التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

انه شقي وذميم .. والدنيا بداية ، والآخرة نهاية ، وفيها ينكشف القناع والغطاء ، ويعرف كل انسان مصيره ومآله ، حيث لا تزييف ولا تحريف ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ).

٤ ـ (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ). أما وعد الله فهو البعث والحساب والجزاء : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٩٣ الحجر». أما وعد الشيطان فهو على النقيض من وعد الله : لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ـ ٢٩ الأنعام». هذا ما كان يقوله الشيطان لأوليائه في الحياة الدنيا حيث التزوير والتمويه ، أما في اليوم الآخر حيث لا شيء إلا الحق والعدل فإن الشيطان يظهر على حقيقته ، ويصدق في قوله ولهجته ، وكان من قبل يعلم الناس الكذب والإفك.

٥ ـ (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) أبدا لا حول ولا طول للشيطان باعترافه الا دعوة الباطل والضلال والمكر والخداع ، ولا يستجيب له ولدعوته إلا ضعفاء العقول والنفوس والإيمان ، وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان هو بالحرف ما قاله الله له : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ـ ٤٢ الحجر».

٦ ـ (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). وإذا كان الويل لمن كفّره النمرود فكيف بمن كفّره إبليس؟. وإذا تعوذ الناس من الشيطان فكيف بمن وبخه وتعوذ منه الشيطان؟ .. هذا هو مصير من يخذل الحق والصالحين ، ويناصر الفساد والمفسدين ، وينعق مع كل ناعق .. وقد رأينا كثيرا من شياطين الانس يغررون بالمراهقين وضعاف العقول ، ويغرونهم بالتخريب واشاعة الفوضى ، حتى إذا لقوا ما كسبت أيديهم قال لهم شياطينهم عين ما قاله إبليس لأتباعه وأوليائه عند الحساب والجزاء.

(ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) الصارخ هو المستغيث ، والمصرخ هو المغيث ، والمعنى ان الشيطان يقول غدا لأتباعه : ما أنا بمغن عنكم شيئا ، ولا أنتم مغنون عني شيئا ، وليست بيني وبينكم أية صلة (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ). يقول إبليس لمن استجاب له : لقد اطعتموني فيما دعوتكم اليه ،

٤٤١

وجعلتموني شريكا لله في وجوب الطاعة ، وأنا بريء من الشرك وممن يشرك ، حتى ولو جعلني لله شريكا في شيء ، أي شيء (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). هذه جملة مستأنفة وليست من كلام الشيطان ، والمراد بها الوعد والوعيد ، ويجوز أن تكون الخاتمة لخطبة إبليس .. ومن الطريف ما جاء في بعض التفاسير من ان إبليس ألقى خطبته هذه على أهل النار من على منبر نصب له .. ولا بد ـ بطبيعة الحال ـ أن يكون قد ألقاها بمكبر عظيم ، لأن المستمعين ، وهم جميع جنوده وأتباعه أكثر من عدد الرمل والحصى والتراب.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ). بعد أن ذكر سبحانه الزائغين وعذابهم ذكر المستقيمين وثوابهم كما هي طريقة القرآن الكريم. ومر نظير هذه الآية في سورة يونس الآية ١٠.

كلمة طيبة وكلمة خبيثة الآية ٢٤ ـ ٢٧ :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

اللغة :

قيل : المراد بالكلمة الطيبة كلمة التوحيد والايمان ، وبالكلمة الخبيثة كلمة

٤٤٢

الكفر والإلحاد. والصحيح ان المراد بالأولى كلمة الحق ، أيّ حق ، وبالثانية الباطل أي باطل. وثابت راسخ. وفي السماء كناية عن علو الشجرة وارتفاع فروعها وأغصانها. واجتثت اقتلعت واستؤصلت. والقرار الاستقرار.

الإعراب :

كيف مفعول مقدم لضرب ، وهي هنا بمعنى جعل. وكلمة بدل من (مثلا) وطيبة صفة لكلمة. وكشجرة صفة ثانية. وأصلها ثابت مبتدأ وخبر ، والجملة صفة أيضا لكلمة. وجملة تؤتي أكلها صفة لشجرة. وكل حين نصب على انها ظرف زمان ، لأن (حين) ظرف فأعطيت حكمه. ولها خبر مقدم ، ومن زائدة اعرابا ، وقرار مبتدأ مؤخر.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ). قيل : المراد بالكلمة الطيبة هنا كلمة التوحيد : «لا إله الا الله» .. وليس من شك ان التوحيد مصدر الحق ومعدنه ، ومن التوحيد والإخلاص لله وحده أن نفسر الكلمة الطيبة بكل كلمة تنفع الناس ، وتعود عليهم بالخير والصلاح ، ولو بجهة من الجهات ، سواء أكانت الكلمة للدين والشرع ، أم للعلم والفلسفة ، أم للأدب والفن .. فأي انسان انتفع الناس بقوله أو بعمله فهو يلتقي من هذه الجهة مع مبادئ الإسلام والدين أيا كان ويكون .. وأفضل الكلمات والأقوال هي كلمة الثورة ، والصرخة الغاضبة في وجوه حكام الجور ، ومن آزرهم من المأجورين والرجعيين لأنهم أصل الداء ، ومصدر البلاء ، قال الإمام علي (ع) :

«وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الا كنفثة في بحر لجي ، وان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ، ولا ينقصان من رزق ، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر» لأنه المصدر الأول لكل منكر ، فمن جاهده وأنكر عليه فقد جاهد الآثام

٤٤٣

كلها مجتمعة في شخص هذا الحاكم الغاشم .. وفي معنى كلمة الإمام علي هذه أحاديث عن الرسول الأعظم (ص). وكل ما عند علي أمير المؤمنين فهو شعاع من شمس محمد سيد الخلق أجمعين.

ولا شيء أدل على ان المراد بالكلمة الطيبة الكلمة المفيدة النافعة من تشبيهها بالشجرة الطيبة التي (أَصْلُها ثابِتٌ) لا تزعزعه الأعاصير ، ولا تقوى عليه المعاول (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) بعيد عن أوباء الأرض وأقذارها (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) فلا تجود آنا ، وتبخل آنا ، كالتاجر يعطيك ان دفعت ، ويمسك ان أمسكت ، بل هي تعطي أبدا ودائما (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فيشبه المعنى الغامض بالمعنى الواضح ليفهم الناس ، كل الناس طريق الهدى فيتبعوه ، وطريق الضلال فيجتنبوه.

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ). كل كلمة تضر الناس ولا تنفعهم فهي خبيثة لعينة ، سواء أكانت من مسلم ، أم من غير مسلم عظيم أم حقير ، بل ان سكوت الكبير عن مقاومة الباطل ، ومناصرة الحق يعد من أعظم الجرائم ، وفي الحديث : الساكت عن الحق شيطان أخرس ، وكتب غاندي الى طاغور : «انك شاعر عظيم ، ولكنك تلعب والبيت يحترق .. ان الأغنية الجميلة لا تشبع جائعا ، ولا تشفي مريضا». (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ). هذا أصدق مثل للباطل وأهله الذين يتعالون ويتعاظمون ، ويخيل للجاهل انهم شيء ضخم ، وما هم الا كشجرة بلا أصول وجذور ، فسرعان ما يصبح عاليها سافلها إذا هبت الريح.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ). ليس المراد بالمؤمنين من قال : آمنت بالله ورسوله واليوم الآخر ، ثم لم يقم حقا أو يدفع باطلا ، بل المراد بالمؤمنين هنا من عناهم الله بقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ـ ١٥ الحجرات». آمنوا وأعربوا عن ايمانهم بالجهاد والفداء. أما إذا ادعوا الايمان بالله ، ولم يقاوموا الظلم والفساد بجرأة وشجاعة فهم مرتابون لا مؤمنون.

٤٤٤

ومعنى تثبيتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ان الله سبحانه قد أخبرهم في كتابه وعلى لسان نبيه انهم في رعايته وعنايته ، وانه هو كفيلهم ووليهم وحافظهم وناصرهم ، كما شجعهم وأثنى عليهم بالصدق والإخلاص ، وما اليهما من الفضائل ، أما تثبيته لهم في الآخرة بالقول الثابت فهو قوله عز من قائل لهم يوم القيامة : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ـ ٦٨ الزخرف».

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) بكفرهم وكذبهم وطغيانهم .. والقرآن الكريم يستعمل الظلم كثيرا بمعنى الكفر والشرك ، ولكن المراد بالظلم هنا من ظلم نفسه بالكفر ، وظلم غيره بالعدوان والافتراء ، كما ان المراد بالإضلال هنا العذاب ، تماما كقوله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) ـ ٣٤ غافر». (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من ثواب الصالحين وعقاب الفاسدين ، ولا راد لمشيئته.

قرأت ، وأنا بصدد تفسير هذه الآية كلمة في جريدة «الأهرام» المصرية عدد ٢١ شباط ١٩٦٩ بعنوان «هل تشهد الانسانية نهاية حرب الذرة وبداية حرب الجراثيم» ، جاء فيها : «لقد ظهر في الأفق سلاح جديد أشد خطرا ، وأكثر قسوة من الأسلحة النووية ، وهو سلاح الجراثيم ، ونشر الأوبئة ، وان من آثار هذا السلاح انه إذا مس الإنسان ذرة منه تقلصت عضلاته ، وبرزت عيناه ، ومات في الحال ، وان لدى أمريكا وبريطانيا معامل ومصانع تنتج هذا السلاح ، وتعدانه الى وقت الحاجة ، فإذا ما اتفقت الدول على حظر انتشار الأسلحة النووية بسبب الضغط العالمي استعملت الدولتان أوبئة الفناء والدمار كبديل عن القنابل الذرية والهيدر وجينية» .. فهل يجتمع الايمان بالله مع النية والعزم على استعمال هذا السلاح؟. وهل صلاة الذين يؤازرون أصحاب هذه النية والعزم تجديهم نفعا عند الله؟.

