التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

مضاف أي في جنب الآخرة ، والمجرور متعلق بمحذوف حالا من الحياة ، ومتاع خبر. ولولا أداة طلب بمعنى هلا. والذين آمنوا الأولى في محل نصب بدل من (مَنْ أَنابَ). والذين آمنوا الثانية كلام مستأنف ، ومحلها الرفع مبتدأ أول ، وطوبى مبتدأ ثان ، ولهم خبره ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول. وحسن مآب عطف على طوبى ، ويجوز أن تكون طوبى خبر الذين ولها متعلقة بها.

الإنسان والرزق :

عند تفسير الآية ١٠٠ من سورة المائدة ج ٣ ص ١٣١ تكلمنا مفصلا عن الرزق وأسبابه بعنوان : هل الرزق صدفة أو قدر؟. وذكرنا هذه الآية : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فيما ذكرنا من الآيات ، وأيضا تعرضنا لهذا الموضوع عند تفسير الآية ٦٦ من سورة المائدة ج ٣ ص ٩٤ ، والآن نعود اليه بأسلوب آخر بالنظر لأهميته.

للإنسان صفات كثيرة ، منها ذاتية تلازمه ولا تنفك عنه بحال ، مثل أن يكون طويلا أو قصيرا ، وابن غني أو فقير ، ومنها غير ذاتية مثل أن يكون فلاحا أو تاجرا أو موظفا أو طبيبا ونحو ذلك.

وللغنى أسباب ، منها النسب أي الغنى عن طريق الميراث وهو مشروع في الدين ، وان لم يدخل تحت قدرة الإنسان ، ومنها الاحتكار والاستغلال كالربا والغش والسلب والنهب ، والتجارة بالمحرمات ، وهذا حرام ، ما في ذلك ريب ، ومنها كد اليمين وعرق الجبين ، كالزراعة والصناعة وما اليهما ، وهذا خير الأسباب وأفضلها عقلا وشرعا.

وللفقر أسباب أيضا : منها الإهمال والكسل ، وتقع التبعة فيه على الكسول المهمل ، ومنها فساد الأوضاع التي تجعل القيادة والزعامة للخونة والأقوياء ، وتبعد الشرفاء والضعفاء. وهذا السبب يحكم العقل والشرع بتحريمه وعدم شرعيته. وبكلمة ان كلا من الفقر والغنى له أسبابه المحسوسة المشاهدة بالعيان.

وبهذا يتبين معنا ان الفقر والغنى من صنع الأرض ، لا من صنع السماء في

٤٠١

الأعم الأغلب .. حيث يشذ بعض الموارد عن الأسباب المألوفة ، فيسميها البعض بتوفيق من الله ، والبعض الآخر بالصدفة أو الحظ .. ولكن لا أحد يستطيع القول : ان القضاء والقدر يعاكس بعض الناس في كل شيء ، ويحول أبدا ودائما بينهم وبين ثمرة جهدهم وأعمالهم ، وانه يحالف آخرين ويناصرهم في كل شيء ، ويحقق لهم أكثر مما يأملون ، وفوق ما كانوا يتصورون من غير سعي وجد .. لا أحد يستطيع أن يثبت ذلك ، والا بطلت المقاييس ، وتخلفت المسببات عن أسبابها ، وكان العمل والتحفظ والإتقان ألفاظا بلا معنى.

وتسأل : ان قولك هذا لا يتفق مع ظاهر الآية ، وهي قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ)؟.

الجواب : ان الناس في حياتهم وواقعهم فريقان : فريق موسع عليهم في الرزق ، وفريق مضيق عليهم فيه ، وكل من الغنى والفقر يتولد من أسبابه الخاصة التي أشرنا اليها ، وقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) هو وصف لواقع الناس ، وحكاية لحالهم التي هم عليها ، فكأنه يقول : الناس فريقان : غني وفقير .. وأضاف سبحانه الفقر والغنى اليه لتنبيه الأذهان انه تعالى هو خالق الكون الذي فيه شقاء وهناء ، وبؤس ونعيم .. وإذا سأل سائل : ولما ذا لم يخلق كونا لا شقاء فيه ولا بؤس أحلناه على ما كتبنا بعنوان : «ليس بالإمكان أبدع مما كان» عند تفسير الآية ٧٨ من النساء ج ٢ ص ٣٨٤.

(وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ). تقدم نظيره مرات ، منها في الآية ١٨٥ من سورة آل عمران ج ٢ ص ٢٢٤ ، ونعطف على ما ذكرنا هناك ان فريقا من الناس يفرحون بالمال لأنه يستر عيوبهم وقبائحهم ، وكثير منهم لا يرون الفضيلة والخير الا في المال والثراء ، والمعروف عن الأمريكيين انهم لا ينظرون الى شيء الا من خلال الدولار ، وبه وحده يقيسون عظمة الرجال ، حتى العلماء والعباقرة قيمتهم ما في جيوبهم ، لا ما في رؤوسهم.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ). مر نظيره في الآية ١١٨ من سورة البقرة ج ١ ص ١٨٩ ، والآية ٣٧ من سورة الأنعام ج ٣ ص ١٨٤ ، والآية ٢٠ من سورة يونس وبالحرف الواحد من السورة التي نحن فيها الآية ٧.

٤٠٢

(قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ). أنظر «الإضلال من الله سلبي لا ايجابي» ج ٢ ص ٣٩٩ عند تفسير الآية ٨٨ من سورة النساء ، و «الهدى والضلال» ج ١ ص ٧٠ عند تفسير الآية ٢٦ من سورة البقرة.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). لما ذكر سبحانه أهل المال ، وفرحهم الناشئ عن اطمئنانهم الى عيشهم وحياتهم ذكر المؤمنين ، وانهم هم الذين يطمئنون بذكر الله .. والاطمئنان معنى زائد على أصل الايمان ، وهو ثبات الايمان واستقراره ، أو هو أعلى درجاته ومراتبه ، فقد جاء في الآية ٢٦٠ من سورة البقرة : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). وفي الآية ١٠٦ من سورة النحل : «وقلبه مطمئن بالايمان». أي ثابت ومستقر.

أما الذكر فليس المراد به مجرد الكلام الملفوظ المسموع ، وانما المراد به الذكر الذي يزيد الذاكر يقينا بالله ، وثقة بوعده ووعيده ، فإذا لم يتحقق هذا الأثر. فلا يعد التلفظ بالتقديس والتسبيح ذكرا حقيقيا .. والذكر الذي يزيد الذاكر يقينا وثقة هو المراد من قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ـ ١٥٢ البقرة».

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ). المراد بطوبى الجنة ، والمآب المرجع والمنقلب ، والآية بمعنى قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ـ ٢٥ البقرة».

كذلك أرسلناك في أمة الآية ٣٠ ـ ٣١ :

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ

٤٠٣

آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١))

اللغة :

خلت مضت. ومتاب اسم مصدر من تاب. وسيّرت به الجبال أي سارت بسببه. وقطعت به الأرض شققت أنهارا وعيونا. وكلّم به الموتى جعلها تتكلم. وييئس يعلم في لغة هوازن. وقارعة مصيبة.

الإعراب :

هو ربي مبتدأ وخبر ، وجملة لا إله إلا هو خبر ثان. ولو ان قرآنا جواب لو محذوف دل عليه الكلام ، والتقدير لكان هذا القرآن. والمصدر المنسبك من ان لو يشاء مفعول ييئس. وبما صنعوا (ما) مصدرية أي بصنعهم ، ويجوز أن تكون موصولة أي بالذي صنعوه. وفاعل تحل ضمير مستتر يعود الى قارعة. وقريبا حال من هذا الضمير المستتر.

المعنى :

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ). الخطاب موجه لمحمد (ص) ، وضمير عليهم يعود إلى الأمة التي أرسل اليهم. وقد أرسل الله من قبله الى الأمم الخالية رسلا مبشرين ومنذرين ، وللغاية نفسها أرسل محمدا ، فأي بدع في ذلك؟. فما هم بأول قوم أرسل الله اليهم رسولا ، ولا هو بأول رسول يتلو على الناس ما أوحي اليه من

٤٠٤

ربه (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ). هذا هو إيمان محمد (ص) ، وهذه هي دعوته : يؤمن بالله وحده ، ويلتجئ اليه في جميع أموره ، ولا يرى لغيره من سلطان ، ويدعو الناس جميعا الى هذا الايمان ، وهي دعوة تدل على نفسها بنفسها.

