التّفسير الكاشف - ج ٤

محمّد جواد مغنية

التّفسير الكاشف - ج ٤

المؤلف:

محمّد جواد مغنية


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الأنوار ، طباعة ـ نشر ـ توزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧٥

والعبقريات والعادات إلى ما لا نهاية ، أما العقل الالكتروني فإنه محدود ، وخاضع لما يقرر له الإنسان».

٤ ـ «ان أعظم اكتشاف للنحل ـ غير ما هو معروف عنه ـ انه عرف قبل الإنسان جهاز التكييف ، فإذا ارتفعت درجة الحرارة في خلية النحل يذهب فوج منه ويأتي بالماء في خراطيمه ويضعه في خزان ، حتى إذا اجتمع منه قدر الكفاية قام فوج آخر برشه ، وهزّ ثالث أجنحته ليصنع تيارا من الهواء ، فيتبخر الماء بسرعة ، ومع هذا التبخر تنخفض درجة الحرارة» (١).

من الذي ألهم النحل الى الاختراع ، الصدفة ، أو ان وراء الطبيعة قوة وحقيقة هي المدخل الى الطبيعة ونظامها؟ .. وللنحل والنمل وغيرهما حكايات تفوق التصور ولا تفسير لها إلا بوجود مدبر حكيم .. ونعود الى قول فولتير الذي أشرنا اليه فيما سبق أكثر من مرة ، وهو «امام الفكرة في وجود الله عقبات ، ولكن في الفكرة المضادة حماقات .. وهكذا ينتقل الإنسان من شك إلى شك حتى يصل الى ان التصديق بالله هو الأقرب ، وبه تتعلق القوانين الضرورية للعالم».

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ). المراد بالسيئة هنا العقاب ، وبالحسنة الثواب ، وبالمثلات العقوبات .. دعا رسول الله (ص) المشركين إلى التوحيد ، ووعدهم بالثواب ان استجابوا ، وتوعدهم بالعقاب ان استنكفوا ، وبدلا من ان يستجيبوا ويتوبوا من الشرك ازدادوا تمردا وطغيانا ، وأخذتهم العزة بالإثم ، وقالوا : عجل لنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ، قالوا هذا ولم يعتبروا بالأمم الخالية الذين عصوا رسل ربهم ، فأخذهم الله أخذا وبيلا.

وتجدر الاشارة الى ان الغفلة عن الاعتبار والاتعاظ لا تختص بالمشركين وحدهم فإن أكثر الناس لا يعتبرون بالغير ، ولا يتعظون بالعبر ، حتى الواعظين .. والسر أن الاكثرية الغالبة تنقاد لمصلحتها وعاطفتها ، لا لعقلها ودينها ، وفي الأمثال الغربية : المرأة تقود الرجل من بطنه لا من عقله.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ). المراد

__________________

(١). مجلة روز اليوسف المصرية عدد ٢٧ / ١ / ١٩٦٩ عن كتاب بين الإنسان والآلة. السيبر ناطيقا تأليف يلنيا سابارينا.

٣٨١

بالمغفرة هنا الامهال وعدم تعجيل العقوبة على الذنب ، والقرينة على ذلك قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لأن المغفرة لا تجتمع بحال مع العقوبة الأخروية فضلا عن شدتها ، والمعنى ان الله سبحانه لا يعاقب العبد بمجرد ان يذنب ويسيء ، وانما يؤخره ، ويفتح له باب التوبة على مصراعيه ، عسى أن يرجع عن غيه ، ويثوب إلى رشده.

وقيل في تفسير الآية : ان الله تعالى يغفر الذنوب للعصاة من المسلمين ، ويشدد العقاب على الكافرين .. وهذا التفسير خلاف الظاهر ، بالاضافة إلى أنه إغراء بالمعصية ، وتشجيع للعصاة .. والحق ما قلناه ، والدليل قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) ـ ٦١ النحل». فإن القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ). مر نظيره في الآية ٣٧ من الأنعام ج ٣ ص ١٨٤. وتكلمنا مفصلا عن معجزة محمد (ص) وطلب المكابرين عند تفسير الآية ١١٨ من سورة البقرة ص ١٨٩.

علم الله الآية ٨ ـ ١١ :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١))

٣٨٢

اللغة :

الغيض ذهاب المائع في جهة العمق ، ومنه غيض الماء أي ذهب في الأرض وغار ، ويستعمل الغيض في النقصان ، وهذا المعنى هو المراد بقرينة قوله تعالى : وما تزداد ، وينبغي أن يكون المقصود زيادة الأرحام ونقصانها في عدد الأولاد. والمتعالي المستعلي على كل شيء. والسارب الجاري. ومعقبات جمع معقبة ، والمراد بها هنا حواسه وغرائزه التي تحرس كيانه.

