التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

الواحد الى الألف؟. وهل طعام الزقوم ، وماء الصديد أشد فتكا بالأجسام والأرواح من سلاح الجراثيم الذي يستعمله الآن أعداء الله والانسانية في فيتنام ، ومن قبل في كوريا؟.

وسبق عند تفسير الآية ٢٧ من هذه السورة ان الإنسان إذا مسته ذرة من سلاح الجراثيم تقلصت عضلاته ، وبرزت عيناه ، ومات في الحال .. فهل بعد هذا يشك عاقل في ان الحلم بأصحاب هذا السلاح ظلم ، وان الرحمة بهم إثم ، وانهم لو عوقبوا بأشد من عذاب جهنم لكان عقابهم حقا وعدلا؟. هل يستكثر أي نوع من أنواع العذاب على من لا يروي ظمأه الا دماء الألوف ، ولا يشبع جوعه الا أقوات الملايين ومقدراتهم؟. ولو لم يكن دليل على البعث والحساب الا وجود هذه المظالم لكفى ، إذ لو كانت الدنيا هي كل شيء ، وليس من وراءها عالم آخر ترد فيه الحقوق الى أصحابها ويجد كل ظالم الجزاء الذي يستحقه لكان الموت خيرا من الحياة ، والظلم أفضل من العدل.

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ). هذا اشارة الى القرآن بكل ما يحويه ، ومنه ما تقدم من التهديد والوعيد ، والمراد بالبلاغ الكفاية ، والمعنى ان الله سبحانه أنزل القرآن على نبيه ، وهو كاف واف بكل ما يحتاج اليه الناس من أمر دينهم ودنياهم ، وهو أيضا يعلمهم بوحدانية الله وعدله ، وينذرهم من مخالفة أمره ونهيه.

٤٦١
٤٦٢

الجزء الرّابع عشر

سورة الحجر

٤٦٣
٤٦٤

سورة الحجر

مكية ، وآياتها ٩٩.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تلك آيات الكتاب الآية ١ ـ ٥ :

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

الإعراب :

رب حرف جر ، ولا تجر الا النكرات ، وإذا دخلت ما عليها كفتها عن العمل الا نادرا ، ومتى كفت عن العمل دخلت على الأسماء المعارف وعلى الفعل كما في الآية ، وقال أبو حيان الأندلسي : «وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجيء في القرآن الا في هذا الموضع. ولو كانوا مسلمين (لو) للتمني ، وقيل : هي مصدرية بمعنى ان : والمصدر المنسبك مفعول يود ، أي يود الذين كفروا كونهم مسلمين. من قرية (من) زائدة اعرابا ، وقرية مفعول أهلكنا. الا ولها كتاب معلوم الواو لتحسين الكلام ، ويجوز حذفها كما في الآية ٢٠٨ من

٤٦٥

سورة الشعراء : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) ولها خبر مقدم وكتاب مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة للكتاب.

المعنى :

(الر) سبق الكلام عن مثله في أول سورة البقرة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). تلك اشارة الى نفس السورة التي نفسرها ، والقصد الاخبار بأنها آيات من كتاب الله ، وقرآن واضح يميز بين الحق والباطل (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ). رب هنا للتكثير ، والمعنى ان كل مجرم غدا ينكشف له الغطاء ، ويتمنى لو كان في الدنيا من المتقين الذين سلموا للحق وعملوا به. انظر تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) الآية ١٩ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٦.

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). آثروا التمتع بالحياة على اتباع الحق ، فهددهم سبحانه بما يحل بهم غدا من العذاب الأليم (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ). كأن سائلا يسأل : لما ذا لم يعجل الله العقوبة لمن تمرد عليه وعلى رسله؟. فأجاب سبحانه بأن لكل عقوبة أجل ، وانه جلت حكمته ما أهلك أمة من قبل الا عند حلول أجلها ، والجاهل من يغتر بالامهال (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ). انظر تفسير الآية ١٤٥ من سورة آل عمران ، فقرة : «الأجل محتوم» ج ٢ ص ١٧١.