تفكير الطغاة :

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً). مر نظير هذه الآية في سورة الأنعام ، وتكلمنا حولها مفصلا بعنوان طراز من الناس في ج ٣ ص ٢٤٨. وأيضا يأتي مثلها في الآية ٩٠ وما بعدها من سورة الاسراء ، ونعطف على ما قدمناه ان هذه الآية تصور الطريقة التي يفكر بها الطغاة الذين تقوم حياتهم على استغلال الضعفاء واستعبادهم .. فلا الفطرة والعقل ، ولا الحس والمشاهدة ، ولا الخوارق والمعجزات ، ولا شيء يغير من عتو الطغاة المستغلين وضراوتهم .. والدافع الأول والأخير هو إخلاصهم لوجودهم وكيانهم الذي يقوم على السلب والنهب .. ومع هذا يريدهم محمد (ص) أن يعترفوا به وبالقرآن .. ولما ذا يعترفون؟. ألان الجبال تسير ـ بكتاب من السماء ـ بلا عجلات ، وتكلمهم الأموات؟. ثم ما ذا؟. وأية جدوى لهم في ذلك ، بل وفي رؤية الله وجها لوجه؟. هل تزداد أرباحهم ، وتكثر أموالهم؟.

هذا هو تفكيرهم ، وهذه هي اللغة التي يفهمونها ويصغون اليها ، ولا يستمعون إلى غيرها .. لغة الكسب والربح الجنيه والدولار ، اما الحق والعدل ، اما المنطق والعقل فحديث خرافة يصدقه الأطفال ، ويؤمن به الجهال .. وهل بعد هذا يسأل سائل : كيف لم يؤمن الطغاة بمحمد ، ودعوته دعوة العدل والإحسان؟. وأي ذنب أعظم من هذه الدعوة التي تستأصل الظلم والفساد من الجذور؟. وأي عاقل يوقع بيده الحكم بإعدامه؟.

بهذه الطريقة وحدها يفكر الذين تقوم حياتهم على السلب والنهب في كل زمان ومكان .. فكر بها أبو جهل وأبو سفيان في عهد محمد (ص) ، وفكر بها في

٤٠٥

عصرنا هتلر وموسوليني ، وتفكر بها اليوم وفي عصر الفضاء الدول الاستعمارية بقيادة أمريكا ، وكفى دليلا على ذلك انها تضغط بكل قواها على أعضاء الأمم المتحدة كي يتجاهلوا أية قضية تمت الى العدالة بسبب ، فإذا فشلت في هذا الميدان وقفت موقفا صريحا ومعاديا لكل شعب يطلب العدل والانصاف من المعتدين عليه ، وناصرت الظلم والطغيان أينما كان ويكون ، وسواء أجاء من إسرائيل أم البرتغال أم الحكومة العنصرية في روديسيا وجنوب افريقيا ، أو غيرها .. والسر هو اخلاص الولايات المتحدة لطبيعتها أو لنظامها كقائد للاستعمار الحديث في هذا العصر ، ومصير هذه القيادة تماما كمصير النازية الهتلرية وغيرها ، وقد ظهرت الدلائل في فيتنام ، أما الاستياء من سياسة المستعمرين فقد عم الشرق والغرب ولن يمر هذا الاستياء دون أن يترك أثره الفعال.

وكنت من قبل أعجب من بعض الناس كيف يستهينون بالطيبين المخلصين ، ولا يقدرونهم حق قدرهم ، وكيف يرونهم كغيرهم من الأناس العاديين ، حتى ولو أتوا بالعجب العجاب ، وضحوا بأعز ما يملكون من أجل احقاق الحق ، عجبت من ذلك حتى وصلت بالتفسير الى هذه الآية فأدركت ان هذا التفكير ليس مقصورا على من أفسد وطغى بالفعل ، فإن كثيرا من الناس قد أسقطوا من حسابهم جميع الفضائل والقيم ، ولم يقيموا وزنا الا للكسب والربح تماما كغيرهم من الذين حاربوا محمدا ، ووقفوا في هيئة الأمم ومجلس الأمن في جانب إسرائيل وعدوانها سوى ان هؤلاء تمهد لهم السبيل الى الفساد والطغيان فسلكوه ، ولما عجز عنه الذين يستهينون بالخير وأهله وقفوا موقف الحياد.

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً). قال الطبري : اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله تعالى : أفلم ييئس .. ثم قال : والصواب إن تأويل ذلك أفلم يتبين ، ونقل هذا التفسير عن جماعة كثر ، منهم الإمام علي (ع). ونحن من الذين يؤمنون بأن أهل البيت أدرى بالذي فيه. ومهما يكن فإن المقصود بالذين آمنوا صحابة الرسول الأعظم (ص) حيث تمنوا متلهفين ان يؤمن المشركون بالله ورسوله ، فقال لهم جلت عظمته : إلى متى تطمعون في إيمان المشركين؟. ألم تعلموا وتتبينوا انهم لا يؤمنون بحال حتى ولو كلمهم

٤٠٦

الموتى ، وسارت الجبال؟ .. دعوهم وطغيانهم ، ولو شاء الله أن يلجئهم الى الايمان لفعل ، ولكن حكمته تعالى قضت بأن يترك الإنسان وما يختاره لنفسه حرصا على حريته وانسانيته ، ولو سلبه الحرية والارادة لم يكن شيئا مذكورا ، ولما استحق مدحا أو ذما ، ولا ثوابا أو عقابا .. انظر تفسيرنا لقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) ـ ١١٨ هود».