الإعراب :

ما تحمل (ما) اسم موصول في موضع نصب بيعلم ، وقال الطبرسي : هي استفهام في موضع نصب بتحمل ، والمعنى أي شيء تحمل ، والجملة معلقة بيعلم. وكل شيء مبتدأ ، وبمقدار متعلق بمحذوف خبرا للمبتدإ ، وعنده ظرف متعلق بما تعلق به الخبر ، والتقدير كل شيء كائن بمقدار عند الله. وعالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف أي هو عالم الغيب. وسواء خبر مقدم ، ومن أسرّ مبتدأ مؤخر. ومن وال (من) زائدة اعرابا ووال مبتدأ مؤخر ، وما لهم خبر مقدم.

المعنى :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ). ذكر سبحانه في الآية السابقة ان المشركين طلبوا من محمد (ص) المزيد من المعجزات الدالة على نبوته ، وفي هذه الآية قال : انه تعالى يعلم ما في أرحام النساء ذكرا كان أو أنثى ، واحدا أو أكثر ، ناقصا أو تاما ، ومن يعلم هذا يعلم ان طلب المزيد من المعجزات انما هو لأجل العناد والمكابرة لا بقصد الاسترشاد وطلب الهداية .. وفي نهج البلاغة : ان الله يعلم ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وشقي أو سعيد.

واتفق المسلمون جميعا ان الله تعالى يعلم جميع المخلوقات كبيرها وصغيرها ،

٣٨٣

لأن كل مخلوق فهو معلوم لدى خالقه. وبتعبير محيي الدين بن العربي : ان ما من موجود في العالم الا وله وجه خاص الى موجده .. ثم اختلف الفلاسفة وعلماء الكلام في ان الله يعلم الجزئيات كأفراد الحيوان والنبات والجماد علما مباشرا ومن غير توسط ، أو يعلمها بتوسط أسبابها وما تتولد منه؟. قال المتكلمون بالأول ، وذهب الفلاسفة الى الثاني.

ونحن لا نرى أية جدوى في هذا الخلاف ، لأن على المسلم أن يؤمن بأن علم الله شامل لكل شيء كليا كان أو جزئيا ، حتى خفقة القلب واللمحة في الذهن ، أما الايمان بأن علمه تعالى على هذا النحو دون ذاك فليس من الدين في شيء .. وهناك أحاديث تنهى عن التفكر في ذات الله ، وتأمر بالتفكر في خلقه وصنعه.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) فلا يخلقه عبثا ومن غير أصول ، بل لكل شيء حده ونظامه في الكم من حيث أجزاؤه ومقوماته وخواصه وآثاره ، وفي الكيف من حيث شكله وصورته ومكانه وزمانه ، وأسبابه وسننه ـ كل ذلك على ما تستدعيه الحكمة والمصلحة .. وكل ما يستطيعه الإنسان هو أن يرى ويراقب ، ويعادل ويقيس ، وقد يخطئ أو يصيب ، لأن علم الإنسان مكتسب يفتقر الى سبب ، وكثيرا ما يظن ان هذا الشيء سبب للعلم بكذا ، وهو في واقعه جهل محض ، أما علمه تعالى فهو ذاتي وعين الواقع.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ). ليس المراد بالكبر الضخامة ، وبالعلو المكان المحسوس ، بل هما كناية عن عظمة الله في ذاته وصفاته ، وعالم الغيب ما غاب عنا علمه ، وعالم الشهادة ما نراه ونشاهده .. ان الكون مليء بالمخلوقات من شتى الأجناس والأصناف العلوية والسفلية ، فمن الجراثيم الى الإنسان والملائكة ، ومن المعادن الى النبات والحيوان ، الى الماء والهواء ، وما فيهما ، الى ما لا نهاية ، وقد يعلم الإنسان طرفا من أشياء الكون ، ولكن علمه مهما بلغ لا يعد شيئا الى جانب ما غاب عنه ، فأكثر الحقائق وضوحا تبطن الكثير من الأسرار ، ولا يعلم كلّ ما في الكون الا خالق الكون ، فهو وحده الذي يتساوى لديه السر والعلن ، والغائب والشاهد وما أوتيتم من العلم الا قليلا.

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ

٣٨٤

بِالنَّهارِ). مر نظيره في الآية ٧٨ من التوبة ، والآية ٣ من الأنعام ج ٣ ص ١٥٩.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ). ضمير له ويديه وخلفه يعود الى الإنسان ، كما هو الظاهر من سياق الكلام ، ومعقبات كناية عن حواس الإنسان وغرائزه التي لها تأثيرها في صيانته وحفظ كيانه ، و (من) في قوله تعالى : (مِنْ أَمْرِ اللهِ) بمعنى الباء مثلها في قوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ـ ٤٥ الشورى». أي بطرف خفي ، وفي ذلك رواية عن الإمام أبي جعفر الصادق (ع). وقال المفسرون : المراد بالمعقبات الملائكة ، وفي بعض التفاسير ان الله يرسل عشرة من الملائكة بالنهار يحرسون الإنسان ، وعند الغروب يذهب هؤلاء ، ويأتي عشرة آخرون يحرسون بالليل ، وهكذا يفعل مع كل فرد من أفراد الإنسان في كل يوم من الأيام ، اما إبليس فيقوم بدور الغواية وتضليل الإنسان بالنهار ، وأولاده بالليل.

