التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

سورة ابراهيم

مكية ، وعدد آياتها ٥٢ ، وقيل : منها آيتان مدنيتان.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الدين نور الآية ١ ـ ٤ :

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

اللغة :

العزيز الغالب. والحميد المحمود .. والويل الهلاك. ويستحبون يختارون ويؤثرون. وبلسان قومه بلغتهم.

٤٢١

الإعراب :

كتاب خبر لمبتدأ محذوف أي هذا كتاب. وجملة أنزلناه صفة لكتاب. والى صراط العزيز بدل من قوله الى النور باعادة حرف الجر. والله الذي (الله) بدل من العزيز ، والذي له ما في السموات الخ. صفة لله أي مالك السموات والأرض وما فيهما. وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر ، والجملة صلة الموصول. وويل مبتدأ ، وللكافرين خبر. والذين يستحبون عطف بيان من الكافرين أو صفة أي المستحبين. وعوجا مصدر في موضع الحال أي معوجين ضالين. ويجوز أن يكون عوجا مفعولا به إذا قدرت ويبغون لها العوج. فيضل بالرفع ، ولا يجوز النصب بالعطف على ليبين ، حيث يصير المعنى ان الله أرسل الرسول ليضل.

المعنى :

(الر) تقدم نظيره في أول سورة البقرة. (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). المراد بالكتاب القرآن ، وأنزلناه اليك الخطاب لمحمد (ص) ، وبإذن ربهم أي بأمر الله تعالى ، وتدل الآية بوضوح على ان الهدف الأساسي من إرسال محمد (ص) وانزال القرآن عليه هو ان يجند بدعوته كل طاقات الناس للعمل متكاتفين متضامنين من أجل الانسانية وخيرها واطمئنانها ، لأن إخراج الناس من الظلمات الى النور لا يتم بالدعوات والصلوات ، وانما يكون بالجهاد الجماعي لا الفردي ، وكفاح المنظمات لا الأفراد ، كفاحهم ضد المستغلين والمستثمرين ، وضد الجهل والخرافة ، وضد الأوضاع الفاسدة ، والتقاليد البالية.

وبالفعل آخى محمد (ص) بين أصحابه ، وبث فيهم روح الصفاء والمحبة ، وروح الفداء والتضحية لإعلاء كلمة الله والانسانية ، وجعل منهم ـ وهم الأجلاف الجاهليون ـ رسل خير وعلم وحضارة .. وبهذه المناسبة ننبه الأذهان الى الدجالين والانتهازيين الذين يشجعون الخرافة ، ويناصرون الطغاة باسم الدين .. ان هؤلاء

٤٢٢

من أعدى أعداء الله ورسوله ، لأن الدين نور ، والخرافة ظلمات ، والدين صراط الله الحميد ، والظلم صراط الشيطان الرجيم.

وتسأل : تقول الآية ٣٣ من سورة التوبة : «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون». ومعنى هذا في ظاهره ان الله أرسل محمدا بقصد أن يكون دينه فوق الأديان ، فما هو وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)؟.

الجواب : أولا ان المراد بالدين في قوله : ليظهره على الدين هو الشرك بدليل قوله : ولو كره المشركون. ثانيا : ان الأديان في عهد محمد (ص) كانت كلها ظلمات ، حتى السماوية منها لعبت بها أيدي التحريف. ثالثا : ان إعلاء دين محمد هو إعلاء للحق الذي يعلو ولا يعلى عليه ، ومهما يكن فإن أي مبدأ ينتفع به الناس بجهة من الجهات فانه يلتقي في هذه الجهة مع دين الله ، ودعوة محمد رسول الله (ص).

(اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). تكرر هذا في كتاب الله عشرات المرات ، والقصد التذكير بأن الله هو خالق الكون ، والمسيطر على من فيه وما فيه. ثم ذكر سبحانه جزاء الكافرين ، وطرفا من صفاتهم :

١ ـ (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ). هذا وعد ووعيد للكافر على كفره ، وان جزاءه الهلاك والعذاب الأليم ، قال الرازي : انما خصهم بالويل لأنهم يولون من العذاب ، ويقولون : يا ويلاه.

٢ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ). هذا أول وصف للكافرين وهو انهم يؤثرون الباطل على الحق ، والظلم على العدل ، والفساد على الصلاح .. وكل من كان كذلك فهو كافر ، أو يلتقي مع الكافرين في عمله ، وعليه ما عليهم من اللعنة والعذاب ، وان صلّى وصام ، وحج الى بيت الله الحرام.