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ). المراد بالذين كفروا من كذّب بنبوة محمد (ص) ، والمعنى انه تعالى لا يترك في الدنيا هؤلاء المكذبين من غير تأديب ، بل ينزل عليهم الكوارث والبلايا الحين بعد الحين بسبب موقفهم من رسول الله (ص) ، أو ينزل مصيبة من حولهم تملأ قلوبهم خوفا ورعبا ، ويتابع ذلك حتى ينجز الله وعده لنبيه بالنصر (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ). كيف؟. ووعده أصدق الوعد ، والصحابة وكل مؤمن على ثقة بأن الله منجز وعده ، وناصر جنده لا محالة.

وقد استهزي برسل من قبلك الآية ٣٢ ـ ٣٤ :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤))

٤٠٧

اللغة :

أمليت أمهلت. وقائم على نفس أي رقيب عليها ومدبر لأمورها.

الإعراب :

كيف خبر مقدم لكان ، وعقاب اسمها ، والأصل عقابي. والجملة مفعول لفعل محذوف أي فانظر كيف الخ. أفمن (من) اسم موصول مبتدأ والخبر محذوف أي كمن ليس كذلك. وهو قائم مبتدأ وخبر ، والجملة صلة الموصول. أم تنبئونه (أم) منقطعة بمعنى بل والهمزة أي بل أتنبئونه. ومن يضلل (من) مبتدأ وفما نافية ، وله متعلق بمحذوف خبرا لهاد ، ومن الداخلة عليه زائدة اعرابا ، والجملة خبر من يضلل الله.

المعنى :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ). يقول سبحانه لنبيه محمد (ص) : اصبر وامض في دعوتك ، وهون عليك أمر الذين كذبوك وسخروا منك وابعدوا في اقتراحاتهم عليك ، فلقد فعل فعلهم من كان قبلهم ، فأطلت لهم ومددت الأجل ، ثم أخذتهم أخذ عزيز مقتدر ، وهذه بالذات عاقبة الذين كذبوا برسالتك.

وما أرسل الله نبيا الا وهو مزود بأمرين : العلم بالأدلة الكونية والعقلية على وجود الخالق ووحدانيته ، ومعجزة تظهر على يده ، وتدل على نبوته ، وبالأولى يقنع الناس بالتوحيد ، وبالثانية يقنعهم بأنه رسول من ربه ، وكان الذين لا يؤمنون الا بمنافعهم وأرباحهم يستهزئون ويسخرون من الأنبياء وأدلتهم ومعجزاتهم ، والله يمد لهم الأجل ليؤبوا الى رشدهم ، وليعذر اليهم بالإملاء ، كما اعذر اليهم بالحجج.

٤٠٨

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) يحرسها ويراقبها ويحصي عليها كل شيء ويجازيها بالثواب ان أحسنت ، وبالعقاب ان أساءت ، أفمن يكون بهذه الصفات تجعل الأحجار شريكة له؟ .. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) لا يشبهونه بشيء (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ـ ١٧ النحل)؟ .. (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي اذكروا أيها المشركون صفة واحدة لأصنامكم تستحق بها العبادة .. وهذا التحدي يشبه السخرية والتهكم ، تماما كما لو قال الجبان : أنا أشجع الشجعان. فتقول له : اذكر لنا شاهدا واحدا على شجاعتك.

(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ). الله يقول : لا شريك لي. وهم يقولون له ، بل لك شركاء كثيرون .. ومعنى قولهم هذا في واقعه ان الله لا يعلم وهم يعلمون ، وانهم يخبرونه بشيء يجهله .. تعالى الله عما يصفون ، وبتعبير أهل المنطق إذا وجد الملزوم وجد اللازم ، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ـ إذا وجدت الشمس وجد النهار ، وإذا انتفت الشمس فلا نهار ، وإذا انتفى النهار فلا شمس أيضا ظاهرا وواقعا .. وكذلك إذا وجد الشريك علم الله بوجوده حتما ، وحيث ان الله لا يعلم به فلا شريك ، والا يلزم جهله تعالى الله عن ذلك.