وبالإضافة إلى ان هذا بعيد عن دلالة اللفظ فإن الافهام والأذواق ترفضه وتأباه والذي نتصوره نحن ان المراد بالمعقبات حواس الإنسان وغرائزه التي بها يحفظ وجوده وكيانه ، كما أشرنا ، وان المعنى ان الله سبحانه خلق الإنسان ، وجعل فيه السمع والبصر والإدراك وغيرها من الصفات والغرائز لتحرسه وتصونه ، وهذا المعنى وان كان بعيدا عن دلالة اللفظ فإنه يتفق مع الواقع ، ولا ينفيه السياق ، فبالادراك يميز الإنسان بين النافع والضار ، وبالبصر يعرف طريق السلامة ، وبحب الذات يتحفظ من المهلكات.

لا يغير حتى يغيروا :

(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ). قال المفسرون : ان هذه الآية تدل على ان القوم الذين يعيشون بنعمة المال والأمن الجاه فإن الله لا يغيرها عنهم ما داموا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، فان عصوا زالت عنهم هذه النعمة.

أما نحن فنفسر الآية في ضوء تعاليم الإسلام ، وواقع الحياة ، وما يتحمله لفظ

٣٨٥

الآية من معنى .. أما تعاليم الإسلام فمن أهمها وجوب جهاد النفس إذا مالت الى المحرمات والموبقات ، أو رضيت بالذل والفقر ، والجهاد بالنفس والمال في سبيل العدل والتحرر من الظلم والرق .. وليس من شك ان من استنكف عن الهوان ، واستهان بالحياة وأبى إلا الكرامة أو الموت شمله الله بعنايته ، وأخذ بيده إلى ما يبتغيه ويهدف اليه. ومن خلد إلى الراحة والكسل مهما كانت نتائجه يخذله الله ، ويكله الى ضعفه ، ولا ينظر اليه أو يسمع له ، وان ملأ الدنيا تضرعا وبكاء ، وعبادة ودعاء.

وبهذا يتضح معنى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ،) وانه جلت عظمته يبقي الإنسان في البؤس والهوان ، ما دام في جموده وركوده ، لا يقاوم باطلا ، ولا يحرك ساكنا للتخلص مما هو فيه .. أجل ، ان الله لا يغير ما بنا من فقر حتى نعتقد ان الفقر من الأرض لا من السماء ، وحتى نكافح ونجاهد ضد الاستغلال والاستثمار ، وحتى نقيم المصانع ، وننشىء المزارع ، والله لا يغير ما بنا من جهل حتى نبني الجامعات والمختبرات ، والله لا يغير ما بنا من عبودية حتى نثور على الظالمين والمستبدين ، والله لا يغير ما بنا من شتات حتى نخلص النوايا ، ونزيل ما بيننا من الحدود والحواجز.

(وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ). المراد بالسوء هنا العذاب ، ومتى أراده الله لإنسان أو لفئة فلا منجى مما أراد الا اليه ، وهو عادل لا يريده الا لمن يستحقه ، والوالي من صفات الله لأنه يلي الأمور ويقوم عليها بالعناية والتدبير.

هو الذي يريكم البرق الآية ١٢ ـ ١٥ :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ

٣٨٦

يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥))

اللغة :

السحاب الثقال لأنها مثقلة بالماء. والمحال بكسر الميم الكيد ، يقال : ما حله مماحلة إذا كاده ومكر به ، والمراد به هنا ان الله سبحانه شديد القوة. والظلال جمع ظل ، وهو خيال الشيء. والغدو جمع غدوة ، والغدوات جمع غداة ، وهي الصباح. والآصال جمع أصيل وهو المساء ما بين العصر والمغرب.

الإعراب :

خوفا وطمعا مفعول من أجله عند أبي البقاء ، ومصدر وقع موقع الحال من الخطاب في يريكم عند الطبرسي. وكباسط متعلق بمفعول مطلق محذوف أي الا استجابة كاستجابة باسط كفيه الى الماء. وليبلغ منصوب بأن مضمرة بعد اللام ، والمصدر المجرور باللام متعلق بباسط ، وفاعل يبلغ ضمير مستتر يعود الى الماء. وطوعا وكرها قائمان مقام المفعول المطلق أي سجودا طوعا وكرها ، أو في موضع الحال أي طائعين ومكرهين. وظلالهم معطوف على من في السموات. وبالغدو متعلق بيسجد.