انك لمجنون الآية ٦ ـ ١٨ :

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما

٤٦٦

كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨))

اللغة :

المراد بالذكر هنا القرآن. والشيع جمع شيعة ، وهي الفرقة المتفقة على مبدأ واحد دينا وعقيدة. ونسلكه ندخله. والعروج الصعود في الدرج. وسكرت سدت ، والمراد بالبروج هنا منازل الشمس والقمر كما في أكثر التفاسير. والشهاب الشعلة من النار.

الإعراب :

لو ما أداة طلب مثل هلا. واذن حرف جواب وجزاء ، وهي هنا في معنى الجزاء لشرط مقدر ، أي لو نزلت الملائكة لم يمهل الكافرون ، فأذن هنا تؤدي معنى لم التي وقعت جوابا للو. كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. الا من استرق السمع (من) في محل نصب على الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق السمع.

٤٦٧

المعنى :

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). ضمير قالوا يعود الى مشركي قريش ، وقد خاطبوا محمدا بالذي نزل عليه الذكر تهكما واستخفافا ، لأنه في منطقهم ومقاييسهم مجنون يهذي بغير المعقول ، وان كان رحمة للعالمين ، وتقدمت به الانسانية مئات السنين .. والقرآن أيضا من وحي الجنون ، وان كان معجزة المعاجز بعلومه وتعاليمه.

وهذا المنطق لا يختص بعبدة الأصنام ، ولا بالزنادقة والملاحدة ، فإنه يشمل كل من اتخذ من ذاته ومنفعته مقياسا للحق وميزانا للعدل ، حتى ولو قال : لا إله الا الله محمد رسول الله .. أبدا لا فرق بين هذا المسلم النفعي الذي اعترف لمحمد بالنبوة ، وبين المشرك الذي أنكر نبوة محمد ، لا فرق الا ان هذا المسلم آمن بمحمد نظريا ، وكفر به عمليا ، والمشرك أنكره قولا وعملا .. فالنتيجة من حيث العمل واحدة.

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). هذا من قول المشركين للنبي (ص) ، وقد اشترطوا لايمانهم به أن تنزل عليهم الملائكة من السماء ، وتشهد لمحمد بالنبوة ، فأجابهم الله بقوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ). وملخص الجواب ان الله ينزل ملائكته على الأنبياء والرسل للتبليغ ، ولا ينزلهم على المكذبين والجاحدين الا بالعذاب والهلاك ، كما فعل بالأمم الخالية ، ولو ان الله أجاب المشركين بإنزال الملائكة عليهم لهلكوا عن آخرهم. وسبق نظير الآية سؤالا وجوابا في سورة الأنعام الآية ٨ ج ٣ ص ١٦٤.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). المراد بالذكر القرآن. وقيل : ان ضمير له يعود الى محمد (ص) ، وان الله يحفظه من أعدائه ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، فيتعين اعادة الضمير الى القرآن.

وتسأل : من أي شيء يحفظ الله القرآن؟. فإن كان المراد ان الله يحفظه من من التحريف كما قال أكثر المفسرين فبالأمس القريب طبعت إسرائيل ألوف النسخ من القرآن ، وحرّفت ما اشتهت من الآيات ، منها الآية ٨٥ من سورة آل عمران

٤٦٨

التي صارت في قرآن إسرائيل : «ومن يبتغ غير الإسلام دينا يقبل منه». وان كان المراد بالحفظ انه لا أحد يستطيع الطعن فيه فهذا خلاف الواقع.