وانما خص سبحانه الأرض بالذكر مع انه تعالى لا شريك له في الأرض ولا في السماء ، لأن الحديث يتعلق بالأصنام ، وهي في الأرض لا في السماء.

(أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ). وضعت الكلمات لتدل على معنى موجود ، وأية كلمة لا تدل على ذلك فهي شيء في الظاهر ، ولا شيء في الواقع ، وكلمة شركاء الله من هذا الباب أسماء بلا مسميات : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) ـ ٢٣ النجم» ، ومرّ نظيره في الآية ٧٠ من سورة الأعراف ج ٣ ص ٣٤٨ ، والآية ٤٠ من سورة يوسف.

(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ). معنى المكر في اللغة الخداع ، وقد خدع المشركون بالأصنام ، فظنوها شريكة لله في خلقه ، وزينت لهم أنفسهم هذا المكر والخداع (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) بالبناء للمجهول أي ان الذي زينته له أنفسهم صدهم عن الحق والايمان بالله ووحدانيته (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ). أنظر

٤٠٩

تفسير الآية ٨٨ من سورة النساء ، فقرة «الإضلال من الله سلبي لا ايجابي» ج ٢ ص ٣٩٩.

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالخزي والهوان (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ) لأن كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه ، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه ، كما قال الإمام علي (ع). (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) يقيهم العذاب ويدفعه عنهم.

مثل الجنة الآية ٣٥ ـ ٣٨ :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨))

اللغة :

الأكل بضم الهمزة المأكول. والمراد بالكتاب القرآن وبالذين آتيناهم الكتاب

٤١٠

صحابة النبي (ص) لأنهم هم الذين فرحوا به عند نزوله ، والمراد بالأحزاب أهل الأديان الذين تحزبوا وتعصبوا ضد الإسلام ، فإنهم يكفرون ببعض القرآن ويؤمنون ببعض. والمآب المرجع. والواقي الحافظ.

الإعراب :

قال المفسرون : ان سيبويه أعرب مثل الجنة مبتدأ ، والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، والمعنى ان وصف الجنة هو ما ذكرناه في القرآن. والتي عطف بيان من الجنة ، والعائد على الاسم الموصول محذوف أي وعد بها المتقون ، وجملة تجري حال من الجنة. وأكلها دائم مبتدأ وخبر ، وظلها أي وظلها دائم. ومن الأحزاب خبر مقدم ، ومن ينكر مبتدأ مؤخر. وحكما حال من هاء أنزلناه ، وعربيا صفة للحكم. والمصدر المنسبك من ان يأتي اسم كان.

المعنى :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها). لما ذكر سبحانه عقاب الكافرين ذكر ثواب المتقين ، كما هو شأنه تعالى في المقارنة بين الضدين والمتشابهين ، وثواب المتقين الجنة بنعيمها الدائم أنهارا وثمارا وظلالا (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا). تلك إشارة الى الجنة ، والعقبى المنقلب والمصير ، والمتقون هم الذين يناصرون الحق وأهله ، ويقاومون الباطل وأهله ، وفي بعض الأخبار : ان الايمان فوق الإسلام ، والتقوى فوق الايمان ، واليقين فوق التقوى والمراد باليقين الثقة بالله ، والتوكل عليه.

(وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ). وليس المراد بالكافر هنا خصوص من جحد بالله أو أشرك به ، بل كل من عاند الحق ، وهو به عليم .. فقد جاء في كثير من الأخبار ان النفاق كفر ، والرياء شرك. وقد وصف سبحانه الظالمين بالكفر في الآية ٩٩ من الاسراء : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) كما وصف الكافرين والمشركين بالظلم في العديد من الآيات.

٤١١

الشيعة الإمامية والصحابة :

دأب بعض المأجورين والجاهلين على إثارة الفتن والنعرات بين المسلمين لتشتيت وحدتهم وتفريق كلمتهم ، دأبوا على ذلك عن طريق الدس والافتراء على الشيعة الامامية ، وذلك بأن نسبوا اليهم النيل من مقام الصحابة ، وتأليه علي ، والقول بتحريف القرآن الذي يهتز له العرش .. وما إلى ذلك من الكذب والبهتان .. وكتبت المقالات الطوال في الرد على هؤلاء الأدعياء والعملاء ، ثم وضعت في الشيعة الامامية كتاب «مع الشيعة الامامية». و «الشيعة والحاكمون».