٣٨٧

المعنى :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ). ان الله سبحانه خلق الكون ، وللكون خصائص وسنن لها آثارها وظواهرها ، ومنها البرق والرعد والسحاب والصواعق ، وما الى ذلك مما يشاهده العالم والجاهل ، والمؤمن والملحد. ولا يعرف شيئا من حقائقها وطبيعتها الا أهل الاختصاص .. وأسندها سبحانه اليه ، ولم يسندها الى الأسباب الكونية المباشرة ، أسندها اليه من باب اسناد الشيء الى سببه الأول ، والغرض التذكير بأنه سبب الأسباب ، واليه وحده ترجع الأمور كلها.

وقوله تعالى : (خَوْفاً وَطَمَعاً) ، اشارة الى ان البرق قد يكون نذيرا بالصواعق ، وقد يكون بشيرا بالغيث ، فيخاف الإنسان من ذاك ، ويأمل بهذا في آن واحد. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ). المراد بتسبيح الرعد ما فيه من الدلالة على قدرة الله وعظمته ، تماما كدلالة الكتابة على الكاتب ، والبناء على الباني ، وبهذا نجد تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ـ ٤٤ الاسراء». أي يدل عليه ، وبتعبير ثان ان كل فعل حسن ومتقن فهو يدل على فاعله بطبعه ووضعه ، ويحمده ويثني عليه بلسان حاله .. وليس من شك ان كل ما في الكون متقن غاية الإتقان فهو يدل على خالقه بوضعه ويثني عليه بلسان حاله .. ومن الطريف قول بعض المتصوفة : ان الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم.

(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ). وتسأل : ان كلا من الصواعق والزلازل ظاهرة من ظواهر الطبيعة وسننها .. ومن الواضح ان الطبيعة عمياء لا تميز بين الأنبياء والأشقياء ، وتعم الجميع بخيرها وشرها ، لا فرق عندها بين أشد المكروبات فتكا وإيذاء ، وبين أكثر الناس عبقرية وصلاحا ، مع ان قوله تعالى : (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) ، يشعر بالفرق؟.

الجواب : المراد بالصواعق هنا العذاب الذي أنزله سبحانه على الذين أصروا على الشرك ، وعاندوا أنبياءهم ورسلهم كقوم عاد وثمود بدليل قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) ـ ١٣ فصلت» ،

٣٨٨

وقوله : (فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) ـ ١٥٣ النساء». وتقدم أكثر من مرة ان القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض.

(وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ). ضمير (هم) يعود الى المشركين ، والمعنى ان هؤلاء يجادلون في قدرة الله وعظمته ، وفي محمد (ص) ونبوته ، والبعث وإمكانه ، يجادلون ويكابرون مع ظهور الدلائل على قدرة الله ، والمعجزات الباهرة على نبوة محمد (ص) ونزول العذاب على من جحد وأنكر البعث والحساب (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي شديد القوة والبطش بأعدائه وأعداء أوليائه. وبالاختصار المشركون يجادلون بالقول ، والله يبطش بالفعل «ان بطش ربك لشديد».

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ). ان الله هو الحق ، فمن عمل له ، وتوكل عليه أجزل له الثواب ، ومن عصى وتمرد حق عليه العقاب ، ومن دعا غيره كالأصنام ونحوها فقد دعا باطلا وسرابا ، وحجرا وجمادا لا يضر ولا ينفع (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) تماما كالظامئ يحسب الدخان سحابا ، والسراب ماء ، فيمد كفيه ليملأهما بالماء ، ويفتح فاه ليشرب ويبرد من غلته ، وإذا بالآمال تتبخر الى حسرات وزفرات.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً). مر نظيره مع التفسير في الآية ٨٣ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠١.

(وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ). الظل خيال الجسم الذي يلازمه ويتحرك بحركته ، تماما كصورة الشيء في المرآة ، وخص سبحانه الغدوات والعشايا بالذكر لأن الظل يطول ويمتد في هذين الوقتين ، والمعنى ان من في السماء والأرض يسجد لله ، وكذلك ظلالهما تسجد له.

وتسأل : ان الظل ما هو بشيء في ذاته ، واسمه يدل عليه ، وانما هو تبع لصاحبه ، ولذا يضرب المثل به على العدم واللاشيء ، فكيف جعله الله طرفا مقابلا لصاحبه ، وعطف أحدهما على الآخر.

وأجاب الصوفية بأن المراد بمن في السموات والأرض الأجسام ، وبالظلال الأرواح .. والذي نفهمه نحن ان الظلال كناية عن التعميم لكل شيء ، وان كل

٣٨٩

ما في الكون يسجد لله ، أي يقر بوجوده من باب دلالة المصنوع على الصانع ، حتى الظل يسجد له لو كان شيئا مذكورا.

هل يستوي الأعمى والبصير الآية ١٦ :

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))

الإعراب :

أم هل (ام) هنا منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام ، أي بل أهل تستوي الظلمات الخ وهمزة الاستفهام تغني عن هل ، ولكنهما تجتمعان في كلام العرب مثل أهل كان كذا. ومثلها أم جعلوا أي بل اجعلوا والاستفهام للإنكار.