وذكر الرازي والطبرسي عددا من الأجوبة ، ولكنها غير مقنعة. والذي نراه ان المراد بحفظ القرآن ان كل ما فيه هو حق ثابت وراسخ مدى الأزمان ، لا يمكن رده والطعن فيه بالحجة ، بل كلما تقدمت العقول والعلوم ظهرت أدلة جديدة على صدق القرآن وعظمته ، وهذا المعنى الذي فسرنا فيه حفظ القرآن تدل عليه أو تشعر به الآية ٤١ من فصلت (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). الخطاب من قبلك لمحمد ، وشيع الأولين الأمم الماضية ، والمعنى ان شأن المشركين معك الذين كذبوك يا محمد ، وقالوا عنك انك لمجنون ، تماما كشأن المشركين السابقين ما جاءهم نبي إلا كذبوه وسخروا منه .. ومع هذا صبر الأنبياء السابقون على سفاهة أقوامهم وجهالتهم ، فاصبر وتأس بهم. والقصد من ذلك التخفيف والتسرية عن النبي الأعظم (ص). ومر نظيره في سورة الأنعام الآية ٣٤ ج ٣ ص ١٨٢.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ). ضمير نسلكه يعود الى الذكر في الآية السابقة : «انا نحن نزلنا الذكر» ومثله ضمير به ، والمعنى ان القرآن لا يدخل في قلوب المجرمين دخول ايمان وتصديق ، بل دخول استخفاف وهزء ، وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) بيان وتفسير لقوله : (نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) .. اما قوله : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) فمعناه ان المكذبين اللاحقين كالمكذبين السابقين يدخل الباطل في قلوبهم دون الحق ، والضلالة دون الهداية. أما نسبة السلوك الى الله تعالى فهي من باب نسبة الشيء الى السبب الأول البعيد لا إلى السبب القريب المباشر ، وسبق التنبيه الى ذلك أكثر من مرة.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ). طلب المعاندون من محمد (ص) في الآية السابقة ان

٤٦٩

ينزل عليهم الملائكة ، فأجابهم الله سبحانه هناك بأن الملائكة تنزل على المكذبين والمعاندين بالعذاب والهلاك ، ثم عقب سبحانه في هذه الآية على الجواب السابق بأن الله لو فتح لهم أبواب السماء وصعدوا فيها بأجسامهم ورأوا الملائكة وغيرها من العجائب لقالوا : ان محمدا سحر أبصارنا وأرانا الخيال واقعا والواقع خيالا. وسبق نظيره في سورة الأنعام الآية ٧ ج ٣ ص ١٦٣.

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ). قال بعض المفسرين : المراد بالبروج النجوم. وقال آخرون ، بل المراد بها منازل الشمس والقمر ، ومهما يكن معنى البروج فليس الغرض من الآية أن ندرس علم الفلك لنعرف حقيقة البروج ، وانما الغرض الأول أن نتدبر قدرة الله وحكمته في خلق السموات والأرض ، وان ما في الكون من الدقة والتنظيم والجمال لأوضح في الدلالة على وجود الله ووحدانيته من نزول الملائكة ، وكل ما اقترحه المتعنتون من المعجزات.

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ). كان أهل الجاهلية يعتقدون ان لكل كاهن من الكهنة شيطان يصعد الى السماء ، فيستمع من الملائكة ما يتحدثون به عن أهل الأرض ، ثم ينزل الشيطان الى الكاهن فيخبره بما سمع ، والكاهن بدوره يفشيه بين الناس. والآيتان بمجموعهما رد وتكذيب لهذه الأسطورة ، وان الشياطين لا يستطيعون الوصول الى السماء بحال ، وقوله : (شِهابٌ مُبِينٌ) كناية عن ان الشياطين أعجز وأحقر من أن تسترق السمع من الملائكة كما زعم أهل الجاهلية.

والآرض مددناها الآية ١٩ ـ ٢٥ :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا

٤٧٠

الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)

اللغة :

الرواسي الجبال. والشيء الموزون المقدر بقدر. واللواقح جمع لاقح للشجر والسحاب.

الإعراب :

الأرض مفعول لفعل محذوف دل عليه الموجود أي ومددنا الأرض مددناها. ومن لستم له برازقين (من) أيضا مفعول لفعل محذوف أي ورزقنا من لستم له برازقين. وقيل : ان (من) عطف على الضمير المجرور ، وهو لكم أي وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين في الأرض معايش. وان من شيء (ان) نافية ومن زائدة اعرابا ، وشيء مبتدأ ، والخبر جملة عندنا خزائنه. ولواقح حال من الرياح. (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) (نحن) تأكيد لاسم ان ، ويجوز أن تكون مبتدأ ونحيي خبر ، والجملة خبر ان.

