الله آت ، وكل آت قريب. وعبّر سبحانه عما يأتي في المستقبل بصيغة أتى الدالة على وقوع الفعل لأن العذاب واقع لا محالة ، وكل ما كان واجب الوقوع فالحال والماضي والاستقبال فيه سواء. وسيقال لهم غدا : هذا الذي كنتم به تستعجلون .. ولا جواب الا ان قالوا : يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ). المراد بالروح هنا الوحي لأنه للنفوس تماما كالأرواح للأبدان ، ومحصل المعنى ان الله يصطفي لرسالته من هو أهل لها ، وتتلخص هذه الرسالة بالتوحيد عقيدة ، والاستقامة عملا ، لأن كل من اتقى الله فهو على صراط الأمان والاستقامة ، وكل من عصاه فهو على صراط الهلاك والضلالة.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بعد ان ذكر سبحانه في الآية السابقة انه لا إله إلا هو أشار في هذه الآية الى الدليل على ذلك ، وهو ان الله خلق السموات والأرض ، وأحكم خلقهما ، ولم يعنه على ذلك معين ، والخلق من لا شيء بهذا الأحكام والإبداع دليل الألوهية ، كما ان التفرد بالخلق دليل الوحدانية. انظر ج ٢ ص ٣٤٤ فقرة : «دليل التوحيد والأقانيم الثلاثة».

٤٩٦

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ). بعد أن أشار سبحانه الى دليل الوحدانية قال : ولكن هذا الإنسان الضعيف الذي خلقناه من نطفة يكفر بنعمة من أنعم عليه ، ويجحد وجود من أوجده ، ويعبد ما لا يضره ولا ينفعه. وسبق أكثر من مناسبة ان الإنسان لا ينحرف عن الطريق القويم إلا جهلا وتقليدا ، أو لمنفعة شخصية. انظر تفسير الآية ٣٤ من سورة ابراهيم ، فقرة : «هل الإنسان مجرم بطبعه؟.

الانعام والخيل والبغال والحمير الآية ٥ ـ ٩ :

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

اللغة :

الانعام هي الإبل والبقر والغنم والمعز. والدفء ما يتدفأ به ، والمراد به هنا ما يتخذ من جلود الانعام وأصوافها للثياب والفرش. والجمال الزينة. وحين تريحون أي تردون الانعام بالعشي من مراعيها الى مراحها. وحين تسرحون أي حين تخرجونها من مراحها بالغداة الى مراعيها. والأثقال الأمتعة. وبشق الأنفس كناية عن التعب والمشقة. وقصد السبيل الطريق المستقيم الموصل الى الحق ، والجائر المائل عنه.

٤٩٧

الإعراب :

الانعام مفعول لفعل محذوف أي خلق الانعام خلقها لكم ، ولكم متعلقة بخلقها. وفيها دفء مبتدأ وخبر ، والجملة حال من الانعام. وحين ظرف منصوب بجمال. وبالغيه خبر لم تكونوا. والخيل مفعول لفعل محذوف أي وخلق الخيل. ولتركبوها مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المجرور متعلق بخلق المحذوفة ، وزينة معطوفة على محل المصدر المجرور لأنه مفعول لأجله في المعنى ، ويجوز أن تكون زينة مفعولا مطلقا لفعل محذوف أي وتتزينوا بها زينة.

المعنى :