بدلوا نعمة الله كفرا الآية ٢٨ ـ ٣١ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ

٤٤٥

قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

اللغة :

البوار الهلاك. ويصلونها يقاسون حرها. والمراد بالبيع هنا الفدية ، وبالخلال الصداقة.

الإعراب :

كفرا مفعول ثان لبدلوا. وجهنم بدل من دار البوار. وتمتعوا مجزوم بجواب الطلب ، وهو قل. ويقيموا الصلاة مجزوم بلام محذوفة أي ليقيموا. وسرا قائم مقام المفعول المطلق أي إنفاقا سرا وعلانية معطوف عليه ، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع الحال ، أي مسرين ومعلنين.

المعنى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ). ضمير أحلوا يعود الى قادة الكفر والضلال ، والمراد بنعمة الله الايمان والهداية ، والمعنى ألا تعجب يا محمد ، أو أيها السامع والقارئ من حال قادة الكفر والضلال الذين اختاروا الضلالة على الهدى ، والجحيم على النعيم ، فحلوا فيها هم ومن اتبعهم ، وكانوا لها حطبا. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) ـ ١٥ البقرة».

٤٤٦

ونقل الطبري في تفسير هذه الآية ان عمر بن الخطاب قال : «الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار هما الأفجران من قريش : بنو المغيرة ، وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية ، فمتعوا الى حين».

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ). جعلوا لله شركاء يحبونهم كحبه ، ويعبدونهم كعبادته .. ومن الواضح انهم فعلوا ذلك بقصد ان يهتدوا لا ان يضلوا عن سواء السبيل ، ومن أجل هذا تكون اللام في ليضلوا لام النتيجة والعاقبة ، ويكون المعنى ان المشركين عبدوا الأصنام بقصد ان يهتدوا بها ، وتقربهم من الله زلفى ، فكانت النتيجة الضلال والهلاك والبعد عن الله ورحمته ، فاللام هنا تماما كاللام في : لدوا للموت وابنوا للخراب (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ). أمر الله نبيه ان يحذر المشركين من سوء العاقبة والمصير ، ويقول لهم : ان متاع الدنيا قليل وان راق لكم ، والآخرة خير لمن اتقى .. ولكن .. هل تجدي لغة الحق والواقع مع الذين لا تحركهم الا الأرباح والمكاسب!

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) التي تذكر المصلي بالله وتحذره من العذاب والعقاب ، وتخلق فيه وازعا ورادعا عن المآثم والجرائم ، ان كان حقا من المؤمنين الصالحين (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً). الزكاة أخت الصلاة ، هذه تذكر المصلي بالله ، وتلك تقربه عند الله زلفى ، ومر نظيره في الآية ٢٧٤ من سورة البقرة ج ١ ص ٤٢٥ (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ). والبيع هنا كناية عن الفدية ، والخلال الصداقة ، والمعنى ان من أنفق من ماله في سبيل الله انتفع بهذا الإنفاق في اليوم الآخر ، ومن بخل به كان عليه حسرة وعذابا ، ولا يجديه شيء في ذلك اليوم حيث لا فدية ولا صداقة ، ومر نظيره في الآية ١٨ من سورة الرعد.

وأنزل من السماء ماء الآية ٣٢ ـ ٣٤ :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ

٤٤٧

مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

اللغة :

دائبين أي دائمين ، يقال : فلان دأب في العمل إذا استمر فيه. والكفار شديد الكفران والجحود للنعم.

الإعراب :

رزقا مفعول أخرج ، ومن الثمرات حال مقدم ، وصاحب الحال الرزق. ودائبين حال من الشمس والقمر. والمفعول الثاني لآتاكم محذوف أي آتاكم شيئا من كل ما سألتموه.

المعنى :

كل ما جاء في هذه الآيات الثلاث قد مر ذكره ، فخلق السموات والأرض ذكر في الآية ٧٣ من سورة الأنعام وغيرها ، وانزال الماء من السماء ذكر في الآية ٢٢ من سورة البقرة ، والآية ١٨ من سورة الرعد ، وجريان الفلك جاء في الآية ١٦٤ من سورة البقرة ، وتسخير الشمس والقمر في الآية ٢ من سورة الرعد ، والليل والنهار في الآية ٦٧ من سورة يونس .. وقد عدّد سبحانه الكثير من نعمه على عباده في الآية ٣ و ٤ من سورة الرعد ، والآية ١٤٣ و ١٤٤ من سورة الأنعام

٤٤٨

وغيرها فيما سبق مرارا مع الشرح والتفسير ، وأعاد سبحانه ذكرها أو ذكر طرف منها هنا لمناسبة الاشارة في الآية الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا. ويتلخص معنى هذه الآيات الثلاث بأن نعم الله وآلاءه لا تعد ولا تحصى ، منها خلق السموات والأرض ، وانزال الماء ، وتسخير الفلك والشمس والقمر والليل والنهار ، والإفضال على الناس بشيء مما سألوه ، وما لم يسألوه ومع ذلك يكفر الكثير منهم أو أكثرهم بأنعمه ، ويعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم.