المعنى :

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). بعد ان ذكر سبحانه ان كل ما في الكون خاضع لقدرته عاد الى المشركين ، وسألهم بلسان نبيه الكريم : من الذي خلق الكون بأرضه وسمائه؟. هل خلقه الله أو أصنامكم التي تعبدون؟. ولما كان

٣٩٠

السؤال يحمل معه الجواب ، ولا يستطيع المسئول إنكاره أمر الله محمدا ان يجيب عنهم (قُلِ اللهُ).

(قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا). مرة ثانية ، وتأكيدا للحجة يأمر الله محمدا ان يقول للمشركين : انكم تعبدون أحجارا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فكيف تملك ذلك لغيرها؟ .. وليست هذه الآية ردا على المشركين وحدهم بل هي رد أيضا على من قال : ان في عقول الناس غنى عن إرسال الرسل وإنزال الكتب من السماء ، فلقد كان عبدة الأحجار ، وما زالوا من أهل العقول عند أنفسهم وعند كثير من الناس.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) المراد بالأعمى الكافر لأنه لم يفرق بين الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ، وبين مالك الضر والنفع .. والمراد بالبصير المؤمن الذي يفرق بينهما (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) الظلمات كناية عن الكفر ، والنور كناية عن الإيمان ، قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ـ ١ ابراهيم» أي من الكفر إلى الإيمان.

(أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ). هذا رد على المشركين ، وخلاصته ان الأحجار التي تعبدونها لا تخلق شيئا مثل خلق الله كي تقولوا : الله يخلق ، والأصنام أيضا تخلق مثله تماما ، وإذا كان الله مستحقا للألوهية والعبادة فهي أيضا تستحق الألوهية والعبادة ، والتوضيح فيما يلي.

عقول الناس لا تغنيهم عن دين الله :

تنقسم معرفة الإنسان إلى قسمين : فطرية ذاتية ، ونظرية اجتهادية ، والفطرية هي التي لا تحتاج إلى جد واجتهاد ، بل تحصل تلقائيا بمجرد التصور ، كالعلم بأن النور غير الظلام ، والعمى غير البصر ، والطول غير القصر ، والحجر مخلوق غير خالق ، ويشترك في هذه المعرفة (١) العالم والجهل على السواء ، ومن أخطأ فيها

__________________

(١). فرق البعض بين العلم والمعرفة بأن العلم يتعلق بالكليات ، والمعرفة تتعلق بالجزئيات ، اما نحن فلا نجد فرقا بينهما ، قال تعالى : «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» ولم يقل قد عرف ، مع العلم بأن مشرب كل سبط من أسباط إسرائيل كان خاصا.

٣٩١

فهو غير معذور.

أما المعرفة النظرية الاجتهادية فلا تحصل تلقائيا وبمجرد التصور ، بل تحتاج إلى إعمال الفكر والجد والاجتهاد ، كالعلم بأن الماء بسيط أو مركب ، وان هذا المرض من الأمراض المعدية أو غيرها ، ويسمى هذه النوع بالقضايا النظرية التي تختلف فيها الأنظار باختلاف الأشخاص ومواهبهم ومعارفهم ، والخطأ فيها مغتفر لصاحبه إذا كان بعد الجد وبذل الجهد ، لأن ادراك الصواب في كل شيء متعذر أو متعسر.

والأصنام التي عبدها المشركون لا شبه بينها وبين الإله في وجه من الوجوه من قريب أو بعيد كي يعذر من شك أو احتمل انها شريكة لله في خلقه ، كيف وقد بالت عليها الكلاب والثعالب؟. فعبادتها أكثر قبحا وسفها من وصف الظلام بالنور ، والعمى بالبصر.

وتسأل : لا ريب في ان المعرفة منها فطرية لا يختلف فيها اثنان ، ومنها اجتهادية يعذر فيها المخطئ ، وان نفي الألوهية عن الأحجار من البديهات دون النظريات كما قلت .. ولكن المشركين قد عبدوها بالفعل ، وكانوا عقلاء في تصرفاتهم ، فما هو التعليل؟

الجواب : ان فريقا منهم عبدها على حرف ، وبقصد الكسب والمنفعة ، وفريقا آخر عبدها تقليدا بعامل التلقين والوراثة .. ومن الواضحات الفطرية ان سلطان العقل يضعف ويتراجع أمام التقاليد والعادات ، بخاصة إذا طال عليها الزمن ، وتوارثها جيل عن جيل ، ومن هنا كان الدين السليم حتما وضرورة تفرضها طبيعة الإنسان بالغا ما بلغ من العلم والعقل .. فإن كثيرا من الذين تعودوا أساليب العلم وطرقه الدقيقة في هذا العصر يؤمنون بالخرافات .. قال (غوستاف لوبون) في كتاب «الآراء والمعتقدات» : «ان العلماء تبدو عليهم السذاجة كما تبدو على الجهلة الأميين .. فالعالم قلما يبدو أسنى من الجاهل في الأمور التي ليست من اختصاصه ، وبهذه الملاحظة ندرك السبب في ان أفضل العلماء يؤمنون بأشد الأوهام خطلا». ثم ضرب على ذلك كثيرا من الأمثلة ، منها ان عالما كبيرا في عصره كان لا يخرج من بيته الى المختبر الا ومعه قطعة من حبل المشنوق تقيه بزعمه حسد الحاسدين ، وسحر الساحرين.