٣ ـ (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فيمنعون الناس عن طريق الحق والهداية ، وكانوا بذلك ضالين مضلين ، وفاسدين مفسدين.

٤ ـ (وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ). وعوجا تشير إلى انهم يتوصلون الى غاياتهم بأساليب ملتوية ومحرمة ، كالكذب والغش والمؤامرات والتعاون

٤٢٣

مع الطغاة ، ولا يختص هذا الوصف بالكافرين والمشركين ، فان كثيرا من المسلمين يكذبون ويخونون ويتآمرون مع أعداء الله والوطن على عيال الله ومقدّراتهم .. وهؤلاء شر مكانا من الكافرين وأضل سبيلا. وقوله تعالى : في ضلال بعيد معناه انهم أمعنوا في الضلال والفساد ، حتى بلغوا غايته.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فيفهموا عنه ، وتتحقق الغاية من رسالته ، ولو وجدت لغة انسانية عامة تفهمها جميع القوميات لأرسل بها محمد (ص) لأنه رسول الله الى الناس جميعا في كل زمان ومكان .. وينبغي التنبه الى الفرق بين قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ، وبين القول : ما أرسلنا رسولا الا الى أهل لغته ، فالصيغة الأولى لا تمنع ان يكون الرسول عاما ، ولغته خاصة ، على عكس الصيغة الثانية ، حيث تحصر رسالة الرسول بقومه وحدهم .. انظر تفسير الآية ٢ من سورة يوسف.

(فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). أرسل الله رسله الى عباده لانقاذهم من الجهالة والضلالة ، فمن استمع وأطاع فهو المهتدي ، ومن أعرض وعصى فهو الضال ، فالهداية ـ اذن ـ تقاس بطاعة الله ، والضلال بمعصيته .. ولو ان الله لم يشرع أحكاما ، ولم يرسل رسلا لتبليغها لما كانت الطاعة والمعصية ولا الهدى والضلال ، ولكنه تعالى شرّع وأرسل ، فنتج عن ذلك الطاعة والمعصية والهدى والضلال ، وبهذا الاعتبار صحت نسبة الهدى والضلال اليه جلت حكمته. أنظر ج ١ ص ٧٠ وج ٢ ص ٣٩٩.

ولقد أرسلنا موسى الآية ٥ ـ ٨ :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ

٤٢٤

آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

اللغة :

يسومونكم أي يذيقونكم. ويستحيون نساءكم أي يستبقوهن أحياء للاسترقاق. وتأذن من الأذان وهو الاعلام.

الإعراب :

ان اخرج (ان) مفسرة بمعنى أي. وجملة يسومونكم حال من آل فرعون. وفي ذلكم بلاء مبتدأ وخبر. وإذ تأذن معطوف على إذ أنجاكم. ولئن شكرتم اللام للتوطئة تدخل على الشرط لتدل على ان الجواب له وللشرط معا. لأزيدنكم اللام وما دخلت عليه سادان مسد جواب القسم والشرط.

المعنى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ـ الدالة على نبوته ـ (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). عاد الحديث الى موسى (ع) وبني إسرائيل الذين أقرحوا قلبه ، وأدموا فؤاده ، عاد الحديث اليهم ، وقد تكرر فيما سبق عشرات المرات ، ولا أعرف سرا لتكرار الحديث عنهم أكثر من غيرهم الا انهم قد شذوا عن الناس ،

٤٢٥

كل الناس طبيعة وعملا ، كما أشرت فيما تقدم ، ولا أخفي اني أشعر بعبء ثقيل عند تفسير الآيات التي فيها اسم بني إسرائيل.