هل الإنسان مجرم بطبعه؟

وبمناسبة قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) نشير الى ان علماء النفس اختلفوا في الإنسان : هل هو مجرم بطبعه ، وانه ولد ليعتدي على من لم يعتد عليه ، ويكفر بأنعم من أحسن اليه؟ .. وفي سنة ١٨٣٢ اجتمع في امريكا ٥٢٨ عالما من علماء النفس ، وناقشوا هذه القضية ، فذهب أكثرهم الى انه لا دليل على ان الإنسان لا مفر له من ارتكاب الجرائم. وخالف في ذلك جماعة منهم.

أما نحن فإنا نؤمن بأن الإنسان لم يولد مجرما ، والا سقط عنه التكليف ، وكان حسابه وعقابه ظلما وجورا ، والأديان والشرائع لغوا وعبثا ، حيث يكون ، والحال هذه ، كريشة في مهب الريح .. وانما يصير الإنسان مجرما بالعوامل الخارجية كالجوع الذي يحوله الى لص ، والمغريات التي تدفع به الى الخيانة والعمالة ، وما الى ذلك .. وهنا يقع التفاوت بين أفراد الناس في أنفسهم ، فبعض النفوس تضعف أمام المغريات ، وتتغلب عليها الشهوات ، كمن يملك الطعام ، ومع ذلك يطلب المزيد منه بكل وسيلة ، أو يزني وله زوجة تغنيه عن الحرام ، أو يكتم الحق أو يجحد النعم حرصا على جاه أو أية منفعة من متاع الدنيا ، وليس من شك ان هذا قد أذنب وأجرم بإرادته ، لا بطبيعته ، وهو المقصود بقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). ومن الواضح ان مجرد الميل الى الحرام لا يجعله حلالا ، ما دامت الفرصة سانحة للصبر والتغلب على هذا الميل. وتقدم ما يتصل بهذا البحث عند تفسير الآية ٩ من هود.

٤٤٩

رب اجعل هذا البلد آمنا الآية ٣٥ ـ ٤١ :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

الإعراب :

البلد عطف بيان من هذا. وآمنا مفعول ثان لأجعل. والمصدر من أن نعبد مجرور بعن محذوفة. ومن ذريتي (من) للتبعيض أي بعض ذريتي. وعند بيتك متعلق بمحذوف صفة لواد. وليقيموا الصلاة اللام للتعليل ، ويقيموا منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر مجرور بها متعلقا بأسكنت. على الكبر حال من الياء في (لي). ومن ذريتي عطف على الياء في اجعلني أي واجعل من ذريتي مقيم الصلاة.

٤٥٠

المعنى :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً). ابراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت في مكة المكرمة : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) ـ ١٢٧ البقرة». ودعا ابراهيم ربه ان يجعل الناس آمنين في مكة على أنفسهم ، واستجاب دعوته ، وكان الاعداء وما زالوا يتلاقون فيها ، ولا يخاف بعضهم بعضا ، والى هذا أشار سبحانه بقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) ـ ٦٧ العنكبوت».

(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ). ومحال ان يعبد ابراهيم الأصنام ، وكيف وقد حطمها بيده ، وقال لقومه : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) ـ ٦٧ الأنبياء». ولكن رسل الله وأنبياءه ـ على عصمتهم ـ يخافون المعصية. وهذا الخوف من أعظم الطاعات ، ومن رأى نفسه تقيا نقيا فقد فتح النوافذ فيها للشيطان.

الأنبياء واستجابة الدعاء :

وتسأل : ان ابراهيم طلب من الله ان يجعل أبناءه مؤمنين ، لا يشرك واحد منهم بالله ، وابراهيم نبي مرسل مستجاب الدعوة ، مع العلم بأن الكثير من ذريته قد أشركوا وعبدوا الأصنام ، ومنهم كفار قريش الذين هم من نسله وسلالته؟.

ونقل الرازي عن المفسرين خمسة أجوبة ، ولكن السؤال ما زال قائما يطلب الجواب عنه .. والذي نراه ان حقيقة الدعاء ما هي إلا طلب ورجاء ، سواء أكان من نبي أم غير نبي ، وقد تستدعي حكمته تعالى الاستجابة فيستجيب ، أو الرفض فيرفض ، وليس معنى عدم الاستجابة ان الداعي لا وزن له عند الله كي يضر ذلك بمقام النبوة ، وعصمة الأنبياء على فرض عدم الاستجابة لدعائهم .. كلا ، فإن رفض السؤال بمجرده لا ينبئ عن غضب المسئول على السائل ، بل قد يدل على حبه له ، وحرصه على مصلحته ، فلقد طلب نوح (ع) من الله نجاة ولده من الغرق ، فأجابه المولى بقوله : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ـ ٤٦ هود».