٣٩٢

(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ). واحد في ذاته ، وفي صفاته وفي خلقه ، وقاهر لكل معاند وعاص لحكم من أحكامه. وفي ج ٢ ص ٣٤٤ ذكرنا الأدلة على وحدانية الباري ، ونعطف عليها ما جاء في كتاب «دفاع عن الإسلام» تأليف (لورا فيشيا فاغليري) ترجمة الأستاذ منير البعلبكي ، قالت المؤلفة : «دعا الرسول العربي الى عقيدة التوحيد ، وخاض صراعا مكشوفا مع بعض النزعات الرجعية التي تقود المرء الى الشرك .. دعا محمد الناس الى قراءة كتاب الحياة ، والتفكير في الكون وسننه ، إذ كان واثقا بأن كل عاقل لا بد أن يؤمن آخر الأمر بإله واحد».

فأما الزبد فيذهب جفاء الآية ١٧ ـ ١٨ :

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

اللغة :

الزبد بفتح الزين والباء ما يعلو الماء ونحوه من الرغوة ، ويسمى غثاء. والفرق

٣٩٣

بينه وبين الفقاقيع ان هذه منتفخة كنفاخات الأطفال ، والزبد كرغوة الصابون. والرابي العالي ، أي ان الزبد يعلو فوق الماء والحلية تؤخذ من الذهب والفضة. والمتاع من الحديد والنحاس والرصاص وشبه ذلك. والجفاء بضم الجيم الباطل. والمهاد بكسر الميم الفراش.

الإعراب :

زبد مثله (زبد) مبتدأ مؤخر ، ومثله صفة له ، وخبر المبتدأ محذوف وهو الذي تعلق به مما يوقدون ، وابتغاء حلية مفعول لأجله ليوقدون. وكذلك الكاف بمعنى مثل في محل نصب بيضرب. وجفاء حال من الضمير في يذهب. الذين استجابوا خبر مقدم ، والحسنى مبتدأ مؤخر. والذين لم يستجيبوا مبتدأ ، وجملة لو أن لهم خبر. وما في الأرض اسم أن ، والمصدر المنسبك فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت أن لهم الخ. وجميعا حال ، ومثله عطف على اسم أن.

المعنى :

في الآية السابقة قارن سبحانه بين المؤمن والكافر ، وضرب لذلك مثلين : الأول المقارنة بين الأعمى والبصير .. فالكافر كالأعمى ، والمؤمن كالبصير. المثل الثاني المقارنة بين الظلمات والنور .. والكافر كالظلمات ، والمؤمن كالنور.

وفي الآية التي نحن بصددها قارن جلت حكمته بين الحق والباطل ، وضرب أيضا لذلك مثلين : الأول المقارنة بين الماء الذي يمكث في الأرض ، ويحمل للناس الخير والحياة ، وبين الزبد الذي يعلو وينتفخ طافيا على وجه الماء ، ثم يقذف به السيل ، ويذهب مع الريح .. والحق كالماء النافع ، والباطل كالزبد الذي تبدده الأرياح. وهذا ما أراده سبحانه بقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً). والمراد بقدرها ان كل واد من الأودية يحتمل من ماء المطر بمقداره سعة وضيقا وعمقا .. وما زاد ينبسط على وجه الأرض.

٣٩٤

أما المثال الذي ضربه سبحانه للمقارنة بين الحق والباطل فهو المقارنة بين المعادن تذاب في النار ليصاغ منها الحلي كالذهب والفضة ، أو يصاغ منها آنية أو آلة كالحديد والرصاص والنحاس ، وبين الزبد الذي يطفو فوق المعدن المذاب ، وهذا الزبد يضمحل تماما كما يضمحل الزبد الذي يحمله السيل .. والحق كالمعدن النافع أيا كان نوعه ، والباطل كالزبد الخبيث الذي يطفو فوق المعدن حين يذاب في النار ، وهذا هو معنى قوله تعالى : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ). فقوله : مما يوقدون معناه ان من المعادن ما يذاب في النار ليصاغ منه الزينة أو الآنية أو الآلة ، وقوله : زبد مثله معناه ان للمعادن زبدا لا جدوى منه تماما كالزبد الذي يحمله السيل.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ). أي يمثل الله ويصور الحق بيانا في صورة الماء والمعادن اللذين ينتفع بهما ، والباطل في صورة الزبد الذي لا ينتفع به (فَأَمَّا الزَّبَدُ) وهو الذي يحمله السيل أو يطفو على المعادن إذا أذيبت (فَيَذْهَبُ جُفاءً) باطلا (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) وهو الماء والمعادن (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) للخير والحياة (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) للحق والباطل وغيرهما.