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ). وأظهر هذه الأيام ، وأعظمها نعمة عليهم يوم أنجاهم الله من عذاب فرعون وحررهم من الرق والعبودية .. لله من حكم .. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .. صبرا على بلائك أملا بنصرك وآلائك .. ذلك اشارة الى التذكير ، والمراد بالآيات هنا العبر والعظات ، ومن الواضح ان الذي يتعظ ويعتبر هو المؤمن حقا الذي يشكر عند الرخاء ، ويصبر عند البلاء ، مع الجد والاجتهاد في الخلاص مما يعانيه.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ). ذكّر موسى (ع) بني إسرائيل بما صنعه فرعون بهم من الذبح والاسترقاق ، وبنعمة الخلاص من ذلك ، وأمرهم أن يذكروا الله ويشكروه على هذه النعمة .. ولكنهم لم يذكروه ولم يشكروه ، بل كفروا بالله ، وجحدوا نعمته ، وتمردوا عليه وعلى نبيهم موسى ، وقالوا له : أرنا الله جهرة ، وقالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا .. ومروا على قوم يعبدون أصناما لهم ، فقالوا ، يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، ثم عبدوا من دون الله عجلا جسدا له خوار مكافأة لله الذي أنجاهم من عذاب فرعون .. ولما يئس منهم موسى ، وضاق بهم ذرعا توجه الى الله وقال : ربي اني لا أملك الا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين .. فأي عجب بعد هذا إذا تنكر اليهود لنعمة المسلمين عليهم يوم نبذهم العالم ، حيث لا أمريكا ولا انكلترا ولا المانيا الغربية تتخذ منهم سمسارا مخلصا ، وكلبا حارسا للاستعمار والنازية؟. ومر نظير هذه الآية في ج ١ ص ٩٨ الآية ٤٩ من سورة البقرة.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ). المراد بالكفر هنا الكفران ، وهو عقوق المنعم وجحود نعمته ، لأن الحديث عن جحود بني إسرائيل لأنعم الله ، ولأن الشكر يقابله الكفران ، لا الكفر ، وقد ذكرا في آية واحدة. وقال المفسرون أو الكثير منهم : المراد ان الله إذا أنعم

٤٢٦

على عبده بنعمة فشكرها واعترف لله بها أدام الله عليه هذه النعمة وضاعفها ، قالوا هذا أخذا بالقول المشهور : «بالشكر تدوم النعم».

وفي رأينا ان المراد بزيادة النعمة هنا زيادتها في الآخرة ، لا في الدنيا ، لأنه من المؤكد ان المراد بالعذاب الشديد على الكفران عذاب الآخرة ، فيكون الأجر على الشكر كذلك ، وثبت عن رسول الله (ص) انه ساوى في العطاء بين الصالح والطالح ، وقال الإمام علي (ع) : لو كان المال لي لسويت بينهم ، فكيف وانما المال مال الله؟ .. هذا ، الى أنّا نشاهد الأموال تتراكم وتتدفق على الطغاة كلما ازدادوا عتوا وطغيانا .. أجل ، لو كان المراد بالشكر المحافظة على المال وحسن تدبيره واستثماره لكان لقول المفسرين وجه ، ولكنه خلاف الظاهر ، ولا قائل به حتى من المفسرين أنفسهم.

(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ). والحمد لله لا لغيره ، والاستغناء به لا بسواه ، وبدل هذا القول من موسى على حرقته ويأسه من بني إسرائيل وهدايتهم.

ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم الآية ٩ ـ ١٢ :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا

٤٢٧

بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

اللغة :

شك مريب مثل ظل ظليل ، وعجب عجيب وأعجب أي قوي ، وليلة ليلاء ، وليل أليل أي طويل وشديد السواد. والسلطان الحجة والبرهان.

الإعراب :

قوم نوح بدل من قبلكم ، وما بعده معطوف على قوم نوح. وجملة لا يعلمهم إلا الله حال من الذين من بعدهم. وقال كثيرون ، منهم الزمخشري والبيضاوي قالوا : انها معترضة. ولم ندرك وجه الاعتراض لأنه لا يكون إلا بين أمرين يطلب كل منهما الآخر ، ولا شيء من ذلك هنا لأن جملة جاءتهم رسلهم استئناف لا محل لها من الاعراب ، فكأن سائلا يسأل : وما هو نبأ الذين من قبلهم؟. فأجاب : جاءتهم رسلهم الخ. وفي أفواههم قيل : في هنا بمعنى الى ، أي الى أفواههم. أفي الله شك مبتدأ وخبر ، والاستفهام للإنكار ، وفاطر صفة لله. والمصدر المنسبك من ان نأتيكم بسلطان اسم كان ، ولنا خبرها. وما لنا (ما) استفهام في موضع رفع بالابتداء ، ولنا خبر ، والمصدر من ألا نتوكل مجرور بفي محذوفة. وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون حالا أي غير متوكلين.

٤٢٨

المعنى :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ). سياق الكلام يدل على ان هذا خطاب من موسى (ع) لبني إسرائيل ، لا من محمد لمشركي العرب أو غيرهم كما قيل. والمعنى ان موسى قال لبني إسرائيل واعظا محذرا : لقد سمعتم بطوفان نوح ، وبالقواصم والعظائم التي حلت بعاد وثمود ، وكثير غيرهم مما لا يحيط علما بعددهم إلا الله .. فعل سبحانه بهم ذلك لأنهم عصوا الرسل وتمردوا على دعوتهم ، أفلا تعتبرون وتتعظون بالأمم الخالية؟. قال هذا موسى لقومه ، وأكثر من هذا ، ولكن إسرائيل هي هي أولا وآخرا.

(جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ). كل رسول من الله الى عباده لا بد أن يكون مزودا منه تعالى بحجة قاطعة تدل على انه موفد منه اليهم ، أشبه بالسفير يقدم أوراق اعتماده من دولته للدولة التي انتدب سفيرا لديها ، وعلى هذا يكون المراد بالبينات المعجزات الدالة على نبوة الأنبياء ورسالتهم (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) الضمير يعود الى قوم نوح ومن بعدهم ممن تقدم ذكرهم ، ورد اليد الى الفم كناية عن شدة الغيظ والإمعان في الاعراض ، ومثله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ـ ١١٩ آل عمران». (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ). ارتاب المشركون أو أظهروا الارتياب في صدق أنبيائهم ، وكانوا من قبل يعترفون لهم بالصدق والإخلاص .. ولما ذا؟. لا لشيء إلا لأن الأنبياء دعوهم الى التزام الحق والعدل ، وترك الظلم والباطل .. وهذا هو بالذات منطق الانتهازيين قديما وحديثا .. ينكرون اليوم ما اعترفوا به بالأمس وبالعكس ، والسر يكمن في الأرباح والمكاسب ، فهم معها أينما كانت وتكون ..

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)؟. أجل ، انه لأعجب العجب أن يشكوا في موضع الايمان ، ويؤمنوا في موضع الشك .. لقد جحدوا بخالقهم ووحدانيته ، وآمنوا بالأحجار وعبدوها من دون الله ، وهي نحت أيديهم تبول عليها الكلاب والذئاب .. (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). تعالى الله ما أكرمه وأحلمه .. يدعو عباده الى عفوه ورحمته ، ويتولون عنه إلى ما

٤٢٩

يضرهم ولا ينفعهم (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ولا يعجل العقوبة ، بل يمهلكم لتؤوبوا الى الرشد والهداية.

(قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) يدل هذا القول على مدى تفكيرهم ، وانهم يذهبون فيه الى ان الناس العاديين لا يحق لهم أن يتولوا القيادات والمناصب الرفيعة وان بلغوا من الإخلاص والصدق والتضحية أعلى المراتب (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) .. فآباؤهم أعز عليهم من الله ، وتقليدهم على الضلال أحق وأولى من طاعة الله على الهدى ، حتى ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون.

(فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ). لقد أتاهم الرسل بالحجج البالغة ، والمعجزات الدالة على صدقهم ، ولكن المشركين أرادوا معجزات خاصة من النوع الذي أشار اليه سبحانه بقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) ـ ١٢ هود» ، وقوله (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) ـ ٩٠ الأسراء». فهم يطلبون المعجزة ولكن من خلال البطون ، لا من خلال العقول.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). ان الله حكيم ، ولأنه حكيم وعليم فلا يمن برسالته إلا على من هو كفؤ لها يتحلى بالصفات والمؤهلات لحملها وأدائها : (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ـ ١٢٤ الأنعام». (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). انظر تفسير الآية ٣٨ من سورة الرعد ، والآية ٣٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٨٤ ، والآية ١١٨ من سورة البقرة ج ١ ص ١٨٩.

(وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ). ونلخص المعنى ـ على وضوحه وغناه عن التفسير ـ بأن الرسل قالوا للمشركين : نحن نبلّغ عن الله ، وندعو اليه ، ولا نكترث بمن أدبر وتولى ، ولا نبالي بما يصيبنا من أذاكم في هذا السبيل ، لأننا على ثقة من ربنا ، وبينة من أمرنا ، وان دل هذا التساؤل : «وما لنا الا نتوكل على الله»

٤٣٠

ان دل هذا على شيء فإنما يدل على ان الأنبياء لا يرون شيئا في الوجود إلا الله وفي الله وحده.

لنخرجكم من أرضنا الآية ١٣ ـ ١٧ :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

اللغة :

الملة الدين. واستفتحوا طلبوا الفتح والنصر على الأعداء. والجبار إذا وصف به تعالى فمعناه العالي الذي لا يناله شيء ، وإذا وصف به الإنسان فمعناه المتعالي المتكبر ، وقد يطلق على من يصلح الأمور ويجبر كسرها. والعنيد مبالغة المعاند وهو الذي يخالف الحق مع علمه به. والصديد القيح المختلط بالدم. ويسيغه يبتلعه.