٤٥١

وبكلام آخر ان دعاء النبي لا يعبر إلا عن حبه ورغبته ، وليس من شك ان الأنبياء يحبون ويرغبون في ايمان الناس جميعا وهدايتهم الى الحق ، ومع ذلك قال الله لسيد المرسلين الأعظم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ـ ٥٦ القصص». ولو تحقق كل ما يرغب فيه الأنبياء لما وجد على ظهرها كافر ولا مجرم ، ولما قاسى رسل الله من الكفار والفجار ما قاسوه ، وبالخصوص سيدهم وخاتمهم الذي قال : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت.

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ). ضمير انهن يعود الى الأصنام ، والمعنى ان كثيرا من الناس ضلوا بسبب عبادة الأصنام ، تماما كما تقول : المال أطغى فلانا أي انه طغى بسببه (فَمَنْ تَبِعَنِي) من ذريتي (فَإِنَّهُ مِنِّي) نسبا ودينا (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). من عصى ابراهيم (ع) فهو بريء منه ، حتى ولو كان أقرب الناس اليه ، لأن من عصاه فقد عصى الله ، ولكن ابراهيم حليم اوّاه كما وصفه الذي اختاره خليلا واصطفاه. ومن أجل ذلك لم يطلب العذاب للعصاة من ذريته وغير ذريته ، بل ترك أمرهم لله ومغفرته ورحمته .. ومن الواضح ان العقل لا يمنع من العفو عن المشركين ، لأن العذاب على الشرك حق لله ، ان شاء عذب ، وان شاء عفا ، ولا ضرر بالعفو على أحد. أما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فهو دليل سمعي ، ونحن نتكلم عن حكم العقل. أنظر تفسيرنا لهذه الآية في ج ٧ ص ٣٤٢.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ). قال ابراهيم (ع) هذا حين ترك إسماعيل وأمه هاجر بمكة ، وهي واد مقفر لا ماء فيه ولا كلأ ، ولا شيء الا بيت الله تقام فيه الصلوات ، وتردد التلبيات ، ولهذه الغاية أسكن ابراهيم بعض أهله وذريته في هذا المكان المقفر المجدب .. ولكن الإنسان لا يحيا بالصلاة وحدها ، بل لا بد له من الخبز أيضا ، ولذا قال ابراهيم : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). وإذا لم يكن عند بيت الله زرع ولا ضرع فلتتوافد الناس عليه للعبادة أو التجارة ، ومعهم الخبز والفاكهة ، وعندها تأكل ذرية ابراهيم ويصلّون ويشكرون. قال موسى (ع) : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)

٤٥٢

ـ ٢٤ القصص». قال الإمام علي (ع) : «والله ما سأله الا خبزا يأكله».

وقال شاعر فقيه :

الفضل للخبز الذي لولاه

ما كان يوما يعبد الإله

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ). بعد أن سأل ابراهيم الله أن يتوافد الناس الى بيته يحملون لأهله الخبز والفاكهة ليعبدوا الله حق عبادته بقوة ونشاط ، بعد هذا قال لله : ما سؤالي وطلبي الا تضرعا لك وخشوعا ، والا اعترافا بأنك الخالق الرازق ، أما حاجتنا ومصالحنا فأنت أعلم بها منا ، سألناها منك ، أو لم نسأل .. فقول ابراهيم : ما نعلن معناه ما نسأل ونطلب ، ومعنى ما نخفي ما لم نسأل ونطلب.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ). هذا الحمد من ابراهيم يتضمن طلب العون من الله لولديه إسماعيل واسحق ، لأن ابراهيم قد تقدمت به السن ودنا أجله ، فأوكل أمر أهله الى رعاية الله وعنايته ، ولم يبن لهم الدور ، ويكنز مال الله ، ويحرمه عيال الله حرصا على رفاهية ذويه وأبنائه.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ). الصلاة التي عناها ابراهيم ليست من نوع هذه الصلاة التي نصلّيها نحن ، بل من نوع التي عناها الله بقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ـ ٤٥ العنكبوت». ومن هنا قسّم الفقهاء الصلاة الى قسمين : صلاة يؤدى بها الواجب فقط ، وصاحبها غير مأجور. وصلاة يؤدى بها الواجب ، وصاحبها مأجور عند الله ، وهي التي تثمر الإخلاص في العمل ، والصدق في معاملة الناس.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ). عند تفسير الآية ٧٤ من سورة الأنعام ج ٣ ص ٢١٢ ذكرنا اختلاف السنة والشيعة في ايمان أبي ابراهيم الخليل (ع) ، ومما قلناه : ان هذا النزاع في هذه القضية وأمثالها نزاع عقيم ، وان المطلوب من المسلم هو الاعتقاد بعصمة الأنبياء ، أما الايمان بأن آباءهم كانوا مؤمنين فليس من عقيدة الإسلام في شيء ، ولو قال قائل : أنا أومن بالله ووحدانيته

٤٥٣

وبالأنبياء وعصمتهم ، وبالبعث والحساب ، ولا أثبت ولا أنفي الايمان عن آباء الأنبياء ، لو قال هذا أي قائل نقول له : أنت مسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم.