ان كثيرا من المعاني يصعب إدراكها على الافهام ، وبالخصوص عند السواد الأعظم ، والتمثيل من أجدى الوسائل لتوضيحها والكشف عنها ، بالاضافة الى ان التمثيل كثيرا ما يضيف على البيان سموا وجمالا ، وقد ضرب الله الأمثال في العديد من آياته البيانية ، منها تمثيله الكفر والايمان بالظلمات والنور ، والعمى والبصر ، وتمثيله في هذه الآية الحق بالماء والمعدن ، والباطل بالزبد.

وتصور هذه الآية الإسلام في حقيقته ، والأصح تصور المسلم الحق في انه الذي ينفع الناس ، ويستمر نفعه لهم ويدوم ، تماما كالذي يحيي الأرض بعد موتها ، وكالمعدن الصلب تقام به المعامل والمصانع تنتج الآلات والأدوات ، وتبنى الحضارات ، فتقرب البعيد ، وتنشئ الأساطيل ، وتغزو الفضاء ، وتحرث الأرض ، وتملأ الدنيا خيرا وأمنا ورخاء .. والنتيجة الحتمية لذلك ان كل من نفع وأصلح وعمل من أجل حياة الإنسان وحريته وأمنه وهنائه فانه يلتقي بعمله هذا مع أهداف الإسلام ، وان لم يكن مسلما ، لأنه تماما كالماء والمعدن اللذين ضربهما الله مثلا

٣٩٥

للحق .. وان كل من عمل لشقاء الإنسان فما هو من الإسلام في شيء ، وان صام الدهر ، ووصل صلاة الليل بصلاة الفجر.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى). أي لدعوة ربهم ، وهي العمل لمنفعة الناس ، ولحياة أفضل ، أما الحسنى فالمراد بها الأجر والثواب ، وان أهل الحق ينتفعون به ، تماما كما تنتفع الأرض بالماء.

(وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) وهم الذين لا خير فيهم كالزبد (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ). تقدم نظيره في الآية ٥٤ من سورة يونس ، والآية ٩١ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠٦.

انما انزل اليك من ربك الحق الآية ١٩ ـ ٢٥ :

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ

٣٩٦

بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥))

اللغة :

الدرء الدفع. والعدن بسكون الدال الاقامة ، يقال : عدن في المكان إذا أقام فيه. والعقبى من العاقبة ، وهي النهاية التي تؤدي اليها البداية ان خيرا فخير ، وان شرا فشرّ.

الإعراب :

أفمن يعلم الهمزة للاستفهام ، والمراد به الإنكار ، ومن مبتدأ ، وخبره كمن هو أعمى. وانما كلمتان : (أن) التي تنصب الاسم وترفع الخبر ، و (ما) الموصولة. والذين يوفون عطف بيان أو بدل من أولو الألباب. والذين يصلون وما بعده من الموصولات مبتدأ ، والخبر جملة أولئك لهم عقبى الدار ، ولهم متعلق بعقبى. وصبروا ابتغاء وجه ربهم (ابتغاء) مفعول من أجله. وسرا قائم مقام المفعول المطلق أي إنفاقا سرا وعلانية معطوف عليه ، ويجوز أن يكونا قائمين مقام الحال أي مسرّين ومعلنين. وجنات عدن بدل من عقبى الدار. وسلام عليكم مبتدأ وخبر ، والجملة مفعول لقول محذوف أي يقولون : سلام عليكم. وبما صبرتم (ما) مصدرية ، والمصدر المنسبك متعلق بما تعلقت به عليكم.

المعنى :

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). بعد أن شبّه سبحانه الكافر بالأعمى ، والمؤمن بالبصير في الآية ١٦ ،

٣٩٧

ثم شبّه الحق بالماء والباطل بالزبد في الآية ١٧ ـ بعد هذا ذكر هنا ان من يؤمن بمحمد فهو البصير المحق ، ومن كفر به فهو الضال الأعمى ، وأخبر تعالى عن هذه الحقيقة بصيغة الاستفهام لتقريع المنكر وتوبيخه (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) الذين يصغون لصوت العقل ، ومن لا يصغي اليه الا إذا وافق هواه فهو كمن لا عقل له. ثم ذكر سبحانه أوصاف أولي الألباب ، وهي تدل بوضوح على ان المراد بأولي الألباب المؤمنون المتقون.