الإعراب :

أو لتعودن (أو) بمعنى إلا ان ، مثل قولك : لا أذهب أو تفعل كذا أي الا

٤٣١

ان تفعل كذا. واستفتحوا عطف على فأوحى اليهم ربهم. وما هو بميت (هو) مبتدأ والباء زائدة اعرابا وميت خبر.

المعنى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا). دعا الأنبياء دعوة الحق والعدل بالحكمة والموعظة الحسنة ، ولم يكرهوا أحدا على دينهم وعقيدتهم لأن دعوتهم تقوم على أساس عدم الإكراه في الدين ، وان كانت في طبيعتها ثورة على المعتدين والمستغلين ، ومن هنا أعلن هؤلاء الثورة المضادة على الأنبياء ، وخيّروهم بين النفي والارتداد الى الكفر .. وسبق نظير ذلك في الآية ٨٨ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٦٣.

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) ـ أي وجودي وسطوتي ـ (وَخافَ وَعِيدِ). بعد أن بلغ الأمر بالمشركين الى تهديد الأنبياء بالنفي إذا لم يشركوا مثلهم جاءت ارادته تعالى لتضرب الطواغيت الضربة القاضية ، وتورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) ـ ٢٧ الأحزاب».

أنصاف الحلول :

وتجدر الاشارة بهذه المناسبة الى أمرين :

الأول : انه جل وعلا بعد أن ذكر تطاول أهل البغي والفساد ، وتماديهم في الضلال قال : ان مصيرهم الهلاك والدمار نتيجة لبغيهم وضلالهم ، وان عاقبة المتقين النصر والتمكين في الأرض ، وهذا هو منهج القرآن في ذكر المسببات مع أسبابها ، والنتائج مع مقدماتها ، ولهذه الطريقة فوائدها ، منها الترغيب في الحق وعمل الخير ، والترهيب من الشر والباطل ، ومنها أن يتفاءل الإنسان بحسن العاقبة وانتصار الحق ، حتى ولو أخذ الباطل مأخذه وان لا يستسلم لأهله وان تطاولوا وصالوا وجالوا لأن الكرة ستكون عليهم في النهاية وان طال الأمد. وقد جرى

٤٣٢

على هذه الطريقة الكثير من الخطباء وأصحاب الأقلام ، فإنهم يذكرون اساءة من أساء ، ثم يعقبون عليها واثقين بأن الشر لا يجزى به الا فاعله.

الأمر الثاني : ان الله سبحانه يتدخل بإرادته لنصرة المحقين على شريطة أن لا يرتدوا عن الحق ، ولا يشكّوا فيه ، ولا يساوموا عليه ، ولا يرضوا بأنصاف الحلول ، ويلتمسوا القليل من حقهم بالكثير من باطل أعداء الله وأعدائهم ، وقد دلت التجارب على ان أنصاف الحلول لا يستفيد منها الا من اعتدى وأفسد في الأرض ، وانها أبدا ودائما تأتي في صالح المبطلين ، لأن أي تنازل عن الحق فهو ربح للغاصب المبطل ، وخسران للحق وأهله .. وهنا يكمن السر في صلابة الإمام علي بن أبي طالب في الحق ، ورفضه انصاف الحلول بشتى صورها وأشكالها.

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ). والصديد القيح المختلط بالدم ، وهو هنا كناية عما يصعب شربه وتجرعه لنتنه وقذارته ، أو مرارته وحماوته ، أو لذلك كله ، أما ضمير استفتحوا فقيل : انه يعود الى الرسل. وقيل : الى المشركين. وقيل : اليهما معا. والمعنى يصح على كل الوجوه ، لأن العاقبة كانت كما يجب أن تكون ، نصر المؤمنين ، وخزي الكافرين .. هذا ، الى ان الأنبياء استنصروا الله سبحانه : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) ـ ٣٠ العنكبوت». وقال المشركون يوم بدر : اللهم انصر أعلى الجندين. فأجابهم الله بقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) ـ ١٩ الأنفال».

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) لنتنه وقذارته ، وحرارته ومرارته (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) وهنا مضاف محذوف أي تأتيه أسباب الموت تحيط به من الجهات الست : شماله ويمينه وخلفه وأمامه وفوقه وتحته (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) ولو مات استراح ، وانقطع عنه العذاب ، وقد أراد الله له الدوام والخلود فيه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ـ ٣٦ فاطر».

(وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ). ومما قيل في تفسير الغليظ هنا : ان العذاب

٤٣٣

يتجدد آنا فآنا ، وحالا بعد حال ، وكل حال أشد وأسوأ من سابقتها .. اللهم عفوا ولطفا بمن آمن بك وبجنتك ونارك ، ولا يبرئ نفسه من معصيتك ، ولكنه يطمع في رحمتك.