الظالم غافل غير مغفول عنه الآية ٤٢ ـ ٤٥ :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))

اللغة :

شخص الشيء أي ارتفع ، وتشخص الأبصار تحد النظر ، ولا تغمض لهول ما ترى. وهطع أقبل مسرعا خائفا ، ومهطعين مسرعين الى الداعي. ومقنعي رؤوسهم جمع مقنع بضم الميم وكسر النون ، وهو الذي يرفع رأسه كثيرا من الهول. ولا يرتد اليهم طرفهم أي لا يطرفون بعيونهم من الخوف والحذر. والهواء في قوله : وافئدتهم هواء ، كناية عن ان أفئدتهم ليست بشيء. والزوال الانتقال.

الإعراب :

ليوم على حذف مضاف أي يؤخرهم لجزاء يوم أو عذاب يوم. ومهطعين

٤٥٤

حال من ضمير يؤخرهم ، ومثله مقنعي رؤوسهم ، وكذا جملة لا يرتد. والناس مفعول أول لأنذر ويوم مفعول ثان على حذف مضاف أي عذاب يوم ، ولا يجوز ان يكون يوم هنا ظرفا لأن الانذار لا يكون في يوم القيامة. ونجب مجزوم بجواب الطلب ، وهو أخرنا. وفاعل تبين محذوف أي تبين حالهم لكم. وكيف مفعول فعلنا بهم. وقال النحاة : ان كيف لا تكون إلا مفعولا أو حالا أو خبرا.

المعنى :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ). الظلم أنواع : فالكفر والشرك بالله ظلم ، والاعتداء على حق من حقوق الناس ظلم ، سواء أكان الحق ماديا أم أدبيا ، أيا كان المعتدى عليه بخاصة إذا كان ضعيفا ، لأن ظلم الضعيف أفحش الظلم ، ومن أعان ظالما أو رضي بفعله أو سكت عنه ، مع القدرة عليه أو على التشهير به فهو شريك له ، ومن أجل هذا لا يغفل سبحانه عما يعمل الظالمون.

وتكلمنا عن الظلم عند تفسير الآية ١٤٨ من سورة النساء ج ٢ ص ٤٧٩ ، ونعطف على ما قلناه هناك : ان الله سبحانه ما أرسل الرسل ، ولا أنزل الكتب إلا لمحاربة الظلم والظالمين .. وقد وصف الله نفسه في كتابه العزيز بأنه ذو انتقام ولولا الظلم لما كان لهذا الوصف عين ولا أثر ، ومهما امتد أمد الظالم فان الله سينتقم منه بأشد وأعظم ، قال الإمام (ع) : «سينتقم الله ممن ظلم مأكلا بمأكل ومشربا بمشرب» فمن ظلم إنسانا بكلمة واحدة كان جزاؤه مقامع من حديد ، فكيف بمن حول الأرض إلى جحيم ، وأقام في كل جزء منها قاعدة للموت ، ومخزنا لأسلحة الفناء والدمار؟.

(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ). أبصارهم شاخصة لا تغمض ولا تطرف من الدهشة والذهول .. ويسرعون في مشيهم ولا يلوون على شيء تلبية لدعوة الداعي ، رافعين رؤوسهم إلى السماء لا يرى واحدهم موطئ قدمه من الدهشة والذهول ، أما قلوبهم فهواء وخواء ، قد اذهب الرعب كل ما فيها من شعور وادراك .. وهكذا تجزى كل نفس بما كسبت.

٤٥٥

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ). أرسل الله أنبياءه ورسله الى عباده مبشرين بثواب الله ، ومنذرين من عقابه ، وكان المجال أمامهم فسيحا وعريضا حين التبشير والانذار ، ولكن أبى أكثر الناس الا نفورا ، وقالوا لرسلهم : أموت ثم بعث ثم نشر؟. ان هذا الا أساطير الأولين .. حتى إذا وقفوا بين يدي الله وانكشف لهم الغطاء قالوا : ربنا أمهلنا بعض الوقت ، فنسمع ونطيع لك ولرسلك .. قالوا هذا حين فات الأوان.