١ ـ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ). وكل ما قام عليه الدليل فهو عهد الله ، وعلى الإنسان أن يعمل بمؤداه .. ولكن الأبالسة يحرّفون الحقائق على أهوائهم ، ثم ينسبون هذه الأهواء الشيطانية الى الله والحق .. تعالى الله عما يصف المفترون (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) هذا تأكيد لقوله : يوفون بعهد الله ، حيث يلزم من الوفاء بالعهد انتفاء نقضه ونقيضه.

٢ ـ (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). ذكر المفسرون أقوالا في تفسير ما أمر الله به أن يوصل ، وأقربها الى روح الإسلام ومبادئه قول من قال : ان المراد به مناصرة الإنسان لأخيه الإنسان ، والتعاون معه على كشف الضر عنه ، وجلب النفع له قريبا كان أو بعيدا.

٣ ـ (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) عمليا لا نظريا ، وفعلا لا قولا فقط ، قال الإمام علي : بالايمان يستدل على الصالحات ، وبالصالحات يستدل على الايمان.

٤ ـ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ). يجاهدون في سبيل الله ، ويصبرون على جراح الجهاد وآلامه ، لا يبتغون جزاء ولا شكورا الا مرضاة الله وحده.

٥ ـ (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) التي أولها التكبير : الله أكبر ، لا كبير سواه كائنا من كان ، والكل لديه سواء ، وآخرها التهليل والتسليم ، لا إله الا هو ولا يعبد سواه ، فلا المال ولا الجاه ولا الأنساب آلهة تعبد ، ولا قوة يخضع لها الا قوة الله وحده لا شريك له.

٦ ـ (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً). المال هو المحك .. أنظر ما كتبناه تحت هذا العنوان في تفسير الآية ٩٢ من سورة آل عمران ج ٢ ص ١٠٧.

٣٩٨

٧ ـ (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ). المراد بالحسنة هنا العفو والصفح ، وبالسيئة الحق الخاص يكون بين اثنين كالقصاص ، قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) ـ ١٧٨ البقرة». أما حق الله فلا هوادة فيه ، قال تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ ٢ النور».

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ). كل الصالحين والطيبين يدخلون الجنة ، وإذا كانوا في الدنيا أرحاما وأحبابا يزدادون فرحا وسرورا بجمع الشمل ، ويتذكرون أيام الدنيا ، ويشكرون الله على الخلاص من همومها وأعبائها ، وإذا اختلفت الأعمال في الخير والشر تقطعت الأنساب والأسباب بينهم يومئذ ، ولا يتساءلون : «فريق في الجنة وفريق في السعير».

(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ). يزور الملائكة أهل الجنة تكريما وتعظيما. وقوله : بما صبرتم يومئ إلى أن الجنة محرمة إلا على من جاهد وصبر وتحمل متاعب الجهاد ومشاقه. قال الإمام علي (ع) : «الجنة حفت بالمكاره ، والنار حفت بالشهوات ، واعلموا انه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كره ، وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة».

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ). بعد ان ذكر سبحانه الصالحين وأوصافهم ، وما أعد لهم من حسن الثواب والمآب ذكر الفاسدين والمفسدين .. وبالتعبير الدارج بعد أن ذكر أنصار الثورة على الفساد ذكر أنصار الثورة المضادة ، وطبيعي أن يكون هؤلاء في صفاتهم وأعمالهم على الضد من أولئك ، فالصالحون يوفون بعهد الله ، فيعملون بوحي من العقل والضمير وبكل ما دل عليه الدليل والمفسدون ينقضون عهده جل وعلا فيعملون بوحي من الشيطان ، يلبسون الحق بالباطل ، ويكتمون الحق وهم يعلمون (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). فيتولون الطغاة المجرمين ، ويناصرونهم على الأحرار الطيبين ، تماما على العكس مما أمر الله به ، ونهى عنه.

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بمظاهرة الظالم الغاشم ، وإثارة الفتن والقلاقل ،

٣٩٩

وتضليل السذج الأبرياء ، واشاعة التفسخ والانحلال ، ونشر الجرائم والموبقات ، ونحو ذلك من أنواع الفساد والضلال (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ). وإذا كان الأشرار في أعمالهم على العكس من الأخيار فمن الطبيعي أن يكونوا أيضا على العكس في الجزاء والثواب .. للأخيار الجنة ونعم الدار ، وللأشرار جهنم وبئس القرار.

يبسط الرزق الآية ٢٦ ـ ٢٩ :

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))

اللغة :

يبسط يوسع. ويقدر يضيق. والمتاع ما فيه متعة ولكنها قليلة. والانابة الرجوع الى الحق بعد الضلال ، ويقال : انتاب فلان القوم إذا أتاهم المرة تلو المرة. وطوبى من طاب ، وهي تأنيث الأطيب. والمآب المنقلب.

الإعراب :

وما (ما) نافية ، والحياة مبتدأ ، والدنيا صفة ، وفي الآخرة على حذف

٤٠٠