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ). نزل القرآن في عصر لا تنتظم فيه الحياة الزراعية وغير الزراعية الا بالحيوان ، وقد ذكر سبحانه أصنافا من الحيوان وفوائدها في العديد من آياته بقصد التذكير بالله ونعمه على عباده ليتقوه في أعمالهم وأقوالهم ، من ذلك ما تقدم في سورة الأنعام الآية ١٤٢ وما بعدها ج ٣ ص ٢٧٣ ، وذكر في الآية التي نفسرها ثلاث فوائد للأنعام : الدفء والمراد به اتقاء البرد بما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها وأوبارها وأشعارها .. وذكر سبحانه بعد الدفء كلمة منافع بدون الألف واللام ، وتنطبق على اللبن والسمن واثارة الأرض أي حرثها ، أما قوله : ومنها تأكلون فيشمل الأكل من لحومها ولحوم أولادها بالاضافة الى درها الذي أشارت اليه كلمة منافع.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ). المراد بالجمال هنا جمال الأنعام في منظرها رائحة غادية ، وبالخصوص إذا كانت سمينة وكثيرة ، وقوله : حين تريحون معناه حين تردّون الأنعام مساء من المرعى الى المراح ، وحين تسرحون أي تخرجونها صباحا من المراح الى المرعى ، وهذا المنظر الجميل للأنعام الثلاث ، وهي غادية رائحة يبعث الانس والانشراح في نفوس أصحابها ، ويغبطهم الناظر اليها.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ). بعد أن ذكر

٤٩٨

سبحانه ان من فوائد الأنعام المأكل والملبس ذكر انها وسيلة للمواصلات ، ونقل الأثقال والأحمال من بلد الى بلد ، ولولاها لتحمل الإنسان المتاعب والمشاق (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ومن رأفته ورحمته تسخير الأنعام لتيسير المصالح وتخفيف الآلام.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) بعد ان ذكر سبحانه منافع الأنعام الثلاث أشار الى منافع الخيل والبغال والحمير ، وأهمها الركوب والزينة في ذاك العصر (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ). وقد فسر هذه الجملة كل عالم من خلاله عصره وحياته ، فبعض القدامى قال : المراد ان الله يخلق من أنواع الحيوان والنبات والجماد الكثير الكثير مما لا يعلمه الناس. وقال الطبري : المعنى ان الله يخلق لأهل الجنة من أنواع النعيم ، ولأهل النار من أنواع العذاب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .. وقال بعض المفسرين الجدد ، ومنهم الشيخ المراغي ، قالوا : «هذه اشارة الى الطيارة والسيارة ونحوهما». والمعنى المناسب للسياق ـ فيما نرى ـ ان الله سبحانه بعد ان ذكر هذه المنافع وامتن بها على عباده قال : ان هذا قليل من كثير ، وان هناك منافع لا تعلمونها ولا يبلغها الإحصاء ، ومنها الطيارة والسيارة ، وبكلمة ان قوله : ويخلق ما لا تعلمون أشبه بقوله : وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

ونقل الشعراني في ميزانه عن أبي حنيفة تحريم لحوم الخيل ، وعن الشافعي ومالك وابن حنبل التحليل ، أما عن لحوم البغال والحمير فنقل تحريمها عن الشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل ، وكراهيتها عن مالك. وقال الشيعة الامامية : تحل لحوم الخيل والبغال والحمير على كراهية.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ). على هنا للوجوب ، مثلها في الآية ١٢ من الليل : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى). والمعنى ان الله سبحانه كتب على نفسه أن يبين للناس على لسان رسله طريق الحث والهداية (وَمِنْها جائِرٌ) ضمير منها يعود الى السبيل لأن السبيل تؤنث وتذكر ، أي ان من الطرق ما هو مستقيم كالاسلام. ومنها ما هو مائل معوج كغيره من الأديان (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو أراد الله ان يلجئ الناس الى الايمان قهرا عنهم لما كفر واحد منهم ، ولكنه تعالى ترك الإنسان

٤٩٩

وما يختار بعد ان هداه النجدين حرصا على انسانيته ، وليستحق الثواب ان اختار الخير ، والعقاب ان اختار الشر. انظر تفسير الآية ١١٨ من هود.

التذكير بنعم الله الآية ١٠ ـ ١ :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))

اللغة :

تسيمون من سامت الماشية إذا رعت أي ترعون أنعامكم من النبات من غير كلفة. وذرأ خلق. ومواخر جمع ماخرة ، والمخر شق الماء ، يقال : مخرت

٥٠٠