المعنى :

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ). سبق الكلام مفصلا عما حوته هذه الآية عند تفسير الآية ٣ من سورة الرعد ،

٤٧١

وقوله تعالى : (كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) في معنى قوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ـ ٩ الرعد». وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ـ ٢ الفرقان». أي مراعى فيه كمية المواد والعناصر ، وكيفية الشكل والصورة ، والهدف الذي وجد من أجله ، ولو كان للصدفة والعشوائية شيء من الأثر في وجود الأشياء لما كان فيها هذا الأحكام والتدبير.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ). ضمير فيها يعود الى الأرض ، والمعايش أسباب العيش من الزراعة والتجارة والصناعة ، أما العيش بالسلب والنهب والغش والاحتيال فهو من صنع الشيطان ، لا من جعل الله وخلقه.

(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ). وكل حي في الأرض لسنا نحن له برازقين ولا مكلفين برزقه ، وانما الغرض من هذه الاشارة أن نعلم ان جميع الأحياء تعيش على رزق الله ، ولا حي يرزق حيا سواه إطلاقا ، حتى الأطفال الذين نعول ، والدواب والانعام التي نملك .. فإن رزقها جميعا على الله وحده ، لا على غيره.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). قال الرازي «اتفق المفسرون : على ان المراد بقوله : (مِنْ شَيْءٍ) هو المطر لأنه سبب الأرزاق والمعايش». والصحيح ان المراد من شيء في الآية المطر وغيره ، لأنها نكرة في سياق النفي ، ومعناها العموم ، تماما كما لو قلت : ما رأيت أحدا ، والمراد بالانزال العطاء ، وبالقدر المعلوم أسباب الرزق ، والمعنى ان الخير كله عند الله ، وهو يعطيه للعاملين المجدين ، لا للكسالى المخنثين : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ـ ١٥ الملك». أنظر «هل الرزق صدفة أو قدر» في ج ٣ ص ١٣١.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ). الرياح توصف باللواقح لأنها تحمل السحاب الماطر ، فتلقح الشجر بما تنزل عليه من الأمطار ، والى هذا أشارت الآية ٥٧ من سورة الأعراف : «وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت ـ أي حملت ـ سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت». أنظر تفسير هذه الآية في ج ٣ ص ٣٤٢. وأيضا توصف الرياح باللواقح لأنها تنقل لقاح الأزهار الذكور الى الأزهار الإناث لتخرج الثمر والفواكه.

٤٧٢

وليس المراد بقوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) ان الماء بكامله مجموع في خزان عظيم عند الله ينزل منه الماء الى الأرض ساعة يشاء كما قال بعض المفسرين بل المراد ان الله ينزل الماء بالأسباب الطبيعية للنزول ، وتحفظه الأرض ، وتخرجه العيون شيئا فشيئا لسد الحاجات.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ). نحن الوارثون كناية عن ان كل من عليها فان ، وانه لا يبقى الا وجه ربك ذو الجلال والإكرام (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) ذكر الرازي والطبرسي ستة أقوال في معنى المستقدمين والمستأخرين ، والصحيح ان المراد بهما ان الله لا يخفى عليه شيء من أحوال الأولين والآخرين (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). يحشرهم جميعا للحساب والجزاء ، وهو حكيم في حشرهم هذا ، حيث يجد فيه المحسن ثواب إحسانه ، والمسيء عقاب إساءته ، وأيضا هو عليم بمن أحسن وأساء.

الانسان من صلصال الآية ٢٦ ـ ٣١ :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١))

اللغة :

المراد بالإنسان هنا آدم أبو البشر. والصلصال الطين اليابس غير المطبوخ فإذا

٤٧٣

طبخ فهو فخار. والحمأ الطين المتغير الى السواد. والمسنون المصبوب الذي يمكن تصويره على أية هيئة من الهيئات. ونار السموم شديدة الحرارة ، وتنفذ في المسام. وسويته أتممته.