وقد أمر الله نبيه محمدا (ص) ان ينذر المكذبين ، ويحذرهم من هذا اليوم الذي لا اقالة فيه ولا رجعة قبل ان يصلوا اليه ، وان يخبرهم بمآلهم لو أصروا على العناد ، وانهم سيقولون لله : أخّرنا قليلا لنستجيب لدعوة الرسل ، وقد أدى النبي رسالة ربه ، فأخبر وحذر ، ولكن غلبت عليهم المطامع والمنافع ، فكانوا من القوم الخاسرين.

(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ). هذا الكلام بكامله يخاطب الله به غدا المكذبين الذين يقولون لله : أعدنا ثانية الى الدنيا لنتبع الرسل ، ومحصل ما يجيبهم به ، عظمت كلمته ، انه يسألهم سؤال توبيخ وتقريع : ألم تقسموا وأنتم في الحياة الدنيا انه لا انتقال من دار الدنيا الى دار الآخرة ، وانه لا جنة ولا نار .. يشير بهذا سبحانه الى ما حكاه عنهم في الآية ٣٨ من النحل : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ). وبعد هذا السؤال أو التوبيخ يقول سبحانه للمكذبين أيضا : لقد علمتم حال من كان قبلكم ، كيف أهلكناهم لما عتوا ، وأسكنّاكم مساكنهم ، وحذرناكم أن تفعلوا فعلهم ، وضربنا لكم بهم الأمثال ، فلم تتعظوا ، وتعتبروا .. والآن حيث لا رجعة ولا تأير تقولون : أخرنا قليلا! .. فأي منطق هذا؟ .. وهل أرسل الله إليكم من قبل رسل لعب وهزل ، حتى يعيدكم ثانية ، ويرسل إليكم رسل حق وجد؟ ..

٤٥٦

وقد مكروا مكرهم الآية ٤٦ ـ ٥٢ :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

اللغة :

برزوا ظهروا. ومقرنين مشدودين. والأصفاد جمع صفد ، وهو القيد. وسرابيل جمع سربال ، وهو القميص. والقطران نوع من الدهن تدهن به الإبل إذا جربت ، وللنار فيه اشتعال شديد. وتغشى وجوههم النار تعلوها وتغطيها ، والبلاغ الكفاية ، ومنه البلاغة ، وهي البيان الكافي.

الإعراب :

وعند الله مكرهم مبتدأ وخبر على حذف مضاف أي علم مكرهم. وان كان مكرهم نقل البيضاوي عن الكسائي انّ (ان) مخففة من الثقيلة ومهملة وجاءت اللام بعدها في لتزول لتفصل بين ان النافية وان المخففة. ومخلف وعده رسله ،

٤٥٧

مخلف مفعول ثان لتحسبن ، وفي الوقت نفسه يحتاج (مُخْلِفَ) الى مفعولين لأنه اسم فاعل بمعنى أخلف ، وقد أضيف الى المفعول الثاني ، وهو وعده ، ومفعوله الأول رسله ، والأصل مخلف رسله وعده ، ومثله هذا معطي درهم زيدا ، والأصل هذا معطي زيد درهما. يوم تبدّل (يوم) مفعول لفعل محذوف أي اذكر يوم تبدّل. والأرض مفعول أول نائب عن الفاعل ، وغير مفعول ثان لأن تبدّل هنا بمعنى تجعل ، والسموات بالرفع عطف على الأرض الأولى ، وغير السموات محذوفة لدلالة ما قبلها عليها. ومقرنين حال من المجرمين لأن ترى هنا بصرية ، وليست قلبية لتتعدى الى مفعولين.

المعنى :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). ما أرسل الله سبحانه رسولا الى قومه الا مكر به وتآمر عليه أهل الفساد والضلال من عهد نوح الى عهد محمد (ص) : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ـ ١١٢ الأنعام» ، ولا تنحصر أسباب العداء بالتضاد بين الايمان والإلحاد ، وبين الشرك والتوحيد .. كلا ، فإن هذا العداء مظهر لمعنى كلي ومبدأ عام ، وهو العداء بين دعوة الحق وأهل الباطل في كل زمان ومكان .. وبالتعبير الشائع في هذا العصر : العداء والتناقض بين الثورة والثورة المضادة .. وأيا كان سبب المكر والتآمر ، ومهما بلغ من القوة والشدة ، حتى ولو أزاح الجبال الرواسي من مواضعها فإن الله عليم به ويجزي أهله بما يستحقون.