أعمالكم كرماد الآية ١٨ ـ ٢١ :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

اللغة :

برزوا لله ظهروا له. ومغنون دافعون. ومحيص منجى ومهرب.

الإعراب :

في اعراب مثل الذين كفروا أقوال ، أرجحها عندنا وعند أبي حيان الأندلسي

٤٣٤

ان (مثل) مبتدأ أول وأعمالهم مبتدأ ثان ، وكرماد خبره ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول. وفي يوم متعلق بمحذوف حالا من الريح. وعاصف صفة للريح ، وفاعله محذوف أي عاصف ريحه. وذلك مبتدأ والضلال خبر ، وهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب. من العذاب متعلق بمحذوف حالا من شيء ، وقدم الحال على صاحبه لأن صاحبه نكرة ، ومن شيء (من) زائدة عند أبي البقاء ، لأنها في سياق الاستفهام ، وهو شبيه بالنفي ، وشيء مفعول مغنون لأنه بمعنى تمنعون ، والتقدير هل تمنعون عنا من العذاب شيئا.

المعنى :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ). قال كثير من المفسرين : المراد من الآية ان الكافر لا يثاب على عمل البر ، كالصدقة ونحوها .. وفي رأينا ان كل من فعل الخير بدافع انساني فقد عمل الله أراد ذلك ، أم لم يرد ، وليس من شك ان من عمل لله فأجره على الله لأنه عادل وحكيم ، وأثابه بنحو من الانحاء ، اما في الدنيا ، واما في الآخرة بتخفيف العذاب ، وليس من الضروري ان لا يدخله النار إطلاقا ، فإن آلاء الله لا تحصى كما ولا كيفا. وتكلمنا عن ذلك مفصلا عند تفسير الآية ١٧٨ من سورة آل عمران بعنوان : «الكافر وعمل الخير» ج ٢ ص ٢١١.

وعلى هذا يكون معنى الآية ان أي انسان يعمل الخير بدافع تجاري ، لا انساني كالذي ينفق على المشاريع الخيرية أيام الانتخابات ، ان عمل هذا ومن اليه ليس بشيء عند الله ، بل هو أشبه بهواء في شبك ، أو برماد تذروه الرياح ، سواء أكان العامل مسلما أو غير مسلم. قال الإمام علي (ع) : «اعملوا بغير رياء ولا سمعة فإنه من عمل لغير الله يكله الله الى من عمل له».

وتسأل : إذا كان هذا الحكم يعم الكافر وغيره فلما ذا ذكرت الآية الكافر وحده؟ الجواب : ان ذكر الكافر بالخصوص لا ينفي الحكم عن غيره ، وانما خصص بالذكر لأنه أظهر الأفراد.

٤٣٥

(لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ). ضمير لا يقدرون عائد لفظا على الكافرين ، وعائد معنى على كل من عمل ويعمل البر بقصد تجاري ، والمراد ان من عمل عملا ليس لله ولا للانسانية فيه نصيب فانه لا ينتفع غدا بعمله ، لأنه تماما كالرماد المتطاير في الهواء ، وصاحبه ضال ، بل وممعن في الضلال ، لأنه تجرد في عمله هذا عن كل سبب يربطه بالله والانسانية.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ). معنى ألم تر ألم تعلم ، والخطاب موجه لكل من يقرأه ويسمعه. وكلمة الحق تشير الى أنه تعالى ما خلق شيئا إلا لحكمة اقتضت ذلك : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ ٢٧ ص» .. بعد أن ذكر سبحانه الذين يعملون لغير الله قال انه في غنى عن الناس وأعمالهم ، ولو شاء لأفناهم جميعا ، وأتى بأمم غيرهم يعملون له وحده ولا يشركون به شيئا ، لأنه على كل شيء قدير ، ولا شيء أدل على ذلك من خلق الكون وعجائبه.

الظالم والمظلوم :

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً). برزوا بلفظ الماضي ، والمراد به الاستقبال لأنه محقق الوقوع ، والمعنى ان الانس والجان ، والملائكة والشياطين ، كل هؤلاء يظهرون لله يوم القيامة ، وما من واحد منهم الا وهو يعلم علم اليقين انه قد تكشف لله على حقيقته ، حتى من كان يكفر به وبالبعث.

(فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ). كل عاقل مسؤول عن عمله قويا كان أو ضعيفا ، رئيسا أو مرؤوسا : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ـ ٩٣ الحجر» ، بل وما يقولون أيضا : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ـ ١٨ ق». فالتابع يسأل : هل اتبع الهدى أو الضلال؟. وهل عاضد وساند المصلحين أو المفسدين؟ وأيضا المتبوع يسأل ، ومسؤوليته أكبر وأعظم ، لأنه مسؤول عن نفسه وعن

٤٣٦

غيره من الاتباع والهمج الرعاع ، فهل يحمل أوزاره وأوزارهم.

ولست أعرف أحدا أعظم وزرا من هذا الطاغية المتبوع الا من تابعه وأعانه على ظلمه ، وهو يعرفه على حقيقته .. ان ظلم الظالم ليس بأسوأ عند الله من صبر المظلوم على الظلم .. ان قتل المظلوم في سبيل حقه شهادة ، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .. وهل جرّأ الظالم على الظلم إلا سكوت المظلوم عنه. ولو علم الظالم ان بين جوانح المظلوم نفسا «حسينية» (١) لتحاماه.

ومهما يكن ، فان المراد بالضعفاء في الآية ضعفاء النفوس الذين يتبعون الظالم الضال ، وهم على علم بظلمه وضلاله ، طمعا في جاهه أو ماله ، أو جبنا وإيثارا للسلامة والراحة ، وفي حكمهم في المسئولية والجريمة من يتبع الضال على العمى ، وتقليدا للجموع أو للأصدقاء والأقارب.

وقد صور سبحانه موقف التابعين لأهل الغي والضلال عن علم أو جهل أعمى ، صور موقفهم يوم الحساب مع الطغاة بهذا الحوار : قال ضعفاء النفوس والهمم لرؤساء الدنيا والدجالين من رؤساء الدين : كنا نأتمر بأمركم ، وننتهي بنهيكم .. وها نحن الآن كما ترون بين يدي الله لا حول لنا ولا طول ، يحاسبنا ويعاقبنا على طاعتنا لكم في تكذيب الرسل ، وفي معصية الله ، فهل تدفعون عنا ولو يسيرا من عذاب الله ونقمته؟.

(قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ). المراد بالهداية هنا النجاة والخلاص من عذاب الله ، لأن الجواب يأتي على وفق السؤال ، وقد سأل التابعون متبوعيهم ان يخففوا عنهم يسيرا من العذاب ، فأجابهم المتبوعون : لو استطعنا دفع العذاب لدفعناه عن أنفسنا. هذا هو المعنى المراد من الهداية هنا ولا يستقيم إلا به (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ). حيث انتهى كل شيء ، ولا يجدي جدال أو عتاب ، لأن الدار دار حساب وعقاب ، لا دار أقوال وأفعال.

__________________

(١). اشارة الى قول الحسين بن علي (ع) : لا أرى الموت الا سعادة ، والحياة مع الظالمين الا برما.

٤٣٧

وعد الرحمن ووعد الشيطان الآية ٢٢ ـ ٢٣ :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

اللغة :

المراد بالسلطان التسليط. ومصرخكم مغيثكم ، يقال استصرخني فأصرخته.

الإعراب :

وعد الحق من اضافة الشيء الى نفسه ، مثل حب الحصيد ومسجد الجامع. من سلطان (من) زائدة وسلطان اسم كان. والمصدر من ان دعوتكم منصوب على الاستثناء المنقطع لأن دعاء الشيطان ليس بسلطان. وأشركتمون أصلها أشركتموني.

خطبة الشيطان :

تكلمنا مفصلا حول فكرة إبليس والشيطان في أول المجلد الأول ، وفي المجلد

٤٣٨

الثاني ص ٣٢٤ ، ومجملا عند تفسير الآيات التي اشتملت على ذكر الشيطان .. ونعود هنا الى الموضوع بقول أجمع وأوسع ، لأن الآية التي نحن بصددها من أوضح الآيات دلالة على وجود الشيطان ، وانه حقيقة ثابتة ، وان لم تتعرض الى كنهه وهويته ، وفيما يلي نعرض الجهات التي تتصل بهذه الآية :