الإعراب :

من حمأ بدل من صلصال بإعادة حرف الجر. والجان مفعول لفعل محذوف أي وخلقنا الجان خلقناه ، وكلهم تأكيد للملائكة ، وأجمعون تأكيد ثان.

المعنى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). تكلم الناس كثيرا حول أصل الإنسان ، واشتهر عن درون انه قرد ، وبسطنا الكلام عن درون والإنسان عند تفسير الآية ١١ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٠٥. ونعود الآن الى الموضوع بأسلوب آخر لمناسبة ذكر الإنسان والصلصال في الآية التي نحن بصددها.

ينحصر طريق المعرفة بالتجربة والمشاهدة والعقل والوحي ، ومن الواضح أنّا بالتحليل في المختبر نعرف ما في الإنسان من مواد ، أما كيف وجد الإنسان ، وعلى أية هيئة كان فلا تجيب عن هذا السؤال وما اليه المختبرات والمعامل. أما المشاهدة فأي انسان رأى وشاهد بداية خلق الإنسان الأول وكيف تكوّن ووجد؟. ولا شيء في الحفريات يدل دلالة واضحة على أصل الإنسان ، وشرحنا ذلك في المجلد الثالث ص ٣٠٥ ، أما سؤال العقل عن أصل الإنسان وكيف كان فهو تماما كسؤاله : من هو أبو فلان ، وهل كان طويلا أو قصيرا .. فلم يبق من طريق الى معرفة أصل الإنسان الا الوحي من خالق الإنسان.

ومن تتبع آي الذكر الحكيم يجد بعض الآيات تقول : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) ـ ٥٤ الفرقان». وبعضها يقول : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ـ ٥٩ آل عمران». وآية ثالثة تقول : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ

٤٧٤

مِنْ طِينٍ) ـ ٢ الأنعام» ، والطين هو الماء والتراب وليس بحقيقة ثالثة. والآية التي نحن بصددها تقول : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). والصلصال طين يابس. والحمأ طين متغير الى السواد ، والمسنون طين يمكن تكييفه بسهولة. والطين بشتى أنواعه ماء وتراب فأصل الإنسان الأول ماء وتراب ، خلق الله منهما أبا البشر ومنحه الحياة.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ). أنكر جماعة وجود الجن ، وفسر بعض المؤمنين الجن المذكور في القرآن ، فسره بالمكروب الذي لا يرى بالعين ، أي أخذا بالمعنى اللغوي من جن الشيء إذا استتر عن الأعين. وقال آخرون بوجود الجن ، وألفوا كتبا في عدد نفوسهم وبلادهم وعاداتهم وشعرائهم ورؤسائهم ، وزواج الانس منهم وزواجهم من الانس ، ونحن نؤمن بوجود الجن ، لا لشيء إلا لأن الوحي أثبته ، والعقل لا ينفيه ، ولا نصدق أحدا يدعي رؤية الجن أو يتصل بهم ، ولا نقبل أي حديث عنهم إلا إذا نطق الوحي به صراحة. وقد صرحت هذه الآية والآية ١٥ من الرحمن ان الله خلق الجن من النار. لذا نحن نؤمن بأن أصل الجن من نار ، ولكن أي نار ، وكيف كان الخلق؟ الله أعلم. وقرأت فيما قرأت ان علماء الاختصاص اكتشفوا نوعا من الحشرات لا تحيا إلا بالهواء السام ، ونوعا آخر لا يحيا إلا في آبار البترول والمواد الملتهبة.

وعليه فمن الجائز أن يكون في كوكب الشمس أحياء تتفق في تكوينها مع حرارة الشمس ، كالسمك في الماء ، وتلون الفراشة بلون الوردة ، والسلحفاة بلون الصحراء.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً). قال الله هذا للملائكة ، وقال له الملائكة أيضا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟. وغرضنا من الاشارة الى قول الملائكة التنبيه الى ما ذكرناه عند تفسير الآية ٣٠ من سورة البقرة من ان الله سبحانه قد أفسح لهم مجال السؤال والحوار الذي يشبه الاعتراض ، ثم أفهمهم الحقيقة ، وتلطف في جوابهم .. فعسى أن يتعظ بهذا من يرى نفسه فوق أن يراجع في شيء من أقواله لمكانته العلمية ومنزلته الاجتماعية. أنظر المجلد الأول ص ٨١.