و «الاثنا عشرية وأهل البيت». و «الشيعة والتشيع» وهو أكبر وأضخم من الجميع ، وغرضي الأول من المقالات والمؤلفات جلاء الحقيقة لمن يرغب في معرفتها ، وإبطال ما قيل أو يقال حول هذه الطائفة من الافتراءات والأكاذيب.

وأشرت هنا إلى ما كتبت وألفت في هذا الموضوع لمناسبة تتضح مما يلي :

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ). قال أبو حيان الأندلسي والزمخشري والشيخ المراغي والبيضاوي وغيرهم من علماء السنة قالوا : المراد بالذين آتيناهم الكتاب من آمن بمحمد من اليهود والنصارى .. وقال الطبرسي في مجمع البيان ما نصه بالحرف : «يريد الله سبحانه أصحاب النبي (ص) الذين آمنوا به ، وصدقوه وأعطوا القرآن ، وفرحوا بإنزاله». والطبرسي من أجل علماء الشيعة الامامية وثقاتهم (ت ٥٤٨ ه‍) .. فالكثير من علماء السنة فسروا الآية بمن أسلم من أهل الكتاب ، وفسرها الشيعة الامامية بصحابة الرسول الأعظم (ص) ، ولو كانوا ينالون من مقام الصحابة لاتجه شيخهم الطبرسي في تفسير هذه الآية الى غير هذا الوجه .. وبهذا يتبين الدس ممن نسب اليهم هذه الفرية.

وكان ابان بن تغلب أحد الكبار في تلامذة الإمام جعفر الصادق (ع) ، حتى ان الإمام كان يأمر الشيعة أن يأخذوا الدين عنه ، وفي ذات يوم سأله رجل عن الشيعة؟. وكان يدعى هذا السائل «أبو البلاد». فقال له ابان : انهم الذين إذا اختلف الناس في الرواية عن النبي (ص) أخذوا برواية علي عن النبي ، وإذا اختلف الناس في قول علي (ع) أخذ الشيعة بقول جعفر الصادق عن علي ..

٤١٢

فالمسألة ـ إذن ـ عند الشيعة الامامية مسألة ثقة بالرواية عن محمد (ص) لا مسألة سب وشتم أصحاب محمد .. والسر لاعتماد الشيعة على أهل البيت فيما ثبت عن جدهم ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي (ص) باب «من فضائل علي بن أبي طالب» انه قال : «انا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي ، فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي كررها ثلاثا».

(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ). المراد بالأحزاب أهل الملل والأديان الأخرى كاليهود والنصارى وغيرهم ممن أنكروا ما يخالف أهواءهم ، واعترفوا بما بوافقها من القرآن .. ومن الواضح ان اعتراف هؤلاء ، وانكارهم سواء ، لأنه اعتراف بما يهوون ، لا بالقرآن (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ). هذا هو الإسلام : لا إله إلا الله له الملك واليه وحده الدعوة الى العبادة ، واليه المرجع والمصير.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا). المراد بالحكم القرآن لأنه حكم الله ، وما عداه حكم الجاهلية ، كما قال سبحانه : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ـ ٥١ المائدة». وكما أرسل الله كل نبي بلغة قومه فقد أرسل محمدا كذلك: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ـ ٤ ابراهيم». وعند تفسير الآية ٢ من سورة يوسف بيّنا السبب لنزول القرآن بلغة العرب مع ان محمدا رسول الله الى الناس جميعا.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ). الخطاب لمحمد ، والضمير في أهوائهم الى الأحزاب من أهل الملل والأديان ـ غير الإسلام ـ والله يعلم ان النبي لا ولن يتبع أهواءهم .. والغرض من هذا النهي ان يثبت ويستمر في الدعوة الى الحق ، ولا يخشى في الله لومة لائم ، وقدمنا أكثر من مرة ان الأمر من الأعلى لا يلحظ فيه مقام المأمور مهما بلغ من العظمة ما دامت دون عظمة الآمر.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً). إذا أفحم المبطل