ونشير بهذه المناسبة الى ان كثيرا من الرجال ينعتون النساء بالكيد والمكر ، ويستشهدون بالآية ٢٨ من سورة يوسف : «ان كيدكن عظيم» .. وللنساء ان يجبن الرجال بأن مكرهم لتزول منه الجبال ويستشهدن بهذه الآية .. هذا ، الى ان وصف النساء بالكيد جاء في القرآن الكريم على لسان عزيز مصر ، أما وصف الرجال بالمكر الذي يزيل الجبال فقد جاء على لسان الله بالذات. ومن الطريف ان بعض الرجال يستدل على مكر النساء وشدته بالآية التي نزلت في حق الرجال ،

٤٥٨

ويحرّف لفظها بوضع (هن) مكان (هم) جهلا وتسرعا ، ويتلو الآية هكذا : ان مكرهن لتزول منه الجبال.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بنصرة الحق وأهله ، وخذلان الباطل وأنصاره ، ويشير سبحانه بوعده الرسل الى قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ـ ٢١ المجادلة». (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) ينتقم لأولياء الحق من أولياء الباطل (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) غير السموات ، وذلك بأن تتحول الأرض الى غبار منتشر كما في الآية ٦ من سورة الواقعة : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا). أما كواكب السماء فإنها تتساقط وتتناثر كما جاء في سورة القيامة والتكوير والانفطار.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). على المكشوف لا باب ولا ثياب ، ومما جاء في أرض المحشر وصفاتها : انها بيضاء قاع صفصف ، لا أشجار فيها ولا جبال ولا أودية ، أرض بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم ، ولم ترتكب فيها خطيئة ، وتصبح السماء كالمهل ـ أي عكر الزيت ـ وتذهب شمسها وقمرها ونجومها ، وتصير الجبال كالعهن ـ أي الصوف المنفوش ـ.

جهنم والأسلحة الجهنمية :

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ). ذكر الله سبحانه في كتابه صورا لعذاب أهل النار ، قراءتها تبعث الرعب في القلوب والنفوس ، والقشعريرة في الجلود والأعصاب ، فكيف بمن يذوق ويختبر .. ومن هذه الصور حشر المجرمين مكبلين بالقيود ، يلبسون ثيابا من مادة شديدة الالتهاب ، وعلى وجوههم غطاء وغشاء من نار ، أما طعامهم فمن شجر الزقوم ، وشرابهم من ماء الصديد ، هذا وهم في جحيم لا يبقي ولا يذر ، ويرمي بشرر كالقصور والجبال.

وتسأل : ألا يتنافى هذا النوع من العذاب مع حلم الله ورحمته ، وجوده ورأفته؟. ألا يكفي لجزاء هذا الإنسان الضعيف بجلده ولحمه ودمه بعض هذا الجحيم الأليم؟. وأجاب بعضهم عن هذا السؤال بأن ما ذكره سبحانه من أنواع العذاب

٤٥٩

وصوره ليس على وجه الحقيقة ، وانما أراد به تخويف الناس وردعهم عن الجرائم. ولو ان هذا المجيب رجع الى القرآن الكريم لوجد ان الله سبحانه قد سبق في علمه ان الكثير من عباده سوف يمر بخاطرهم هذا السؤال فأجاب عنه سلفا ، وبيّن الحقيقة في العديد من آياته ، منها ما ذكره هنا بعد ذكر القيود وسرابيل القطران بلا فاصل ، وهو قوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ). ومنها (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ١٤٦ الأعراف». وقوله : «لا يظلمون فتيلا .. وما ربك بظلام للعبيد». ومنها : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ـ ١٦٠ الأنعام» : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) ـ ٢٧ يونس». ومنها : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ـ ١٩٤ البقرة».

ومعنى هذه الآيات بمجموعها ان الجرائم والسيئات على أنواع : منها الصغيرة الحقيرة ، ومنها الكبيرة الخطيرة ، وانه تعالى قد أعد لكل جريمة عقوبتها على أساس الحق والعدل ، لا تزيد ، وقد تخفف حسبما تستدعيه حكمته البالغة ، وقوله تعالى : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) صريح في ذلك ، بل وحصر أيضا.

أجل ، هنا سؤال ينبغي أن يسأله كل عاقل ، وهو : من الذي يستحق هذا النوع من العذاب الشديد الأليم؟. وهل هناك جريمة تستوجب كل هذا النكال العظيم الدائم الذي له أول وليس له آخر ، كما قال تعالى : (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ـ ٣٦ فاطر».

الجواب : نعم ، ان في الناس مجرمين يستحقون هذا النوع من العذاب الأليم وأكثر منه أيضا .. ومن هؤلاء الذين يحاربون الحق أو يكتمونه وهم يعلمون ، سواء أكان هذا الحق لله أم للناس .. وأعظم منهم جرما تجار الحروب الذين أعدوا لسفك الدماء وتدمير الحياة الأسلحة الجهنمية ، كالقنابل الذرية والهيدر وجينية والمواد السامة التي تقتل المئات بل والملايين في دقائق معدودات. ان أية عقوبة يعاقب بها السفاحون فهي دون ما يستحقون .. وليست السلاسل والأصفاد وسرابيل النيران بشيء في جانب تدمير البلاد وتشريد العباد وتشويههم وتقتيلهم بمئات الألوف .. ثم هل الشرر المتطاير من جهنم أسوأ أثرا من القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما مع العلم بأن نسبتها من حيث الأثر الى ما يملكه السفاحون الآن من القنابل كنسبة

٤٦٠