٤٧٥

(مِنْ صَلْصالٍ) طين يابس غير مطبوخ (مِنْ حَمَإٍ) طين متغير الى السواد (مَسْنُونٍ) مرن يمكن تكييفه وتصويره على هيئة انسان أو غيره (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أتممته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي جعلت الحياة فيه أنظر ج ٢ ص ٥٠١ (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) سبق نظيره في الآية ٣٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٨٢.

الله يسأل وابليس مجيب الآية ٣٢ ـ ٤٤ :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

اللغة :

رجيم أي مرجوم ، والمراد به هنا المطرود من رحمة الله لأن من يطرد يقذف

٤٧٦

بالحجارة. وانظرني أمهلني. وجزء مقسوم أي لكل فريق من اتباع إبليس جزء معين في جهنم.

الإعراب :

مالك (ما) مبتدأ ، ولك متعلق بمحذوف خبرا للمبتدإ ، والمصدر من ان لا تكون مجرور بحرف جر محذوف ، والمصدر متعلق بما تعلق به الخبر ، والتقدير أي شيء حملك على عدم السجود؟. لا سجد اللام تأكيد للنفي ، وان مضمرة بعدها ، والمصدر المنسبك مجرور بها ، وهو متعلق بمحذوف خبرا لأكن أي لم أكن مستعدا أو مخلوقا للسجود لبشر. وبما أغويتني الباء للقسم عند البيضاوي ، وما مصدرية وجواب القسم لأزينن ومثله فبعزتك لأغوينهم أجمعين. وأجمعين تأكيد لضمير أغوينهم. وعبادك منصوب على الاستثناء المتصل من الضمير المذكور ، والمخلصين صفة لعبادك. وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة. الا من اتبعك (من) في موضع نصب على الاستثناء المنقطع لأن الغاوين غير المخلصين. وأجمعين تأكيد للضمير في موعدهم.

المعنى :

أمر سبحانه الملائكة بأن يسجدوا لآدم سجود تحية ، لا سجود عبادة ، فأطاعوا جميعا ، وعصى إبليس. واختلف العلماء في هوية إبليس : هل هو ملك فطرد ، أو شيطان منذ البداية؟. وهذا نزاع عقيم ، ما دام إبليس مذموما مدحورا على كل حال .. وحين امتنع عن السجود سأله المولى جلت عظمته :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)؟. وهل أنت أعلى مكانا ، وأشرف قدرا ممن سجد لآدم؟.

(قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). عصى إبليس وتمرد لا لشيء إلا تعصبا لأصله وعنصره ، وكل من تعصب لأصل وعنصر فهو ملعون ومذموم ورجيم تماما كإبليس.

٤٧٧

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ). ضمير منها يعود الى الدرجة الرفيعة ، والمعنى ان الله سبحانه طرد إبليس من رحمته الى عذابه ونقمته ، وجعله ملعونا على كل لسان حتى قيام الساعة جزاء على تكبره وامتناعه عن طاعة الله تعالى.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). طلب هذا الامهال لحاجة في نفسه سيصرح بها قريبا.

(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ). وهو ساعة النفخ في الصور الذي دلت عليه الآية ٦٨ من الزمر : «ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض».