١ ـ ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز الشيطان بعبارات شتى ، فتارة يقول عز من قائل : ان الشياطين من نوع الانس والجن كما في الآية ١١٢ من سورة الأنعام : «شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول». وتومئ هذه الآية الى ان كل قول ظاهره الرحمة وباطنه فيه العذاب فهو من عمل الشيطان أيا كان قائله. وتارة يقول : ان للشيطان جنودا وقبيلا كما في الآية ٩٥ من سورة الشعراء : «وجنود إبليس أجمعون». والآية ٢٦ من سورة الأعراف : «انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم» وتدل هذه الآية ان الشياطين لا يحصى لهم عد ، وانهم ليسوا من الأشياء التي ترى بالعين ، وتلمس باليد. وثالثا يقول : ان للشيطان قرناء وأولياء كما في الآية ٣٨ من سورة النساء : «ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا» وفي الآية ٧٥ من سورة النساء : «فقاتلوا أولياء الشيطان» وهذا اللفظ بمفرده يدل على ان قتال الزائغين وجهادهم فرض وحتم ، حتى ولو كانوا «مسلمين». ورابعا يقول جلت حكمته وكلمته : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ـ ٢٢٢ الشعراء» وتدل هذه الآية ان الشياطين هم الكذابون الأفاكون.

أما وظيفة الشيطان وجنوده كما حددها القرآن فهي الإضلال والإغواء للصد عن سبيل الحق والخير ، لا بالجبر والإكراه ، بل بالوسوسة والتزيين ، وبالإغواء والتمويه .. ومن أجل هذا قلنا ونكرر القول : ان أي شيء يزين للإنسان عمل السوء ، ويرغبه في الشر والفساد عن طريق المغريات والمشوقات فهو شيطان رجيم وإبليس اللعين ، سواء أكان هذا الشيء المزين المضلل إنسانا أم مالا أم جاها أم كتابا أم صحيفة أم وسوسة وحديث نفس أم شيئا آخر يرى أو لا يرى ..

هذه هي صورة الشيطان التي انعكست في ذهننا ، ونحن نتابع ونتدبر آيات

٤٣٩

الله في كتابه ، ونؤمن بها أيماننا به وبرسوله .. وما عدا ذلك من الجزئيات والتفاصيل ندعه لعلم الله ، وما نحن بمسؤولين عنه ، ولا مكلفين به ، وكل ما يجب علينا هو ان لا ننخدع بالمغريات ، ولا نندفع وراء الشهوات ، ولا نستمع للزائغين والمضللين ، وإذا حدثتنا أنفسنا بشيء من ذلك ، أو حاول مخادع أن يغرينا بالانحراف عن قصد السبيل تذكرنا الله ووعده ووعيده ووقفنا عند حدوده ، بحيث نكون المثل الصالح لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) ـ ٢٠٠ الأعراف». انظر ج ٣ ص ٤٤٠.

٢ ـ ان في نفس الإنسان شهوات وغرائز ، وهي أقوى من اي عامل يدفع به الى معصية الله ومخالفة أمره ، لأنها تأتي من الداخل لا من الخارج ، ومن الباطن لا من الظاهر ، فإذا لم يكن في داخل الإنسان وباطنه قوة أعظم وأصلب تردع الميول الشيطانية ، وتكبح جماحها وقع الإنسان صريع الأهواء والمطامع لا محالة .. وليست هذه القوة الرادعة هي العبادة والصلاة ، ولا العلم والتحقيقات ، ولا الفضائل والشمائل ، لا شيء إلا التقوى مع الوعي على ان ينظر المتقي الواعي الى كل شيء من خلالهما معا ، فالتقوى بلا وعي ، والوعي بلا تقوى كلاهما ليسا بشيء يقاوم المغريات ، ويقف في طريق الشهوات .. فلقد رأينا الكثير من المتقين يجهلون أنفسهم وواقعهم ، ويحسبون الهوى دينا ، والغرض ايمانا ، ويصور لهم الوهم أو ابالسة الانس الحلال حراما والحرام حلالا ، والى هؤلاء أشار سبحانه بقوله : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ـ ١٠٤ الكهف». أما العلم والعقل بلا تقوى فهما المصدر الأول لكل رذيلة وفساد في الأرض .. والنتيجة الحتمية لذلك ان الواعي بلا تقوى ، والمتقي بلا وعي كلاهما من مصائد الشيطان وشبائكه ، وهذا الأخير أحب الى قلب إبليس وأعلى لديه مقاما.

٣ ـ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ). كل شيء ما عدا الله سبحانه له بداية ونهاية ، وقد تكون بدايته خيرا في ظاهرها ، ونهايته شرا في حقيقتها ، وبالعكس .. ومن أجل هذا لا يسوغ الحكم على شيء عند ظهوره وبدايته ما دامت الغاية في عالم الغيب .. فلقد غبط الناس «قارون» لما خرج عليهم في زينته ، وقالوا : انه سعيد وعظيم ، حتى إذا انخسفت الأرض به وبداره وماله قالوا :

٤٤٠