٤١٣

ولم يجد حجة يتذرع بها أخذ باللف والدوران ، وقاس الأشياء بخياله وأوهامه ، وهذه هي بالذات حال المشركين مع محمد (ص) .. أتاهم بالدلائل والبينات ، ولما عجزوا عن ردها قالوا : كيف يكون نبيا ، وله نساء وأولاد؟. وهذا المنطق العليل يتفق تماما مع منطق الذين آمنوا بالرهبانية وقد رد الله عليهم بأن محمدا كنوح وابراهيم وإسماعيل وغيرهم من الأنبياء والرسل الذين لهم نساء وأبناء ، فأي عجب في ذلك؟. وفي الحديث عن النبي (ص) انه قال : «أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). وهذا رد أيضا على المشركين الذين اقترحوا على رسول الله أن يأتيهم بما يهوون من المعجزات .. ووجه الرد ، ان الله سبحانه قد زود نبيه محمدا بما هو كاف واف في الدلالة على نبوته لمن تدبر واعتبر ، وطلب الحق لوجه الحق ، أما الاستجابة لأهواء العنود المكابر فلا يحتمها عقل ولا عرف ، وأمرها متروك الى الله وحكمته جل وعز (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ). لكل شيء أجل معجزة كان أو عذابا أو غيرهما ، والأجل محتوم لا يتقدم ولا يتأخر ، وهو مكتوم أيضا لا يعلمه الا الله.

يمحو الله ما يشاء ويثبت الآية ٣٩ ـ ٤٣ :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (٤٣))

٤١٤

اللغة :

المراد بالمحو هما نسخ الأحكام. وأم الكتاب أصله ، وعلمه تعالى هو الأصل لجميع الكتب السماوية. وأطراف الأرض جوانبها. وقيل : الأطراف هنا جمع طرف بكسر الطاء ، وهو الشيء الكريم ، وان الأرض تنقص بموت كرامها. وهذا المعنى بعيد عن سياق الآية. ولا معقب لحكمه أي لا راد له.

الإعراب :

انما مركبة من كلمتين : ان الشرطية وما الزائدة اعرابا. ونرينك مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. وجواب الشرط فإنما عليك البلاغ. وجملة ننقصها حال من ضمير نأتي. ولا معقب (لا) نافية للجنس ومعقب اسمها ولحكمه خبر ، والجملة حال من ضمير يحكم. وكفى بالله الباء زائدة اعرابا ولفظ الجلالة فاعل كفى ، وشهيدا حال أو تمييز على معنى من شهيد. ومن عنده (من) اسم موصول في محل جر عطفا على لفظ الجلالة ، أي وكفى بمن عنده ، وعنده خبر مقدم ، وعلم الكتاب مبتدأ مؤخر ، والجملة صلة الموصول.

المعنى :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ). أم الكتاب كناية عن علمه تعالى بما كان ويكون ، ولو جاز لنا تفسير الألفاظ بالذوق والاستحسان لفسرنا الكتاب بالكون ، والأم بعناصره وأسراره ، لأن لله كتابين وفي كل منهما آيات بينات على وجوده ووحدانيته ، وجلاله وعظمته : أحدهما ينطق بلسان الحال ، وهو الكون ، والآخر بلسان المقال ، وهو القرآن.

أما المحو والإثبات فقد نقل الطبرسي في معناهما ثمانية أقوال ، وأقربها ان المراد بالمحو نسخ الشريعة كالشرائع القديمة ، أو نسخ بعض أحكامها كنسخ الصلاة الى بيت المقدس من الشريعة الاسلامية. أما الإثبات فالمراد به إقرار الأحكام

٤١٥

ورسوخها إلى بوم القيامة ، وعليه يكون المعنى ان الله سبحانه ينسخ أو يقر الشريعة كلا أو بعضا حسبما تستدعيه الحكمة والمصلحة ، وهو جلت عظمته عالم بما يصلح العباد وما يفسدهم ، فينهاهم عن هذا ، ويؤمرهم بذاك دواما أو مؤقتا على مقتضى علمه بأمد المضار والمنافع .. وتكلمنا عن النسخ عند تفسير الآية ١٠٦ من سورة البقرة ج ١ ص ١٦٩.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ). هذه الآية تتصل بالآية ٣١ من هذه السورة ، وهي قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ). ووجه الاتصال ظاهر حيث قال الله لنبيه : انه سينزل العذاب على من كذبه لا محالة ، ثم قال له في الآية التي نحن بصددها : سواء أريناك عذابهم أم توفيناك قبل ذلك فان مهمتك الأولى والأخيرة ان تؤدي رسالتك على وجهها وكفى وما عدا ذلك علينا ، لا عليك.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها). الأرض كرة لا أطراف لها كما للجسم المسطح ، ولكنها كبيرة تتسع لملايين الأجناس والأنواع من الكائنات والمخلوقات ، وهي في تغير دائم .. فبينا يرى الإنسان أو يسمع ان هذه البقعة من الأرض آهلة بالسكان وأسباب الحضارة وأنواعها ، وتلك البقعة صحراء جرداء وإذا بالآهلة خراب يباب ، وبالصحراء جنات وعيون .. وأهل الأرض كذلك : حضارات تحيا ، وأخرى تموت ، وملك يقوم ، وآخر يزول .. وهكذا دواليك ، لا يدوم بؤس ولا نعيم في هذه الأرض .. قال الإمام علي (ع) : «احذروا الدنيا فإنها غدارة غرارة ، خدوع معطية منوع ، ملبسة نزوع ، لا يدوم رخاؤها ، ولا ينقضي عناؤها». وقوله تعالى : (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) يشير الى هذا المعنى ، وان العاقل يتعظ ويعتبر بهذه التقلبات والتغيرات : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ـ ١٠٩ يوسف».

(وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ). وقد حكم بالهلاك على القوم المجرمين ، فنفذ فيهم حكمه وبأسه : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ـ ١١ الرعد».

٤١٦

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً). والمراد بمكر الله إبطال مكر الماكرين وتدبيرهم. انظر تفسير الآية ٥٤ من سورة آل عمران ، فقرة الله خير الماكرين ج ٢ ص ٦٨ (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) لأنه واسع عليم (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) يوم ينقلبون الى ربهم ، ويقولون : هذا يوم عسير.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً). أنكروا رسالة محمد (ص) رغم البينات والدلائل .. لأنها حرب وثورة على الظلم والطغيان ، وعلى كل تقليد يحول دون الإنسان وحريته وأمنه وسعادته.

راحة الضمير والوجدان :

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ). أمر الله نبيه في هذه الآية ان يقول للمشركين : إذا أنكرتم رسالتي فإن الله يشهد بأني رسول من عنده ، وأيضا المنصفون من علماء التوراة والإنجيل يشهدون بذلك .. هذا هو المعنى الظاهر ، وهو المراد ، وعليه جميع المفسرين ، ونحن معهم ، ولكنا نلمس من وراء هذا الظاهر معنى كبيرا وجليلا ينطبق على كل من آمن بالحق وعمل به ، وأنكره عليه المفسدون في الأرض ، ولاقى منه ما لاقاه الأنبياء والمصلحون ، ويتلخص هذا المعنى الكبير الجليل الذي ترمز اليه الآية بأن كل من استراح ضميره الى شيء وشهد معه الوجدان السليم فإن الله أيضا يشهد وملائكته والمنصفون من عباده بأنه على حق ، نبيا كان أو غير نبي.

وتسأل : متى يكون الإنسان مرتاح الضمير ، ويشهد معه الوجدان السليم؟. الجواب : ان الإنسان لا يكون من أهل الضمير الحي والوجدان السليم الا إذا آمن بقيم انسانية كالعدالة والحرية والصدق والأمانة ، وما الى ذلك مما يعود خيره على الجميع ، ومتى آمن الإنسان بالقيم ، ولاءم بين تصرفاته وإيمانه استراح ضميره وشهد له وجدانه ، ومتى وقع الانفصال بين التصرف والايمان تأرق ضميره ، وأنحى عليه لوما وتقريعا.

٤١٧

وأهل الضمير والوجدان لا يهتمون الا بقيمتهم أمام ضميرهم ، وأمام الناس الطيبين من أمثالهم الذين يشاركونهم الايمان بالمثل والقيم الانسانية ، أما قيمتهم عند من لا ضمير له ، ولا يرى الا نفسه وصالحه فلا يهتمون بها على الإطلاق ، بل يتهمون أنفسهم ، ويتوبون الى الله إذا رضي عنهم المفسدون.

وفي يقيني ان أكثر الناس سعادة هم أهل المبادئ الحقة الذين لا يعملون الا بما استراحت اليه ضمائرهم.

وتقول : ان كثيرا من الناس يشعرون بالسعادة إذا وجدوا ما يبتغون ، ومع ذلك لا يؤمنون بقيمة ولا مبدأ .. وهل السعادة الا شعور الإنسان بأنه يجد ما أراد؟ وهل الشقاء الا الاحساس بحرمانه مما يريد؟.

الجواب : أولا ان حديثنا مقصور منذ البداية على أهل الضمير دون غيرهم ، وهؤلاء لا ضمير لهم. ثانيا : ان كثيرا من الذين يجاهرون بإنكار القيم يقرونها في قرارة أنفسهم ، ولكن لما غلبت عليهم شقوتهم حاولوا إخفاء هذا الغلب والعجز بإنكار ما يقرون ويؤمنون ، وقالوا كاذبين على أنفسهم : لو كان هناك قيم لالتزمنا بها وحرصنا عليها ، تماما كما ينكر المجرم جريمته وهو على يقين منها.

٤١٨

سورة ابراهيم

٤١٩
٤٢٠