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي بما امتحنتني به من الأمر بالسجود لآدم الذي أوقعني في الغي والعصيان (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). قطع إبليس عهدا على نفسه ان ينتقم لمأساته من هذا المخلوق الذي كان السبب لطرده من رحمة الله الى لعنته.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) هذه اشارة الى صيانة المخلصين من الشيطان وغوايته ، وعليّ أي ثابت عليه تعالى ، مثل قوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ـ ٥٤ الأنعام». والمعنى ان الله كتب على نفسه ان الإخلاص هو الصراط المستقيم ، فمن سلكه نجا ، ومن انحرف عنه هلك (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) الذين يعبدون الدرهم والدينار ، ويبيعون الدين والبلاد والعباد لكل من يدفع الثمن ، أما الطيبون المخلصون فإبليس أذل وأحقر من ان يدنو منهم فضلا عن تسلطه عليهم. تقدم نظير هذه الآيات في الأعراف الآية ١١ ـ ١٨ ج ٣ ص ٣٠٦.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ). هناك في قعر جهنم يجتمعون جميعا إبليس وأتباعه ، ويتبرأ المتبوع من التابع ، ويلعن كل منهما صاحبه. انظر تفسير الآية ٢٢ من سورة ابراهيم ، فقرة : «خطبة الشيطان».

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ). قيل : المراد بالأبواب المعنى الظاهر منها. وقيل : بل المراد منها الطبقات والأدوار ، وان بعض النار

٤٧٨

فوق بعض ، وان لكل طبقة اسم يخصها كجهنم والجحيم ولظى وسقر والحطمة وما إلى ذلك .. ومهما كان المراد فان الواقع معلوم ، وهو ان السيئات مراتب ودرجات ، منها الكبيرة الخطيرة ، ومنها الصغيرة الحقيرة ، وما بينهما ، ولكل سيئة ما تستحقه من العذاب دون زيادة. وتكلمنا عن ذلك مفصلا في آخر سورة ابراهيم بعنوان «جهنم والأسلحة الجهنمية».

ان المتقين في جنات الآية ٤٥ ـ ٥٠ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

اللغة :

السرر جمع سرير. والنصب التعب. ونبيء خبر.

الإعراب :

ادخلوها أي يقال لهم ادخلوها. وبسلام متعلق بمحذوف حالا من واو ادخلوها أي سالمين. وآمنين حال ثانية. وإخوانا حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف الذي تعلقت به في جنات. أي ان المتقين مستقرون في جنات متصافين متحابين. ومتقابلين صفة للإخوان ، وعلى سرر متعلق بمتقابلين. وما هم (ما) نافية وهم

٤٧٩

مبتدأ وبمخرجين الباء زائدة اعرابا ، ومخرجون خبر. و (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ (أَنَا) ضمير فصل أو توكيد ، والمصدر من (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ) مجرور بالباء المحذوفة. وان عذابي هو العذاب (هو) ضمير فصل.

المعنى :

بعد أن ذكر سبحانه عاقبة المجرمين والغاوين ، وانهم يحشرون غدا مقرونين في الأصفاد ، وسرابيلهم من قطران ، وتغشى وجوههم النار ، بعد هذا ذكر سبحانه عاقبة المتقين ، وانهم يجازون بالرفاهية والأمان والصفاء والراحة الدائمة ، وفيما يلي التفصيل :

١ ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). حياة طيبة في كل شيء من المأكل والمشرب الى المنظر وحور العين. (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) ـ ٧١ الزخرف».

٢ ـ (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ). حياة طيبة وآمنة لا خوف فيها ولا حزن.

٣ ـ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) والى جانب الرفاهية الصفاء أيضا ، حيث لا حقد يغلي في القلوب ، ويذيبها حسرات ، كما هي حال أهل النار الذين وصفهم سبحانه بقوله : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) ـ ٣٧ الأعراف».

٤ ـ (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) .. لا فقر .. لا مرض .. لا خوف .. لا حقد .. وأيضا لا تعب واعياء .. وكل هذه الأوصاف دائمة لا نقصان فيها ولا زوال لها.

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ). جمع سبحانه في هاتين الآيتين بين التبشير والتحذير كي لا ييأس العاصي من رحمة الله ومغفرته ، بل يرجع اليه تعالى ويتوب. وكي يحذر المطيع من الزلل وفساد العمل ، فيحتاط ويتواضع ولا يتملكه العجب والغرور. وقال الرازي : لما ذكر الله المغفرة والرحمة بالغ في تأكيدهما بألفاظ ثلاثة هي : (اني) و (أنا) وإدخال الألف

٤٨٠